اليتيم

bourahla houda

:: عضو مُشارك ::
إنضم
18 فيفري 2014
المشاركات
124
نقاط التفاعل
156
النقاط
9
العمر
24
:cray01::cray01::cray02::cray02::cray02::cray02:
سكن الغرفة العليا من المنزل المجاور لمنزلي من عهد قريب فتى في التاسعة عشرة أو العشرين من عمره . وأحسب أنه طالب من طلبة المدارس العليا أو الوسطى في مصر .فقد كنت أراه من نافذة غرفة مكتبي ،وكانت على كثب من بعض نوافذ غرفته ،فأرى أمامي فتى شاحبا نحيلاً، منقبضاً جالساً إلى مصباح منير في أحدى زوايا الغرفة ينظر في كتاب أو يكتب في دفتر، أو يستظهر قطعةً أو يعيد درساً.


فلم أكن أحفل بشيء من أمره ،حتى عدت إلى منزلي منذ أيام بعد منتصف ليلة قرّة من ليالي الشتاء ، فدخلت غرفة مكتبي لبعض الشؤون ،فأشرفت عليه فإذا هو جالس جلسته تلك أمام مصباحه وقد أكب بوجهه على دفتر منشور بين يديه على مكتبه ، فظننت أنه لما ألم به من تعب الدرس وآلام السهر قد عبئت بجفنيه سنة من النوم فأعجلته من الذهاب إلى فراشه ،وسقطت به مكانه ،فما رمت مكاني حتى رفع رأسه فإذا عيناه مخضلتان من البكاء ، وإذا صفحة دفتره التي كان مكباً عليه قد جرى دمعه فوقها فمحا من كلماتها ما محا ، ومشى ببعض مدادها إلى بعض ،ثم لم يلبث أن عاد إلى نفسه فتناول قلمه ورجع إلى شأنه الذي كان فيه.


فأحزنني أن أرى، في ظلمة ذلك الليل و سكونه، هذا الفتى البائس المسكين منفردا بنفسه في غرفة عارية باردة ، لا يتقى فيها عادية البرد بدثار.


ولا نار، يشكو هماً من هموم الحياة ، أو رزءا من أرزائها قبل أن يبلغ سن الهموم والأحزان ، من حيث لا يجد بجانبه مواسياً، ولا معيناً ، وقلت: لا بد أن يكون خلف هذا المنظر الضارع الشاحب ، نفس قريحة معذبة ،تذوب بين أضلاعه ذوباً ،فيتهافت لها جسمه تهافت الخباء المقّوض، فلم أزل واقفاً مكاني لا أبرحه ، حتى رأيته قد طوى كتابه ، وفارق مجلسه ، وأوى إلى فراشه ،فانصرفت إلى مخدعي، وقد مضى الليل إلا أقله ، ولم يبق في سواده في صفحة هذا الوجود إلا بقايا أسطر يوشك أن يمتد إليها لسان الصباح فيأتي عليها .


ثم لم أزل أراه بعد ذلك في كثير من الليالي إما باكياً أو مطرقاً، أو ضارباً برأسه على صدره ، أو منطوياً على نفسه في فراشه ،يئن أنين الوالهة الثكلى ، أو هائماً في غرفته يذرع أرضها ، ويمسح جدرانها ،حتى إذا نال منه الجهد ،سقط على كرسيه باكياً منتحباً. فأتوجع له وأبكي لبكائه ، وأتمنى لو استطعت أن أدخله مداخلة الصديق لصديقه ، و أستبثه ذات نفسه وأشركه في همه، لولا أني كرهت أن أفجأه بما لا يحب، وأن أهجم عليه في سر ربما كان يؤثر الإبقاء عليه في صدره ، وأن يكاتمه الناس جميعاً. حتى أشرفت’ عليه ليلة الأمس بعد هدأة الليل ، فرأيت غرفته مظلمة ساكنة ، فظننت أنه خرج لبعض شأنه.
ثم لم ألبث أن سمعت أنةً ضعيفةً مستطيلةً ، فأزعجني مسمعها ، وخيّل إليّ أنها صادرة من أعماق نفسه، كأنني أسمع رنينها في أعماق قلبي، وقلت إن الفتى مريض ولا يوجد بجانبه من يقوم بشأنه ، وقد بلغ الأمر مبلغ الجد ،فلا بد لي من المسير إليه ، فتقدمت إلى خادمي أن يتقدمني بمصباح ، حتى بلغت منزله وصعدت إلى باب غرفته ، فأدركني من الوحشة عند دخولها ، ما يدرك الواقف على باب قبر يحاول أن يهبطه ليودع ساكنه الوداع الأخير .
ثم دخلت ،ففتح عينيه عندما أحس بي ، وكأنما كان ذاهلا أو مستغرقاً ، فأدهشه أن يرى بين يديه مصباحاً ضئيلاً ورجلاً لا يعرفه ، فلبث إلى شاخصاً هنيهة لا ينطق ولا يطرف ،فاقتربت من فراشه وجلست بجانبه ، وقلت : أنا جارك القاطن هذا المنزل ،وقد سمعتك الساعة تعالج نفسك علاجاً شديداً، وعلمت أنك وحدك في هذه الغرفة ، فعناني أمرك ، فجئتك علني أكون لك عوناً على شأنك ، فهل أنت مريض ؟

فرفع يده ببطء ووضعها على جبهته ، فوضعت يدي حيث وضعها ، فشعرت برأسه يلتهب التهابا ، فعلمت أنه محموم ،ثم أمررت نظري على جسمه ،فإذا خيال سار لا يكاد يتبينه رائيه ، وإذا قميص فضفاض من الجلد يموج في بدنه موجاً.

فأمرت الخادم أن يأتيني بشراب كان عندي من أشربة الحمى ، فجرعته منه بضع قطرات فاستفاق قليلاً، ونظر إليّ نظرة عذبة صافية ، وقال: شكراً لك.

فقلت: ما شكاتك أيها الأخ؟
قال:لا أشكو شيئاً.
فقلت:فهل مر بك زمن طويل على حالك هذه؟
قال:لا أعلم.
قلت:أنت في حاجة إلى الطبيب،فهل تأذن لي أن أدعوه إليك لينظر فيأمرك؟
فتنهد طويلاً ونظر نظرةً دامعةً وقال:إنما يبغي الطبيب من يؤثر الحياة على الموت.

ثم أغمض عينيه وعاد إلى ذهوله واستغراقه،فلم أجد بداً من دعاء الطبيب رضي أم أبى.فدعوته،فجاء متـأففاً متذمراً يشكو-من حيث يعلم أني لا أسمع شكواه- إزعاجه في مرقده، وتجشيمه خوض الأزقة المظلمة في الليالي الباردة،فلم أحفل بتعريضه لأنني أعلم طريق الاعتذار إليه. فجسّ نبض المريض، وهمس في أذني قائلاً:إن عليلك يا سيدي مشرف على الخطر ،ولا أحسب أن حياته تطول كثيراً إلا إذا كان في علم الله مالا نعلم. وجلس ناحيةً يكتب ذلك الأمر الذي يصدره الأطباء إلى عمالهم الصيادلة،أن يتقاضوا من عبيدهم المرضى ضريبة الحياة .

ثم انصرف لشأنه بعد ما اعتذرت إليه ذلك الاعتذار الذي يؤثره ويرضاه.فأحضرت الدواء وقضيت بجانب المريض ليلةً ليلاء ذاهلة النجم بعيدة ما بين الطرفين ،اسقيه الدواء مرة وأبكي عليه أخرى،حتى انبثق نور الفجر فاستفاق ودار بعينيه حول فراشه حتى رآني ،فقال:أنت هنا .قلت:أرجو أن أكون كذلك.

قلت:هل تأذن لي سيدي أن أسألك من أنت، وما مقامك وحدك في هذا المكان وهل أنت غريب في هذا البلد،أو أنت من أهله وهل تشكو داءً ظاهراً أو هماً باطناً؟
قال:أشكوهما معاً.
قلت:فهل لك أن تحدثني بشأنك،وتفضي إلي بهمك كما يفضي الصديق إلى صديقه،فقد أصبحت معنياً بأمرك عنايتك بنفسك.
فقال: هل تعدني بكتمان أمري إن قسم الله لي الحياة،وبإمضاء وصيتي إن كانت الأخرى؟
قلت:نعم .
قال:لقد وثقت بوعودك،فإن من يحمل في صدره قلباً شريفاً مثل قلبك لا يكون كاذباً ولا غادراّ.

أنا فلان بن فلان، مات أبي منذ عهد بعيد،وتركني في السادسة من عمري،فقيراً معدماً،لا أملك من متاع الدنيا شيئاً،فكفلني عمي فلان فكان خير الأعمام وأكرمهم وأوسعهم براً وإحساناً،وأكثرهم عطفاً وحناناً،فقد أنزلني من نفسه منزلاً عظيماً لم ينزلها أحدٌ من قبلي غير ابنته الصغيرة، وكانت في عمري أو أصغر مني قليلاً.
وكأنما سره أن يرى لها بجانبها أخاً بعدما تمنى على الله ذلك،زمناً طويلاً فلم يدرك أمنيته،فعني بي عنايته بها وأدخلنا المدرسة في يوم واحد ،فأنست بها أنس الأخ بأخته وأحببتها حباً شديداً،ووجدت في عشرتها من السعادة والغبطة ما ذهب بتلك الغضاضة التي لا تعاود نفسي بعد قد أبويّ من حين إلى حين.فكان لا يرانا الرائي إلا ذاهبين إلى المدرسة أو عائدين منها،أو لاعبين في فناء المنزل،أو مرتاضين في حديقته أو مجتمعين في غرفة المذاكرة ،أو متحدثين في غرفة النوم،حتى جاء يوم حجابها فلزمت خدرها واستمررت في دراستي.

ولقد عقد الودّ بين قلبي وقلبها عقداً لا يحله إلا ريب المنون،فكنت لا أرى لذة العيش إلا بجوارها ،ولا أرى نور السعادة إلا في فجر ابتساماتها،ولا أؤثر على ساعة أقضيها بجانبها جميع لذات العيش ومسرات الحياة،وما كنت أشاء أن أرى خصلة من خصال الخير في فتاة من أدب أو ذكاء أو حلم أو رحمة أو عفة أو شرف أو وفاء إلا وجدتها فيها.

وأني أستطيع وأنا في هذه الظلمة الحالكة من الهموم والأحزان أن أرى على البعد تلك الأجنحة النورانية البيضاء من السعادة التي كانت تظلنا معاً أيام طفولتنا،فتشرق لها نفسانا إشراق البسمة على ثغر الوليد............................................ .......

ولا أعلم هل كان ما كنت أضمره في نفسي لابنة عمي وداً وإخاءً أو حباً وغراماً،ولكني أعلم أنه كان بلا أمل ،ولا رجاء.فما قلت لها يوماً إني أحبها لأني كنت أضّن بها-وهي ابنة عمي ورفيقة صباي- أن أكون أول فاتح لهذا الجرح الأليم في قلبها.ولا قدّرت في نفسي يوماً من الأيام أن أصل أسباب حياتي بحياتها،لأني كنت أعلم أن أبويها لا يسخوان بمثلها على فتىً بائس فقير مثلي. ولا حاولت في ساعة من الساعات أن أتسقط منها ما يطمع في مثله المحبون المتسقطون لأني كنت أجلّها عن أن أنزل بها إلى مثل ذلك.ولا فكرت يوماً أن أستشف من وراء نظراتها خبيئة نفسها،لأعلم أي المنزلتين أنزلها من قلبها،أمنزلة الأخ فأقنع منها بذلك؟أم منزلة الحبيب،فأستعين بإرادتها على إرادة أبويها؟بل كان حبي لها طاهراً عفيفاً يملأ جوانح النفس وشغاف القلب.

ولم يزل هذا شأني،حتى نزلت بعمي نازلةٌ من المرض لم تنشب أن ذهبت به إلى جوار ربه،وكان آخر ما نطق به في آخر ساعات حياته أن قال لزوجته،وقد كان يحسن بها ظناً:"لقد أعجلني الموت عن النظر في شأن هذا الغلام ،فكوني له أماً كما كنت له أباً،وأوصيك ألا يفقد مني بعد موتي إلا شخصي."

فما مرت أيام الحداد حتى رأيت وجوهاً غير الوجوه،ونظرات غير النظرات،وحالاً غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل ،فتداخلني الهم واليأس ووقع في نفسي للمرة الأولى في حياتي أنني قد أصبحت غريباً،وفي هذا العالم طريداً.

فإني لجالس في غرفتي صبيحة يوم ،إذ دخلت علي الخادمة ،وكانت من النساء الصالحات المخلصات ،فتقدمت نحوي خجلةً متعثّرة،وقالت:لقد أمرتني سيدتي آن أقول لك يا سيدي، إنها ترى أن بقاءك بجانبها بعد موت أبيها ،وبلوغكما هذه السن التي بلغتماها،ربما يريبها عند خطيبها،وإنها تريد أن تتخذ للزوجين مسكناً هذا الجناح الذي تسكنه من القصر،فهي تريد أن تتحول إلى منزل آخر تختاره بنفسك من بين منازلها على أن تقوم لك فيه بجميع شأنك ،وكأنك لم تفارقها.

فكأنما عمدت إلى سهم طائش أصابت به كبدي،إلا أنني تماسكت قليلاً ريثما قلت لها:سأفعل إن شاء الله،ولا أحب إليّ من ذلك.فانصرفت لشأنها.فخلوت بنفسي ساعة أطلقت فيها السبيل لعبراتي ما شاء الله أن أطلقها.حتى جاء الليل فعمدت إلى حقيبتي ،فأودعتها ثيابي وكتبي،وقلت في نفسيً "قد كان كل ما أسعد به في هذه الحياة أن أعيش بجانب ذلك الإنسان الذي أحببت نفسي من أجله،وقد حيل بيني وبينه،فلا آسف على شيء بعده."

ثم انسللت من المنزل انسلالا من حيث لا يشعر أحدٌ بما كان،ولم أتزود من ابنة عمي قبل الرحيل غير نظرة واحدة ألقيتها من خلال كلتها-(الكلّة:الستر الرقيق)- وهي نائمة على سريرها ،فكان آخر عهدي بها.
وهكذا فارقت المنزل الذي سعدت فيه حقبة من الزمان،وخرجت منه شريداً طريداً حائراً ملتاعاً قد اصطلحت عليّ الهموم والأحزان .فراقٌ لا لقاء بعده،وفقرٌ لا سادّ لخلّته،وغربة لا أجد عليها أحد من الناس مواسياً ولا معيناً.

وكانت معي صبابة من مال بقيت في يدي من آثار تلك النعمة الذهبية، فاتخذت هذه الحجرة في هذه الطبقة العليا مسكناً،فلم استطع البقاء فيها ساعة واحدة،فأزمعت الرحيل إلى حيث أجد في فضاء الله ومنفسح آفاقه علاجاً نفسياً من همومها وأحزانها.فرحلت رحلة طويلة قضيت فيها بضعة أشهر لا أهبط بلدة حتى تنازعني نفسي إلى أخرى،ولا تطلع عليّ الشمس في مكان،حتى تغرب عني في غيره، حتى شعرت في آخر الأمر بسكون نفسي يشبه سكون الدمع المعلق في محجر العين لا يفيض ولا يغيض.

فقنعت بذلك نفسي وكان ميعاد الدراسة السنوية قد حان ،فعدت وقد استقر في نفسي أن أعيش في هذا العالم منفرداً كمجتمع، وغائباً كحاضر وبعيداً كقريب،وأن ألهو بشأن نفسي عن كل شأن سواه ،وأن أستعين على نسيان الماضي باجتناب موطنه ومظاهره،فلزمت غرفتي ومدرستي أداول بينهما لا أفارقها، ولم يبق أثرٌ لذلك العهد القديم إلا نزوات تعاود قلبي من حين إلى حين،فأستعين عليها بقطرات من الدمع أسكبها من جفني في خلوتي من حيث لا يعلم إلا الله ما بي،فأجد برد الراحة في صدري،لبثت على ذلك برهة من الزمان حتى عدت بالأمس إلى تلك الفضلة التي كانت في يدي من المال،فإذا هي ناضبة أو موشكة،وكنت مأخوذا بأن أهيئ لنفسي عيشاً مستقلاً،وأن أعطي للمدرسة قسطاً من أقساطها،والمدرسة في هذا البلد حانوت قاس لا تباع فيه السلعة نسيئة،والعلم في هذه الأمة مرتزق يرتزق منه المرتزقون،لا منحة يمنحها المحسنون،فأهمتني نفسي وعلمت أني مشرف على الخطر،ولا أعرف سبيلاً إلى القوت بوجه ولا حيلة ،فعمدت إلى كتبي فاستبقيت منها ما لا غنى لي عنه،وحملت سائرها إلى سوق الوراقين فعرضته يوماً كاملاً،فلم أجد من يبلغ به في المساومة ربع ثمنه،فعدت بها حزيناً منكسراً، وما على وجه الأرض أحد مني ولا أشقى.
فلما بلغت باب المنزل،رأيت في فنائه امرأة تسأل أهل البيت عني،فتبينتها فإذا هي الخادم التي كانت تخدمني في منزل عمي،فقلت:فلانة؟
قالت:نعم.قالت: لي إليك كلمة فأذن لي.
فصعدت معها إلى غرفتي،فلما خلونا قلت:هاتِ.

قالت:مرت بي ثلاثة أيام وأنا أفتش عنك في كل مكان فلم أجد من يدلني عليك حتى وجدتك اليوم بعد اليأس منك؟
ثم انفجرت باكية بصوت عالٍ:فراعني بكاؤها وخفت أن يكون قد حلّ بالبيت الذي أحبه بأس،فقلت ما بكاؤك؟
قالت:أما تعلم شيئاً من أخبار بيت عمك؟
قلت:لا،فما أخباره؟
فمدت يدها إلى ردائها وأخرجت من أضعافه كتاباً مغلقاً،فتناولته منها،ففضضت غلافه،فإذا هو بخط ابنة عمي،فقرأت فيه هذه الكلمة التي لا أزال أحفظها حتى الساعة:"إنك فارقتني ولم تودعني،فاغتفرت لك ذلك،فأما اليوم وقد أصبحت على باب القبر ،فلا اغتفر لك إلا تأتي إليّ لتودعني الوداع الأخير."

فألقيت الكتاب من يدي،وابتدرت الباب مسرعاً،فتعلقت الخادمة بثوبي وقالت: أين تريد يا سيدي؟
قلت:إنها مريضة،ولا بد لي من المسير إليها.فصمت لحظة ثم قالت بصوت خافت مرتعش:لا تفعل يا سيدي،فقد سبقك القضاء إليها.
هنالك شعرت أن قلبي قد فارق موضعه إلى حيث لا أعلم له مكاناً،ثم دارت بي الأرض الفضاء دورةً سقطت على إثرها في مكاني،لا أشعر بشيء مما حولي.
فلم أفق إلا بعد حين،ففتحت عيني فإذا الليل قد أظلني،وإذا الخادمة لا تزال بجانبي تبكي وتنتحب.
فدونت منها وقلت لها:أيتها المرأة أحقٌ تقولين؟
قالت:نعم.
قلت :قصي عليّ كل شيء.
فأنشأت تقول:
إن ابنة عمك يا سيدي م تنتفع بنفسها بعد رحيلك،فقد سألتني في اليوم الذي رحلت فيه عن سبب رحيلك،فحدثتها حديث الرسالة التي حملتها إليك من زوجة عمك،فلم تزد أن قالت:"وماذا يكون مصير هذا البائس المسكين!إنهم لا يعلمون من أمره ولا من أمري شيئاً."ثم لم يجر ذكرك بعد ذلك على لسانها بخير،ولا بشر كأنما تعالج في نفسها ألماً ممضاً.

فما هي إلا أيام قلائل حتى سرى داء نفسها إلى جسمها،فاستحالت حالها،وغاض ماء جمالها،وانطفأت تلك الابتسامات العذبة التي كانت لا تفارق ثغرها،ثم سقطت على فراشها مريضة لا تبلّ يوماً حتى تنتكس أياماً.فراع أمها أمرها،وورد عليها ما قطعها عن ذكر العرس والعروس،والخطبة والخطيب،وكانت لا تزال تهتف بذلك نهارها وليلها،فلم تدع طبيباً ولا عائداً إلا فزعت إليه أمرها،فما أغنى العائد ولا الطبيب،وأصبحت الفتاة تدنو من القبر رويداً رويداً.

فبينما أنا ساهرة بجانب فراشها ذات ليال،إذ شعرت بها تتحرك في مضجعها،فدنوت منها،فأشارت إلي أن آخذ بيدها،ففعلت فاستوت جالسةً وقالت:فيأس ساعة نحن من الليل؟
قلت:في الهزيع الأخير منه.
قالت:أأنت وحدك هنا؟
قلت:نعم.فقد هجع أهل البيت جميعاً.
قالت:ألا تعلمين أين مكان ابن عمي الآن؟

فعجبت لكلمة لم أسمعها منها قبل اليوم،وقلت بلى يا سيدتي أعلم مكانه – وما كنت أعلم شيئاً،ولكني على هذا الخيط الرقيق الباقي في يدها من الأمل ينقطع فينقطع بانقطاعه آخر خيط من خيوط حياتها.-

فقالت:ألا تستطيعين أن تحملي إليه رسالة من حيث لا يعلم أحد بشأني؟
قلت:لا أحبّ إليّ من ذلك يا سيدتي؟

فأشارت أن أتيها بمحبرتها،فجئتها بها فكتبت إليك هذا الكتاب الذي تراه. فلما أصبح الصباح،خرجت أسائل الناس عنك في كل مكان ،وأتصفح وجوه الغادين والرائحين علني أراك،وأرى من يهديني إليك،فلم أظفر بطائل.حتى انحدرت الشمس إلى مغربها،فعدت إلى المنزل،وقد مضى شطر من الليل فما بلغته حتى سمعت الناعية ،فعلمت أن السهم قد بلغ المقتل،وأن تلك الوردة الناضرة التي كانت تملأ جمالاً وبهاءً،قد سقطت آخر ورقة من ورقاتها،فحزنت عليها حزن الثاكل على وحيدها،وما رئي مثل يومها يومٌ كان أكثره باكيةً وباكياً.

وكان أكبر ما أهمني من أمرها،أن كل ما كانت ترجوه في الساعة الأخيرة من ساعات حياتها أن تراك،ففاتها ذلك،وسقطت دون أمنيتها،فلم أزل كاتمة أمر الرسالة في نفسي،ولم أزل أتطلّب السبيل إليك حتى وجدتك.

فشكرت لها صنيعها وأذنتها بالانصراف فانصرفت،فما انفردت بنفسي حتى شعرت أن سحابة سوداء تهبط فوق عيني شيئاً فشيئاً حتى احتجب عن ناظري كل شيء،ثم لا أعلم ماذا تم بعد ذلك حتى رأيتك.
وما وصل حديثه إلى هذا الحد حتى زفر زفرة خلت أن كبده قد ارفضّت(أي: تفرقت) وأن هذه أفلاذها.
فدنوت منه وقلت:ما بك يا سيدي؟
قال:بي أني أطلب دمعةً واحدةً أتفرّج بها مما أنا فيه،فلا أجدها.
ثم صمت ساعةً طويلةً،فشعرت أنه يهمهم ببعض كلماتٍ فأصغيت إليه فإذا هو يقول:

"اللهم إنك تعلم أني غريب في هذه الدنيا لا سند لي ولا عضد،وأني فقير لا أملك من متاع الحياة ما أعود به على نفسي،وأني عاجز مستضعف لا أعرف السبل إلى باب من أبواب الرزق بوجه ولا حيلة ،وأن الضربة التي أصابت قلبي قد سحقته،فلم يبق يه حتى الذماء(بقية النفس)،وإني أستحييك أن أمد يدي إلى هذه النفس التي أودعتها بيدك بين جنبي، فانتزعها من مكانها،وألقي بها في وجهك ساخطاً منتقماً.فتولّ أنت أمرها بيدك،واسترد وديعتك إليك،وانقلها إلى دار كرامتك،فنعم الدار دارك ونعم الجوار جوارك."

ثم أمسك رأسه بيده كأنما يحاول أن يسحبه عن الفرار،وقال بصوتٍ ضعيفٍ خافت:أشعر برأسي يحترق احتراقاً، وقلبي يذوب ذوباً.لا أحسبني باقياً على هذا،فهل تعدني أن تدفنني معها في قبرها،وتدفن معي كتابها إن قضى الله قضاءه؟

قلت:نعم وأسأل الله لك السلامة.
قال:الآن أموت طيب النفس عن كل شيء.
ثم انتفض انتفاضةً فاضت فيها روحه.

لقد هوّن وجدي على هذا البائس المسكين أني استطعت إمضاء وصيته كما أراد ،فسعيت في دفنه مع ابنة عمه،ودفنت معه تلك الرسالة التي دعته فيها أن يوافيه،فعجز أن يلبي نداءها حياً فلباه ميتاً.

وهكذا اجتمع تحت سقف واحد هذان الصديقان الوفيّان اللذان ضاق بهما في حياتهما فضاء القصر،فوسعتهما بعد موتهما حفرة
القبر.
:cray02::cray02::cray02::cray02::cray02::cray02::cray02::cray02::cray02::cray02:
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top