رسولنا- متجدد

angegardienretour

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
23 أكتوبر 2016
المشاركات
1,505
نقاط التفاعل
1,027
النقاط
71
محل الإقامة
الجزائر العاصمة
الجنس
أنثى
كلــــــــــــــــــــــــــنا اخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة
السلام عليكم

هؤلاء أحبوا رسول الله

قال تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69].

قال الإمام البغوي في تفسيره: "نزلت في ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان شديد الحب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم وقد تغيَّر لونه يعرف الحزن في وجهه، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما غيَّر لونك؟»، فقال: يا رسول الله، ما بي مرض ولا وجع، غير أنّي إذا لم أرك استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة فأخاف أني لا أراك؛ لأنك تُرفَع مع النبيين، وإني إن دخلت الجنة في منزلة أدنى من منزلتك، وإن لم أدخل الجنة لا أراك أبدًا، فنزلت هذه الآية".

ومن نماذج المحبين:
- عبد الله بن زيد (رضي الله عنه) كان يعمل في حديقة له، فأتاه ابنه فأخبره أن النبي صلى الله عليه وسلم قد توفي، فقال: اللهم أذهب بصري؛ حتى لا أرى بعد حبيبي محمد أحدًا. فكُفَّ بصره، واستجاب الله دعاءه!

- وهذا بلال الحبشي مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم نشأ منذ إيمانه على حب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه الموت، فسمع بعض أهله يقول: واكرباه! فإذا بلال قد فتح عينه مبتسمًا ثغره قائلاً: واطرباه! غدًا نلقى الأحبة محمدًا وحزبه.

• وكان عبد الله بن الزبير -رضي الله عنه- إذا ذُكر عنده النبي صلى الله عليه وسلم بكى، حتى لا يبقى في عينيه دموع!

ومن نماذج حب النساء له صلى الله عليه وسلم:
- تلك المرأة الأنصارية: {قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا} [يونس: 58]، التي قُتل أبوها وأخوها وزوجها يوم أحد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: خيرًا، هو بحمد الله كما تحبين. فقالت: أرونيه؛ حتى أنظر إليه. فلمَّا رأته، قالت: كل مصيبة بعدك جلل يا رسول الله.

- حدّث عمرو بن العاص يومًا، فقال: ما كان أحد أحب إليَّ من رسول الله، ولا أجلّ في عيني منه، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه؛ إجلالاً له، ولو سُئلت أن أصفه ما أطقت؛ لأني لم أكن أملأ عيني منه.

- قال عروة بن مسعود حين وجهته قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم صلح الحديبية، ورأى من تعظيم أصحاب رسول الله ومحبتهم له ما رأى، وأنه لا يتوضأ إلا ابتدروا وضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقًا ولا يتنخم نخامة إلا تلقوه بأكفهم، فدلكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعره إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه النظر تعظيمًا له.

- ورُوي عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه إذا حدث، فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، علاه كرب، وتحدر العرق من جبينه -رضي الله عنه وأرضاه-.

بل إن محبته صلى الله عليه وسلم تقتضي محبة أصحابه رضوان الله عليهم، يقول عبد الله بن المبارك: خصلتان من كانتا فيه نجا؛ الصدق، وحب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم.

ويقول أيوب السختياني: من أحب أبا بكر فقد أقام الدين، ومن أحب عمر فقد أوضح السبيل، ومن أحب عثمان فقد استضاء بنور الله، ومن أحب عليًّا فقد أخذ بالعروة الوثقى، ومن أحسن الثناء على أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بَرِئ من النفاق، ومن انتقص أحدًا منهم، فهو مبتدع مخالف للسنة والسلف الصالح، وأخاف ألاّ يرفع له عمل إلى السماء، حتى يحبهم جميعًا ويكون قلبه سليمًا.

إن محبة الله هي المنزلة التي يتنافس فيها المتنافسون، وإليها يشخص العاملون، وعليها يتفلى المحبون، ويروح نسيمها ويروح العابدون، فهي من قوت القلوب، وغذاء الأرواح وقُرَّة العيون، و لا سبيل إليها و إلى تحقيقها إلا بمحبته و متابعته عليه الصلاة و السلام .

ومحبة المصطفى والاقتداء به حياة من حُرمها، فهو من جملة الأموات، ونور مَن فقده، فهو في بحر الظلمات، فلا حياة للقلوب إلا بمحبة الله ومحبة رسوله صلى الله عليه وسلم والاقتداء به.

ألا ترى المحبين قرت أعينهم بحبيبهم، وسكنت نفوسهم إليه، واطمأنت قلوبهم به، واستأنسوا بقربه، وتنعموا بمحبته، وصاروا أعزة في الدنيا وسادة في الآخرة، يذوقون طعم السعادة، وعلى العكس الذين تنكبوا الطريق، وابتعدوا عن الجادة - حياتهم كلها هموم وغموم وآلام وحسرات.

يقول العلاَّمة ابن القَيّم في (زاد المعاد): "والمقصود أنه بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله -سبحانه- علَّق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح، والعزة والكفاية واللذة، والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفته الذلة والصغار والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة".

وليس محبًّا مَن يعدُّ شقاءَه *** عذابًا إذا ما كانَ يَرضَى حبيبُه

فعلى كل من نصح نفسه وأحبّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هدي المعصوم صلى الله عليه وسلم وسيرته وحياته ما يخرج به عن الجاهلية، ويدخل به في عداد أتباعه العارفين به، والناس في هذا بين مستقلٍّ ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

أسأل الله أن يجعلنا من حزبه المخلصين، وأن يوردنا حوضه، ويحشرنا في زُمْرته صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

المصدر: شبكة الألوكة.
 
آخر تعديل بواسطة المشرف:
رد: رسولنا- متجدد

بارك الله فيك و أحسن إليك و أجزل لك الأجر و الثواب.

يقول العلاَّمة ابن القَيّم في (زاد المعاد): "والمقصود أنه بحسب متابعة الرسول تكون العزة والكفاية والنصرة، كما أنه بحسب متابعته تكون الهداية والفلاح والنجاة، فالله -سبحانه- علَّق سعادة الدارين بمتابعته، وجعل شقاوة الدارين في مخالفته، فلأتباعه الهدى والأمن والفلاح، والعزة والكفاية واللذة، والولاية والتأييد وطيب العيش في الدنيا والآخرة، ولمخالفته الذلة والصغار والخوف والضلال، والخذلان والشقاء في الدنيا والآخرة".

وليس محبًّا مَن يعدُّ شقاءَه *** عذابًا إذا ما كانَ يَرضَى حبيبُه

فعلى كل من نصح نفسه وأحبّ نجاتها وسعادتها أن يعرف من هدي المعصوم صلى الله عليه وسلم وسيرته وحياته ما يخرج به عن الجاهلية، ويدخل به في عداد أتباعه العارفين به، والناس في هذا بين مستقلٍّ ومستكثر ومحروم، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.

أعجبني كل الموضوع و لفت إنتبهي هذه اللفتة و الفائدة للإمام إبن القيم، لما نعاني منه اليوم من الدعاوى الفارغة الجوفاء و التي تبدوا أنها من قلوب صادقة لكنها أخطئت السبيل و ضلت الطريق، فأحببت إقتباسها هنا لزيادة الإهتمام بها.
 
آخر تعديل:
رد: رسولنا- متجدد

subscribed.png
إرشاد الفحول إلى التأمل في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
 
رد: رسولنا- متجدد

الحمد وحده و الصلاة و السلام على خير رسله و صفوته من خلقه نبينا محمد أزكى البرية و أعظمها قدرا و منزلة عند ربه و بعد.
إن من السنن الواردة و الصحيحة الصلاة و السلام على النبي في مواطن عدة و عند مواضع شُرع للمرء فيها ذلك، و قد ردج فعل السلف على الحفاظ على الصلاة و السلام على نبينا الأمين وفقا لما ثبت في نصوص الكتاب و دلت عليه سنته عليه الصلاة والسلام، و في الوقت نفسه كان فعلهم هذا منظبطا بإقتفاء ما كان عليه صحبه الكرام على النحو الذي علمهم إياه و أقرهم عليه، فلم يكن شيئ مما أنتشر في هذا الزمان من الذكر الجماعي و الإجتماع في أماكن خاصة و أوقات خاصة للصلاة عليه، لأنهم عرفوا معنى الإقتداء و أحبوا نبيهم وعزروه ووقروه حق التوقير، فأنّ لهم أن يخترعوا عبادة لم تكن أو يختاروا لعبادة ثابتة بالنص صفة غير مشروعة.
من هنا يستبين أمر مهم دار حوله نقاش و صراع محتدم، يظن فيه الظان أني أعيب على الناس الصلاة على النبي عليه الصلاة و السلام، في حين أني أدعوا لها و أحرص عليها في أذكار يومي صباحا و مساءا، و يعلم ربي أني حتى و إن قصرت ركائبي و قلّت حيلتي بسبب كثرة تقصري و تفريطي في الطاعات و إفراطي في الذنوب مع ندرة الناصح و قلة المرشد فلست أتوانى أن أفديه بنفسي و مالى و ولدي و والدي، كيف لا هو الذي أنقذنا الله به من الجاهلية و بصرنا به الحق و هدنا به الصراط المستقيم ، و جعله قدوتنا في كل شأن و معلمنا الخير و الدال لنا على الرشد، مبشرا طائعيه و محبيه بالجنان منذرا مخالفيه و مبغضيه الجحيم و النيران، النبي الخاتم المختار إمام المرسلين و سيدهم، أكثر الناس بلاء في ذات الله وأحسنهم في ذلك رضا و تسليم لربه الكريم، عليه أزكى صلاة وأفضل تسليم.
و إنما يعيب أهل السنة و الجماعة (و أنا في ذلك تبع لهم) على الناس إجترائهم على النص و مخالفته، و هنا يقع الخلل و يخطئ المرء من حيث يظن أنه مصيب و أكثر الناس يضل في البدع الإضافية و ذلك لقلة الفقه في الدين.
و لذا أرى من المناسب دفاعا عن سنته عليه الصلاة و السلام أن أسرد ما تحصلت عليه بخصوص هذا الشأن، فدونكم الكلام عن هذا النوع الخطير من البدع، فهو من الأهمية بمكان.



تعريف البدعة الإضافية:
وهي الأمر المبتدَع مضافًا إلى ما هو مشروع بزيادةٍ أو نقص.
وقد عرَّفها الشاطبيُّ بأنَّها ما لها شائبتان:
إحداهما: لها من الأدلَّة متعلَّق، فلا تكون من تلك الجهة بِدعة.
والأخرى: ليس لها متعلَّق إلاَّ مثل ما للبدعة الحقيقية؛ أي: إنَّها بالنِّسبة لإحدى الجهتين سُنَّة؛ لاستنادها إلى دليلٍ، وبالنِّسبة للجهة الأخرى بِدعة؛ لأنَّها مستندة إلى شُبهة، لا إلى دليل، أو لأنَّها غير مستندة إلى شيء.
وسُمِّيَت إضافيَّة: لأنَّها لم تخلص لأحد الطَّرفين، لا بالمخالفة الصَّريحة، ولا بالموافقة الصريحة.
والفرقُ بين البدعة الحقيقيَّة والإضافيَّة من جهة المعنى: أنَّ الدليل على الإضافيَّة من جهة الأصل قائمٌ، ومن جِهة الكيفيَّات، أو الأحوال، أو التفاصيل لم يقم عليها، مع أنَّها محتاجة إليه؛ لأنَّ الغالب وقوعها في التعبُّديات، لا في العاديات المحضَة.
ومن أمثلتها: ذِكر الله تبارك وتعالى على هَيئة الاجتماع بصوتٍ واحد؛ فالذِّكر مشروع، لكن أداؤه على هذه الكيفيَّة غير مشروع، بل هو بِدعة مخالِفة للسنَّة، وعليه يُحمل قول ابن مسعود للجماعة الذين كانوا يَجتمعون في المسجد وفي أيديهم حصًى، فيسبِّحون ويكبِّرون بأعداد معيَّنة؛ حيث قال لهم: "والله لقد جِئتم ببدعةٍ ظلمًا، أو فَضَلتُم أصحابَ نبيكم علمًا".
ومن أمثلتها أيضًا: تخصيص يوم النِّصف من شعبان بصيام، وليلته بقيام، وإفراد شَهر رجب بالصوم أو عبادةٍ أخرى.
فالعبادات مَشروعة، ومنها الصوم، لكن يأتي الابتداع من تَخصيص الزمان أو المكان، إذا لم يَأتِ تخصيص ذلك في كتاب الله تعالى، أو سنَّة رسوله صلى الله عليه وسلم.
والبدعة الإضافيَّة أشدُّ خطورة من الحقيقيَّة، من حيث الشُّبَه التي يَستند إليها المبتدِعُ في فعلها، فإنَّك إذا سألتَه عن دليل ذلك قال: إنَّه يذكر اللهَ، ويصوم لله، فهل الذِّكر والصيام محرَّمان؟ ومِن ثَمَّ يستمْرِئها، ويداوم عليها، وقد لا يتوب منها في الغالِب؛ ذلك أنَّ الشبهات أخطر الأمور على الدين؛ فهي أخطر من الشَّهوات، وإن كان الجميع خطيرًا؛ لأنَّ إبليس اللَّعين لمَّا يئس من تضليل المسلمين بالمعاصي دخل عليهم من باب العِبادة؛ فزيَّن لهم البِدَع بحجَّة التقرُّب إلى الله، وهنا مَكمن الخطر، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون.
و من أراد أن يستزيد فاليطرق الرابط أدناه.

رابط الموضوع: من هنا.



 
آخر تعديل:
رد: رسولنا- متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

و فيك بارك الله و ااااااااااااااامييييييين يا رب العلمين

و بارك الله فيك و جزاك كل خير على الاضافة القيمة

مواقف تربوية من السيرة النبوية

تعتبر السيرة النبوية بأحداثها وتفاصيلها مدرسة نبويّة متكاملة، لما تحمله بين ثناياها من المواقف التربوية العظيمة والفوائد الجليلة، التي تضع للدعاة والمعلمين والمربين منهج التربية وحسن التعامل مع مواقف الحياة ومجرياتها، وهذه بعض من المواقف التربوية من حياة وسيرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم:

الشورى والمساواة من غزوة بدر والأحزاب
غزوة بدر هي إحدى الغزوات المليئة بالمواقف التربوية، ولعل من أبرزها موقف النبي صلى الله عليه وسلم في تأكيده لمبدأ الشورى، باعتباره مبدأً من مبادئ الشريعة، وصورة من صور التعاون على الخير، يحفظ توازن المجتمع، ويجسّد حقيقة المشاركة في الفكر والرأي، بما يخدم مصلحة الجميع..

فرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو المؤيَّد بالوحي استشار أصحابه في تلك الغزوة أربع مرات: حين الخروج لملاحقة العير، وعندما علم بخروج قريش للدفاع عن أموالها، واستشارهم عن أفضل المنازل في بدر، واستشارهم في موضوع الأسرى. وكل ذلك لِيُعِّلم الأمة أن تداول أي فكرة وطرحها للنقاش يسهم في إثرائها، وتوسيع أفقها، ويساعد كذلك على إعطاء حلول جديدة للنوازل الواقعة.

وهذا الموقف التربوي في ترسيخ مبدأ الشورى ظهر كذلك جليًّا في غزوة الأحزاب؛ إذ لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بزحف الأحزاب إلى المدينة، وعزمها على حرب المسلمين، استشار أصحابه، وقرروا بعد الشورى التحصن في المدينة والدفاع عنها، وأشار سلمان الفارسي -رضي الله عنه- اعتمادًا على خبرته في حرب الفرس، بحفر خندق حول المدينة، وقال: "يا رسول الله، إنّا كنا بأرض فارس إذا حوصرنا خندقنا علينا". فوافقه وأقره النبي صلى الله عليه وسلم وأمر بحفر الخندق حول المدينة، وتمّ تقسيم المسئولية بين الصحابة.

لقد أنزل الرسول صلى الله عليه وسلم الشورى منزلتها ورسخَّها في حياة الأمة، إذ الحاجة إليها في الشدائد والقرارات المصيرية على غاية من الأهمية؛ فالشورى استفادة من كل الخبرات والتجارب، واجتماع للعقول في عقل، وبناء يساهم الجميع في إقامته؛ ولذا قال الله تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38].

كما أقرّ النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر والأحزاب -وغيرهما من غزوات- بمبدأ آخر لا يقلّ أهمية عن سابقه، وهو تطبيق المساواة بين الجندي والقائد، ومشاركته لهم في الظروف المختلفة، يتضح ذلك في موقفه وإصراره صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر على مشاركة أبي لبابة وعلي بن أبي طالب -رضي الله عنهما- في المشي وعدم الاستئثار بالراحلة.. وفي الأحزاب تولى المسلمون وعلى رأسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم المهمة الشاقة في حفر الخندق، وكان لمشاركته صلى الله عليه وسلم الفعلية في الحفر الأثر الكبير في الروح العالية التي سيطرت على المسلمين.

لقد أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بدر والأحزاب -وغيرهما من الغزوات- موقفًا تربويًّا عمليًّا في الشورى وأهميتها، وفي مشاركته لأصحابه التعب والعمل، والآلام والآمال.

لا للعصبية والفرقة في غزوة بني المصطلق
عند ماء المريسيع كشف المنافقون عن حقدهم الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فسعوا -كعادتهم دائمًا إلى يومنا هذا- إلى محاولة التفريق بين المسلمين، فبعد انتهاء الغزوة -كما يقول جابر بن عبد الله رضي الله عنه-: ضرب رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار! وقال المهاجري: يا للمهاجرين!

فاستثمر المنافقون -وعلى رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول- هذا الموقف، وحرضوا الأنصار على المهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: «ما بال دعوى الجاهلية». قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «دعوها فإنها منتنة» (رواه البخاري).

فمع أن اسم المهاجرين والأنصار من الأسماء الشريفة التي تدل على شرف أصحابها، وقد سماهم الله بها على سبيل المدح لهم، فقال تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [التوبة: 100]، إلا أن هذه الأسماء لما استُعْمِلت الاستعمال الخاطئ لتفريق المسلمين وإحياء للعصبية الجاهلية، أنكر ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إنكارًا شديدًا، وقال قولته الشديدة: «دعوها فإنها منتنة»؛ وذلك حفاظًا على وحدة الصف للمسلمين، والتحذير من العصبية بجميع ألوانها، سواء كانت عصبية تقوم على القبلية، أو الجنس، أو اللون أو غير ذلك.

وهذا موقف تربوي عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم للأمة الإسلامية على مر العصور.

إقالة ذوي العثرات
عندما أكمل الرسول صلى الله عليه وسلم استعداده للسير إلى فتح مكة، كتب حاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- إلى قريش كتابًا يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ثم أعطاه امرأة، وجعل لها أجرًا على أن تبلغه إلى قريش، فجعلته في ضفائر شعرها، ثم خرجت به إلى مكة، ولكن الله -تعالى- أطلع نبيه صلى الله عليه وسلم بما صنع حاطب، فقضى صلى الله عليه وسلم على هذه المحاولة، ولم يصل قريش أي خبر من أخبار تجهُّز المسلمين وسيرهم لفتح مكة.

والخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير، إنه كشف أسرار الدولة المسلمة لأعدائها، ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة، بل هو مِن أولي الفضل منهم، إنه من أهل بدر، ويكفيه هذا شرفًا، والصحابة بمجموعهم خير القرون بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع كل هذا زلّت به القدم في لحظة من اللحظات. وكَمْ للنفس البشرية من زلات! وهذا من سمات الضعف البشري والعجز الإنساني؛ ليعلّم الله عباده المؤمنين بأن البشر ما داموا ليسوا رسلاً ولا ملائكة فهم غير معصومين من الخطأ، وهذا الذي عناه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «كل بني آدم خطّاء، وخير الخطائين التوابون» (رواه أحمد).

وقد عامل النبي صلى الله عليه وسلم حاطبًا -رضي الله عنه- معاملة رحيمة تدل على إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة، فجعل صلى الله عليه وسلم من ماضي حاطب سببًا في العفو عنه، وهو منهج تربوي حكيم..

فلم ينظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب -وإن كانت كبيرة-، وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل الله وإعزاز دينه، فوجد أنه قد شهد بدرًا، وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب الأخطاء نظرة متكاملة، وأن يأخذوا بالاعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم، في مجال الدعوة والخير، والعلم والتربية، والجهاد ونصرة دين الله.

قال ابن القيم: "من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت، وكان له في الإسلام تأثير ظاهر، فإنه يحتمل منه ما لا يحتمل لغيره، ويُعْفَى عنه ما لا يعفى عن غيره، فإن المعصية خبث، والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث، بخلاف الماء القليل، فإنه لا يحتمل أدنى خبث".

وإلى ذلك أشار النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لعمر -رضي الله عنه-: «وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم» (رواه البخاري).

إن إقالة العثرة، والعفو عن صاحب الخطأ والزلة، ليس إقرارًا لخطئه، ولا تهوينًا من زلته، ولكنها -مع الإنكار عليه ومناصحته- إنقاذ له، بأخذ يده ليستمر في سيره إلى الله، وعطائه لدين الله.. ومن ثَمّ فإقالة إقالة ذوي العثرات موقف تربوي عظيم من النبي صلى الله عليه وسلم للأمة، طبّقه مع حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه.

اذهبوا فأنتم الطلقاء
في السنة الثامنة من الهجرة نصر الله عبده ونبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم على كفار قريش، ودخل مكة فاتحًا منتصرًا، وأمام الكعبة المشرفة وقف جميع أهل مكة، وقد امتلأت قلوبهم رعبًا وهلعًا، وهم يفكرون فيما سيفعله معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن تمكّن منهم، ونصره الله عليهم، وهم الذين آذوه، وأهالوا التراب على رأسه، وحاصروه في شعب أبي طالب ثلاث سنين، حتى أكل هو ومن معه ورق الشجر، بل وتآمروا عليه بالقتل صلى الله عليه وسلم، وعذبوا أصحابه أشد العذاب، وسلبوا أموالهم وديارهم، وأجلوهم عن بلادهم..

لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم قابل كل تلك الإساءات بموقف تربوي كريم في العفو -يليق بمن أرسله الله رحمة للعالمين-، فقال لهم: «ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: أخ كريم، وابن أخ كريم. قال: «اذهبوا فأنتم الطلقاء» (رواه البيهقي).

لا رجعة للوثنية
خرج مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين بعض حديثي العهد بالجاهلية، وكانت لبعض القبائل -قبل الإسلام- شجرة عظيمة خضراء يقال لها: "ذات أنواط" يأتونها كل سنة، فيعلقون أسلحتهم عليها للتبرك بها، ويذبحون عندها، ويعكفون عليها، وبينما هم يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ وقع بصرهم على الشجرة..

يقول أبو واقد الليثي رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خرج إلى حنين مَرَّ بشجرة للمشركين يقال لها: ذات أنواط، يعلقون عليها أسلحتهم، فقالوا: يا رسول الله، اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «سُبْحَانَ اللَّهِ! هَذَا كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى: {اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَرْكَبُنَّ سُنَّةَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ» (رواه الترمذي).

وهذا يعبر عن عدم وضوح تصورهم للتوحيد الخالص لحداثة إسلامهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم مع رفقه بمن أخطأ لم يسكت على هذا الخطأ، بل حذّر من آثاره ونتائجه، وأوضح لهم خطورة ما في طلبهم من معاني الشرك.

وهكذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه، ويصحح ما يظهر من انحراف في القول أو السلوك أو الاعتقاد، حتى في أشد الظروف والمواجهة مع الأعداء.

فالمخطئ والجاهل له حق على مجتمعه، يتمثل في نصحه وتقويم اعوجاجه برفق، وبأفضل الطرق وأقومها، فلو أن المسلمين -وخاصة الدعاة والمربين- اقتدوا برسول الله صلى الله عليه وسلم وبمواقفه التربوية مع أصحابه، وما فيها من حلم ورفق، ونصح وحكمة، لأثّروا فيمن يعلمونهم تأثيرًا يجعلهم يستجيبون لتنفيذ أمر الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لن نغلب اليوم من قلة
الغرور يمنع النصر، وإذا كانت غزوة بدر قررت للمسلمين أن القلة لا تضرهم شيئًا بجانب كثرة أعدائهم، فإن غزوة حُنين أكدت أن كثرة المسلمين لا تفيدهم ولا تنفعهم إذا لم يكونوا مؤمنين صادقين، إذ كان المسلمون في حنين أكثر عددًا منهم في أي معركة أخرى خاضوها من قبل، ومع ذلك لم تنفعهم الكثرة شيئًا؛ لما دخل إلى قلوبهم العجب والغرور، فقد حجب الغرورُ النصرَ عن المسلمين في بداية المعركة، حينما قال رجل من المسلمين: "لن نُغْلب اليوم من قلة". فشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم، فكانت الهزيمة.

وقد عبر القرآن الكريم عن ذلك بقوله: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ} [التوبة: 25].

ومن ثَمّ نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهمية الاستعانة بالله في الحروب وغيرها، ونِسْبة النصر والتوفيق إلى الله في كل شيء، فكان دائمًا في غزواته وحروبه إذا لقي العدو يقول: «اللهم بك أحول، وبك أصول، وبك أقاتل» (رواه أحمد). بك أحول: أتحرك، وبك أصول: أحمل على العدو.

ولعلَّ هذا الموقف من أبلغ المواقف التربوية في غزوة حنين، وقد انتفع به الصحابة بعد ذلك في حروب كثيرة دارت مع الفرس والروم وغيرهما من أجناس الأرض، وما فَرَّ المسلمون الذين شهدوا حُنَيْنًا بعد ذلك، فكلهم أيقنوا أن النصر ليس بالعدد ولا بالعُدّة، وأن الكثرة لا تغني شيئًا، ولا تجدي نفعًا في ساحات المعارك، إذا لم تكن قد تسلحت بسلاح العقيدة والإيمان، وأخذت بأسباب النصر وقوانينه..

فالنصر والهزيمة ونتائج المعارك لا يحسمها الكثرة والقلة والعدة فقط، وإنما ثمة أمور أُخَر لا تقل شأنًا عنها، إن لم تكن تفوقها أهمية واعتبارًا، قال الله تعالى: {وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} [آل عمران: 126]، وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].

إن المتأمل في حياة وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ليعجب من فقهه في معاملة النفوس، وحكمته في تربيتها وإصلاح أخطائها، وعلاج ما بها من خلل، يظهر ذلك في مواقفه التربوية الكثيرة والجديرة بالوقوف معها لتأملها والاستفادة منها في واقعنا ومناهجنا التربوية.

ومن ثَمّ تمر السنون والأعوام، وتظل سيرة وغزوات النبي صلى الله عليه وسلم نبراسًا وهاديًا، يضيء لنا الطريق في التربية والإصلاح، والعزة والتمكين.

المصدر: موقع إسلام ويب.
 
رد: رسولنا- متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

إنسانية الرسول في حروبه

عندما جاء الإذن للرسول والمسلمين من الله سبحانه وتعالى بالقتال بعد أربعة عشر عامًا من الصبر على أقسى صور الإذلال والملاحقة، لم يتوان الرسول في الخروج بالمسلمين على شكل سرايا وغزوات؛ وذلك لتأمين حياتهم في المدينة، في مواجهة القبائل المتربصة بهم، وفي مواجهة قريش التي لا تريد أن تعترف بكيانهم الجديد، ولا أن ترفع سياطها عن المستضعفين المعتقلين لديها الممنوعين من الهجرة، ولا أن تكفّ عن مصادرة أموالهم، وعن ملاحقة الدولة الجديدة بصورة التآمر والتأليب والتحريض لليهود والمنافقين في المدينة، وللقبائل الأخرى في الجزيرة..

وكانت السرايا أشبه بالدوريات الاستطلاعية التي تسعى لفرض الهيبة وإشعار الآخرين باليقظة، وأيضًا لاستكشاف الطرق المحيطة بالمدينة، والتي يمكن أن ينفذ منها الأعداء، وعقد معاهدات السلام مع القبائل التي تقع مساكنها على هذه الطرق، فضلاً عن جمع المعلومات عن هذه القبائل وصلتها بقريش، والتفاهم معها لتزويد المسلمين بالمعلومات عن تحركات أهل مكة ضد دولة الإسلام في المدينة.

ومن متابعة حركة السرايا يبدو أن السرايا التي يقل عدد أفرادها عن عشرة أفراد كان هدفها استقصاء الأخبار وجمع المعلومات، إلا إذا فرض الأعداء عليها الدفاع عن نفسها.. أما السرايا الأكثر عددًا فكانت سرايا مسلحة ومدربة هدفها إرهاب العدوّ حتى لا يفكر في غزو المدينة، وكانت على استعداد للاشتباك عند اللزوم -مع جمعها للأخبار والمعلومات أيضًا- وكان عدد بعض هذه السرايا يتجاوز مائتي مقاتل[1].

وثمة ملمح هنا نسوقه لتأكيد الطبيعة الإنسانية الأخلاقية لهذه السرايا، فمن المعروف أن جزيرة العرب كانت في عصور كثيرة، ومنها العصر الذي نتكلم عنه، تعج بكثير من قوافل السلب والنهب (لنتذكر هنا قصة سلمان الفارسي، وزيد بن حارثة وغيرهما).. وكانت الصحراء تبدو ملكًا لهذه القوافل -التي يمكن أن تستغل أيضًا- عن طريق المال لقريش وغيرها لجمع المعلومات عن المسلمين وترويع أهل المدينة.. فكانت السرايا هي الحلّ الأمثل للوقوف ضدَّ هذه القوافل -من جانب- ومن جانب آخر سوف يرى الناس في الجزيرة أن قوافل أو سرايا رسول الله، على العكس من هذه السرايا في سلوكها وتعاملها، فهي لا تمدُّ يدها بسوء لأي شخص، لا لماله ولا لعرضه.

ولعلها المرة الأولى في الجزيرة التي تمرّ فيها قوافل على هذا النحو من أمام البيوت والمساكن، تبعث على الأمن لا الخوف، وتدعو إلى التعاهد على السلم.. وتقاوم قوافل السلب والنهب.. وسوف يشعر العرب بأن هناك من يمكن أن يطمئنوا إليه ويجدوا في ظلالها الأمن إذا وضعوا أيديهم في يده. كما أن قريشًا التي كانت تريد أن تبقى مسيطرة على الجزيرة كلها، لم يعد الظرف الجديد يسمح لها بذلك.. فهناك من يتربصون بها وبتجارتها، ولن يكفوا عنها حتى تسالمهم وتعترف بكيانهم وحقهم في الحياة والدعوة لعقيدتهم.. وهذه المعاني السامية كلها حققتها السرايا أولاًَ، والغزوات ثانيًا.

وكانت السرية الأولى في رمضان من السنة الأولى للهجرة، جعل الرسول عليها عمه حمزة بن عبد المطلب، ومعه ثلاثون شخصًا، أرسلوا إلى سيف البحر، فلقوا عيرًا لقريش بقيادة أبي جهل فيها ثلاثمائة مشرك.. ولم يحدث قتال.. إلا أن أبا جهل -بالطبع- قد فهم الرسالة الموجهة إلى أهل مكة، وهي أن هناك قوة جديدة تفرض عليهم السلام والاعتراف بها، وإلا ستهدد مصالحهم التجارية.

وفي شوال خرجت السرية الثانية في ثمانين راكبًا على رأسها عبيدة بن الحارث، وفيها سعد بن أبي وقاص.. ولم يحدث قتال، إلا أن سعدًا رمى بأول سهم في الإسلام، وفرَّ إلى المسلمين المقداد بن عمرو (الأسود)، وعتبة بن غزوان، وكانا قد أسلما وحبسا في مكة.

وفي السنة الثانية للهجرة خرج الرسول الكريم -قبل بدر- بقيادة ثلاث غزوات وسرايا، فقد خرج ليعترض عيرًا لقريش عند (ودان)، فلم يدرك العير، وعاهد بني صخرة على الأمان والتناصر.. ثم بلغه أن عيرًا لقريش يقودها أمية بن خلف في مائة من قريش ذاهبة إلى الشام، فخرج لملاقاتهم في مائتين من المهاجرين حتى بلغ بواط، فوجد العير قد فاتته، ولم يلق كيدًا. وكذلك خرج الرسول ومعه مائة وخمسون في غزوة العشيرة، لملاقاة عير لقريش يقودها أبو سفيان، ففاته العير، ووادع بني مدلج وحلفائهم ثم عاد إلى المدينة ينتظر رجوع القافلة... فرجعت وأفلت بها أبو سفيان.. ثم كانت -بسبب هذه العير- غزوة بدر الكبرى.

ونلاحظ أن السرايا السابقة خلت من الاشتباكات الدموية؛ مما يؤكد طبيعتها ووضوح أهدافها التي أشرنا إليها سابقًا.

وقد أغار على المدينة كرز بن جابر الفهري، وهرب، فخرج الرسول في طلبه، ولم يدركه، وهذه تسمى غزوة بدر الأولى. ثم خرج عبد الله بن جحش على رأس سرية من ثمانين رجلاً، حتى نزلوا (نخلة) في طريق البصرة بأمر الرسول، ولقوا عيرًا لقريش تريد مكة فيها عمرو بن الحضرمي، فقتلوه في آخر أيام رجب، وأسروا عثمان بن المغيرة والحكم بن كيسان... فكَرِه الرسول ذلك منهم وقال: "لم آمركم بقتال"، وأفرج عن الأسيرين، وأرسل دية القتيل. ومع ذلك شهَّر المشركون بالمسلمين وقالوا إنهم قاتلوا في الأشهر الحرم، فنزلت آيات سورة البقرة تدافع عنهم: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ القَتْلِ} [البقرة: 217].

وفي غزوة بدر الكبرى (17 رمضان- 2 هجرية) عدّل رسول الله صفوف المسلمين، وكان في يده قدح يعدل به، وكان سواد بن غزية مستنصلاً من الصف، فطعنه الرسول في بطنه بالقدح وقال: "استو يا سواد". فقال سواد: يا رسول الله، أوجعتني فأقدني. فكشف عن بطنه، وقال: "استقد". فاعتنقه سواد، وقبَّل بطنه، فقال: "ما حملك على هذا يا سواد؟" قال: يا رسول الله، قد حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمسّ جلدي جلدك. فدعا له رسول الله بخير. وهذه لمسة إنسانية تدل على الطابع الأخلاقي الكريم للرسول القائد، الرحيم مع أصحابه وأعدائه.

ومع بداية المعركة أخذ الرسول يتضرع إلى ربِّه في إلحاح وخضوع.. فقد روى الإمام أحمد بسنده عن علي بن أبي طالب أنه قال: لقد رأيتنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح، وذلك ليلة بدر.. وهو يكثر من قول: يا حي يا قيوم، ويكررها وهو ساجد.. وكان يرفع يده ويهتف بربه ويقول: "اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد بعد في الأرض، اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم نصرك".. ويرفع يده إلى السماء حتى سقط رداؤه عن منكبيه، وجعل أبو بكر يقول له مشفقًا عليه: يا رسول الله، بعض مناشدتك ربك، فإنه منجز لك ما وعد.

وهذا الموقف أيضًا دليل من الأدلة التي تدل على الطبيعة الإيمانية لحروب الرسول .

وفي غزوة أحد، وبعد خيانة عبد الله بن أبي بن سلول، وعودته بثلاثمائة (ثلث الجيش) قام النبي ببقية الجيش -وهم سبعمائة مقاتل- ليواصل سيره نحو العدوّ، وكان معسكر المشركين يحول بينه وبين أحد في مناطق كثيرة، فقال: "من رجل يخرج بنا على القوم من كثب -أي من قريب- من طريق لا يمر بنا عليهم؟".

فقال أبو خيثمة: أنا يا رسول الله. ثم اختار طريقًا قصيرًا إلى أحد، ومرَّ الجيش من هذا الطريق بحائط مربع بن قيظى -وكان منافقًا ضرير البصر- فلما أحس بالجيش المسلم قام يحثو التراب في وجوه المسلمين، ويقول: لا أحلّ لك أن تدخل حائطي إن كنت رسول الله. فابتدره القوم ليقتلوه، فقال: "لا تقتلوه، فهذا أعمى القلب أعمى البصر". وترفّع الرسول عن قتل الأعمى، مع إساءته للرسول والجيش، وهذه لمسة إنسانية نراها جديرة بالتقدير.

ومن المعروف أنه بعد انتصار المسلمين في موقعة أحد -في أول المعركة- خالف الرماة أمر الرسول لهم بألاّ يتركوا مواقعهم قائلاً لهم ولقائدهم عبد الله بن جبير: "انضح الخيل عنا بالنبل، لا يأتونا من خلفنا، إن كانت لنا أو علينا فاثبت مكانك، لا نؤتينَّ من قبلك"[2]، وفي رواية للبخاري أيضًا: "إن رأيتمونا يخطفنا الطير فلا تبرحوا، وإن رأيتمونا ظهرنا فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم". ومع ذلك نزل أربعون منهم، مُعرِّضين قائدهم عبد الله بن جبير وتسعة معه للإبادة.

وعندما أدرك هذه الثغرة خالد بن الوليد، انقض منها على المسلمين، ثم ركّز المشركون جهودهم ضدَّ النبي ، وطمعوا في القضاء عليه، فرماه عتبة بن أبي وقاص بالحجارة فوقع لشقه، وأصيبت رباعيته اليمنى والسفلى، وشفته السفلى، وتقدم إليه عبد الله بن شهاب الزهري، فشَجَّه في جبهته، وجاء فارس عنيد هو (عبد الله بن قمئة) فضربه على عاتقه بالسيف ضربة عنيفة، شكا لأجلها أكثر من شهر، ثم ضرب على وجنته ضربة أخرى عنيفة كالأولى، حتى دخلت حلقتان من حلق المغفر في وجنته، وقال: خذها وأنا ابن قمئة. فقال رسول الله له وهو يمسح الدم عن وجهه: "أقمأك الله". فلم يلبث أن هلك عندما نطحه تيس أثناء عودته!!

وفي الصحيحين أنه كسرت رباعيته، وشج في رأسه، فجعل يسلت الدم عنه ويقول: "كيف يفلح قوم شجوا وجه نبيهم، وكسروا رباعيته وهو يدعوهم إلى الله".

ومع كل ذلك كان لا يفتأ أن يقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون". وفي رواية مسلم: "ربِّ اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون".

ومع أن منظر الشهداء كان مريعًا يفتت الأكباد، فحمزة -رضي الله عنه- لم يوجد له كفن إلا بردة ملحاء، إذا جعلت على رأسه قلصت عن قدميه، وإذا جعلت على قدميه قلصت عن رأسه حتى مدت على رأسه، وجعل على قدميه الإذخر، ومع أن هندًا بنت عتبة مثـَّلت به، وأخرجت كبده لتأكلها ثم لفظتها..

ومع أن الداعية العظيم مصعب بن عمير -رضي الله عنه- كُفن في بردة إن غطى رأسه بدت رجلاه، وإن غطى رأسه بدا رأسه، وروى مثل ذلك عن خباب، وفيه: فقال لنا النبي : "غطوا بها رأسه واجعلوا على رجله الإذخر" (وهو نبات)..

مع كل هذا العناء الذي كابده الرسول فإنه أمر أصحابه -بعد أن انصرف المشركون- بأن يقفوا صفوفًا، وقال لهم: "استووا حتى أثني على ربي عز وجل"، فصاروا خلفه صفوفًا، فقال: "اللهم لك الحمد كله، اللهم لا قابض لما بسطت، ولا باسط لما قبضت، ولا هادي لمن أضللت، ولا مضل لمن هديت، ولا معطي لما منعت، ولا مانع لما أعطيت، ولا مقرب لما باعدت، ولا مبعد لما قربت، اللهم ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك..

اللهم إني أسألك النعيم المقيم، الذي لا يحول ولا يزول، اللهم إني أسألك العون يوم العيلة، والأمن يوم الخوف، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا وشر ما منعتنا، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم توفّنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين. اللهم قاتل الكفرة الذين يكذبون رسلك، ويصدون عن سبيلك، واجعل عليهم رجزك وعذابك".

المصدر: صحيفة الوسط الإلكترونية.
 
رد: رسولنا- متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

غزوة الأحزاب .. قراءة معاصرة

لا شك أن قراءة السيرة لا بد أن ترتبط بالتعلم من دروسها؛ ذلك لأن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم:

أولاً: جزء من سنته التي أمرنا الله -عزَّ وجلَّ- باتباعها.

وثانيًا: لأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد مَرَّ في جهاده من أجل إعلاء كلمة الله تعالى، وإنشاء الدولة الإسلامية الأولى بكل ما يمكن أن تمر به الأمة في سعيها نحو إعادة تمكين الشريعة الإسلامية، وإقامة دولة الخلافة من جديد، وتحقيق مفهوم الأمة الواحدة كما أراد الله تعالى.

من هنا فإن قراءة أحداث السيرة بمفهوم عصري، أي إسقاط الأحداث على ما يجري حاليًّا هي خطوة ضرورية لفهم ما يجري، وما يمكن أن يحدث بعد ذلك.

ومن ثَمَّ يمكننا من خلال إعادة قراءة أحداث غزوة الأحزاب فَهْم ما جرى في غزة، وما يحدث في المنطقة.

لقد كانت صدمة المشركين في غزوة بدر 2هـ ضخمة؛ إذ لم يتوقعوا أن تُهزَم جحافلهم المدججة بجميع أنواع الأسلحة من ثلث عددها الذين لا يحملون إلا السيوف، وكذلك كانت صدمة اليهود في المدينة المنورة الذين كانوا يتابعون الأحداث بعد أن قبلوا مضطرين إلى القبول بالمعاهدات مع النبي صلى الله عليه وسلم، آملين أن تتغلب قوى الشرك على دولة الإسلام الوليدة.

من هنا قامت قريش بالاستعداد لغزوة أُحُد التي جرت في العام التالي 3هـ، وكان النصر متراوحًا بين المسلمين في بداية المعركة، والمشركين في نهايتها بعد مخالفة أغلب الرماة الشهير لأوامر النبي صلى الله عليه وسلم.

هدأت قريش قليلاً بعد هذه المعركة؛ فقد حققت شبه انتصار حاولت أن تجد فيه سلوى وتعويضًا عن هزيمة بدر، وسكنت جراحها شيئًا ما، وإن لم تندمل تمامًا، ولكن كان هناك من كان قلقهم يتعاظم من ترسخ وجود دولة الإسلام، وهم اليهود.

اليهود يحركون قوى الكفر:

لقد وجد اليهود -وخاصة يهود بني النضير الذين طردهم النبي صلى الله عليه وسلم إثر بعض خياناتهم- أن تعاظم قوة الدولة المسلمة ليس في صالحهم، ولا يخدم أهدافهم الإستراتيجية المتمثلة في القضاء على الفكرة الإسلامية من الأساس، والسيطرة على المدينة المنورة كبداية من خلال إثارة الحروب والنزاعات بين الأوس والخزرج، ثم السيطرة على بقية الجزيرة العربية وقبائلها من خلال ترسيخ أنهم أفضل من بقية العرب لأنهم أهل كتاب، ومن خلال سيطرتهم على المال، والسلاح، واستخدام الربا في السيطرة على الأفراد والزعماء، واستخدام الجنس وإشاعة الفاحشة كذلك.

من هنا بدأ اليهود وقد أقلقهم مرور الأيام والشهور دون حروب من قريش ضد المسلمين، فبدءوا في إرسال وفود إلى قبائل العرب تدعوهم وتحرضهم على ضرب الوجود الإسلامي في المدينة المنورة ضربة تجتثه تمامًا، وتقضي عليه، وكان على رأس الوفود حُيَيُّ بن أخطب سيِّد بني النضير.

التحريض:

بدأت تلك الوفود بقريش -لأنها صاحبة العداوة الأولى والمصلحة المباشرة في القضاء على الإسلام- وبدأ الوفد يحرض قادتها، وبالتأكيد قد قالوا لهم: إن استمرار وجود المسلمين قد أفقدكم هيبتكم، ويوشك أن يقضي على مصالحكم باعتباركم سدنة بيت الله الحرام، والمتحكمين في زوَّاره، والمستفيدين من موسم الحج بالتجارة، وبيع الأصنام، وقد كانت العرب تدين لكم بالطاعة، أما إن استمر المسلمون فسيدخل الجميع في الإسلام، وتفقدون كل شيء.

واقتنعت قريش بالأمر، ورغم صلات القربى التي تجمع أفرادها بالمسلمين إلا أن الكيد اليهودي آتى ثماره، وأخذت المراجل تغلي في الصدور تشوقًا لليوم الفصل، ولكن اليهود لم تكتفِ بقريش؛ فقد كانت تريد توجيه ضربة قاصمة للدولة الإسلامية لا تقوم بعدها أبدًا. ومِن ثَمَّ فقد جابت الجزيرة العربية تطلب التأييد من كل القبائل، بل تطلب المشاركة الكاملة في الحشد والقتال، والحصار الاقتصادي إن لزم الأمر.

استطاع اليهود إقناع القبائل بنفس ما أقنعوا به قريشًا، وتشكل الحشد العربي غير المسبوق -لا في مناصرة الحق، وذوي رحمهم من المسلمين، ولكن- من أجل إعلان الحرب الشاملة عليهم.

ولكن أدرك اليهود أنه لا بد من وجود مساعدة داخلية تسهل للحشد العدوان، وتحقيق الانتصار..

لا بد من عنصر خائن عميل يضرب المسلمين في ظهورهم بينما هم مطمئنون إليه، ووجدوا بغيتهم في يهود بني قريظة المرتبطين بمعاهدة مع النبي صلى الله عليه وسلم.

ولكن هل يقبل بنو قريظة أن يخونوا الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين؟

لقد رفضوا في البداية، ولكن حيي بن أخطب ظلَّ يحاول إقناع سيدهم كعب بن أسد القرظي، ويذكر له الحُلم اليهودي في السيطرة وامتطاء الأمم؛ حتى وافق كعب على شرط أنه إذا لم يستطع العرب الانتصار على المسلمين، وتركوا المدينة ورجعوا أن يدخل حيي بن أخطب مع بني قريظة، ويجري عليهم معًا ما سيجري لهم من عقاب الرسول صلى الله عليه وسلم.

وبقي في التخطيط المتكامل للعدوان إعداد الترتيبات التالية للغزو والانتصار؛ فلو تم الهدف من المعركة، وقُتِلَ الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكابر الصحابة، ورجع الباقون عن الإسلام، أو خضعوا لسلطان المشركين؛ فمن سيتولى الأمر في المدينة؟

مَن السلطة التي ستتولى حكم المدينة تحت وصاية اليهود؟

وكان البديل متوافرًا في المنافقين، وعلى رأسهم عبد الله بن أُبَيّ بن سلول، ومن ثَمَّ اكتمل التخطيط.

كان اكتمال الحشد يحتاج لوقت طويل؛ فهذا اجتياح لم يسبق له مثيل، والهدف كبير، ولا بد من إعداد طويل قد يحتاج شهورًا؛ لذا لا بد من خداع المسلمين حتى لا يتنبهوا للأمر، فلا مانع إذن من التهدئة معهم؛ حتى يصرفوا فكرة الحرب والاستعداد لها من عقولهم.

ولكن على الجانب الآخر كان النبي صلى الله عليه وسلم مُتيقِّظًا؛ لذا أخبرته عيونه بما يُدَبَّر؛ فعقد مجلسًا تشاوريًّا خرج منه باقتراح سلمان الفارسي -رضي الله عنه- بحفر الخندق لحماية المدينة، ومنع المشركين من اقتحامها، وتم الحفر بمشاركة الرسول صلى الله عليه وسلم.

الحصار:

وتكون أكبر جيش عرفته الجزيرة العربية -عشرة آلاف مقاتل- ووصلت الجيوش المشركة، وعجزت أمام الخندق، وأمام العزائم الصلبة التي تحلَّى بها المسلمون، وبدأت محاولات اقتحام الخندق التي باءت بالفشل أمام بسالة المسلمين في الدفاع عنه.

انتهزت وسائل إعلام المنافقين فرصة الحصار والتضييق، وبدأت في العمل {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيدًا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 11، 12].

وبدءوا يحرضون المسلمين على الفرار من الخندق؛ {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً} [الأحزاب: 18].

أمَّا المؤمنون فكان الحصار الشديد دافعًا لهم إلى زيادة الإيمان والتسليم؛ {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} [الأحزاب: 22].

وجاهر بنو قريظة بالعداوة، وهم المحتلون للجبهة الجنوبية للمدينة، ويستطيعون تمكين المشركين من دخول المدينة من جهتهم، وأخذت وسائل إعلامهم تشوِّه صورة المسلمين، وتُظهرهم أنهم كانوا هم السبب فيما حدث من حصار للمدينة، وأن المدينة قبل مجيء الرسول والإسلام كانت آمنة مطمئنة؛ فلما أتوا أصابها الخطر، وتجمع العرب حولها يريدون تدميرها.

الانتصار:

لم يكن الله عزَّ وجلَّ ليترك المؤمنين على ما هم فيه من الحصار، ويُشْمِت بهم الأعداء، وما كان الله لينصر المشركين على دينه، ولكنه -سبحانه وتعالى- أراد أن يُعلِّمَنا درسًا جديدًا بليغًا في قواعد النصر والهزيمة؛ فليس معنى النصر دائمًا أن تقضي على عدوك تمامًا، أو أن تقتل منه عددًا كبيرًا، فقد تكون قواتك أقل عددًا وعُدَّة من قواته؛ لذا فحينها يكون صمودك أمام عدوك، وثباتك على دينك ومبدئك هو النصر، وسوف يُكمِل الله تعالى لك الباقي.

جاء نصر الله عزَّ وجلَّ في هذا الوقت بشكل جديد؛ فأرسل ريحًا كفأت قدور المشركين، واقتلعت خيامهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب؛ فصاروا لا يستطيع الواحد منهم الخروج وحده، ولم يعودوا يحاولون اقتحام الخندق؛ حتى أيقنوا أنهم لا مقام لهم، فرجعوا خائبين لم يحققوا هدفهم {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا * وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا * وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 25-27].

ونحن قد شاهدنا النصر في غزة كما شاهده المسلمون في الخندق، ونرجو من الله استكمال النصر بإذنه، وأن يهزم اليهود ومن عاونهم، ويورثنا أرضهم، وديارهم وأموالهم، وأن يمكِّن لنا ديننا الذي ارتضى لنا، {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} [الأحزاب: 27].
 
رد: رسولنا- متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

المواقف السياسية لليهود في المدينة

1- محاولة تفرقة الوحدة الإسلامية
كان أول موقف سياسي وقفه اليهود من المسلمين، وقد رأوا وحده كلمتهم والتحام صفهم هو العمل على شرخ هذا الصف وتهديمه.
قال ابن إسحاق: "ومر شاس بن قيس وكان شيخا قد عسا (أسن وولى)، عظيم الكفر شديد الضغن على المسلمين شديد الحسد لهم، على نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج، في مجلس قد جمعهم يحدثون فيه. فغاظه ما رأى من ألفتهم وجماعتهم، وصلاح ذات بينهم على الإسلام، بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية. فقال: "قد اجتمع ملأ بني قيلة بهذه البلاد، لا والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار".

فأمر فتى شابا من يهود كان معهم، قال: اعمد إليهم فاجلس معهم، ثم اذكر يوم بعاث، وما كان قبله وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار، ففعل. فتكلم القوم عند ذلك وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحيين على الركب، فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه: إن شئتم رددناها الآن جذعة (أي رددنا الآخر إلى أوله)، فغضب الفريقان جميعا، وقالوا: قد فعلنا، موعدكم الظاهرة -الحرة، السلاح السلاح فخرجوا إليها.

فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فخرج إليهم فيمن معه من أصحابه المهاجرين حتى جاءهم فقال: "أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد أن هداكم الله للإسلام، وأكرمكم به وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألف بين قلوبكم".

فعرف القوم أنها نزعة من الشيطان، وكيد من عدوهم، فبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين، قد أطفأ الله كيد عدو الله شاس بن قيس، فأنزل الله تعالى في شأن شاس وما صنع {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [آل عمران: 98- 99] [1].

2- تحدي اليهود للمسلمين
وكانت الخطة الثانية هي تحدي المسلمين "وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم بسوق بني قينقاع، ثم قال: "يا معشر يهود، احذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة، وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم".

قالوا: "يا محمد إنك ترى أنا قومك، لا يغرنك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة، إنا والله لئن حاربناك لتعلمن أنا نحن الناس" [2].

3- محاولة الغدر برسول الله واغتياله
وكانت محاولة الغدر برسول الله صلى الله عليه وسلم واغتياله، وكانت على ملأ من يهود، "ثم خلا بعضهم ببعض، فقالوا: "إنكم لن تجدوا الرجل على مثل حاله هذه، فمن رجل يعلو على هذا البيت فيلقي عليه صخرة، فيريحنا منه"، وانتدبوا لذلك عمرو بن جحاش بن كعب أحدهم، فقال: "أنا لذلك". فصعد ليلقي عليه صخرة -كما قال- ورسول الله في نفر من أصحابه، فيهم أبو بكر وعمر وعلي.

فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من السماء بما أراد القوم، فقام وخرج راجعا إلى المدينة .." [3]. وكان هذا الذي هيأ غزو بني النضير.

4- اليهود وتآمرهم في غزوة الأحزاب
وبقي الحقد هو الذي يغذي اليهود، وبعد إجلائهم راحوا يؤلبون العرب عامة، واليهود خاصة لاستئصال الإسلام وأهله.

"إنه كان من حديث الخندق أن نقرأ من اليهود منهم سلام بن أبي الحقيق النضري، وحيي بن أخطب النضري، وكنانة بن أبي الحقيق، وهوذة بن قيس الوائلي، وأبو عمار الوائلي، في نفر من بني النضير، ونفر من بني وائل، وهم الذين حزبوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، خرجوا حتى قدموا على قريش بمكة فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: إنا سنكون معكم عليه حتى نستأصله.

فقالت لهم قريش: "يا معشر يهود، إنكم أهل الكتاب الأول، والعلم بما أصبحنا نختلف فيه نحن ومحمد، أفديننا خير من دينه؟"، قالوا: "بل دينكم خير من دينه، وأنتم أولى بالحق منه"، فهم الذين أنزل الله تعالى فيهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا} إلى قوله تعالى: {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ}: أي النبوة {فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا} [النساء: 51- 55] [4].

5- حيي بن أخطب زعيم الحرب السياسية
ثم كان الإعلان الخبيث الخسيس في نقضهم للعهد، وتحالفهم مع أعداء المسلمين، "وخرج عدو الله حيي بن أخطب النضري حتى أتى كعب بن أسد القرظي، صاحب عقد بني قريظة وعهدهم قد وادع رسول الله صلى الله عليه وسلم على قومه، وعاقده على ذلك وعاهده، فلما سمع كعب بحيي بن أخطب أغلق دونه باب حصنه، فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له.

فناداه حيي: ويحك يا كعب! افتح لي. قال: ويحك يا حيي إنك امرؤ مشؤوم وإني قد عاهدت محمدا، فلست بناقض ما بيني وبينه، ولم أر منه إلا وفاء وصدقا. قال: ويحك افتح لي أكلمك، قال: ما أنا بفاعل، قال: والله إن أغلقت دوني إلا عن جشيشتك أن آكل معك دونها، فأحفظ الرجل.

ففتح له فقال: ويحك يا كعب جئتك بعز الدهر وببحر طام، جئتك بقريش على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بمجتمع الأسيال من رومة، وبغطفان على قادتها وسادتها حتى أنزلتهم بذنب نقمى إلى جانب أحد. قد عاقدوني وعاهدوني على أن لا يبرحوا حتى نستأصل محمدا ومن معه فقال له كعب: جئتني بذل الدهر. وبجهام [5] قد هراق ماؤه، فهو يرعد ويبرق ليس فيه شيء، ويحك يا حيي. فدعني وما أنا عليه، فإني لم أر من محمد إلا صدقا ووفاء.

فلم يزل حيي بكعب يفتله في الذروة والغارب [6] حتى سمح له على أن أعطاه عهدا من الله وميثاقا: ولئن رجعت قريش وغطفان ولم يصيبوا محمدا أن أدخل معك في حصنك حتى يصيبني ما أصابك). فنقض كعب عهده، وبرىء مما كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم [7].

وهكذا كان موقفهم كله ينصب على العداوة لرسول الله صلى الله عليه وسلم في السر حين يرون قوة المسلمين ويرهبونها، وفي العلن حين يرون المسلمين في محنة وهول، وكان حيي بن أخطب هو الذي يقود هذه الحرب السياسية العوان ضد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان دوره مع كعب بن أسد كدور أبي جهل مع عتبة وشيبة ابنا ربيعة. حين أحفظهما واتهمهما بالجبن، فكانا أول القتلى في بدر، بعد أن دعيا إلى الصلح.

6- محاولاتهم النيل من قادة المسلمين
وليست محاولة اغتيال رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسم من المرأة اليهودية التي أهدت الشاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بعد خيبر، وحشت الذراع أكثره، ومقتل عبد الله بن سهل وبشر بن البراء بن معرور بالسم بين ظهراني يهود خيبر، إلا محاولات يائسة للفتك والنيل من المسلمين وقيادتهم.

ولذلك كان الموقف عنيفا منهم، يتناسب مع مخططاتهم، وكان مقتل كعب بن الأشرف، وأبي رافع اليهودي تاجر الحجاز غيلة، يتناسب مع مستوى العداء الذي يخططون له.

وإن كان التاريخ قد حفظ نماذج فردية من اليهود، كانوا صادقين في عهودهم، أشهرها موقف مخيريق حبر يهود الذي قتل شهيدا في خيبر، وعمرو بن سعدى الذي فارق بني قريظة بعد نقضهم للعهد، وقال عنه عليه الصلاة والسلام: "ذلك رجل نجاه الله بوفائه".

[1] ابن هشام: السيرة النبوية، 1/ 556- 557.
[2] السابق: 2/ 47.
[3] السابق: 2/ 190.
[4] السابق: 2/ 214.
[5] جشيشتك: طعام يصنع من الجشيش وهو البر يطحن غليظا. بحر طام: يرتفع ويريد كثرة الرجال.
الجهام: السحاب الرقيق الذي لا ماء فيه.
[6] يفتله في الذروة والغارب: ضرب مثلا في المراوغة والمخاتلة: وأصله حين يستصعب البعير فتأخذ القرادة من ذروته وغارب سنامه وتفتل هناك فيجد البعير لذة فيهدأ.
[7] شرح السنة للبغوي وقال: هذا حديث متفق على صحته أخرجه مسلم (1766، في الجهاد والسير، باب إجلاء اليهود عن الحجاز) والبخاري (3/ 255، في المغازي، باب حديث بني النضير).
 
رد: رسولنا- متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

سرايا الرسول وفوائدها

سرايا الرسول الأولى في المدينة

بعد نزول آية الإذن بالقتال قام رسول الله بالإعداد التربوي والنفسي للصحابة حتى أصبح الصف الإسلامي جاهزًا للصدام المروع مع قريش. وهنا بدأت الدوريات العسكرية الإسلامية تجوب المنطقة بحثًا عن قوافل قريش المتجهة إلى الشام. وهنا نلاحظ شيئًا مهمًّا، وهو اختيار الرسول أن تكون هذه الدوريات مكوَّنة من المهاجرين فقط، وذلك لعدة أسباب:

1- أنهم هم الذين وقع عليهم الظلم من قريش، وستكون حربهم مع قريش حربًا مفهومة لكل أهل الجزيرة العربية، وسيعذرونهم فيها تمامًا، وبذلك لا تفهم صورة الإسلام بطريقة خاطئة، وخاصة في أيام الإسلام الأولى حيث لم يسمع عنه بعدُ كل العرب.

2- أن المهاجرين سيكونون أكثر حمية وأشد قوة لكونهم يستردون حقًّا شخصيًّا لهم سلبته قريش منهم قبل ذلك، ففرصة النصر في جيش المهاجرين أكبر من فرصة الجيش المختلط من المهاجرين والأنصار.

3- معرفة المهاجرين بأهل قريش وطرق حربهم وقتالهم، فقد عاشوا بين أظهرهم ردحًا طويلاً من الزمن.

4- رفع الروح المعنوية للمهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم وذكرياتهم بإعطائهم الفرصة لتعويض ما خسروه ماديًّا ومعنويًّا.

5- وهو السبب الرئيسي، حيث لم يُرِد الرسول أن يُحرِج الأنصار بالخروج في قتال ضد قريش خارج المدينة؛ لأنه قد بايعهم على نصرته داخل المدينة إذا قدم إليهم مهاجرًا، ولم يذكر في البيعة -بيعة العقبة الثانية- أمر القتال خارج المدينة، فهو بذلك لا يريد أن يحمِّلهم عبئًا لم يتفق معهم عليه، وسيظهر هذا واضحًا جليًّا في غزوة بدر، حيث كان متردِّدًا في القتال حتى يسمع رأي الأنصار في القتال خارج المدينة، مع العلم أن رسول الله لو أمر الأنصار أمرًا مباشرًا فإنهم -ولا شك- سيطيعونه، ولكنه كان وفيًّا في عهوده، لا يأخذ الناس بسيف الحياء، ولا يحمِّلهم ما لم يتفق معهم على حمله.

خلفاء رسول الله على المدينة

وإذا كنا قد وقفنا وقفة مع نوعية المقاتلين في هذه المعارك الأولى في الإسلام، فإننا نحتاج إلى أن نقف وقفة أخرى مع أولئك الذين استخلفهم رسول الله على المدينة المنورة في المرات التي خرج فيها بنفسه مع المهاجرين في المعارك.

فقد كانت هناك عدة معارك تمت في غضون سنة واحدة، ابتداءً من شهر رمضان سنة 1 هجرية إلى رمضان سنة 2 هجرية. والمعركة التي كان رسول الله يخرج فيها اصطلح المؤرخون على تسميتها غزوة، أما المعارك التي كان يرسل فيها رسول الله أحد القادة ولا يخرج بنفسه فكانت تسمى سرية. وفي غضون هذه السنة التي نتحدث عنها خرج المسلمون للقتال ثمان مرات، أي بمعدل مرة كل شهر ونصف تقريبًا، وكانت هذه المعارك عبارة عن أربع غزوات وأربع سرايا. ومفهوم أن الذي كان يرأس المدينة حين خروج السرايا كان رسول الله ، ولكن اللافت للنظر هو ما كان يحدث عند خروج رسول الله للغزو، فقد خرج رسول الله في هذه السنة أربع مرات، واستخلف على المدينة المنورة أربعة رجال مختلفين، وهم: سعد بن عبادة، ثم سعد بن معاذ، ثم زيد بن حارثة، ثم أبو سلمة بن عبد الأسد أجمعين.

أما تنوع الرجال فهذا أمر مفهوم، فقد كان الرسول يربِّي قيادات تستطيع تحمل المسئولية، ويدربهم على ذلك تدريبًا حقيقيًّا واقعيًّا.

وأما قيادة سعد بن عبادة أو سعد بن معاذ للمدينة المنورة في غياب رسول الله فهذا أمر مفهوم أيضًا، فالأول هو سيد الخزرج والثاني هو سيد الأوس، لكن اللافت للنظر حقًّا هو ولاية زيد بن حارثة في مرة، وأبي سلمة بن عبد الأسد في مرة أخرى، فهذان الصحابيان من المهاجرين وليسا من الأنصار، وولايتهم على المدينة قد تكون مستغربة، وإن كانت تدل على شيء، فإنما تدل على أمور في غاية الرقي؛ منها طاعة الأنصار الكاملة لرسول الله ، ومنها أن المدينة أصبحت كيانًا واحدًا لا فرق فيه بين مهاجريٍّ وأنصاريّ، ومنها زهد الأنصار في الدنيا وعدم رغبتهم في الرئاسة أو الملك، فإذا أضفت إلى هذا أن زيد بن حارثة كان مولًى يُباع ويشترى علمت مدى الانقلاب الهائل الذي أحدثه الإسلام في نفوس العرب حتى قَبِل أشراف الأنصار والمهاجرين بولاية زيد بن حارثة عليهم، ما دام يحكمهم بالإسلام وبأمر رسول الله .

والجميل أن هذا التغير الهائل في طبيعة العرب لم يتطلب أعوامًا أو قرونًا، إنما كان عدة أشهر فقط؛ لأن زيد بن حارثة تولَّى قيادة المدينة عندما خرج الرسول إلى غزوة سَفَوان التي كانت في ربيع الأول سنة 2 هـ، أي بعد اثني عشر شهرًا فقط من هجرة رسول الله إلى المدينة. فما أجلَّ الإسلام! وما أرقى تربيته!

سرايا الرسول وترتيبها

أما بالنسبة لسرايا الرسول وغزواته في العام الأول والثاني من الهجرة، فكانت بالترتيب التالي:

1- سرية سِيف البحر: في رمضان سنة 1هـ بقيادة حمزة بن عبد المطلب .

2- سرية رابغ: في شوال سنة 1هـ بقيادة عبيدة بن الحارث بن المطلب .

3- سرية الخرَّار: في ذي القعدة سنة 1هـ بقيادة سعد بن أبي وقاص .

4- غزوة الأبواء أو وَدَّان: في صفر سنة 2هـ بقيادة الرسول .

5- غزوة بُوَاط: في ربيع الأول سنة 2هـ بقيادة الرسول .

6- غزوة سَفَوان: في ربيع الأول أيضًا سنة 2هـ بقيادة الرسول .

7- غزوة ذي العشيرة: في جُمادى الأولى سنة 2هـ بقيادة الرسول .

8- سرية نخلة: في رجب سنة 2هـ بقيادة عبد الله بن جحش .

فوائد السرايا والغزوات

وبنظرة عامة على هذه السرايا والغزوات نجد أنه لم يحدث قتال تقريبًا في المعارك السبع الأولى. ومع ذلك فهي لم تخلُ من فائدة، بل كان فيها فوائد جمَّة:

أولاً: لقد كسرت حاجزًا نفسيًّا كان عند المسلمين من جرَّاء المنع من القتال لمدة 14 سنة بالتمام والكمال، فالمسلمون أُمِرُوا بعدم حمل السيف في وجه من يظلمهم طيلة هذه المدة، وترك الدفاع عن النفس كل هذه الفترة قد يورث ضعفًا في النفس أو شعورًا بقلة الحيلة، وقد يقود إلى إلف الذل والهوان. فجاءت هذه السرايا والغزوات البسيطة نسبيًّا كوسيلة متدرجة للصعود بنفسيات الصحابة من حالة الاستكانة إلى حالة الاستنفار والنهوض، ومن حالة الصبر على عدم الدفاع إلى حالة الصبر على تبعات الهجوم. لقد نقلت هذه السرايا والغزوات جيل المهاجرين من كونهم مجرد جماعة مضطهدة إلى كونهم دولة ممكنة لها جيش ينفذ خططها، ويحافظ على أمنها، ويرهب أعداءها، ويحفظ كرامتها. لقد كانت نقلة نفسيَّة رائعة.

ثانيًا: فهذه الغزوات والسرايا درَّبت الصحابة على فنون القتال وركوب الخيل والحرب على الإبل، والمناورة والخطة والتحرك والترقب.

نَعَمْ هؤلاء من الفرسان، والعرب بصفة عامة كانوا ير**** الخيل والإبل ويحاربون بالسيف والدرع، لكن لإتقان مهارة معينة لا بد من تدريب، وخاصّةً أن المسألة ليست مجرد مسابقة أو استعراض، إنما هي حياة أو موت. والأمر إنما يتعلق ببقاء أمة وعلوِّها أو زوالها وفنائها.

ثالثًا: هذه الدوريات العسكرية عرَّفت المسلمين الدروب والطرق حول المدينة المنورة، وبذلك أدركوا نقاط القوة والضعف في المنطقة، وعرفتهم ديار القبائل المحيطة وقوتها. ولا ننسى أن المهاجرين الذين يمثِّلون العنصر الوحيد في هذه الجيوش ليسوا من أهل المدينة، وإنما عاشوا حياتهم بكاملها في مكة بعيدًا عن هذه البقاع بنحو خمسمائة كيلو متر تقريبًا.

رابعًا: أشعرت هذه الدوريَّات العسكرية المتكررة القبائل المحيطة بقوة المسلمين، وكشفت جرأتهم في مواجهة قريش أكبر القبائل العربية وأقواها، ولا شك أن هذا الأمر قد أدخل الرهبة في قلوب هذه القبائل وخاصة الأعراب، فعملت للمسلمين حسابًا، وأدركوا أن موازين القوى في المنطقة في طريقها للتغير.

خامسًا: نتيجة هذه القوة التي ظهرت للمسلمين استطاع المسلمون أن يقوموا بعقد بعض المعاهدات مع بعض قبائل المنطقة، والتي هي عبارة عن معاهدات حسن جوار، بل ودفاع مشترك. فعلى سبيل المثال عقد رسول الله معاهدة مع قبيلة بني ضمرة، وذلك في غزوة الأبواء، كما عقد معاهدة مع قبيلة بني مدلج، وذلك في غزوة ذي العشيرة. ولا شك أن هذه المعاهدات زادت من قوة المسلمين، ورسخت أقدامهم في المنطقة.

سادسًا: كانت هذه الدوريات العسكرية الباحثة عن قوافل قريش التجارية بمنزلة إعلان إسلامي صريح للحرب على أهل مكة الكافرين، وكانت مكة قد أعلنت الحرب من قديم على المسلمين، لكن هذا هو الإعلان الرسمي الأول على مكة، ولا شك أنه سيلقي بظلاله على العلاقة بين الدولتين، فهي لن تستمر على وضعها السابق كعلاقة ظالم بمظلوم، أو كعلاقة مستبد بمقهور، إنما ستصبح من الآن فصاعدًا علاقة دولة بدولة أخرى تكافئها وتناظرها، ومن المؤكد أن هذا سيؤثر سلبًا في نفسيات أهل مكة، وهم يشاهدون قوة المسلمين تتنامى، وأعدادهم تتزايد، وجرأتهم تزيد.

وهذه الفائدة كانت من أعظم فوائد هذه الدوريات الإسلامية، رغم أنها -كما أسلفنا- لم تلقَ قتالاً يُذكر.

المصدراسلام ويب
 
رد: رسولنا- متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

علاج رسول الله لمشكلة المسكرات والمخدرات

حرَّم الإسلام كلَّ ما يضرُّ بالفرد أو الأسرة أو المجتمع، وأحلَّ كل ما هو طيِّب ومفيد للبشر جميعًا، فما حرَّم الله شيئًا إلاَّ عوَّض الناسَ خيرًا منه، فقال الله تعالى: {وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، ولأن النفس البشريَّة تميل دائمًا إلى تحقيق رغباتها - دون نظر إلى ما يَتَرَتَّب على ما تقترفه من مضارَّ جسيمةٍ - فقد أرشد الإسلام أتباعه إلى كبح جماح أنفسهم، وسَنَّ لهم الأحكام والتشريعات والقوانين الوقائيَّة والعلاجيَّة لحلِّ كل مشكلة تعترضهم، ثم كانت سيرة رسول الله خير تطبيق لهذه الأحكام والتشريعات.

الحل الرباني لمشكلة إدمان الخمور والمسكراتالتدرج في حل المشكلة

من هذه المشكلات الخطيرة مشكلة إدمان الخمور والمسكرات، وكانت قد تغلغلت في نفوس العرب جميعًا؛ حتى إنهم كانوا يمدحونها في شعرهم؛ حيث تبدأ القصائد عادة بذكر الأطلال ثم وصف الخمر.. كما كانوا يشربونها في بيوتهم وأنديتهم ومنتدياتهم؛ ولذا فقد جاء الحلُّ الرباني للمشكلة حلاًّ حاسمًا، ودالاًّ بشكل واضح على أنه وحي من ربِّ العالمين.

لقد نزلت الآيات القرآنيَّة لتحلَّ المشكلة في تدرُّج مدهش، فكان أوَّل ما نزل في تنفير الناس مِنْ شُرْبِ الخمر قوله تعالى: {وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 67]، فوصف الله تعالى الرزق بالحَسَن، ولم يصف السكر بذلك؛ تمهيدًا لتحريم الخمر، ثم لفت الأنظار إلى آثارها الضارَّة التي تَفُوقُ ما فيها من منافع محدودة، فقال تعالى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا} [البقرة: 219]، وفي مرحلة لاحقة حرَّم تعاطيها قبل أوقات الصلاة؛ بحيث لا يأتي وقتُ الصلاة إلاَّ والواحد منهم في أتمِّ صحوة، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لاَ تَقْرَبُوا الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} [النساء: 43]، وبعد أن تهيَّأت النفوس لتحريمها - وأصبحوا يتطلَّعون إلى اليوم الذي تُحَرَّم فيه تمامًا، كما قال عمر بن الخطاب : "اللهم بيِّن لنا في الخمر بيانًا شافيًا"[1]- جاء التحريم القاطع في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90].

ولأن عائشة -رضي الله عنها- تعرف جيِّدًا عمق مشكلة الخمر في نفوس المجتمع الجاهلي؛ لذلك قالت عن التدرُّج الذي نزلت به الآيات: "... ولو نزل أوَّل شيء: لا تشربوا الخمر. لقالوا: لا نَدَعُ الخمرَ أبدًا..."[2]. ولكن المجتمع - الذي ربَّاه النبي على مراقبة الله تعالى - امتثل لأوامره I فور نزولها على نبيِّه ، فعن أنس بن مالك أنه قال: كنتُ ساقي القوم في منزل أبي طلحة، وكان خمرهم يومئذ الفَضِيخ[3]، فأمر رسول الله مناديًا ينادي: "ألا إِنَّ الخَمْرَ قَدْ حُرِّمَتْ". قال: فقال لي أبو طلحة: اخرج فأَهْرِقْهَا[4]. فخرجتُ فهرقتها، فَجَرَتْ في سِكَكِ المدينة[5].

الحل النبوي لمشكلة إدمان الخمور

ومع نزول هذا التحريم القاطع من الله جاء الحل النبوي لمشكلة إدمان الخمور، فقد استمرَّ تنفير رسول الله لأصحابه منها، فقال رسول الله لأبي الدرداء : "لا تَشْرَبِ الْخَمْرَ فَإِنَّهَا مِفْتَاحُ كُلِّ شَرٍّ"[6]. بل ولعن رسول الله كل مَنْ يقوم بصناعتها وبيعها وشُرْبها، فقال : "لَعَنَ اللهُ الْخَمْرَ وَشَارِبَهَا وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا وَمُبْتَاعَهَا، وَعَاصِرَهَا وَمُعْتَصِرَهَا، وَحَامِلَهَا وَالْمَحْمُولَةَ إِلَيْهِ"[7].

ولكن رسول الله لم يُغلق باب التوبة أمام هؤلاء المدمنين؛ بل جعله مفتوحًا، حتى لو تكرَّر الخطأ أكثر من مرَّة؛ حيث ربط رسول الله بين التخويف من سخط الله وعقابه في الآخرة وعدم توبتهم إليه I، وهذه هي عظمة رسول الله في معالجته لمثل هذه المشكلات المتجذِّرة في مجتمع ما، فقال رسول الله : "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ فَشَرِبَ فَسَكِرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدَغَةِ الْخَبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". قالوا: يا رسول الله، وما رَدَغَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ"[8].

كما جعلها رسول الله وصيَّة من الوصايا التي خصَّ بها بعض أصحابه؛ وفي ذلك دلالة على تنفير الأُمَّة منها، ووقايتهم من الوقوع في شِرَاك كلِّ مسكر أو مخدِّر، فيروي أبو الدرداء أن رجلاً جاء إلى النبي فقال: أوصني يا رسول الله. قال: "لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ شَيْئًا وَإِنْ قُطِّعْتَ وَحُرِّقْتَ... وَلا تَشْرَبِ الْخَمْرَ..."[9].

ويؤكِّد رسول الله على مضارِّها على صحَّة الإنسان؛ فيقول للصحابي الذي سأله عن استخدام الخمر كدواء: "إِنَّهَا دَاءٌ، وَلَيْسَتْ بِدَوَاءٍ"[10]. وقد أثبتت الدراسات الطبِّيَّة الحديثة إصابة الذي يتناول الخمر بالعديد من الأمراض؛ مثل: مرض تليُّف الكبد؛ فالخمور تسبِّب تحطيمًا لخلايا الكبد، وتقوم بترسيب الدهون فيها، وكذلك تُصيب الجهاز الهضمي باضطرابات مختلفة؛ فيفقد الإنسان شهيَّته للطعام، ويُصاب بسوء التغذية ونقص الفيتامينات، كما تؤثِّر على الأعصاب، وعضلة القلب، والعناصر المكوِّنة للدم[11].

ثم يُواصل رسول الله تعليم أُمَّته مضارَّ الخمر - بطريقة أخرى - بِذِكْرِ قصص السابقين؛ حتَّى يَتَّعظ منها مَنْ كان له عقل يفكِّر، فعن عثمان بن عفان ، عن النبي أنه قال: "اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلاَ قَبْلَكُمْ تَعَبَّدَ، فَعَلِقَتْهُ[12]امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ. فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتِهَا، فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلاَمٌ وَبَاطِيَةُ[13]خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرَةِ كَأْسًا، أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلاَمَ. قَالَ: فَاسْقِينِي مِنْ هَذَا الْخَمْرِ كَأْسًا. فَسَقَتْهُ كَأْسًا، قَالَ: زِيدُونِي. فَلَمْ يَرِمْ[14]حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ، فَاجْتَنِبُوا الْخَمْرَ؛ فَإِنَّهَا وَاللَّهِ لاَ يَجْتَمِعُ الإِيمَانُ وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ إِلاَّ لَيُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ"[15].

ورسول الله حين يعالج مشكلة ما فإنه لا تشغله كثيرًا الأسماء بقدر ما تشغله المسمَّيَات؛ فهو حين حرَّم الخمر حرَّم كذلك كل ما تنطبق عليه صفتها من إذهاب العقل، أيًّا كان مصدر هذا الشراب؛ العنب أو التمر أو غيرهما، فعن عائشة -رضي الله عنها- عن النبي أنه قال: "كُلُّ شَرَابٍ أَسْكَرَ فَهُوَ حَرَامٌ"[16]. وقالت أمُّ سلمة -رضي الله عنها- في حديث آخر يُبَيِّنُ أن كل أنواع المسكرات والمخدِّرات مُحَرَّمة شرعًا؛ لأنها تُهلك الفرد، وتُضْعِف المجتمع: "نَهَى رَسُولُ اللهِ عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ[17]"[18]. كما نجد رسول الله يُحَرِّم كل شيء يضرُّ بصحَّة الإنسان، فيقول رسول الله : "لا ضَرَرَ وَلا ضِرَارَ"[19]. فما ينطبق على الخمر من تحريم وعقوبات ينطبق على المخدرِّات وغيرها من السموم التي تضرُّ الإنسان.

وبعدما استقرَّ التحريم، كانت التشريعات واضحةً في معاقبة مَنْ يُقْدِم على تناول المسكرات، وكان تطبيق رسول الله لهذه التشريعات تطبيقًا رائعًا، فعن أنس بن مالك ، أن النبي ضَرَبَ فِي الْخَمْرِ بِالْجَرِيدِ وَالنِّعَالِ[20]. وعن قَبِيصَة بن ذُؤَيْب، أنه قال: قال رسول الله : "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ.."[21].

ولكنَّ الهدف من العقاب في نظر رسول الله هو ردع كل مَنْ تُسَوِّل له نفسه أن يُدمن المسكرات أو المخدِّرات، وليس التشفِّي أو الانتقام من صاحبها؛ فهو شخص مريض في حاجة إلى العلاج؛ لذلك عَمِل رسول الله على تأصيل هذه المعاني في نفوس الصحابة، فعن أبي هريرة أنه قال: أُتِيَ النبيُّ برجل قد شرب، فقال: "اضْرِبُوهُ". فقال أبو هريرة: فمِنَّا الضارب بيده، والضارب بنعله، والضارب بثوبه، فلمَّا انصرف قال بعض القوم: أخزاكَ الله. قال: "لا تَقُولُوا هَكَذَا، لا تُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ"[22].

هكذا عالج النبي مشكلة المسكرات والمخدِّرات معالجة عمليَّة متدرِّجة مبنيَّة على تقوى الله أوَّلاً، والخوف من عصيانه؛ فهو الآمر بتحريم كل مسكر، ثم بِسَنِّ القوانين الرادعة التي تعالج - أيضًا - كل نفس تخرج عن السلوك السَّوِيِّ، وفي ذلك صلاح للفرد والمجتمع.

هذا هو منهج رسول الله في حلِّ مشكلات عصره، قد تناولنا في هذه المقالات نماذج منها؛ فتعرَّضْنَا لنموذج يتعلَّق بمشكلة عالمية يُعَانِي منها العالم جميعًا، وهي مشكلة العنف والإرهاب، ورأينا كيف عالجها رسول الله معالجة قائمة على الوقاية والعلاج، ونموذج آخر يتعلَّق بالجانب الاقتصادي داخل المجتمع، ألا وهو مشكلة الفقر والبطالة، ورأينا كيف عالجها رسول الله معالجة رائعة قائمة على فتح آفاق العمل والاجتهاد أمام المجتمع بكل أفراده وطوائفه، وأخيرًا رأينا كيف عالج رسول الله مشكلة أخرى متجذِّرة داخل كيان المجتمع - وهي مشكلة المسكرات والمخدرات - معالجة تدريجيَّة، وقد تميَّز المنهج النبوي في معالجة المشكلات بمزيَّة متفرِّدة؛ ألا وهي غرس مراقبة الله في قلوب كل أفراد المجتمع، فامتنعوا بفضل هذه القيمة عن فعل كل قبيح؛ فعاش الجميع في أمن وسلام، وفي عالمنا المعاصر ما زالت تلك المشكلات متجذِّرة في المجتمعات الحديثة، ويعاني منها العالم جميعًا، فما أحوجه إلى منهج رسول الله ، الذي لم ينسب الفضل فيه لنفسه بل نسبه لله تبارك وتعالى، ففي ذلك دليل قاطع على صدقه وانتفاء الغرض الشخصي من وراء رسالته.

د. راغب السرجاني

[1] سنن النسائي: كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر (5540)، وأحمد (378)، والحاكم (3101) وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

[2] البخاري: كتاب فضائل القرآن، باب تأليف القرآن (4707)، والبيهقي: شعب الإيمان (2226)، وعبد الرزاق: المصنف 3/352.

[3] الفضيخ: البسر والتمر، والفضيخ أن يصبّ عليه الماء ويتركه حتى يغلي من غير أن تمسه النار. انظر: النووي: المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 13/148، وابن منظور: لسان العرب، مادة فضخ 3/45.

[4] أهرقها: الأصل أَرِقْهَا، أي صُبَّها، فأبدلت الهمزة هاء، انظر: ابن حجر العسقلاني: فتح الباري 10/38، وابن منظور: لسان العرب، مادة هرق 10/365.

[5] البخاري: كتاب المظالم، باب صب الخمر في الطريق (2332)، ومسلم: كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر وبيان أنها تكون من عصير العنب ومن التمر... (1980).

[6] ابن ماجه: كتاب الأشربة، باب الخمر مفتاح كل شر (3371)، والحاكم (7231) وقال: هذا صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي.

[7] أبو داود: كتاب الأشربة، باب في تحريم الخمر (3674)، والترمذي (1295)، وابن ماجه (3380)، وأحمد (5716) وقال شعيب الأرناءوط: صحيح بطرقه وشواهده. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (839).

[8] أبو داود عن ابن عباس: كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر (3680)، والترمذي (1862) وقال: هذا حديث حسن. وابن ماجه (3377)، والدارمي (2091)، وأحمد (6644)، والحاكم (7232) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وصححه الألباني، انظر: صحيح الجامع (6312).

[9] ابن ماجه: كتاب الفتن، باب الصبر على البلاء (4034)، وأحمد (22128)، والحاكم (6830)، وحسنه الألباني، انظر: مشكاة المصابيح (580).

[10] أحمد عن وائل بن حجر الحضرمي (18879) وقال شعيب الأرناءوط: حديث صحيح. وابن حبان (6065)، والدارقطني (4763).

[11] مقال بجريدة الرياض: ط¬ط±ظٹط¯ط© ط§ظ„ط±ظٹط§ط¶. وانظر: مصطفى سويف: المخدرات والمجتمع ص86-91.

[12] علقته: عشقته وأحبَّته، انظر: نور الدين السندي: حاشية السندي على النسائي 8/315.

[13] الباطِيةُ: إناء من الزجاج عظيم يُمْلأ من الشراب، انظر: نور الدين السندي: حاشية السندي على النسائي 8/315، وابن منظور: لسان العرب، مادة بطا 14/74.

[14] فلم يَرِمْ: من رَامَ يَرِيم، أي: فلم يبرح ولم يَتْرُك، انظر: نور الدين السندي: حاشية السندي على النسائي 8/315.

[15] النسائي: كتاب الأشربة، باب ذكر الآثام المتولدة عن شرب الخمر (5666)، وابن حبان (5348)، وقال الألباني: صحيح موقوف. وذكر المتقي الهندي في كنز العمال: أن ممن ذكر الحديث مرفوعًا عن رسول الله ، كلاًّ من عبد الرزاق في مصنفه، والبيهقي في شعب الإيمان. انظر: نصب الراية 5/487.

[16] البخاري: كتاب الوضوء، باب لا يجوز الوضوء بالنبيذ ولا المسكر (239)، ومسلم: كتاب الأشربة، باب بيان أن كل مسكر خمر وأن كل خمر حرام (2001).

[17] المفتر: كل شراب يورث الفتور والخدر في الأطراف، انظر: العظيم آبادي: عون المعبود شرح سنن أبي داود 10/92.

[18] أبو داود: كتاب الأشربة، باب النهي عن المسكر (3686)، وأحمد (26676)، وقال ابن حجر العسقلاني: سنده حسن. انظر: فتح الباري 10/44.

[19] ابن ماجه: كتاب الأحكام، باب من بنى في حقه ما يضر بجاره (2340)، والموطأ - رواية يحيى الليثي (1429)، وأحمد (2867). وقال شعيب الأرناءوط: حسن. والحاكم (2345) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد على شرط مسلم ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي. وصححه الألباني، انظر: السلسلة الصحيحة (250).

[20] البخاري: كتاب الحدود، باب ما جاء في ضرب شارب الخمر (6391)، ومسلم: كتاب الحدود، باب حد الخمر (1706).

[21] أبو داود: كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر (4485)، والنسائي (5661)، وأحمد (7748) وقال شعيب الأرناءوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.

[22] البخاري: كتاب الحدود، باب الضرب بالجريد والنعال (6395)، وأبو داود (4477)، وأحمد (7973).

المصدر اسلاب ويب
 
رد: رسولنا- متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

أربعون عاما قبل النبوة

السيرة العطرة، سيرة خير البرية، معين لا ينضب، وينبوع صافٍ متدفق، يرتوي من نميره كل من أراد السلامة والنجاة، إنها شمس ساطعة، وسنًا مشرق، ومشعل وضاء، يبدد ظلمات الانحراف، ويهدي سبيل الرشاد.

سأكتب عن أربعين عامًا من حياة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه.

أربعون عامًا كلها صفاء ونقاء.

أربعون عامًا تكلمت فيها الفطرة، وتجلت فيها الصفات الحميدة، وظهرت فيها العناية الربانية، في إعداد سيد البرية.

أربعون عامًا هُيّأ العظيم فيها لأمر عظيم، لتكون تلك الأربعين هي بداية التغيير للعالم السفلي من ظلمات الكفر والجهل إلى نور التوحيد والعلم.

أربعون عامًا فيها أفراح وأتراح، وآمال وآلام {وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 17].
ابتدأت تلك الأربعين بـ:

1- ولادة يتيمة!!
توفي الوالد قبل الولادة، بعد سعي في طلب لقمة العيش، ليكون على موعد مع القدر في أرض يثرب، مقبورا في أحد مقابرها!!
وأُودع الوالد والزوج الثرى، لتعاني الوالدة الحنون آلام الوضع، وآلام الفقد، وآلام مستقبل طفل تيتم قبل خروجه للدنيا!!
وتأتي ساعة الصفر وتستبشر الدنيا بـ:

2- ولادة محمد صلى الله عليه وسلم:
فيولد سيد المرسلين بشعب بني هاشم، في صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر ربيع الأول، لأول عام من حادثة الفيل، وقبل هجرته عليه الصلاة والسلام بثلاث وخمسين سنة، ويوافق ذلك العشرين أو الثاني والعشرين من شهر إبريل سنة (571 م)، حسبما ذكره بعض المحققين.
وفي مكان آخر بعيدًا عن ذلك البيت الصغير الذي وُلد به ذلك العظيم:
وقف رجل يتأمل السماء والنجوم، فإذا الأمر مختلف عن العادة، فالآية قد ظهرت!!
فما كان منه إلا أن صرخ بقومه: "يا معشر اليهود!!!".
فاجتمعوا إليه فقال: "طلع نجم أحمد الذي وُلد به في هذه الليلة ".
نعم.. لقد وُلد أحمد، وها هو بين أحضان أمه ترضعه وتشاركها في ذلك: أم أيمن، وثويبة مولاة أبي لهب.
وتمر الأيام.... وإذا بالرضيع في:

3- ديار بني سعد:
فانتقل مع أمه حليمة السعدية لترضعه في مضارب بني سعد بن بكر، على عادة العرب في التماس المراضع لأولادهم، لتقوى أجسامهم، ويتقنوا اللسان العربي من صغرهم.
وفي تلك المضارب نشأ محمد الصغير..
وبها وقف ومشى على قدميه..
وبها ضحك ولعب مع أقرانه الصغار..
فأي براءة وجمال كانت تشع من عيني ذلك الطفل الطاهر!!
فصلوات ربي وسلامه عليه.
وفي تلك المضارب رعى الغنم، وسار خلفها وقادها مع إخوانه من الرضاع.
وتمر الأيام على رعاة الغنم الصغار، ويبلغ الصغير أربع سنين، وبينما هو يلعب مع الغلمان، إذ به يصرع ويضجع من رجلين عليهما ثياب بيض، لينطلق المنادي إلى أمه بنداء الرعب والخوف: "لقد قُتل محمد!!! ".
فكان ذلك القتل هو:

4- شق الصدر:
لقد أضجعه الرجلان، ثم أخرجا منه علقة سوداء فألقياها، فانتهت حظوظ الشيطان منه، ثم غسلا قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم أعادا قلبه إلى مكانه، فجاء الصغير إلى القوم وهو منتقع اللون. يقول أنس رضي الله عنه: "وقد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره".
فلما رأت حليمة ذلك: خافت على الصغير من أن يصيبه شيء، فاتخذت قرارًا بـ:

5- رده إلى أمه الحنون:
فرجع الصغير إلى أحضان أمه ترعاه وتحنو عليه، فكان عندها حتى بلغ ست سنين، لتتحرك عاطفة آمنة وشوقها إلى حيث توفي الزوج ويقطن الأهل، فعزمت على السفر إلى يثرب، فتحركت المطايا، ومكثت شهرًا في يثرب، ليحين بعد ذلك وقت الرجوع، وفي طريق السفر بين يثرب ومكة: توقفت المطايا في مكان يحمل في طياته ذكرى لا تزال عالقة بذاكرة الحبيب حتى بعد النبوة، فمرّ يومًا على قبر فانتهى إليه وجلس، وجلس الناس حوله، فجعل يحرك رأسه كالمخاطب -كما يروي ذلك بريدة رضي الله عنه- ثم بكى بكاء لم يبكه من قبل، فاستقبله عمر فقال: يا رسول الله ما يبكيك؟
فقال: «هذا قبر آمنة بنت وهب».
لقد توقفت المطايا في مكان يقال له الأبواء، ليكون الصغير على موعد جديد مع اليتم، وتؤخذ آمنة منه، وتوارى بين ناظريه، لينتقل الطفل باكيًا إلى:

6- جده عبد المطلب:
عاد صغير الآلام إلى الجد العطوف، الذي رق له رقة شديدة، فكان لا يدعه وحيدا، بل جعله مقدما على أولاده وبنيه.

إن لعبد المطلب فراشا لا يجلس عليه غيره إجلالاً له واحترامًا، فكان محمد الصغير هو الوحيد المصرح له بالجلوس، فيأتي الأولاد والأبناء ليُبعدوه، فيقول الجد: "دعوه، والله إن لهذا شأنًا".

وتمر الأيام ويبلغ الصغير ثمان سنين، ليكون على موعد جديد مع الآلام، فها هو عبد المطلب يوارى الثرى، لتكون وصيته الأخيرة، أن يكون الصغير عند:

7- عمه أبو طالب:
فنهض باليتيم على أكمل وجه، وضمّه إلى بنيه وقدمه عليهم، واختصه بمزيد احترام وتقدير.

وتمر الأيام... ويأتي على قريش سنون عجاف، أجدبت لها الأرض، وكاد يهلك بها القوم، فبات الناس في شظف من العيش، فما كان من قريش إلا أن طلبوا من سيدهم أبا طالب أن يستسقي لهم، فكان:

8- أبيض يُستسقى الغمام بوجهه:
خرج أبو طالب يستسقي، والسماء ما فيها من قزعة!! ومعه الغلام الصغير صلى الله عليه وسلم وبنيه، فأخذ أبو طالب الغلام اليتيم الصغير -وهو يتذكر كلمات عبد المطلب: (والله إن لهذا شأنًا)- فألصق ظهره بالكعبة واستسقى.

فأقبل السحاب من كل جانب، وانفجرت السماء بماء منهمر، فقال أبو طالب:

وأبيض يُستسقى الغمام بوجهه ثِمالُ اليتامى عصمة للأرامل

وتمر الأيام... ويبلغ النبي الكريم اثنتي عشرة سنة، وفي صيف حار تحركت ركائب قريش نحو الشام، فكانت قصة:

9- بُحيرا الراهب:
فارتحل أبو طالب بقومه ومعه محمد صلى الله عليه وسلم، فلما وصلوا إلى بُصرى نزل القوم للراحة، فخرج إليهم بحيرا ولم تكن من عادته الخروج إليهم، فتخللهم حتى جاء إلى الفتى الصغير وأخذ بيده وقال: هذا سيد العالمين!! هذا رسول رب العالمين!! هذا يبعثه الله رحمة للعالمين!!.

فقال أبو طالب وأشياخ قريش: وما علمك بذلك؟

فقال: "إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خرّ ساجدًا، ولا يسجدان إلا لنبي، وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة، وإنّا نجده في كتبنا".

ثم سأل أبا طالب ألا يذهب به إلى الشام خوفًا عليه من الروم واليهود، فرده أبو طالب بغلمان معه إلى مكة.

وتمر الأيام... وقد شبّ النبي الكريم، ولم يكن له عمل معين في أول شبابه. ولكن جاءت الروايات وتوالت بأن مهنته كانت:

10- رعي الغنم:
لقد كان يسير طوال نهاره خلف الغنم، فرعاها في بني سعد ابتداءً، ثم في مكة على قراريط لأهلها.

إن مهنة كهذه يُشترط لها أمانة مع طول نفس، ولذا: «ما من نبي إلا وقد رعى الغنم»، ولعل ذلك -والله أعلم-: لأن صورة القطيع شبيهة بسير سواد الأمم، والراعي قائد يتطلب عليه أن يبحث عن الأماكن الخصبة والآمنة، كما يتطلب ذلك حماية وحراسة لما قد يعترض قافلة السير.

وهذه المهنة فيها ما فيها من قسوة ومتابعة، إلا أنها تُثمر قلبا عطوفًا رقيقًا، وواقع حال رعاة الغنم خير شاهد على ذلك.

وبعيدًا عن العمل وهمومه، وبعيدًا عن كدح البحث عن لقمة العيش نقف مع:

11- نوازع نفس محمد صلى الله عليه وسلم:
يحدثنا النبي الكريم عن نفسه في تلك الفترة فيقول: «ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يهمون به من النساء، إلا ليلتين، كلتاهما عصمني الله تعالى منهما، قلت ليلة لبعض فتيان مكة -ونحن في رعاية غنم أهلنا- فقلت لصاحبي: أبصر لي غنمي حتى أدخل مكة، فأسمر فيها كما يسمر الفتيان. فقال: بلى. فدخلت حتى إذا جئت أول دار من دور مكة سمعت عزفًا بالغرابيل والمزامير. فقلت: ما هذا؟ فقيل: تزوج فلان فلانة. فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس. فرجعت إلى صاحبي، فقال: ما فعلت؟ فقلت: ما فعلت شيئًا، ثم أخبرته بالذي رأيت. ثم قلت له ليلة أخرى: أبصر لي غنمي حتى أسمر بمكة. ففعل، فدخلت، فلما جئت مكة سمعت مثل الذي سمعت تلك الليلة، فسألت. فقيل: فلان نكح فلانة، فجلست أنظر، وضرب الله على أذني، فوالله ما أيقظني إلا مس الشمس، فرجعت إلى صاحبي فقال: ما فعلت؟ قلت: لا شيء، ثم أخبرته بالخبر، فوالله ما هممت ولا عدت بعدها لشيء، حتى أكرمني الله بنبوته».

إنها الرعاية الربانية، تقف للحيلولة بينه وبين تلك النوازع، ولذلك جاء في الأثر: "أدبني ربي فأحسن تأديبي".
وتمر الأيام... ليبلغ النبي الكريم عشرون عاما، ليشهد حربًا وقعت في شهر حرام، فتُسمى بـ:

12- حرب الفِجَار:
وقعت تلك الحرب سوق عكاظ بين قريش ومعهم كنانة وبين قيس عيلان، فاصطف القوم ووقعت حرب ضروس، وكان النبي الكريم يجهز النبل للرمي، وكثُر القتل في الطرفين، حتى رأى عقلاء القوم أن وضع أوزار الحرب والاصطلاح خير من الملحمة، فهدموا ما بينهم من العداوة والشر، وعلى أثر ذلك حصل:

13- حلف الفضول:
إنه حلف الخير والعدالة، تداعت إليه قبائل من قريش في ذي القعدة، وكان اجتماعهم في دار عبد الله بن جدعان التيمي، فتعاهدوا وتعاقدوا على ألا يجدوا بمكة مظلومًا من أهلها وغيرهم من سائر الناس إلا قاموا معه، وشهد هذا الحلف النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وقال عنه بعد أن أكرمه الله بالنبوة: «لقد شهدت في دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أُدعى به في الإسلام لأجبت».

ولا عجب في ذلك، فهو نبي العدالة والرحمة..
وتمضي الأيام... ويبلغ النبي الكريم الخامسة والعشرين من عمره، ليخرج إلى:

14- تجارة الشام:
وذلك في مال لخديجة بنت خويلد، بعد أن سمعت بأخبار الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وجعلت معه غلام لها يُقال له: ميسرة.

ذهب النبي الكريم إلى الشام، فما لبث أن رجع إلى مكة، فرأت خديجة في مالها من الأمانة والبركة ما لم تره من قبل، وحدّثها ميسرة بما رآه من حال الصادق الأمين، فما كان منها إلا أن سعت ليكون الخبر في أرجاء مكة:

15- محمد صلى الله عليه وسلم زوجًا لخديجة -رضي الله عنها-
وذلك بعد أن تقدم لها سادات قريش، فكان الإباء عليهم هو الجواب.

ثم لمّا رأت ما رأت بعد تلك التجارة المباركة: عزمت على نية أفصحتها لصديقتها: نفيسة بنت منبه. فقامت بدورها بذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم. فرضي بذلك، إلا أن والد خديجة حاول عبثًا الوقوف أمام هذا الزواج الميمون، إلا أن حيلة خديجة كانت حَكَمًا قاضيًا في الموضوع، فما الذي فعلته خديجة؟

يروي لنا ابن عباس رضي الله عنهما ذلك فيقول: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر خديجة -وكان أبوها يرغب عن أن يزوجه-، فصنعت طعامًا وشرابًا، فدعت أبوها وزمرًا من قريش، فطعموا وشربوا حتى ثملوا. فقالت خديجة لأبيها: إن محمدًا بن عبد الله يخطبني فزوجني إياه. فزوجها إياه. فخلقته وألبسته حلة -وكذلك كانوا يفعلون بالآباء-، فلما سرى عنه سكره، نظر فإذا مخلق وعليه حلة، فقال: ما شأني هذا؟ قالت خديجة: زوجتني محمد بن عبد الله. قال: أُزوّج يتيم أبي طالب!؟ لا لعمري. فقالت: أما تستحي؟! تريد أن تسفه نفسك عند قريش، تخبر الناس أنك كنت سكران!! فلم تزل به حتى رضي".

ويتزوج الشريف الشريفة، وتمر الأيام والأعوام على ذلك البيت الهادئ الجميل، ويُرزق منها بالبنين، والنبي الكريم يُقري الضيف، ويعين الملهوف، وينصر المظلوم، ويكون في حاجة أهله..
ويجرف مكة سيل عرم وينحدر إلى البيت فيُصدّع جدرانه حتى أوشك على الوقوع والانهيار، فاتفقت قبائل قريش على:

16- إعادة بناء الكعبة:
وتبني قريش الكعبة بشرط مسبوق: "ألا يدخل في بنائها إلا طيبًا، فلا يدخل فيها مهر بغي، ولا بيع ربا، ولا مظلمة لأحد من الناس".

ويشارك النبي الكريم صاحب الخمس وثلاثين عامًا في البناء، ويحمل الحجارة من الوادي مشاركًا قومه في مثل هذا الحدث العظيم.

ويرتفع البناء، ويعود للبيت جلاله وهيبته، ولما بلغ البنيان موضع الحجر الأسود حصل الاختلاف، وتنازع القوم في شرف وضع الحجر الأسود أربع ليال أو خمس حتى كادت الحال أن تتحول إلى حرب ضروس!! إلا أن أبا أمية بن المغيرة المخزومي عرض عليهم أن يحكموا فيما شجر بينهم أول داخل عليهم من باب المسجد. فارتضى القوم ذلك.
فإذا بمحمد بن عبد الله بن عبد المطلب يكون ذلك الداخل. فهتف القوم: أن رضينا بالأمين.

فطلب عليه الصلاة والسلام رداءً فوضع الحجر وسطه، وطلب من رؤساء القبائل المتنازعين أن يمسكوا جميعا بأطراف ذلك الرداء، وأمرهم أن يرفعوه، حتى إذا أوصلوه إلى موضعه أخذه بيده فوضعه في مكانه. فرضي القوم بذلك، وانتهى نزاع كادت دماؤه أن تصل إلى الركب!!
وتمر الأيام... وغربة النبي الكريم تزداد يومًا بعد يوم، فوجوه يعرفها، وأحوال ينكرها، كان ذا صمت طويل يزدان بالتأمل والنظر، لقد كانت تلك الفطرة التي جُُبل عليها تمنعه من أن ينحني لصنم، أو يهاب وثنًا.

فاعتزل القوم لما رأى من سفاهة أحلامهم، وتفاهة عقولهم، فكان عليه الصلاة والسلام لا يحضر عيدًا لوثن، ولا يشهد احتفالاً عند صنم، ولا يحلف باللاّت، ولا يتقرب لعزى، ولا يشرب خمرًا، ولا يأكل مذبوحًا على نُصب، فأبغض ذلك كله. يقول مولاه زيد بن حارثة رضي الله عنه: "... فوالذي أكرمه وأنزل عليه الكتاب ما استلم صنمًا حتى أكرمه الله بالذي أكرمه وأنزل عليه".

فكان عليه الصلاة والسلام موحدًا على ملة إبراهيم الخليل عليه السلام.

لقد جمع الصادق الأمين من الأوصاف والشمائل ما جعلت محبته لا تقف عند البشر، بل تتعداه إلى الحجر والشجر، يقول عليه الصلاة والسلام بعد أن أكرمه الله بالرسالة: «إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث».

فصلوات ربي وسلامه عليه.

وتمر الأيام... حتى بدأ طور جديد من حياته صلى الله عليه وسلم، فكان يرى الرؤية ثم لا يلبث حتى يراها واقعًا مشهودًا أمامه، فكان ذلك بداية بشرى النبوة والرسالة والاصطفاء، لتكون البداية الحقيقة في الغار بـ {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، وينادي المنادي في أصقاع المعمورة: إن محمدًا قد بُعث!!
فإذا عقارب السنين والأعوام قد دقت الأربعين!!
فصلوات ربي وسلامه عليه...
تلك الأربعون -لعمر الحق- عراقة الخلال؛ فكيف بما بعد الأربعين، حين بُعث إلى العالمين!!
{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

المصدر: موقع ملتقى الخطباء.
موقع قصة الاسلام
 
آخر تعديل:
رد: رسولنا- متجدد

السلام عليكم

الأخلاق وبناء الأمم

ليست الأخلاق من مواد الترف، التي يمكن الاستغناء عنها، بل هي أصول الحياة التي يرتضيها الدين ويحترم ذويها؛ لذا ربط رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرية المسلم بحسن الخلق؛ فعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- قال: لَمْ يَكُنْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: «خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا»، من هنا كان حسن الخلق هو ركن الإسلام العظيم الذي لا قيام للدين بدونه، ولا حضارة ولا تقدم بغيره؛ فالإسلام إنما جاء ليغير الإنسان من السيئ إلى الحسن أو الأحسن، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الضلال إلى الهدى، ومن نظم العباد ومناهجهم إلى نظام الله عز وجل ومنهجه.

والإسلام نظام أخلاقي، لكل عبادة فيه هدف أخلاقي واضح؛ يقول الله عز وجل في شأن الصلاة: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 45]، ويقول عز وجل عن الزكاة: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَ} [التوبة: 103]، ويقول عز وجل عن الصيام: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، ويقول عز وجل عن الحج: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى..} [البقرة: 197].

يقول الإمام الغزالي(1): "حسن الخلق هو الإيمان، وسوء الخلق هو النفاق، وقد ذكر الله تعالى صفات المؤمنين والمنافقين في كتابه، وهي بجملتها ثمرة حسن الخلق وسوء الخلق؛ فوجود جميع هذه الصفات علامة حسن الخلق، وفقد جميعها علامة سوء الخلق، ووجود بعضها دون بعض يدل على البعض دون البعض"(2).

وحسن الخلق أعلى درجات الإيمان وأتمها؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَكْمَلُ الْمُؤْمِنِينَ إِيمَانًا أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا»، وعن عائشة -رضي الله عنها- قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ الْمُؤْمِنَ لَيُدْرِكُ بِحُسْنِ خُلُقِهِ دَرَجَةَ الصَّائِمِ الْقَائِمِ»، وعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ -رضي الله عنه- قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَا مِنْ شَيْءٍ يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ حُسْنِ الْخُلُقِ وَإِنَّ صَاحِبَ حُسْنِ الْخُلُقِ لَيَبْلُغُ بِهِ دَرَجَةَ صَاحِبِ الصَّوْمِ وَالصَّلَاةِ»، واستوعب أبو الدرداء -رضي الله عنه- هذا الدرس جيدًا، ولذا سمعناه يقول: "إِنَّ العَبْدَ المُسْلِم يُحْسِن خُلُقَه حتَى يُدْخله حُسْن الخُلق الجنة، ويُسِيء خُلُقَه حَتى يُدْخله سُوء خُلُقَه النَّار.."(3).

وحسن الخلق لا يؤسَس في المجتمع بالتعاليم المرسلة، أو الأوامر والنواهي المجردة؛ إذ لا يكفي في طبع النفوس على الفضائل أن يقول المعلم لغيره: افعل كذا، أو لا تفعل كذا، فالتأديب المثمر يحتاج إلى تربية طويلة، وتعهد مستمر. ومن هذا المنطلق حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على غرس هذا المعنى في نفوس صحابته الكرام فقال: «إِنَّ مِنْ أَحَبِّكُمْ إِلَيَّ وَأَقْرَبِكُمْ مِنِّي مَجْلِسًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَحَاسِنَكُمْ أَخْلَاقًا»، ومن هذا المنطلق أيضًا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقول شيئًا إلا فعله، ولا يأمر بشيء إلا وكان له تطبيق واقعي في حياته، فصار بذلك أسوةً حسنةً في كل الأمور، ولن تصلح تربية إلا إذا اعتمدت على الأسوة الحسنة.

إن الرجل السيء لا يترك في نفوس من حوله أثرًا طيبًا، ولا بدّ -ليحصل التابع على قدر كبير من الفضل- أن يكون في متبوعه قدر أكبر، وقسط أجل، لذلك قال تعالى في حق رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب: 21]، وشعر الصحابة بذلك وأحسُّوه وعايشوه، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "كَانَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَحْسَنَ النَّاسِ خُلُقًا"، وعنه قال: لقد خَدَمْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ سِنِينَ، فَمَا قَالَ لِي أُفٍّ قَطُّ، وَمَا قَالَ لِشَيْءٍ صَنَعْتُهُ، لِمَ صَنَعْتَهُ؟ وَلَا لِشَيْءٍ تَرَكْتُهُ لِمَ تَرَكْتَهُ؟"، ويؤازر هذا ما قالت خديجة -رضي الله عنها- له صلى الله عليه وسلم حين بُعث: ".. أَبْشِرْ فَوَاللَّهِ لَا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا فَوَاللَّهِ إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ وَتَصْدُقُ الْحَدِيثَ وَتَحْمِلُ الْكَلَّ وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ وَتَقْرِي الضَّيْفَ وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ"، بل يكفيه صلى الله عليه وسلم وصف ربه لخلقه بالعظيم في قوله عز وجل يخاطبه: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

ولقد زرع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا المعنى زرعًا في قلوب أصحابه فسألهم يومًا: «أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، وَسَفَكَ دَمَ هَذَا، وَضَرَبَ هَذَا؛ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»، فسوء الخلق مع الناس -أيًّا كانوا مسلمين أو غير مسلمين- يكون سببًا في ضياع الحسنات، والعقاب بالنار يوم القيامة، ولا ينفع هنا صوم ولا صلاة، فإن هذه العبادات -على عِظَمِ قدرها- لا تنفع العبد ما لم تؤثر على سلوكياته وأخلاقه.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صَلَاتُهُ عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنْكَر لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللَّه إِلَّا بُعْدًا»، ويقول أيضًا: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ»، والأحاديث في هذا المعنى لا تنتهي؛ فكان تعامل النبي صلى الله عليه وسلم الراقي مع كل خلق ومبدأ أراد غرسه في نفوس أصحابه فذًّا ورائعًا، فكان صلى الله عليه وسلم الأسوة والقدوة في كل الأمور.

لقد كانت معضلة حقيقية عند كثير من المتعاملين بالسياسة أن تنضبط تعاملاتهم بضوابط الأخلاق، ولكن الدارس للسيرة النبوية يجدها واضحة في كل مواقف السيرة بلا استثناء، وقد أثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم أنّ القواعد المثالية الراقية التي جاءت في كتاب الله عز وجل ما هي إلا قواعد عملية قابلة للتطبيق، وأنّها صالحة لتنظيم حياة البشر أجمعين، وأنّها الدليل الواضح لمن أراد الهداية بصدق، كما كانت حياته صلى الله عليه وسلم ترجمة صادقة لكل أمر إلهي، وقد صَدَقَت ووُفِّقت أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في وصف أخلاقه صلى الله عليه وسلم عندما قالت: «كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ».

لذلك لم يكن مستغرَبًا أن ترى رسول الله صلى الله عليه وسلم -وهو الزعيم الأول في المدينة المنورة، والمحمَّل بالأعباء الجسام- تجده لا يأنف ولا يستنكف أن يمشي مع الأرملة والمسكين؛ فيقضي لهما حاجتهما، إنّ الأولويات لتتغير تمامًا إذا دخل العامل الأخلاقي في الحساب.

إن الإسلام لم يأت لكسر الأصنام فقط، وإن كان هذا من أجلِّ مهام الإسلام وأعظمها، ولكنه جاء كذلك ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ومن براثن العمى والجاهلية إلى سعادة الهدى والخير، وليست الجاهلية في عين رسول الله صلى الله عليه وسلم هي السجود للأصنام، أو عبادة الشجر والحجر فقط، وإنما هي أيضًا سوء الأخلاق وانهيار القيم؛ لذلك أنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم على صاحبه أبي ذر -رضي الله عنه- لما عيَّر بلالا صلى الله عليه وسلم بأمه، وقال له: يا ابن السوداء؛ فاعتبر ذلك من الجاهلية، وقال له: «إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ»، ولما ظهرت بوادر صراع بين المهاجرين والأنصار سمَّى رسول الله ذلك جاهليةً، فقال لأصحابه وهو يعدِّل لهم الموازين: «مَا بَالُ دَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ؟» قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ: كَسَعَ(4) رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلًا مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ»، وكذلك عندما أوشك صراعٌ أنّ يبدأ بين الأوس والخزرج قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، اللّهَ اللّهَ، أَبِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ وَأَنَا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ بَعْدَ أَنْ هَدَاكُمُ اللّهُ لِلْإِسْلَامِ وَأَكْرَمَكُمْ بِهِ، وَقَطَعَ بِهِ عَنْكُمْ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَاسْتَنْقَذَكُمْ بِهِ مِنَ الْكُفْرِ، وَأَلّفَ بِهِ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ»، وهكذا كان ينظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى حقائق الأشياء، إنّ الجاهلية لم تكن جاهلية لاختلال الجوانب العقائدية فيها فقط، بل كانت جاهلية كذلك لشيوع مساوئ الأخلاق، ورذائل العادات والتقاليد.

إنّ الله عز وجل لم يجعل خيرية هذه الأمة مقرونة بإيمانها به سبحانه فقط، وإنّ كان هذا من أعظم أسباب خيريتها، ولكن جعلها في الأساس مرتبطة بأداء الدور الأخلاقي المنوط بها، والوصول بهذا الدور إلى الناس أجمعين، في بلاد المسلمين وفي غيرها. قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ..} [آل عمران: 110]، لقد قدَّم الله عز وجل قضية الأمر بالمعروف، وهو كل حسنٍ من الأخلاق، والنهي عن المنكر، وهو كل سيءٍ من الأخلاق، على قضية الإيمان بالله سبحانه! أليس في هذا لفت نظرٍ للمسلمين لهذه القضية المحورية في أصول هذه الأمة ودعائم قيامها؟!

لقد قصر النبي صلى الله عليه وسلم بعثته - كما تبيَّن لنا- على إتمام مكارم الأخلاق، وفي الوقت نفسه نفهم أنّ الإسلام جاء ليقيم دولة عظيمة، وصرحًا مجيدًا، وحضارةً خالدة على مر التاريخ، فأصبح هذا يقتضي -بلا أدنى ريب- أنّ يكون الخلق الرفيع هو أساس هذا الصرح؛ ومن هنا فالدعوة إلى مكارم الأخلاق ليست من أجل تكثير الحسنات فحسب، بل هي المدخل الرئيس لبناء أمة قوية ظافرة تقتدي بها الأمم الأخرى، وتسير على هداها، كما أنّ غياب هذه الأخلاق هو غيابٌ للأساس الذي بدونه ينقضُّ البناء ويتهدم، ولهذا نجد أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما فكَّر في بناء أمته استعان أول ما استعان بأصحاب الأخلاق الحميدة، والخلال النبيلة، حتى وإن كانوا يعبدون الأصنام في فترة من فترات حياتهم، فنجد أوائل المسلمين هم أبو بكر وعثمان وزيد بن حارثة وخديجة وعلي -رضي الله عنهم أجمعين-، وهم جميعًا عُرِفوا في أقوامهم بحسن العشرة، وطيب النفس، وجمال الخُلُق. ثم جاء من بعدهم قومٌ كرام آخرون أمثال أبي عبيدة وطلحة وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وغيرهم وغيرهم رضي الله عنهم وأرضاهم، إنّها ليست مصادفة أبدًا أن يكون البناء على أكتاف أصحاب الأخلاق السوية، والخصال الرفيعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عبَّر عن ذلك بقوله الحكيم الذي يكشف فيه إستراتيجيته في الانتقاء والاختيار، يقول الرسول الحكيم صلى الله عليه وسلم: «تَجِدُونَ النَّاسَ مَعَادِنَ خِيَارُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُهُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا»، ألا ما أحكمها من رؤية، وما أعظمها من نظرة!! ولعله من هنا استوحى أمير الشعراء أحمد شوقي بيته الشهير الموفَّق:

إنما الأمم الأخلاق ما بقيت فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا

والتجوال في تاريخ الأمم يثبت صحة هذه النظرة؛ فكلما ازدهرت الأخلاق في عصر ارتفع شأن هذه الأمة، وذلك ما رأيناه في عهد الصديق أبي بكر، والفاروق عمر -رضي الله عنهم-؛ فانتقلت الأمة من نصرٍ إلى نصر، وتوسعت فصارت حدودها تملأ ما بين المشرق والمغرب، وعندما شُغِل المسلمون بأنفسهم، وحدثت بينهم الصراعات والانقسامات ضعفت شوكتهم، وقلَّت حيلتهم.

والمراجع لكل مراحل الازدهار في تاريخنا سيجد أن المجدِّد الذي أصلح اللهُ على يديه حالَ الأمة كان مُهْتمًا كل الاهتمام بعنصر الأخلاق في بناء أمته، ويكفي أن تراجعوا سِيَرَ المجدِّدين من أمثال عمر بن عبد العزيز وهارون الرشيد وعبد الرحمن الناصر ومحمود الغزنوي ونور الدين محمود وصلاح الدين الأيوبي ويوسف بن تاشفين وسيف الدين قطز ومحمد الفاتح وغيرهم، إنّ هذه حقائق لا خُلْف لها، ولا استثناء فيها.

وعلى الناحية الأخرى عندما ضُيعت الأخلاق وانتشر المجون في أواخر الدولة العباسية وقعت الأمة الإسلامية تحت أقدام التتار، ونالت الأندلس ذات المصير أيام سقوطها، بعد فساد أهلها وأمرائها، بل إنّ العجيب أنّ هذه السُنَّة ليست قاصرة على المسلمين، بل هي عامة على جميع الأمم؛ فالدولة الرومانية لم تسقط إلا حينما انهارت فيها الأخلاق، وحديثًا سقط الاتحاد السوفيتي لانتشار الإباحية والفساد المالي والإداري، ولعل غياب موازين العدالة والقيم الأخلاقية الرفيعة في المجتمع الغربي الآن ينذر بانهياره قريبًا.

إنّه يجدر بنا ألا نغادر هذا المقام إلا وكلمات أعظم البشر في آذاننا وقلوبنا وعقولنا، يُوسِّع فيها من مفاهيمنا عن العمل الصالح والعبادة المتقبَّلة. يقول رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ وَالشَّوْكَةَ وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ».

ألا حقًّا ما أعظم هذا الدين!!

المصدر: كتاب (أخلاق الحروب في السنة النبوية) للدكتور راغب السرجاني.

(1) حجة الإسلام زين الدين أبو حامد الطوسي الشافعي، ولد عام450 هـ بالطابران، عمل بطوس ثم نيسابور، ودرَّس في النظامية، ثم تركها وسلك طريق الزهد والعزلة، ثم عاد إلى نيسابور ولزم التدريس. من مصنفاته المستصفى في أصول الفقه، وإحياء علوم الدين. توفي في 550 هـ بالطابران. الوافي بالوفيات 1/120.
(2) الغزالي: إحياء علوم الدين 2/269.
(3) الغزالي: خلق المسلم، المقدمة ص15.
(4) الكسع: هو ضرب دبر غيره بيده أو رجله. وقيل: هو ضرب العجز بالقدم.
 
آخر تعديل:
رد: رسولنا- متجدد

السلام عليكم

رسول الله في كتب السابقين

أكرم الله البشرية برسوله وخاتم أنبيائه محمد رسول الله ، فأرسله إلى جميع العالمين إنسهم وجِنِّهم، عربهم وعجمهم، بأوضح حُجَّة، وأظهر دلالة، وأبين برهان، وساق الله I تلك الدلائل الظاهرة البينة لتَعْلَم البشرية صدق دعوته ونُبْلَ رسالته، وأنه حلقة في سلسلة الأنبياء الذين أرسلهم الله I لوظيفة واحدة لا تتجزّأ، وتتمثَّلُ في دعوة التوحيد لله ربِّ العالمين.

ومن سُنَّة الله تعالى أن كل نبي يُسَلِّم جذوة دعوته إلى الذي يليه، وهكذا فقد بَشَّرَتْ برسول الله الكتب السالفة، وأَخْبَرَتْ به الرسل السابقة، من عهد آدم أبي الأنبياء والبشر إلى عهد المسيح عيسى بن مريم ، كُلَّمَا قام رسولٌ أُخذ عليه الميثاق بالإيمان برسول الله والبشارة بنُبُوَّتِه ورسالته.

وهذه البشارات هي بمنزلة الإعلان والبلاغ المسبق من الله ومن الرسل إلى الأمم والشعوب بمَقْدَم محمد رسول الله ، والحكمة منها أن لا يحدث انقطاع في الهدي الإلهي؛ فإذا جاء نبيٌّ جديد فلا يُقَابله أتباع النبي السابق بشيء من العداوة والبغضاء والتعصُّبِ المذموم، بل يشعرون أنه امتداد لما كان عليه النبي السابق؛ فتتواصل بذلك الهداية الإلهية، وتتعاضد وتتكامل الرسالات السماوية.

بشارة رسول الله في كتب الهندوس
أخبر القرآن الكريم أن الله تعالى أرسل لكل أُمَّة رسولاً يدعوهم إلى التوحيد، فينذرهم ويُبَشِّرهم؛ ليُقيم عليهم الحُجَّة يوم القيامة، وأن كل هذه الأمم والشعوب قد عَرَفت وتَيَقَّنَتْ -عن طريق أنبيائهم ورسُلهم- بمجيء خاتم الأنبياء والرُّسل محمد ، وهو ما أخبر به القرآن الكريم في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ} [الشعراء: 196]، أي: "إِنَّ ذِكْرَ محمدٍ في كتب الأولين"[1].

كتاب السامافيدا

ورغم أنه لم يَعُدْ من كتب السابقين إلاَّ بقايا قليلة جدًّا، لكنها لم تَخْلُ من ذِكْرِ لمحمد ورسالته؛ ففي كتاب (السامافيدا)، أحد الكُتب المقدَّسَة لدى البراهمة، نجد النصَّ التالي: "أحمد تلقَّى الشريعة من ربِّه، وهي مملوءة بالحكمة، وقد قُبست من النور كما يقبس من الشمس"[2].

كتاب أدهروهيدم

وجاء في كتاب مُقَدَّسٍ آخر عند الهندوس وهو (أدهروهيدم) ما نصُّه: "أيها الناس، اسمعوا وَعُوا؛ يُبْعَثُ المحمَّدُ بين أظهر الناس، وعَظَمَتُه تُحْمَدُ حتى في الجنة، ويجعلها خاضعة له وهو المحامد"[3]. يعني محمد.

كتاب بفوشيا برانم

وفي كتاب هندوسي ثالث هو (بفوشيا برانم) ما يلي: "في ذلك الحين يُبعث أجنبي مع أصحابه باسم محامد الملقب بأستاذ العالم[4]، والمَلِك يطهِّره بالخمس المطهرة"[5]. ولا شكَّ في أنها الصلوات الخمس التي يمحو الله بهنَّ الخطايا.

وقد جاء وصف أصحاب رسول الله في كتاب (بنوشيا برانم)، فقد ورد فيه: "هم الذين يختتنون، ولا يربون القَزَع[6]، ويربون اللِّحَى، ويُنادون الناس للدُّعاء بصوت عالٍ[7]، ويأكلون أكثر الحيوانات إلاَّ الخنزير، ولا يستعملون الدرباء[8] للتطهير، بل الشهداء هم المتطهرون، ويُسمون بمسليّ[9]؛ بسبب أنهم يُقاتلون من يُلبس الحقَّ بالباطل، ودينهم هذا يخرج منِّي وأنا الخالق"[10].

بشارة رسول الله في الترتيلات الهندوسية
كتب الويدات

ولقد قامت مجموعة من الباحثين الهندوس بتحليل العديد من الترتيلات الهندوسية المختلفة، والتي جاءت في كتب الويدات وغيرها من الكتب الهندوسية، فوجدوا أن النبي محمدًا قد ذُكِرَ صراحة، كما ذُكِرَتْ بعضُ محاور رسالته ودعوته؛ لذلك كَتَبَ عددٌ من علماء الهندوس وغيرهم بحوثًا حول هذه الشخصية الفذَّة التي وجدوها في كتبهم، وهي شخصية (نراشنس)، فدرسوها في ضوء ما ذُكِرَ لها من الخصائص والأوصاف.

وكلمة (نراشنس) كلمة سنسكريتية[11] مكوَّنة من مقطعين؛ أوَّلهما: (نر)، ومعناه الإنسان، وهذا غريب بالنسبة للويدات التي قلَّمَا تختار من البشر أحدًا لمدحه والثناء عليه. والمقطع الثاني: (أشنس)، ومعناه اللغوي: مَنْ يُحْمَدُ ويُثْنَى عليه بكثرة، فهو مرادف لمحمد مرادفة تامَّة، ومع ذلك فلم تَكْتَفِ الويدات بذكر اسم هذا النبي العظيم فقط، بل "وفَّرَتْ لنا تفاصيل أخرى تقطع سبل النقاش والجدال، وتَبُتَّ البشارة بتَّة لا مجال فيها لأدنى احتمال، وأكبر مجموعة لهذه التفاصيل هي ما ورد في (أتهرو ويد) في بابه العشرين، والفصل السابع والعشرين بعد المائة، بينما يوجد بعض البيانات في مناتر[12] أخرى جاءت متفرِّقَة في بقية الويدات والكتب المقدسة عند الهندوس"[13].

وقد تُرجمت هذه المناتر على الصورة التالية:

1- "اسمعوا أيها الناس باحترام، إن نراشنس يُحمد ويثنى عليه، ونحن نعصم ذلك المهاجر -أو حامل لواء الأمن- بين ستين ألف عدوٍّ وتسعين عدوًّا".

ويُلاحَظُ في هذه الترتيلة عدَّة أشياء؛ أوَّلها: أن هذه الشخصية تتمتَّع بحمد الناس وثنائهم عليها، وتمتاز على الآخرين بذلك، ولا يُعرف في تاريخ البشر إنسانٌ حمده الناس وأثْنَوْا عليه بمعشار ما أثْنَوْا على محمدٍ وحمدوه، فهو الذي امتاز بهذه الخصيصة بين الأنبياء.

وثانيها: أن هذه الترتيلة ذَكَرَتْ كلمة المهاجر، ومن المعلوم أن محمدًا قد هاجر من مكة إلى المدينة، وموضوع الهجرة من أبرز الأحداث التي مرَّ بها الأنبياء عليهم السلام.

وثالثها: وهو الغريب في هذه الترتيلة أنها أحصت أعداء النبي ؛ فهم ستين ألفًا وتسعين عدوًّا، وقد تتبع بعض الباحثين عدد من عادى النبي في حياته فوجدهم يقربون من هذا العدد، والله أعلم[14].

2- "يكون مركبه الإبل، وأزواجه اثنتي عشرة امرأة، ويحصل له من علو المنزلة، وسرعة المركب أنه يمسُّ السماء ثم ينزل".

وهذه الترتيلة واضحة جدًّا في دلالتها على نُبُوَّةِ محمد والبشارة به؛ إذ ما من وصف ذُكِرَ فيها إلاَّ وقد تَحَقَّقَ في رسول الله ، فنراشنس -محمد - كان دائم الركوب للإبل في أسفاره وغزواته، وهذا مشهور متواتر في كتب السيرة، وهو دليل على أن ميلاد هذا النبي لا يكون إلاَّ في منطقة صحراوية؛ لأن الإبل لا توجد إلاَّ في مثل هذه المناطق، وقد وُلِدَ رسول الله بالفعل في مكة، وهي أرض صحراوية قاحلة تُحِيطُ بها صحاري شاسعة. ثم إن النبي لا يكون عزبًا بل يتزَوَّج من اثنتي عشرة امرأة، ولم يَثْبُتْ ذلك لأحد غيره من الأنبياء والمرسلين؛ فقد تَزَوَّج رسول الله من اثنتي عشرة امرأة على رأي من قالوا بأن السيدة ريحانة بنت زيد -رضي الله عنها- كانت زوجة من زوجاته [15].

وقد تحدَّث ويد بركاش أبادهياي -وهو أحد كبار علماء اللغة السنسكرتية في شبة القارة الهندية- عن ترجمة الفقرة الثانية من هذه البشارة في كتابة: "نراشنس أور أنتم رشي" ص14، وهي أن أزواجه تكون اثنتي عشرة امرأة، وهو لم يُشِرْ إلى احتمال أيِّ معنًى آخر سواه[16].

وهناك إشارة أيضًا إلى رحلة الإسراء والمعراج التي ركب فيه النبي البراق[17] الذي كان من سرعته أنه يضع قدمه عند منتهى طرفه، وأنه علا به إلى السماء، ثم نزل إلى الأرض[18].

ويتَّضِحُ من هاتين الترتيلتين -وغيرها من بقيَّة التراتيل المتعلِّقَة بنراشنس- مدى تطابقهما مع أوصاف محمد ؛ لذلك فهو دليل صريح من كتب الهندوس على التبشير بنُبُوَّة محمد ، ولا يَتَوَانَى بعض علماء الهندوس في ذكر ذلك صراحة، ولا يَستغرب أحد أن كُتب الهندوس قد جاءت بأوصاف لرسول الله ؛ فاعتقادُنا بأنها مجموعة من الكتب الموضوعة بأيدٍ بشريَّة قد يكون صحيحًا إن كان المقصود بذلك التحريف والتبديل؛ لأنه لا يُعقل أن تتنزل الرسالات في منطقة الشرق الأوسط، وتُنسى بقية المعمورة بساكنيها من الوحي والرسالات -وحاشا لله I ذلك- لأنه يتعارض مع رحمته وعدله، وقد أخبرنا القرآن الكريم أن كل أُمَّةٍ من الناس لم تَخْلُ من نذير أو بشير، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر: 24]. ومن ثَمَّ يمكن التعويل على هذه الترتيلات الهندوسية -استنادًا لما ذكره علماؤها- في التصديق والبشارة بنُبُوَّة محمد .

د. راغب السرجاني

[1] القرطبي: الجامع لأحكام القرآن 13/138.

[2] السامافيدا الجزء الثاني من الفقرة 6-8، نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/351.

[3] كتاب أدهروهيدم، الجزء العشرون الفصل 127 الفقرة 70، نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/352.

[4] وأيضًا فإن في الإنجيل إنجيل يوحنا أن المسيح أخبر بهذه الصفة، بقوله: "إن أركون العالم سيأتي". وأركون تعني السيد والعظيم. انظر: ابن تيمية: الجواب الصحيح 5/304، 305.

[5] الجزء 2 الفصل 3 العبارة الثالثة وما بعدها، نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/352.

[6] جمع قزعة وهي القطعة من السَّحاب، وسمِّي شعر الرأس إذا حُلِق بعضه وترك بعضه قزعًا؛ تشبيهًا بالسَّحاب المتفرِّق. انظر: شمس الحق آبادي: عون المعبود شرح سنن أبي داود 11/165.

[7] ينادون للدعاء: أي ينادون للصلاة؛ لأن الصلاة دعاء.

[8] الدرباء: نبات يخرج به الهنود الدم من جسم الإنسان، ويعدون هذا العمل تطهيرًا من الخطايا.

[9] مسلي: أي يسمون بالمسلمين، دخل عليها شيء من التحريف.

[10] الجزء الثالث الفصل الثالث عبارات 27، 28، نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/352.

[11] السنسكريتية: هي لغة قديمة في الهند، وهي لغة طقوسية للهندوسية، والبوذية، والجانية.

[12] مناتر: هي التراتيل الهندوسية في كتب الويدات.

[13] صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/366.

[14] صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/371.

[15] انظر: السابق نفسه 1/371، 372، وابن كثير: السيرة النبوية 4/605، وابن سيد الناس: عيون الأثر 2/388.

[16] نقلاً عن صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/374.

[17] البُراق: دابة يركبها الأَنبياء عليهم السلام. وقيل: البراق فرس جبريل، وهي الدابة التي ركبها الرسول في الإسراء والمعراج؛ سُمِّي بذلك لنصوع لونه وشدَّة بريقه، وقيل: لسرعة حركته شبَّهه فيها بالبَرْق. انظر: ابن منظور: لسان العرب، مادة برق 10/14.

[18] انظر: صفي الرحمن المباركفوري: وإنك لعلى خلق عظيم 1/375.

موقع قصة الاسلام
 
آخر تعديل:
رد: رسولنا- متجدد

السلام عليكم

محبة النبي بين الجفاة والغلاة

إن محبة النبي أصل عظيم من أصول الإسلام، وشرط من شروط صحة الإيمان، قال الله تعالى: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

فلا يجوز أن يكون حب أي عرض من أعراض الدنيا مقدمًا على محبة الله ورسوله، والرسول ينفي الإيمان عمن لم يجعل محبته مقدمة على محبة الأهل والمال والولد، فيقول: "لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين"[1]. وحين قال عمر للنبي : يا رسول الله، لأنت أحبّ إليَّ من كل شيء إلا من نفسي. أجابه الرسول بقوله: "لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك". فقال عندها عمر: فإنه الآن والله لأنت أحب إليَّ من نفسي. فقال النبي : "الآن يا عمر"[2]. وحين سئل علي بن أبي طالب : "كيف كان حبكم لرسول الله ؟ قال: كان والله أحب إلينا من أموالنا وأولادنا وآبائنا وأمهاتنا، ومن الماء البارد على الظمأ".

وحيث إن محبة الرسول عبادة لله وقربة يتقرب بها المسلم إلى ربه، فلا بد فيها من تحقيق شروط قبول العبادة وهي:

1- الإخلاص فيها لله I وابتغاء وجهه.

2- ثم متابعة النبي والالتزام بسنته وهديه، وأن يعبد الله بما شرع لا بالأهواء والبدع؛ عملاً بقوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحًا وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. والعمل الصالح هو العمل الموافق للسنة، والعمل الخالي من الشرك، هو العمل الخالص لله سبحانه، والبريء من الرياء والسمعة.

ولقد ضل في باب محبة النبي طائفتان كبيرتان من الطوائف المنتسبة للإسلام؛ طائفة الجفاة، وقد مثلها في الماضي المعتزلة الذين قدموا عقولهم على نصوص الوحي، وحاكموا سنة الرسول إلى أقيستهم وأهوائهم، فما وافقها قبلوه وما خالفها ردوه -بحجة أنه خبر آحاد مع أن أغلب أحكام الشريعة إنما جاءت من طريق الآحاد- أو تأولوه وحرفوا دلالته إلى ما يوافق رأيهم ومذهبهم. وقد وصل الغلو بأحد رءوسهم وأئمتهم عمر بن عبيد أن قال عن حديث الصادق المصدوق: "إن أحدكم يجمع خلقه في بطن أربعين يومًا نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يأتيه الملك فيؤمر بكتب أربع كلمات: رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد"... قال: (لو سمعت الأعمش يقول هذا لكذبته، ولو سمعت زيد بن وهب يقول هذا ما أجبته، ولو سمعت عبد الله بن مسعود يقول هذا ما قبلته، ولو سمعت رسول الله يقول هذا لرددته، ولو سمعت الله تعالى يقول هذا لقلت له: ليس على هذا أخذت ميثاقنا).

وقد ورثت فلسفة المعتزلة ومهجها في أيامنا هذه من نعتوا أنفسهم بالحداثيين والعصرانيين والمتورين الذين بهرتهم الحضارة الغربية وعلمانيتها المتحللة من الدين والمعادية له، فآلوا على أنفسهم أن يبرزوا الإسلام بصورةٍ موافقة للفكر الغربي العلماني، واضطروا لتحقيق غرضهم أن يضعوا قواعد ويؤصلوا أصولاً للتعامل مع نصوص الشرع لم تخطر ببال الأولين، تسبب عنها إسقاط مئات الأحاديث المتعلقة بسير الحياة اليومية للإنسان في أكله وشربه ولبسه وتجارته وعلاقته بالآخرين، بزعم أنها أحاديث خاصة بالبيئة العربية التي عاش فيها النبي ، وليس لها صفة الشمول والثبات، وفهموا الإسلام على أنه جملة من القيم والمثل العليا وقوانين الحق والعدل التي يشكلها الإنسان حسب ما يتناسب مع عصره وبيئته، والآيات والأحاديث المتعلقة بالأمور التفصيلية ليست ملزمة للمسلم، بل هي للاستئناس يأخذ منها المسلم ما يحقق مصلحته، ويترك ما يعارضها.

وهناك جفاة لا يصل جفاؤهم إلى هذا الحدّ إلا أنهم لا يتهيبون من ردّ الحديث الصحيح إذا عارض مذهبهم أو خالف توجهاتهم الفكرية، متجاهلين خطورة هذا المسلك، ومتناسين تحذيرات السلف من هذا التوجُّه من مثل قول الإمام أحمد رحمه الله: "من ردَّ حديث رسول الله فهو على شفا هلكة". وقول الإمام البربهاري:" الرجل يطعن على الآثار، أو يرد الآثار أو يريد الآثار فاتهمه على الإسلام، ولا تشك أنه صاحب هوى مبتدع".

ويقابل الجفاة الذين تقدم الحديث عنهم طوائف الغلاة، وما أكثرهم في أمة محمد ! والذين أحوالهم وأفعالهم وأقوالهم تنبئ أن محبة الرسول عندهم مجرد عاطفة متعلقة بالوجدان تفرغ على شكل احتفالات وقصائد وأناشيد دون أن تلزم أصحابها بطاعة الرسول ، واتباع هديه وسنته والدفاع عن دينه وتحكيم شرعه.

وقد وصل الغلو عند كثير من هؤلاء إلى مناقضة كتاب الله سبحانه، ومخالفة صريح أمره وخبره، والوقوع في الشرك الأكبر والعياذ بالله.

فرغم الآيات القاطعة والأحاديث الصريحة التي تنهى عن الغلو في الدين، ورفع النبي فوق منزلته التي أنزله الله إياها، مثل قوله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]. وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تطروني كما أطرت النصارى المسيح ابن مريم، إنما أنا عبد الله، فقولوا: عبد الله ورسوله". إلا أن طوائف من الأمة أبوا إلا أن يقعوا فيما وقعت فيه النصارى؛ فزعم بعضهم أن الرسول ليس بشرًا، بل هو نور خلقه الله من نور وجهه، وقالوا: إن قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ...} [الكهف: 110] قد قرأها الناس قراءةً خاطئةً، وإن القراءة الصحيحة لها: قل إن ما أنا بشر مثلكم. فهي تؤكد على نفي بشرية النبي .

وعليه نسمع في بعض الأناشيد قولهم: "ربي خلقت طه من نور"، ويزعم هؤلاء أن أول الكائنات على الإطلاق هي روح محمد، ومنها صدرت سائر المخلوقات، وهذا ما يعبرون عنه بالحقيقة المحمدية، وبقولهم: إنه إنسان عين الوجود والسبب في كل موجود، وأنه مظهر لصفات الله. وكم سمعنا من مؤذن يقول: يا أول خلق الله وخاتم رسل الله، مع أن هذا مناقض لصريح قوله : "أول ما خلق الله القلم".

ومن المغالاة المرفوضة زعم البعض أن الكون ما خلق إلا من أجل محمد ، وينسبون إلى رسول الله في ذلك حديثًا مكذوبًا يقول: "لولاك ما خلقت الأفلاك". مع مناقضته لصريح قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56].

ومن غلوهم ومبالغاتهم الباطلة زعمهم أن يوم مولده أفضل من ليلة القدر، وأن روحه تحضر الموالد؛ ولذلك يقومون عندما يصل قارئ السيرة إلى لحظة ولادته، وأنه حي حياة كاملة، وأنه يكلم الأولياء، وهذا يناقض العقل والنقل المؤكد لوفاة الرسول ، وانتقاله إلى الرفيق الأعلى.

ومن مبالغاتهم الممجوجة زعمهم أن نعل النبي على رءوس الكائنات، قال شاعرهم:

على رأس هذا الكون نعل محمد *** سمـت فجميع الخلق تحت ظلالـه

لدى الطور موسى نودي اخلع *** وأحمد إلى العرش لم يؤمر بخلع نعاله

ما قيمة هذا الكلام؟! وما دليله من كتاب الله أو سنة رسوله ؟!

ومن المغالاة المناقضة للقرآن الكريم زعمهم أن الرسول يعلم الغيب، وفي هذا يقول البوصيري:

وإن من جودك الدنيا وضرتها *** ومن علومك علم اللوح والقلم

ومن غلوهم زعمهم أنه -عليه الصلاة والسلام- الواسطة والأصل في كل رحمة تحل بالوجود، ورتبوا على ذلك اللجوء إليه لكشف الكربات واستنزال الرحمات، يقول البكري في لاميته:

ما أرسل الرحمن أو يرسل *** من رحمـة تصعد أو تنـزل

في ملكوت الله أو ملكـه *** من كل ما يختص أو يشمـل

إلا وطــه المصطفـى *** عبـده نبيه مختـاره المرسـل

واسطة فيهـا وأصل لهـا *** يعلـم هـذا كل من يعقـل

فلذ به من كل ما تشتكي *** فهـو شفيـع دائمًا يقبــل

ولذ به من كل ما ترتجي *** فإنـه المـأمـل والمعـقــل

يا أكرم الخلق على ربـه *** وخيـر مـن فيهــم يسـأل

كم مسَّنِي الكرب وكم مرة *** فرجـت كربًا بعضـه يُذهل

فبالذي خصك بين الورى *** برتبـة عنـه العلــى تنـزل

عجل بإذهاب الذي أشتكي *** فإن توقفت فمن الذي أسـأل

وشرعوا لمن يزور قبر النبي أن يستجير به ويرجوه، ويتضرع خاشعًا بين يديه، فقالوا: الأدب أن يأتي الإنسان لقبر النبي ويتوب من الذنوب والخطايا، ثم يقول: يا رسول الله، قد ظلمت نفسي ظلمًا كثيرًا، وأتيت بجهلي وخطئي وزرًا كبيرًا، ووفدت إليك مستجيرًا.

وهكذا نرى أن الغلو فيه -عليه الصلاة والسلام- والانسياق خلف العواطف الجياشة دون الانضباط بالضوابط الشرعية، قد أوقع شرائح واسعة من أمة محمد في الشرك الأكبر -والعياذ بالله- حيث خلعوا عليه الكثير من صفات الرب I بزعم حبه وتوقيره، وهل وقع النصارى فيما وقعوا فيه في عيسى إلا بزعم حبه وتقديره؟!

وليس لأحدٍ نجاة إلا بسلوك منهج الوسطية الذي تقوم عليه الشريعة الإسلامية.

المصدر: موقع صيد الفوائد.

[1]أخرجه البخاري (15).
[2] البخاري (6632).
 
آخر تعديل:
رد: رسولنا- متجدد

السلام عليكم

أخلاق رسول الله

أخلاق رسول اللهتعريف الخلق: الخُلق بضم اللام وسكونها: الدين والطبع والسجية[1]. وفي الاصطلاح: يطلق إطلاقين أحدهما أعم من الثاني، فيطلق على الصفة التي تقوم بالنفس على سبيل الرسوخ ويستحق الموصوف بها المدح أو الذم، ويطلق على التمسك بأحكام الشرع وآدابه فعلاً وتركًا. ومن الأول قوله لأشج عبد القيس: "إن فيك لخلقين يحبهما الله: الحلم، والأناة". قال: يا رسول الله، أخلقين تخلقت بهما أم جبلت عليهما؟ قال: "بل جبلت عليهم". قال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله.

ومن الثاني قوله : "البر حسن الخلق". وقول عائشة -رضي الله عنها- في تفسير قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]، كان خلقه القرآن. هذا تعريف الخلق في اللغة والاصطلاح.

أخلاقه الفاضلة وسجاياه الحميدة

كان أحسن الناس خلقًا، اجتمع فيه من أوصاف المدح والثناء ما تفرق في غيره، فقد صانه الله سبحانه وحفظه من أدنى وصف يعاب صاحبه. كل ذلك حصل له من ربه فضلاً ومنةً؛ قطعًا لألسنةِ أعدائه الذين يتربصون به، ويقفون في طريق دعوته محذرين منه، أحب شيء إليهم تحصيل شيء يعيبونه به، وأنَّى لهم ذلك؟!

فقد نشأ متحليًا بكل خلق كريم، مبتعدًا عن كل وصف ذميم، فهو أعلم الناس وأنصحهم وأفصحهم لسانًا، وأقواهم بيانًا، وأكثرهم حياءً، يُضرب به المثل في الأمانة والصدق والعفاف.

أدبه الله فأحسن تأديبه فكان أرجح الناس عقلاً، وأكثرهم أدبًا، وأوفرهم حلمًا، وأكملهم قوة وشجاعةً وشفقةً، وأكرمهم نفسًا، وأعلاهم منزلةً، وبالجملة كل خلق محمود يليق بالإنسان فله منه القسط الأكبر والحظ الأوفر، وكل وصف مذموم فهو أسلم الناس منه، وأبعدهم عنه، شهد له بذلك العدو والصديق.

شهادات الأصدقاء والأعداء

وفيما يلي أورد بعض الشهادات التي شهد له بها الموالون له والمعادون، والتي تدلُ دلالةً واضحةً على تمسكه بالأخلاق الحسنة قبل أن يبعثه الله تعالى، وذلك معلوم من الدين بالضرورة.

1- شهادة خديجة رضي الله عنها:

لما أوحى الله إلى نبيه في غار حراء لأول مرة، ورجع إلى خديجة أخبرها الخبر وقال: "لقد خشيت على نفسي". فقالت له رضي الله عنها: كلا والله ما يخزيك الله أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق[2].

2- شهادة كفار قريش عند بنائهم الكعبة:

ولما قامت قريش ببناء الكعبة قبل بعثة محمد تنازعوا في رفع الحجر الأسود إلى مكانه، واتفقوا على تحكيم أول من يدخل عليهم الباب، فكان أول داخل رسول الله ففرحوا جميعًا، وقالوا: جاء الأمين، جاء محمد. وقد كانوا يلقبونه بلقب الأمين؛ لما يعلمونه من أمانته، صلوات الله وسلامه عليه.

3- شهادة كفار قريش بصدقه r:

ثبت في صحيح البخاري أنه لما نزل عليه {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214]، صعد على الصفا فجعل ينادي: "يا بني فهر، يا بني عدي" -لبطون قريش- حتى اجتمعوا، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: "أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تغير عليكم، أكنتم مصدقي؟" قالوا: نعم، ما جربنا عليك إلا صدقًا. قال: "فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد". فقال أبو لهب: (تبًّا لك! ألهذا جمعتنا؟).

4- شهادة أبي جهل بصدقه r:

تقديم الحديث الذي رواه الحاكم بسند على شرط الشيخين، أن أبا جهل قال للنبي : "إنا لا نكذبك لكن نكذب ما جئت به". فأنزل الله {قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33].

ولما قال له الأخنس بن شريق: "يا أبا الحكم، أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟" فقال: "ويحك! والله إن محمدًا صادق، وما كذب محمد قط"... إلخ.

5- شهادة أبي سفيان بين يدي هرقل ملك الروم بصدق رسول الله r ووفائه:

فقد روى البخاري في صحيحه، عن ابن عباس أن أبا سفيان بن حرب أخبره أن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا ذهبوا إلى الشام لأجل التجارة في المدة التي كان رسول الله مادًّا فيها أبا سفيان وكفار قريش. فأتوه بإيليا فدعاهم في مجلسه وحوله عظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بترجمانه فقال: "أيكم أقرب نسبًا بهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟" فقالأبو سفيان: "فقلت: أنا أقربهم نسبًا". فقال: "أدنوه مني، وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره، ثم قال لترجمانه: قل لهم أني سائل عن هذا الرجل، فإن كذبني فكذبوه". فوالله لولا الحياء من أن يأثروا عليَّ كذبًا لكذبت عليه، ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: "كيف نسبه فيكم؟" قلت: "هو فينا ذو نسب". قال: "فهل قال هذا القول أحد منكم قط قبله؟" قلت: "لا". قال: "فهل كان من آبائه من ملك؟" قلت: "لا".

قال: "فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟" فقلت: "بل ضعفاؤهم". قال: "أيزيدون أم ينقصون؟" قلت: "بل يزيدون". قال: "فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه؟" قلت: "لا". قال: "فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟" قلت: "لا". قال: "فهل يغدر؟" قلت: "لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها". قال (أبو سفيان): ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئًا غير هذه الكلمة. قال: "فهل قاتلتموه؟" قلت: "نعم". قال: "فكيف كان قتالكم إياه؟" قلت: "الحرب بيننا وبينه سجال، ينال منا وننال منه". قال: "بماذا يأمركم؟" قلت: "يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئًا، واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة".

فقال للترجمان: "قل له: سألتك عن نَسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها. وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول قبله قط؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان في آبائه من ملك؟ فذكرت أن لا، قلت: فلو كان من آبائه من ملك لقلت رجل يطلب ملك أبيه. وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرت أن لا، قلت: لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله.

وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم؟ فذكرت أن ضعفاءهم اتبعوه، وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون؟ فذكرت أنهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطه لدينه بعد أن يدخل فيه؟ فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر؟ فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بماذا يأمركم؟ فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئًا، وينهاكم عن عبادة الأوثان، ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقول حقًّا فسيملك موضع قدمي هاتين، وقد كنت أعلم أنه خارج، ولم أكن أظن أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه".

ثم دعا بكتاب رسول الله الذي بعث به إليه مع دحية بن خليفة الكلبي، فقرأه. قال أبو سفيان: "فلما قال ما قال وفرغ من قراءة الكتاب، كثر عنده الصخب، وارتفعت الأصوات، فأخرجنا، فقلت لأصحابي حين أخرجنا: لقد أَمِرَ أَمْرُ ابن أبي كبشة؛ إنه ليخافه ملك بني الأصفر. فما زلت موقنًا أنه سيظهر حتى أدخل الله عليَّ الإسلام".

ففي هذه القصة آيات بينات ودلالات واضحات على نبوته ، وأنه صادق فيما جاء به. ومحل الشاهد من القصة شهادة أبي سفيان بن حرب -وهو من أشد أعدائه في ذلك الوقت- على اتصاف الرسول قبل أن يبعثه الله بالصدق، وأنهم لا يتهمونه بالكذب وبالوفاء، وأنه لا يغدر.

6- شهادة السائب المخزومي له r بحسن المعاملة والرفق قبل النبوة:

روى أبو داود وغيره أن السائب المخزومي كان شريك النبي قبل البعثة، فجاء يوم الفتح فقال: "مرحبا بأخي وشريكي، لا يداري ولا يماري". وفي لفظ: أنه قال للنبي : "كنت شريكي في الجاهلية فكنت خير شريك، لا تداريني ولا تماريني". وفي لفظ: "شريكي ونعم الشريك، كنت لا تداري ولا تماري".

7- شهادة عبد الله بن سلام t بصدقه r:

روى أحمد وأصحاب السنن عن عبد الله بن سلام قال: (لما قدم النبي المدينة كنت ممن انجفلَ، فلما تبينت وجهه عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، فسمعته يقول: "أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلّوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام".

8- شهادة مكرز بن حفص بن الأحنف له r بالوفاء في جميع مراحل حياته:

كان رسول الله عام الحديبية قد أبرم صلحًا بينه وبين قريش على أن يرجع ويعتمر من العام المقبل، ومن الشروط التي اشترطتها قريش على رسول الله أن يدخل مكة بسلاح الراكب فقط (السيوف مغمدة)، فلما قدم في عمرة القضاء استعد بالخيل والسلاح لا ليدخل بها الحرم وإنما لتكون في متناول يده لو نكثت قريش، وعندما قرب من الحرم بعث بها إلى يأجح. وكان خبر ذلك السلاح قد بلغ قريشًا، فبعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إلى رسول الله فقالوا: "يا محمد، ما عرفت صغيرًا ولا كبيرًا بالغدر، تدخل بالسلاح في الحرم على قومك وقد شرطت لهم أن لا تدخل إلا بسلاح المسافر". فقال : "إني لا أدخل عليهم بالسلاح، وقد بعثنا به إلى يأجج". فقال مكرز: "بهذا عرفناك بالبر والوفاء".

حسن خلق النبي صلى الله عليه وسلم

أخلاقه r في القرآن
تفضل الله تعالى على خليله محمد بتوفيقه للاتصاف بمكارم الأخلاق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، ثم أثنى عليه ونوَّه بذكر ما يتحلى به من جميل الصفات في آيات كثيرة من كتاب الله العزيز، أقتصر على إيراد بعضها، من ذلك قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4].

فقد أخبر سبحانه في هذه الآية الكريمة عما كان عليه المصطفى من أخلاق فاضلة، ووصف خلقه بأنه عظيم، وأكد ذلك بثلاثة أشياء: بالإقسام عليه بالقلم وما يسطرون، وتصديره بأن، وإدخال اللام على الخبر، وكلها من أدوات تأكيد الكلام.

وذلك الخلق العظيم الذي كان منه ، ورد تفسيره عن السلف الصالح بعبارات متقاربة؛ ففسره ابن عباس بأن الدين العظيم وهو دين الإسلام، وبهذا التفسير فسره أيضًا مجاهد والسدي والربيع بن أنس والضحاك وغيرهم، وفسره الحسن بأنه آداب القرآن. وفي الصحيحين وغيرهما عن عائشة أنها سئلت عن خلقه ، فقالت: (كان خلقه القرآن). ومعنى ذلك أن امتثال ما أمره الله به واجتناب ما نهاه عنه في القرآن، وصار له خلق وسجية، وقد أشارت عائشة -رضي الله عنها- إلى ما يوضح هذا المعنى في حديث آخر متفق على صحته، وهو أنها قالت: (كان رسول الله يقول في ركوعه: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي. يتأول القرآن). أي: كان يدعو بهذا الدعاء؛ امتثالاً لما أمره الله به في سورة النصر في قوله: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} [النصر: 3].

وقد نوه سبحانه بما جبل نبيه عليه من الرحمة والرأفة بالمؤمنين، والحرص على ما ينفعهم في دينهم وأخراهم، والتألم من كل ما يشق عليهم بقوله سبحانه ممتنًا على المؤمنين بإرساله: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]. وقال: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ والأغلالَ} [الأعراف: 157]. وقال: {وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ} [الحجرات: 7].

وأشار سبحانه إلى ما اتصف به من اللطف والرفق بأمته بقوله تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]. أما ما اتصف به من النصح والأمانة والقيام بأداء الرسالة على الوجه الذي أراده الله، فقد ذكره سبحانه بقوله: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 1-4]. ويقول تعالى -يعني محمدًا -: {وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ} [التكوير: 24]. وفيها قراءتان: بالظاء والمراد به المتهم، وبالضاد والمراد به البخيل، وكلا هذين منفيٌّ عنه ، فليس هو متهم بكتمان ما أرسله الله به، وليس ببخيل بما أنزل الله عليه، بل يبذله لكل أحد.

أخلاقه r في سنته وأقوال صحابته

كان رسول الله قبل أن يبعثه الله بالرسالة العظمى في الذروة العليا من الأخلاق الحسنة صدقًا وأمانة وكرمًا وحلمًا وشجاعة وعفة وقناعة، وغير ذلك من الصفات التي يحظى بالإجلال والإكبار من حصل على واحدة منها، فضلاً عمن جمعت له وتوفرت فيه.

ولما بعثه الله سبحانه بالنور والهدى إلى الثقلين الجن والإنس زاده الله قوة في هذه الخصال الحميدة إلى قوته حتى بلغ الحد الأعلى الذي يمكن أن يصل إليه إنسان مصدق رسول الله ، حيث قال: "إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق". وقد نوه الله سبحانه بتفضله وامتنانه على نبيه وخليله محمد في آيات كثيرة، كقوله تعالى: {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: 113]. وقوله: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} [الشورى: 52، 53]. وقوله: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح: 1- 3].

وقد اختار سبحانه لنبيه أصحابا هم خير هذه الأمة المحمدية التي هي خير الأمم، وقفوا حياتهم في سبيل تبليغ دعوته وحفظ سنته، تحقيقًا لقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]. ورثوا عن نبيهم ما جاء به من الحق، ورثوه لمن جاء بعدهم حتى هيأ الله له رجالاً قاموا بتدوينه منهم، بل على رأسهم الإمامان الجليلان البخاري ومسلم وغيرهما من المحدثين، فقد أفنوا أعمارهم -جزاهم الله خير الجزاء- في تقييد تلك الدور الثمينة التي ورثوها عن نبيهم محمد بواسطة السلاسل الذهبية المتصلة بأمثال مالك ونافع وشعبة وأحمد وعلي بن المديني، وغيرهم من خيار هذه الأمة، وهذه الدرر الثمينة التي توارثوها ونعم الإرث! هي تشمل أقواله صلى الله عليه سلم وأفعاله وتقريراته وبيان خلقه وأخلاقه؛ ولهذا يعرِّف المحدثون الحديث بأنه ما أضيف إلى النبي من قول أو فعل أو تقرير أو وصف خلقي أو خلقي.

ولقد اعتنى هؤلاء الورثة الكرام بتدوين ما جاءهم عن نبيهم على سبيل العموم، وبما يتعلق بأخلاقه ومزاياه على سبيل الخصوص، فمنهم من أفرد ذلك بالتأليف، ومنهم من عقد له أبوابًا خاصة ضمن المؤلفات العامة، أورد فيها ما يتصل بخوفه ورجائه وخشيته لربه، وجوده وكرمه وإيثاره وحياته ووفائه وصدقة وأمانته وإخلاصه وشكره وصبره وحلمه وكثرة احتماله، ورفقه بأمته وحرصه على التيسير عليها، وعفوه وشجاعته وتواضعه وعدله وزهده وقناعته، وصلته لرحمه، وكثرة تبسمه، وعفته وغيرته، إلى غير ذلك من آحاد حسن خلقه .

تفصيل القول في أخلاقه r

وهذه الأخلاق التي أشرنا على بعض آحادها يحتاج تفصيلها وبسط القول فيها إلى عدة محاضرات. أما المحاضرة الواحدة فلا تكفي إلا للإشارة إلى بعض تلك الأخلاق والمزايا الحميدة التي أوتيها ، فأجدني مضطرًّا إلى الاقتضاب والإيجاز حسب الإمكان.

- جُوده وكرمه r:

وقد بلغ صلوات الله وسلامه عليه في خلق الجود والكرم مبلغًا لم يبلغه غيره، ووصل فيه إلى الغاية التي ينتهي عندها الكمال الإنساني. ومن توفيق الله له أن جعل جوده يتضاعف في الأزمنة الفاضلة، يقول ابن عباس في الحديث الصحيح: (كان رسول الله أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، فلرسول الله أجود بالخير من الريح المرسلة).

جاد بنفسه في سبيل الله فكسرت رباعيته وشج وجهه وسال الدم منه صلوات الله وسلامه عليه. والجود بالنفس أقصى غاية الجود؛ وجاد بجاهه ومن أمثلة ذلك شفاعته لمغيث زوج بريرة -رضي الله عنهما- لما عتقت واختارت فراقه، أشار عليها أن تبقى في عصمته رحمة منه بزوجها مغيث.

وأخص الأمثلة في ذلك ما أخبر به من شفاعته في أهل الموقف التي يتخلى عنها أولو العزم من الرسل فتنتهي إليه، فيقول : "أنا لها". وقد صح عنه أنه قال: "لكل نبي دعوة مستجابة قد دعا بها فاستجيب له، فجعلت دعوتي شفاعة لأمتي يوم القيامة".

وجاد بما أعطاه الله من المال فما سئل شيئًا من الدنيا قط فقال لا، ولقد جاءت إليه امرأة ببردة منسوجة فقالت: نسجتها بيدي لأكسوكها. فأخذها محتاجًا إليها ولبسها، فقال رجل من الصحابة: (أكسينها يا رسول الله). فقال : "نعم". فدخل منزله فطواها وبعث بها إليه، فقال له بعض الصحابة: "ما أحسنت، لبسها رسول الله محتاجًا إليها ثم سألته وعلمت أنه لا يرد سائلاً". فقال: "إني والله ما سألته لألبسها، إنما سألته لتكون كفني". قال سهل بن سعد : "فكانت كفنه".

هذا مثل من أمثال اتصافه بهذا الخلق الكريم، فهل بعد هذا كرم يصدر من مخلوق؟ وهل وراء هذا الإيثار إيثار؟ ولقد وصف الله الأنصار في كتابه العزيز بصفة الإيثار في قوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]. وهذه الصفة الكريمة التي اتصفوا بها أسوتهم فيها وفي غيرها من مكارم الأخلاق سيد ولد آدم عليه الصلاة والسلام، يقول سبحانه: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]. ولما رجع من حنين التف حوله الأعراب يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه، فوقف النبي وقال: "أعطوني ردائي، فلو كان لي عدد هذه العضاه نعمًا لقسمتها بينكم، ثم لا تجدوني بخيلاً ولا كذابًا ولا جبانًا" .

وجوده في العطاء لبعض الناس إنما هو لتأليفهم على الإسلام، فكثيرًا ما كان يخص حديثي العهد بالإسلام بوافر العطاء دون من تمكَّن الإيمان في نفوسهم؛ ففي غزوة حنين أعطى أكابر قريش المئات من الإبل ومنهم صفوان بن أمية، فقد روى مسلم في صحيحه أنه قال: "لقد أعطاني رسول الله ما أعطاني، وإنه لأبغض الناس إليَّ، فما برح يعطيني حتى إنه من أحب الناس إلي". وروى أيضًا عن أنس قال: "ما سئل رسول الله على الإسلام شيئًا إلا أعطاه، ولقد جاءه رجل فأعطاه غنمًا بين جبلين، فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا؛ فإن محمدًا يعطي عطاء من لا يخشى الفقر".

وإن كان الرجل ليسلم ما يريد إلا الدنيا فما يلبث إلا يسيرًا حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها، أعطى رسول الله ذلك الرجل تلك الغنم الكثيرة التي لكثرتها ملأت ما بين جبلين، وماذا كانت نتيجة هذا الإعطاء من رسول الله ؟ لقد كانت حصول الغرض الذي من أجله أعطاه، وهي أنه أصبح داعية لرسول الله . لقد كان بدافع من نفسه رسولاً لرسول الله إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام، ويبين لهم كرم رسول الله ، وأنه يعطي عطاء من لا يخشى الفقر.

وهكذا كان رسول الله يبذل المال في سبيل نصرة الإسلام، والدعوة إليه، والترغيب فيه، ينفق مال الله الذي آتاه في سبيل الله حتى توفاه الله ودرعه مرهونة في دَيْنٍ عليه، صلوات الله وسلامه عليه.

المصدر: موقع طريق القرآن.

[1]ابن الأثير في غريب الحديث.
[2] رواه البخاري.
 
آخر تعديل:
رد: رسولنا- متجدد

السلام ليكم

يوم الرسول صلى الله عليه وسلم وليله

حياةُ الجدِّ سر النجاح، وتنظيم العمل اليومي وسيلة وفرة الإنتاج؛ وإذا كان هذا ضروريًّا لعامة الناس في النطاق الضيق الذي يعيشون فيه والعمل الضئيل الذي يزاولونه، فهو ألزم للخاصَّة الذين يقومون بمختلف الأعمال الضخمة، ويحملون أعباء المهام الثقال.

وللرسول -صلوات الله وسلامه عليه- في ذلك المثل الأعلى؛ فمهمته إبلاغ رسالة عظمى إلى الخلق كافّة، وتكوين أمة حديثة، ومحاربة ضلالات متأصلة، وهداية أقوام شداد ذوي صلف وعناد، وقد سلخ من عمره أربعين عامًا؛ وأُمر بأن يصدع بأمر ربه ليكمل الدين ويؤدي الأمانة، فما أحوجه إلى تنظيم وقته حتى يتسع لهذه المهام! لذلك أُثر عنه صلى الله عليه وسلم في ليله ونهاره نظام بالغ الغاية في الدقة.

أما في الليل فقد كان من المفروض عليه التهجد فيه، فكان لا يدع قيام الليل في حضر ولا سفر تعبدًا لله تعالى؛ لذلك كان ينام أول الليل بعد صلاة العشاء إلا لضرورة توجبها مصلحة الأمة، فينام على فراش غير وثير من أدم وليف، ليكون أدعى إلى عدم الإطالة فيه، يقول عند نومه: «اللهم قني عذابك يوم تبعث عبادك». ثم يستيقظ إذا انتصف الليل أو قبْل منتصفه بقليل أو بعده بقليل فيقول: «لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لديني وأسألك رحمتك، اللهم زدني علمًا ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني، وهب لي من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب».

ثم يستاك "وكان استعمال السواك عادة دائمة له" ويتوضأ ويصلي ما كتب الله له، ثم ينام وربما قام مرة أخرى وأعاد ذلك، حتى إذا أذن المؤذن للفجر خرج إلى الصلاة وهو يقول: «اللهم اجعل في قلبي نورًا، وفي لساني نورًا، واجعل في سمعي نورًا، وفي بصري نورًا، واجعل من خلفي نورًا، ومن أمامي نورًا، واجعل من فوقي نورًا، ومن تحتي نورًا، اللهم أعطني نورًا».

دعاءٌ جامعٌ ما أروعه! وما أنسبه بالوقت الذي ترفع فيه سِجْف الليل المظلم، وتبدو فيه تباشير نور الصباح المشرق! فيسأل فيه ربه مُقلِّب الليل والنهار أن يجعل له نورًا في قلبه وحواسه وجهاته حتى يغشاه النور ويحيط به من كل جانب في الباطن والظاهر، فيكون كله نورًا يسعى بين يديه فيكشف له أسرار الوجود ومعالم الحقائق، ويشرق في قلوب الناس فيستجيبون لدعوته ويهتدون برسالته، وما دعوته إلا الحق الأبلج، وما رسالته إلا الصراط المستقيم والدين القويم.

وكم له صلى الله عليه وسلم في مقام العبودية ومواقف الضراعة إلى الله من الأدعية المأثورة ما له في الروعة والجلال ما يعجز له اللسان!

أما في النهار فقد كان يجلس لأصحابه كواحدٍ منهم يزيده الوقار جلالاً، والإحسان كمالاً، والتواضع جمالاً، يُعلّمهم ويرشدهم ويتفقد شئونهم، ويقضي حوائجهم، ويواسي مُعوِزهم، ويعود مريضهم، ويدير المصالح العامة للأمة ويتحدث ويخطب، وينذر ويبشّر ويقسم الأعطية، ويقابل الوفود، ويتلو آيات القرآن الكريم، لا يحجبه عن أحد حاجب، ولا يعرض عن سائل، ولا يلقى أحدًا بمكروه.

فإذا أوى إلى منزله جزَّأ زمنه فيه ثلاثة أجزاء: جزء لله تعالى يعبده فيه بالنوافل والطاعات، وجزء لأهله يدير فيه أمورهم ويصلح شأنهم ويشاركهم فيما يعملون، وجزء لنفسه ثم جعل في هذا الجزء جزءًا لخواصّ أصحابه وأهل السابقة منهم يدخلون إليه على قدر فضلهم في الدين، منهم ذو الحاجة ومنهم ذو الحاجتين ومنهم ذو الحوائج، فيعني بهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، ويعهد إليهم أن يرفعوا إليه حوائج العامة الذين لا يستطيعون الدخول إليه ورفع حوائجهم بأنفسهم لكثرتهم وعدم سعة المكان لها، ويقضي فيها بما ينبغي أن يُقضى، ويكلف الخاصة إخبار العامة بذلك؛ فيرد على العامة بواسطة الخاصة، ولا يدخر عنهم شيئًا مما ينفعهم ويقول: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب»، ويقول: «أبلغوني حاجة من لا يستطيع إبلاغي حاجته، فإنه من بلّغ سلطانًا حاجة من لا يستطيع إبلاغها، ثبت الله قدمه يوم القيامة»، وفي رواية: «آمنه الله يوم الفزع الأكبر».

ذلك نظامه وعمله وتوزيع وقته بين حق الله، وحق الأمة، وحق أهله، وحق نفسه، في ليله ونهاره في بيته وخارج بيته.

فكانت الأمة شغله الأكبر في حركته وسكونه، في نومه ويقظته حتى في وقت راحته، بل كان سكوته تفكيرًا في أمرها، وتدبيرًا لشئونها، مع قيامه بحق ربه في كل لحظة وحال.

عَنَى بالعامة وهو في منزله، ووقف راحته يحث الخاصة على إبلاغه حوائجهم إذا لم يستطيعوا إبلاغها بأنفسهم؛ لأنه راعٍ وكل راع مسئول عن رعيته، فقام الخاصة بالسفارة بينه وبين العامة، لا لزلفى ولا لجرِّ مغنم بل ابتغاء الله ورسوله.

ولم يكن إيثاره الخاصة لحب أو هوًى، ولا تقديم بعضهم على بعض لقربى أو مصاهرة أو تزلف، وإنما كان لوجه الله تعالى وعلى حسب تفاضلهم في التقوى وسابقة الإسلام والجهاد في سبيل الله.

بهذا كان المجتمع الإسلامي في عهده صلى الله عليه وسلم بريئًا من الأضغان، سليمًا من الشوائب، فلا أثرة ولا أنانية، ولا حقوق مهدورة، ولا مصالح مهملة، ولا إرشاد يدخر ولا نفع يؤخر.

إن في رسول الله صلى الله عليه وسلم لأسوة حسنة لكل من وَلِيَ أمرًا من أمور المسلمين، دقّ أو جلّ، وفي هديه نور يعصمه من الزلل، ويُمَكِّن له العمل، ويحبب إليه النفوس، ويعطف عليه القلوب، ثم يريح ضميره إذا خلا إلى نفسه فحاسبها على ما قدمت يداه في ليله ونهاره، وهل أدى حق الله تعالى وحق الأمة فيهما أو قصر عن ذلك؟ فعَلِم أنه وَفَى الحق ونهض بالعلم وأدى الأمانة وخرج من يومه طاهر اليد نقي العرض، موفور الكرامة، عدلاً في الولاية، لم يَجْن إثمًا ولم يعقب وزرًا.

والله يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم.

المصدر: شبكة الألوكة، نقلاً عن مجلة كنوز الفرقان.
 
آخر تعديل:
رد: رسولنا- متجدد

السلام عليكم

دومة الجندل .. إنها النبوة !!

دومة الجندل الزمان والمكان:
- في شهر ربيع الأول 5هـ الموافق آب/أغسطس 626م، تحركت القوات الإسلامية بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم نحو قبيلة قضاعة التي كانت تنزل شمال قبائل أسد وغطفان، في حدود قبائل الغساسنة الموالين للدولة الرومية (بيزنطة)، والمشرفة على سوق (دُومة الجندل) الشهير.

- تقع دُومة على بُعد 450 كيلو مترًا شمال المدينة النبوية. وذكر الحموي في معجم البلدان أنها سُميت بذلك نسبة إلى حصن بناه دوماء بن إسماعيل[1].

أما الجندل: فهي الحجارة، ومفرده: جندلة[2]. وعلى هذا يكون معنى اسم المنطقة: "الحصن الذي بناه دوماء في منطقة مليئة بالحجارة".

وكان يُضرب المثل بمناعة حصن دومة وشدته.

سبب غزوة دومة الجندل:
وصلت الأنباء إلى المدينة النبوية المشرَّفة بتجمع بعض قبائل المشركين عند دومة الجندل للإغارة على القوافل التي تمر بهم، والتعرض لمن في القافلة بالأذى والظلم، ثم الاعتداء على المدينة لاحقًا. ومن الملاحَظ أن دومة الجندل تعَدُّ بلادًا نائية بالنسبة للمدينة النبوية؛ لأنها تقع على الحدود بين الحجاز والشام، وفي منتصف الطريق بين البحر الأحمر والخليج العربي، وهي على مسيرة ست عشرة ليلة من المدينة.

فحتى لو أن المسلمين أغفلوا أمرها وسكتوا على وجود هذا التجمع فيها، ما لامهم أحد ولا ضرهم هذا التجمع في شيء على المدى القريب، ولكن النظرة السياسية البعيدة والعقلية العسكرية الفذة أوجبت على المسلمين أن يتحركوا لفضِّ هذا التجمع فورًا لما يلي:

1- السكوت على هذا التجمع وما شاكله يؤدي -بلا شك- إلى تطوره واستفحاله، ثم يؤدي بعد ذلك إلى إضعاف قوة المسلمين وإسقاط هيبتهم، وهو الأمر الذي يجاهدون من أجل استرداده.

2- وجود مثل هذا التجمع في الطريق إلى الشام قد يؤثر على الوضع الاقتصادي للمسلمين، فلو أن المسلمين سكتوا على هذا التجمع لتعرضت قوافلهم أو قوافل القبائل التي تحتمي بهم للسلب والنهب؛ مما يضعف الاقتصاد، ويؤدي إلى حالة من التذمر والاضطراب.

3- فرض نفوذ المسلمين على هذه المنطقة كلها، وإشعار سكانها بأنهم في حمايتهم وتحت مسئوليتهم؛ لذلك فهم يؤمِّنون لهم الطرق، ويحمون لهم تجارتهم، ويحاربون كل إرهاب من شأنه أن يزعجهم أو يعرضهم للخطر.

4- حرمان قريش من أي حليف تجاري قد يمدها بما تحتاج من التجارة، وصرف أنظارهم عن هذه المنطقة التجارية المهمة؛ لأن ظهور الدولة الإسلامية بهذه القوة يؤثر على نفسية قريش العدو الأول للدولة الإسلامية، ويجعلها تخشى المسلمين على تجارتها.

5- الحرص على إزالة الرهبة النفسية عند العرب الذين ما كانوا يحلمون بمواجهة الروم، والتأكيد عمليًّا للمسلمين بأن رسالتهم عالمية وليست مقصورة على العرب.

الخروج إلى غزوة دومة الجندل:
ندب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين للخروج، وخرج في ألف من أصحابه، وكان يسير الليل، ويكمن النهار؛ حتى يخفي مسيره، ولا تشيع أخباره وتنقل أسراره، وتتعقبه عيون الأعداء.

وسار حتى دنا من القوم، عندئذ تفرقوا، ولم يلق رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أحدًا، فقد ولَّوا مدبرين، وتركوا أنعامهم وماشيتهم غنيمة باردة للمسلمين، وأسر المسلمون رجلاً منهم، وأحضروه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله عنهم، فقال: هربوا لما سمعوا بأنك أخذت نعمهم. فعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، فأسلم وأقام بساحتهم أيامًا، وبعث البعوث، وبث السرايا، وفرّق الجيوش، فلم يصب منهم أحدٌ، وعاد المسلمون إلى المدينة.

وفي أثناء عودتهم وادعَ الرسولُ عيينةَ بن حصن الفزاري، واستأذن عيينة رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في أن ترعى إبله وغنمه في أرض قريبة من المدينة على ستة وثلاثين ميلاً منها.

دلالات غزوة دومة الجندل:
1- إن وصول جيوش المسلمين إلى دومة الجندل، وهي على هذه المسافة البعيدة من المدينة وموادعة عيينة بن حصن للمسلمين، واستئذانه في أن يرعى بإبله وغنمه في أرض بينها وبين المدينة ما يقرب من خمسة وستين كيلو مترًا، لدليل قاطع على ما وصلت إليه قوة المسلمين، وعلى شعورهم بالمسئولية الكاملة تجاه تأمين الحياة للناس في هذه المنطقة، وأن هذه المناطق النائية كانت ضمن الدولة الإسلامية، وإن الدولة أصبحت منيعة، ليس في مقدور أحد أن يعتدي عليها، ولو كان ذلك في استطاعة أحد لكان هو عيينة بن حصن الذي كان يغضب لغضبه عشرة آلاف مقاتِل.

2- كانت غزوة دومة الجندل بمنزلة إعلان عن دعوة الإسلام بين سكان البوادي الشمالية وأطراف الشام الجنوبية.

3- كان في سير الجيش الإسلامي هذه المسافات الطويلة تدريب له على السير إلى الجهات النائية، وفي أرض لم يعهدها من قبل؛ ولذلك تعتبر هذه الغزوة فاتحة سير الجيوش الإسلامية للفتوحات العظيمة في بلاد آسيا وإفريقيا فيما بعد.

المستفاد من غزوة دومة الجندل:
هي غزوة، وحرب استطلاعية تمسح الجزيرة العربية، وتتعرف على مراكز القوى فيها، وهي حرب إعلامية، وهي حرب عسكرية تريد أن تصد هجومًا محتملاً على المسلمين، حيث ضَوَى[3] إليها قوم من العرب كثير يريدون أن يدنوا من المدينة، وهي حرب سياسية تريد أن تجهض من تحركات القبائل المحتمل أن تتحرك بعد أنباء غزوة أحد لتقصد المدينة وتسبيحها.

كانت هذه الغزوة دورة تربوية رائعة وقاسية وشاملة يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين يديه ألف من أصحابه، فيتلقون فيها كل لحظة دروسًا في الطاعة والانضباط، ودروسًا في التدريب الجسمي والعسكري والتحمل لمشاق الحياة وصعوباتها، وأحكامًا وفقهًا في الحلال والحرام، وعمليات صهر وتذويب لقواعد الجيش الإسلامي في بوتقة واحدة خارج إطار العشيرة، وخارج كيان القبيلة؛ حيث أخذت تفد إلى المدينة عناصر كثيرة من أبناء القبائل المجاورة، والتخلي عن الأطر القبلية وعصاباتها للانصهار في بوتقة الأمة الواحدة التي تجعل الولاء لله ورسوله.

وفوق هذا كله تتيح الفرصة لجيل بدر الرائد أن يقوم بمهمة التربية للوافدين الجدد وتعليمهم وتثقيفهم، كما تتيح الفرصة لكشف ضعاف النفوس، ومن له صلة بمعسكر النفاق من خلال مراقبة تصرفاته وسلوكه.

إنها ليست ساعات محدودة أو أيامًا معدودة، بل هي دورة قرابة شهر، لا يمكن إلا أن تبرز فيها كل الطبائع وكل النوازع، فيتلقاها -عليه الصلاة والسلام- ليصوغها على ضوء الإسلام ويعلِّم الجيل الرائد فن القيادة وعظمة السياسة.

كانت معركة صامتة، وتربية هادئة، وكان الجيش مع قائده يقطع ما ينوف عن ألف ميل في هذه الصحراء، يتربى ويتثقف ويتدرب ويمتحن ويقوّم؛ ليكون هذا استعدادًا لمعارك قادمة.

وأعجب من هذا كله:

عيَّنَ رسول صلى الله عليه وسلم الصحابي الجليل سباع بن عرفطة الغفاري -رضي الله عنه- واليًا على المدينة في تجربة جديدة، فهو ليس أوسيًّا ولا خزرجيًّا ولا قرشيًّا، بل من قبيلة غفار التي كانت تمارس قطع الطريق والسطو المسلح على القوافل التجارية، حتى إنها كانت تشتهر بـ(سُرَّاق الحجيج) عند العرب!!!

- عجبًا لمحمد صلى الله عليه وسلم كيف يثق بمَن كان حاله كذلك قبل بضع سنوات، يأمنه على عاصمة دولة الخلافة وبيت مال المسلمين ونسائهم وذراريهم؟!!

- عجبًا لهذا الدين العظيم الذي أعاد صياغة بني غفار ونقلهم من حال سرقة حتى الحجيج إلى حمل مفاتيح بيت مال الدولة الإسلامية وصيانتها، في زمن قياسي، ودون الحاجة إلى انتظار موت ذاك الجيل!

- عجبًا لأولئك الصحابة الذين لم يعترضوا على اختيار رجل من قبيلة غفار ليكون أمينًا على بيوتهم وعوراتهم!

إنها النبوة ولا شيء سوى النبوة:
لا بُدَّ لهذا الجيل أن يتربى على الطاعة والانضباط للأمير أيًّا كان شأن هذا الأمير، وهذا يدل على عظمة المنهج النبوي في تربية الأمة والارتقاء بها، وعلى عظمة قيادة النبي صلى الله عليه وسلم وفراسته في أتباعه وثقته فيهم ومعرفته لمواهبهم، فهو صلى الله عليه وسلم على معرفة بكفاءة سباع بن عرفطة الغفاري وعبقريته وقدرته على الإدارة الحازمة، فكان صلى الله عليه وسلم يربِّي أصحابه وهو غائب عن المدينة؛ لكي يهيمن منهج رب العالمين على المسلمين، ويصنع منها أمة واحدة تسمع وتطيع لكتاب ربها وسنة نبيها[4].

إذ ما كان لقائد عسكري ذي أهداف دنيوية، أن يغامر تلك المغامرة بالابتعاد عن بلده مسافة بعيدة جدًّا، تاركًا مدينته وأهله ومُلكَه معرضين لاحتمالات الأذى ممَّن يترصدها من المنافقين والأعراب والمشركين واليهود.. وفي حراسة شخص ليس من زعماء المدينة، ولا من كبار المهاجرين!! فضلاً عن كونه من بني غفار[5].

ولكنها النبوة.

المصدر: موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة.

[1] ياقوت الحموي: معجم البلدان 2/252.
[2] ابن منظور: لسان العرب 11/128.
[3] ضوى إليه: مال وانضمَّ.
[4] انظر: د. علي الصلابي: السيرة النبوية 2/226-230.
[5] ويظهر أن بني غفار أظهروا براعة في إدارة وسياسة المدينة، فحين خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فاتحًا، استعمل على المدينة: أبا رهم، كلثوم بن حصين بن عتبة بن خلف الغفاري رضي الله عنه.
 
رد: رسولنا- متجدد

السلام عليكم

الهجرة وصناعة الأمل

من كان يظن أنّ يكون أولئك النفر الستة بداية مرحلة جديدة من العز والتمكين، والبذرة الأولى لشجرة باسقة ظلت تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها؟ ومن كان يخطر بباله أن تشهد تلك الليلة من ليالي الموسم ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر يطوفان بمنى حتى إذا سمعا صوت رجال يتكلمون مالا إليهم فقالا وقالوا، وتحدثا وسمعوا، وبينا فأصغوا فانشرحت القلوب، ولانت الأفئدة ونطقت الألسنة بالشهادتين، وإذا بأولئك النفر من شباب يثرب يطلقون الشرارة الأولى من نار الإسلام العظيمة التي أحرقت الباطل فتركته هشيما تذروه الرياح! من كان يظن أن تلك الليلة كانت تشهد كتابة السطور الأولى لملحمة المجد والعزة؟

إن نصر الله يأتي للمؤمن من حيث لا يحتسب ولا يقدر، لقد طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم بمجتمعات القبائل وقصد الرؤساء وتوجه بالدعوة إلى الوجهاء وسار إلى الطائف، فعل ذلك كله عشر سنوات وهو يرجو أن يجد عند أصحاب الجاه والمنعة نصرة وتأييدًا، كان يقول في كل موسم: "من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالة ربي". ومع كل هذا لم يجد من يؤويه ولا من ينصره، بل لقد كان الرجل من أهل اليمن أو من مضر يخرج إلى مكة فيأتيه قومه فيقولون له: احذر غلام قريش لا يفتنك!

لم تأت النصرة والحماية والتمكين من تلك القبائل العظيمة ذات المال والسلاح، وإنما جاءت من ستة نفر جاءوا على ضعف وقلة.

"إنها التقادير يوم يأذن الله بالفرج من عنده، ويأتي النصر من قلب المحنة، والنور من كبد الظلماء، والله تعالى هو المؤيد والناصر، والبشر عاجزون أمام موعود الله".

ستة نفر من أهل يثرب كلهم من الخزرج دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ولم يكن يتوقع منهم نصرة وإنما أراد دعوتهم فآمنوا وأسلموا... ثم تتابعت الأحداث على نسق عجيب، قال جابر بن عبد الله رضى الله عنه: حتى بعثنا الله إليه من يثرب فآويناه وصدقناه فيخرج الرجل منا فيؤمن به ويقرئه القرآن فينقلب إلى أهله فيسلمون بإسلامه، حتى لم تبق من دور الأنصار إلا وفيها رهط من المسلمين يظهرون الإسلام، ثم ائتمروا جميعا فقلنا: حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه الموسم، فواعدناه العقبة فاجتمعنا عندها من رجل ورجلين حتى توافينا، فقلنا: يا رسول الله، علام نبايعك؟ قال: "على السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن تقولوا في الله لا تخافون لومة لائم، وعلى أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم وأزواجكم، ولكم الجنة". قال جابر: فقمنا إليه فبايعناه.[1]

أرأيتم.. يعرض الكبراء والزعماء ويستكبر الملأ وتتألب القبائل وتتآمر الوفود وتسد الأبواب.. ثم تكون بداية الخلاص بعد ذلك كله في ستة نفر لا حول لهم ولا قوة.

فهل يدرك هذا المعنى المتعلقون بأذيال المادية الصارخة والنافضون أيديهم من قدرة الله وعظمته؟ وهل يدرك هذا المعنى الغارقون في تشاؤمهم اليائسون من فرج قريب لهذه الأمة المنكوبة المغلوبة على أمرها؟

إن الله ليضع نصره حيث شاء وبيد من شاء وعلينا أن نعمل حتى تصل دعوتنا إلى العالمين، وألا نحتقر أحدا ولا نستكبر على أحد، وعلينا أن نواصل سيرنا مهما يظلم الليل وتشتد الأحزان، فمن يدري لعل الله يصنع لنا في حلكات ليلنا الداجي خيوط فجر واعد؟ ومن يدري لعل آلامنا هذه مخاض العزة والتمكين.

أعظم دروس الهجرة

إننا على أبواب عام هجري جديد يقبل محملاً بما فيه، وعلى أعقاب عام هجري مودع يمضي بما استودعناه نقف متذكرين هجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم .. إنها ذكرى الاعتبار والاتعاظ لا ذكرى الاحتفال والابتداع. إنها وقفة نستقرئ فيها فصلاً من فصول الحياة خطه رسول الله وصحبه. إنها رجعة إلى العقل في زمن طاشت فيه العقول. ووقفة مع الروح في زمن أسكرت الأرواح فيه مادية صخابة جرافة.

إن من أعظم دروس الهجرة وأجل عبراتها "صناعة الأمل".. نعم، إن الهجرة تعلِّم المؤمنين فن صناعة الأمل. الأمل في موعود الله. الأمل في نصر الله. الأمل في مستقبل مشرق لـ "لا إله إلا الله". الأمل في الفرج بعد الشدة، والعزة بعد الذلة، والنصر بعد الهزيمة.

لقد رأيتم كيف صنع ستة نفر من يثرب أمل النصر والتمكين. وها هو رسول الله يصنع الأمل مرة أخرى حين عزمت قريش على قتله.

قال ابن إسحاق: فلما كانت عتمة من الليل، اجتمعوا على بابه يرصدونه متى نام فيثبون عليه.

وعلى كل حساب مادي يقطع بهلاك رسول الله، كيف لا وهو في الدار والقوم محيطون بها إحاطة السوار بالمعصم. مع ذلك صنع رسول الله الأمل، وأوكل أمره إلى ربه وخرج يتلو قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [يس: 9]. خرج الأسير المحصور يذرّ التراب على الرءوس المستكبرة التي أرادت قتله! وكان هذا التراب المذرور رمز الفشل والخيبة اللذين لزما المشركين فيما استقبلوا من أمرهم. فانظر كيف انبلج فجر الأمل من قلب ظلمة سوداء.

ويمضي رسول الله في طريقه يحث الخُطا حتى انتهى وصاحبه إلى جبل ثور، وهو جبل شامخ وعر الطريق صعب المرتقى، فحفيت قدما رسول الله وهو يرتقيه، فحمله أبو بكر وبلغ به غار ثور ومكثا هناك ثلاثة أيام.

مرة أخرى يصنع الأمل !

ومرة أخرى يصنع الأمل في قلب المحنة، وتتغشى القلوب سكينة من الله وهي في أتون القلق والتوجس والخوف.. يصل المطاردون إلى باب الغار، ويسمع الرجلان وقع أقدامهم، ويهمس أبو بكر: يا رسول الله، لو أن بعضهم طأطأ بصره لرآنا! فيقول : "يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟".

وكان ما كان، ورجع المشركون بعد أن لم يكن بينهم وبين مطلوبهم إلا خطوات! فانظر مرة أخرى كيف تنقشع عتمة الليل عن صباح جميل. وكيف تتغشى عناية الله عباده المؤمنين {إِنَّ اللهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} [الحج: 38].

وإذا العناية لاحظتك عيـونها *** نم فالحـوادث كلهـن أمانُ

ويسير الصاحبان في طريق طويل موحش غير مأهول، لا خفارة لهما من بشر، ولا سلاح عندهما يقيهما:

لا دروع سابغات لا قنـا *** مشرعـات لا سيوف منتضاه

قـوة الإيمـان تغنـي ربها *** عن غرار السيف أو سن القناة

ومن الإيمـان أمـن وارف *** ومن التقوى حصـون للتقـاة

يسير الصاحبان حتى إذا كانا في طريق الساحل لحق بهما سراقة بن مالك طامعا في جائزة قريش مؤملا أن ينال منهما ما عجزت عنه قريش كلها، فطفق يشتد حتى دنا منهما وسمع قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومرة ثالثة، وهذا الفارس على وشك أن يقبض عليهما ليقودهما أسيرين إلى قريش تذيقهما النكال، مرة ثالثة يصنع الأمل، ولا يلتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سراقة ولا يبالي به وكأن شيئًا لم يكن، يقول له أبو بكر: يا رسول الله، هذا الطلب قد لحقنا. فيقول له مقالته الأولى: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا} [التوبة: 40].

لقد اصطنع الأمل في الله ونصره فنصره الله وساخت قدما فرس سراقة، فلما استوت قائمة إذا لأثر يديها غبار ساطع في السماء كالدخان، فأدرك سراقة أنهم ممنوعون منه. ومرة ثالثة جاء النصر للرسول صلى الله عليه وسلم من حيث لا يحتسب. وعاد سراقة يقول لكل من قابله في طريقه ذاك: ارجع فقد كفيتكم ما هاهنا، فكان أول النهار جاهدًا عليهما، وآخره حارسًا لهما.

ويبلغ أهل المدينة خبر هجرة الرسول، الرجل الذي قدم لهم الحياة وصنع لهم الأمل, الرجل الذي أنقذهم من أن يكونوا حطبا لجهنم, يبلغهم الخبر فيخرجون كل غداة لاستقباله حتى تردهم الظهيرة.

كيف لا وقد اقتربت اللحظة التي كانوا يحصون لها الأيام ويعدون الساعات؟ قال الزبير: فانقلبوا يوما بعدما أطالوا انتظاره فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من يهود أطمًا من آطامهم لينظر إليه، فبصر برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب، هذا صاحبكم الذي تنتظرون.

فثار المسلمون إلى السلاح، فتلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظاهر الحرة. تلقوه بقلوب تفيض سعادة وفرحًا... وتأمل مظاهر الفرحة الغامرة:

- قال أنس: "شهدت يوم دخل النبي المدينة فلم أر يومًا أحسن منه ولا أضوأ منه"[2].

- قال أبو بكر: "ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة وخرج الناس حتى دخلنا في الطريق وصاح النساء والخدام والغلمان: جاء رسول الله، الله أكبر، جاء محمد، جاء رسول الله"[3].

- قال أنس: "لما قدم رسول الله المدينة لعبت الحبشة لقدومه؛ فرحًا بذلك لعبوا بحرابهم"[4].

وصدق من قال:

أقبل فتلـك ديـار يثرب تقبل *** يكفيك من أشواقها ما تحمل

القوم مـذ فارقت مكـة أعين *** تأبى الكرى وجوانح تتململ

يتطلعون إلى الفجاج وقولهـم *** أفما يطالعنا النبـي المرسـل

رفـت نضارتها وطاب أريجها *** وتدفقت أنفاسـها تتسلسـل

فكأنما في كـل دار روضـة *** وكأنمـا في كل مغنـى بلبـل

وهكذا تعلمنا الهجرة في كل فصل من فصولها كيف نصنع الأمل، ونترقب ولادة النور من رحم الظلمة، وخروج الخير من قلب الشر، وانبثاق الفرج من كبد الأزمات.

ما أحوجنا في هذا الزمن إلى فن صناعة الأمل !

ما أحوجنا ونحن في هذا الزمن، زمن الهزائم والانكسارات والجراحات إلى تعلم فن صناعة الأمل. فمن يدري؟ ربما كانت هذه المصائب بابًا إلى خير مجهول، ورب محنة في طيها منحة، أوَليس قد قال الله: {وَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216].

لقد ضاقت مكة برسول الله، ومكرت به فجعل نصره وتمكينه في المدينة. وأوجفت قبائل العرب على أبي بكر مرتدة، وظن الظانون أن الإسلام زائل لا محالة، فإذا به يمتد من بعد ليعم أرجاء الأرض. وهاجت الفتن في الأمة بعد عثمان حتى قيل لا قرار لها، ثم عادت المياه إلى مجراها.

وأطبق التتار على أمة الإسلام حتى أبادوا حاضرتها بغداد سرة الدنيا، وقتلوا في بغداد وحدها مليوني مسلم، وقيل: ذهبت ريح الإسلام، فكسر الله أعداءه في عين جالوت وعاد للأمة مجدها.

وتمالأ الصليبيون وجيّشوا جيوشهم وخاضت خيولهم في دماء المسلمين إلى ركبها حتى إذا استيئس ضعيف الإيمان، نهض صلاح الدين فرجحت الكفة الطائشة وطاشت الراجحة، وابتسم بيت المقدس من جديد.

وقويت شوكة الرافضة حتى سيطر البويهيون على بغداد والفاطميون على مصر، وكتبت مسبة الصحابة على المحاريب ثم انقشعت الغمة، واستطلق وجه السُّنَّة ضاحكًا.

وهكذا يعقب الفرج الشدة، ويتبع الهزيمة النصر، ويؤذن الفجر على أذيال ليل مهزوم... فلمَ اليأس والقنوط؟

اشتدي أزمة تنفرجـي *** قد آذن ليلك بالبلـج

إن اليأس والقنوط ليسا من خلق المسلم، قال سبحانه: {وَلاَ تَيْأَسُوا مِن رَّوْحِ اللهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 87].

قال ابن مسعود رضى الله عنه: "أكبر الكبائر الإشراك بالله، والأمن من مكر الله، والقنوط من رحمة الله، واليأس من روح الله".

إذا اشتملت على اليأس القلوب *** وضاق لما به الصدر الرحيـب

ولم تر لانكشاف الضر وجهـا *** ولا أغنـى بحيلتـه الأريـب

أتاك على قنـوط منك غـوث *** يمـن به اللطيف المسـتجيب

وكل الحـادثات وإن تنـاهت *** فموصـول بها الفرج القريب

فيا أيها الغيورون على أمة الإسلام، يا من احترقت قلوبهم لآلامها، نعمَّا هذا الألم! وما أصدقه على إيمانكم وحبكم لدينكم! ولكن لا يبلغن بكم اليأس مبلغه؛ فإن الذي أهلك فرعون وعادًا وثمود وأصحاب الأيكة، والذي رد التتار ودحر الصليبيين قادرٌ على أن يمزق شمل الروس، ويبدد غطرسة الصهيونية، ويحطم أصنام الوثنية المعاصرة.

وأنت.. يا من ابتلاك الله في رزقك أو صحتك أو ولدك.

أنت.. يا من جهدك الفقر وانتهكتك العلل وأخذ الموت أحبابك، وعدت في أعين الناس كالدرهم الزائف لا يقبله أحد.

أنت.. يا من أصبحت في مزاولة الدنيا كعاصر الحجر يريد أن يشرب منه، ويا من سدت في وجهك منافذ الرزق وأبواب الحلال.

أنت.. هل نسيت رحمة الله وفضله؟

بقلم: د. عادل بن أحمد با ناعمة

عضو هيئة التدريس بجامعة أم القرى - مكة المكرمة.

المصدر: موقع إسلام أون لاين.

[1] رواه أحمد في مسنده.
[2] رواه الحاكم.
[3] رواه الحاكم.
[4] أخرجه أبو داود.
 
رد: رسولنا- متجدد

السلام عليكم

محمد.. محرر الإنسان والزمان والمكان

حين يحدق الباحث في ملامح الحركة التاريخية قبل وبعد ميلاد محمد صلى الله عليه وسلم فإنه لا يحتاج إلى معاناة ليستجلي حقيقة موضوعية أكبر من أن تتوارى في غياهب الجدل، هذه الحقيقة الموضوعية هي أن هذا الميلاد العظيم كان إيذانًا بثورة كونية شاملة عملت عملها في تغيير علاقات الأشياء بعضها مع البعض، وفي تغيير علاقات الأحياء بعضهم مع البعض، حتى ليمكن القول بأن ما حدث كان تحريرًا كاملا لوضعية الإنسان في الأرض، ووضعية الأرض في الكون، ووضعية الزمان في التاريخ.

أجل، كان هذا الميلاد العظيم إيذانًا ببدء ثورة شاملة، حررت الإنسان والزمان والمكان، ورفعت عنها إصر عبوديات كثيرة كانت تعيق انطلاقها جميعًا، فأخذ الإنسان حريته بيده، وصاغ هوية زمانه ومكانه صياغة جديدة فجرت عناصر الخير في كل شيء، كان احتجاجًا قبليًّا على كل عناصر الخير، فوقف الإنسان على ربوة التاريخ يسدد خطواته نحو الأشرف والأفضل، ووقف المكان ليُلهِمَ ويحتضن وينبت الأروع والأنصع، ووقف الزمان ليفسح ويتيح للأكمل والأشمل!

ولكن كيف؟
كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الإنسان من ربقة عبودياته المتعددة؟
كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم الزمان من قبضة كونه إطارًا للحركة التاريخية الهابطة؟
كيف حرر محمد صلى الله عليه وسلم المكانَ من وضعية كونه صنمًا أو مناطًا لصنم معبود على الأرض؟

القضية جرت بها أقلام كثير من الباحثين، ولكنهم تناولوها من منظور كمي إذا جاز أن يقال، بمعنى أنهم رصدوا كمَّ التحول التاريخي على مستوى سياسي واجتماعي وثقافي وعقائدي، دون أن يفطنوا إلى جدل هذه المستويات وإشعاعاتها التي تشكل خلفياتها الحقيقية، وهو ما نحاول تجليته في هذه السطور..

ولكن.. كيف.. مرة أخرى؟

***

التاريخ هنا لا يستطيع أن يكذب على نفسه.. فإن ثورة محمد صلى الله عليه وسلم من أجل إنسانية الإنسان تكاد تشكل كل ملامح رسالته الشامخة، لأن القيم والأعراف والمبادئ والنواميس والأحكام والشرائع والقضايا والمقولات التي يمكن أن تشكل في النهاية مجموع الرسالة الإسلامية ليست بذات بال إن هي فقدت محور وجودها الصميمي الذي هو الإنسان.

إن قيام الإنسان بهذه المواضعات الإسلامية هو ما يعطيها معقولية وجودها على الأرض، ومن هنا نستطيع أن نفهم أن نزول القرآن "منجّمًا" كان ترتيبًا طبيعيًّا على مقدمة أساسية وهي أن معاناة البشر الكادحين هي بالضرورة محور تنـزُّل الوحي من السماء إلى الأرض، أي أن وجود الشرائع والرسالات هو وجود متوقف على وجود آخر قَبْلي ومسبق وهو الوجود الإنساني، فما لم يوجد الإنسان كان لا يمكن أن توجد الشرائع، وما لم يحفر البشر تاريخهم الحلولي على أخاديد الصخور وأعراف الجبال كان لا يمكن للرسالات أن تحفر تاريخها الحلولي على أخاديد الورق أو في أعراف الطبائع والنفوس!

إذن فقد كان تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للإنسان تحريرًا مقصودًا وقَبْليًّا، ولذلك فإن حجم هذا التحرير يعطي قناعة بأن كل الجراح التي نزفت من محمد صلى الله عليه وسلم كانت جراحًا حميمة إلى قلبه، لأنها نزفت دمًا هنا ورقَأَتْ دمًا بلا حدود هناك، أعني أن كل قطرة دم أو عرق نزفت من جبين محمد القائد الرسول صلى الله عليه وسلم قد استحالت في تاريخ الإنسان على امتداد هذا التاريخ إلى يد برة حانية تمسح عن جبينه طوفان الدم وشلال الدموع.

إن الجراح التي نزفت هناك من جبين محمد صلى الله عليه وسلم وهو يعدل مسار الكون والتاريخ والإنسان، هي التي تتيح لهذا الإنسان أن يقبض في رحاب الكون والتاريخ على إنسانيته بيديه، غير غارق في طوفان الرجعة الذاهلة إلى حرب الأعراق الفاجرة، أو إلى انحناء الجذع الإنساني أمام حجم حجري بليد، أو إلى انصياع في مسارب اللذات غير مبدع ما يبقى على التاريخ عنوانًا على عظمة البشر ومجد الإنسان في الأرض!

كان الإنسان –قبل محمد صلى الله عليه وسلم- يتكئ في قناعته على مسلّمات كثيرة، فأطلق محمد صلى الله عليه وسلم فيه ثورة العقل وثورة الجسد وثورة الروح.. لقد زلزل هذا الإنسان بثورة العقل معاقل الخرافة، وأسوار التجمد، وحوائط الانغلاق، فأطلق لفكره العِنان يجول في أبهاء الزمن والتاريخ والكون والثقافات، يشيد من بعضها ما يراه موائمًا لطبائع التطور، ويشيد على أنقاض بعضها الآخر ما يراه عاجزًا عن مواكبة الطموح البشري في اندفاعه مع تيار التواصل الكوني والإنساني.. وزلزل هذا الإنسان بثورة الجسد مقاصير العنت، ومناطق الخوف، وأحراش الرهبوت، فأطلق للإبداع الإنساني آفاق طموحه المشروعة، وأمّن لخطوات التاريخ على طرائق الخير والحق، وجعل من «القيمة» وحدها مقياس التوافق مع الوجود الإنساني النبيل الذي يرفض أن يشارك في مهزلة الأعلى والأدنى على ضوء مقاييس البطش والإرهاب..

وزلزل هذا الإنسان أخيرًا بثورة الروح تاريخ الهمجية على الأرض، فأطلق لأشواقه العليا أن تلوذ بمناطها الطبيعي، وأن تستريح من قرّها إلى دفء الألوهية.

وهكذا يتوافق إيقاع ثورات العقل والجسد والروح تلك التي أطلق شرارتها الأولى محمد صلى الله عليه وسلم لتؤلف في النهاية هذا الكون المسلم الذي يرفض إنسانه أن يوجد على الأرض بليدًا بلا عقل، وكاسدًا بلا فعل، ومعطلا بلا أشواق، وهذا هو حجم التحول الذي قاده هذا الإنسان النبي صلى الله عليه وسلم في أحلك فترات التاريخ قتامة وجهامة وانطفاء!

***

وليس فعل محمد صلى الله عليه وسلم في تحرير الزمان بأقل من فعله في تحرير الإنسان، وإن كنا نلاحظ منذ البدء أن الفصل بين الإنسان والزمان فصل عشوائي وغير مبرر على الإطلاق، إلا أن التقسيم المرحلي لقيمة الفعل البطولي الذي قاده النبي محمد صلى الله عليه وسلم يحتم أن نقف عند كل مرحلة على مشارف لا نتعدى إطارها إلى إطار آخر حتى لا تختلط التخوم والأبعاد..

إن تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للزمان يتوهج في حقيقة أولية توشك ألا تلمحها البدائِهُ العَجلى، وهي اقتداره العظيم على اقتلاع حركة الزمان بما هو تاريخ من فوضى التدفق العشوائي إلى تحديد الملامح وتجسيد الهويات، بمعنى أن التاريخ الزمني كان إطارًا سائبًا لا تجري داخله حركة عقائدية محددة تبدع للإنسان شوطًا يجريه، أو هدفًا يحققه، أو إنجازًا يضعه على الأرض..

فجاء محمد صلى الله عليه وسلم ليجعل من هذا التاريخ الزمني إطارًا لحركة تبدأ تخومها من الأرض لتنتهي في السماء، أي أن حجم هذه الحركة العقائدية التي أعطاها محمد صلى الله عليه وسلم للتاريخ الزمني محتوىً ومضمونًا، تبدأ بمفردات الوجود الإنساني على الأرض لتتوافق في نهاية الرحلة مع كلية الوجود الإلهي في الأشياء وما قبل الأشياء وما وراء الأشياء!

هذا شيء.. وشيء آخر لا يقل عن ذلك تأصلاً وإشعاعًا.. ذلك هو انتقال محمد صلى الله عليه وسلم بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة للإنسان إلى شواطئ العناق للإنسان، بمعنى أن التاريخ الزمني كان قبل محمد صلى الله عليه وسلم عدوًّا للإنسان يتربص كل واحد منهما بالآخر في محاولة لإجهاض وجوده على الأرض، ولذلك نرى المساحة الكبرى من الإبداع العقلي والفني لإنسان ما قبل التاريخ الإسلامي تغصّ بقتل الإنسان لزمنه التاريخي في قصف هنا، أو لهوٍ هناك، أو حرب غير مبررة هنالك، ربما لإحساس هذا الإنسان بأن الزمن التاريخي يتربص به، فهو يحاول قتله قبل أن يستطيع هو أن يقتله، وكلاهما قاتل ومقتول في نفس اللحظة وعلى نفس التراب! حتى إذا جاء محمد صلى الله عليه وسلم انتقل بالتاريخ الزمني من شواطئ المواجهة إلى شواطئ المعانقة، وشكل للإنسان حاسة تاريخية ترى في اللحظة الآنية إثراءً طبيعيًّا للحظة الحاضرة، وفي الآن الماضي تربة طبيعية لتشكيل الآن المستقبل، استطاع الإنسان بعدها أن يفيق على حقيقة أن الزمن هو إطاره الطبيعي، وأن تدمير الإطار يعني على الفور تدمير الذات الساكنة في هذا الإطار، فعزف عن مناوأة تاريخه الزمني، وعقدا معًا ما يشبه الحلف المقدس، فأحس الإنسان المسلم دائمًا أن الزمن ثروةٌ ينبغي أن تُستغلّ، وعُمرٌ يجب أن يمتلئ، وتاريخٌ لا بد أن يحتوي أروع ما في الإنسان من طاقات وإبداعات!

وما لنا لا نحاول أن نفهم من المواقيت الزمنية الصارمة للصلاة والصيام والحج والزكاة فوق حكمة مشروعيتها حكمة حلولها في وقت معين وزمن بذاته ربما لتحرك في أعماق الطبيعة الإنسانية قيمة الزمن والإحساس بتاريخية كل الأشياء؟

الحق أن حجم التحول الذي قاده النبي العظيم محمد صلى الله عليه وسلم في مجال تحرير الإنسان والزمان حجم يجب أن يظل في مناطق الضوء، لأن به وحده يمكن التعرف على ضخامة العطاء الإنساني والرسالي الذي وهبه لنا هذا النبي الإنسان صلى الله عليه وسلم، الذي حمل في عينيه أحلام مستقبل البشر.

***

فإذا انتقلنا إلى تأمل ملامح الحركة الثالثة وهي تحرير محمد صلى الله عليه وسلم للمكان، لراعنا أن قوة الفعل هنا لا تقلّ عن روعة الفعل هناك، فإذا تخطينا ملاحظة أن الفصل هنا كذلك بين الإنسان والزمان والمكان فصل مرحلي تحتمه طبيعة التأمل والفهم ولا تحتمه طبائع الأشياء لأن طبائع الأشياء ترفض هذا الفصل ولا تزكيه، إذا تخطينا ذلك كله إلى محاولة تأمل قيمة الفعل الذي أعطاه محمد صلى الله عليه وسلم لتحرير المكان تتميمًا لتحرير الإنسان والزمان، لبدهنا على الفور أن علاقة الإنسان هنا بالمكان غير علاقة الإنسان هناك بنفس المكان –بمعنى أن المسرح المكاني الذي جرت عليه أحداث الحياة قبل البعثة المحمدية، ولكن علاقة إنسان الجاهلية بهذا المكان غير علاقة إنسان الحركة الإسلامية بنفس هذا المكان، لأن طبيعة الجدل بين الإنسان وإطاره الطبيعي الذي هو المكان قد وضعت في المنظور الإسلامي على مستوى آخر يرى في الأشياء صديقًا وملهمًا ومحرابًا، إن الأرض هنا تصبح «مسجدًا وطهورًا».. ويصبح المكان قبلة وكعبة ومنسكًا وبيتًا وحقلا وميدانًا وملاعب ذكريات..

وإذا كان محمد صلى الله عليه وسلم قد حرر جبين الأرض من أن تصبح مجرد صنم أو مجرد مناط لصنم، فإن ذلك يعني أن قد حررها من أن تكون بوضعيتها المكانية غير قادرة على الإلهام والعطاء، لأن صنمية الأشياء تعني رفض تعقل الأشياء، أي أن الصنم يتطلب عقلا صنمًا لا يفكر، لأنه إذا تحرك بالفكر رفض على الفور مقولة أن يخرّ لـحَجَر الصنم..

فإذا حرر محمد صلى الله عليه وسلم هذا التاريخ الطبيعي الذي نسميه الأرض، أو نسميه المكان من أن يكون صنمًا أو مناطًا لصنم، فإن ذلك يعني أنه أعطى هذا التاريخ الطبيعي اقتداره الطبيعي على أن يلهم ويحرك ويستثير، بمعنى أن الأرض بهذه الوضعية تصبح مجالا لتأمل الفكر، وطموح العقل، وجسارة الاستشفاف، وما دام ذلك كذلك، فإن رحلة العروج الإيماني قد تبدأ من نبتة طالعة في الصخر، أو نبع متدفق في الرمال، أو شفق هائم على صدر الأفق، أو مضيق متعرج بين جبلين.. وهنا لا بد أن نفطن إلى نداءات محمد صلى الله عليه وسلم المتواصلة التي كان يعقد فيها صداقة كونية بين مظاهر الطبيعة وإنسان هذه الطبيعة، حتى لنراه يدمع وهو يفارق مكة، ونراه ينحني على الزرع الطالع في تعاطف حميم، ونراه يقبل الحجر الأسود، ونراه يميط الأذى عن الطريق..

إن هذا الفعل الرسولي ليس فعلا عشوائيًّا يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار في عفوية ساذجة ولكنه يمتد من داخل الذات إلى محيط الإطار ليشكل هذا التواصل الوجداني بين الكون والإنسان، ربما ليستحيل الإنسان في الكون إلى طاقة متلقية وواهبة تعطي الكون معنى أن كان ومعنى أن يكون، وهذه هي قيمة الفعل في تجاوب النقائض والأضداد!

لا أدري بعد.. هل يمكن أن تغيم مقولة أن محمدًا صلى الله عليه وسلم حرر الإنسان والزمان والمكان منذ لحظة وجوده على الأرض فاعلا وغلابًا؟ أم أن هذه المقولة بعد تأمل كل هذه المفردات يمكن أن تكون كما يكون طلوع الشمس في أعقاب ليل بهيم، حركة كونية لها ثقل الحركة بكل أبعادها الهائلة، ولها جلال الكون بكل أسراره وغوامضه وضوافيه؟

أعرف أن الاختيار الأخير هو الأصوب، وأن ما عداه خرافة يجب أن نهزمها في عقل التاريخ!

موقع قصة الاسلام
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top