رواية ليلة طويلة في الشاطئ بقلمي.

"هشام الأوراس"

:: عضو مُشارك ::
إنضم
3 أكتوبر 2017
المشاركات
141
نقاط التفاعل
673
النقاط
26
محل الإقامة
هناك
الجنس
ذكر
rzz-ojl.gif

مقدمة:

لم أكن ممّن يهتمّون بالكتابة في أيامي حياتي كلها، ولم أتوقّع يوماً أن أفكّر فيها كمنفذٍ لي، كمخرجٍ من الحياة الثقيلة التي أصبحت أعيشها، الفراغ يملأ حياتي على شكل مخيف والإرهاق من التفكير المفرط يطعن في استقراري وهدوئي على نحو يقطّع أعماقي، وقراءة الكتب والروايات الإليكترونية تعيق عيناي من الرؤية بشكل واضح، علاوةً على الوحدة التي أصبحت راهباً فيها بطقوسٍ تخالف كل الأعراف، لمنط حياة إنسان بدائي وهمجي، يعيش في كهوف أعماق بارباريا العظيمة ...
منذ أيام قليلة تكوّنت في دماغي رواية لا أعرف إن كانت طويلة أو قصيرة، بشخصيتين رئيسيتين، شاب في الثلاثين من العمر ورجل تجاوز الخمسين من عمره، الشاب اسمه" عمر" والخمسيني باسم "جمال" و "أروى" وهي شخصية ثانوية لن تهمنا كثيرا لامرأة متوفية أحبها جمال بجنون في مغامرة لنهار وليلة واحدة بمدينة وهران غرب الجزائر، في رحلة إلى الماضي ونبش الذاكرة والحب والفقدان والخيبات والأمل والوعود التي تلفظ أنفاسها الأخيرة، مع تحليل للحياة التافهة التي يحياها كل منهما ،مع حبٍّ عظيم وهائل يحمله الخمسيني في أعماق قلبه الذي لم يتوقّف يوماً عن النزيف، وأحداث يعيشانها ومواقف يتعرضان لها في ليلة طويلة.
في الرواية أيضا شخصيات أخرى لا تهم كثيرا، وسأحاول الكتابة فقط دون ترقيم أو تقسيم إلى أجزاء، لاحتمالية إضافة حدث ما أو موقف ما من حين لآخر، فالخيال لا يمكن كبحه ويتوجّب توفير مساحات شاسعة له لخلق الإبداع أو على الأقل لحرق الأشجار التي تعيق رؤية الإنسان لذاته وللعالم ....

كتبت هذه الرواية في منتدى آخر، لكنني سأكملها هنا في هذا المنتدى أحسن، لأنني فعلا أشعر باستقرار هنا معكم ..
 
آخر تعديل بواسطة المشرف:
الخامس من نوفمبر وصباح يبدأ بصراخ عاملاتِ المطبخ والتنظيف، سربٌ من النّساءِ التافهاتِ تتعالى أصواتهنّ من أجل توريط إحداهن، لغسل الأطباق التي تناول فيها العمّال طعامهم ليلة أمس، وتمّ رمي كميّاتٍ مخيفة من الصحون، التي كانت بداية حرب اعتدت أجواءها. السماء غاضبة جدّاً هذا الصباح على غير العادة، تلقي بظلامها على الأرض في وقتٍ مبكِّر، كتمديدٍ لليلةٍ لم تستنفذ تعاويذها، وسط أجواءٍ مخيفة لتَسايُرِ الغيوم جاريةً بسرعة كأنّما تستحضر الموت، وبعضٌ من قطراتِ المطر تتساقط كأوراق الأشجار، خفيفةً وبطيئة غير راضية على مغادرة مكانها، كل شيءٍ يبدو ساكناً وهادئاً في الخارج وكأنّه يوم الحساب، أخرج مسرعاً نحو البوابة الكبيرة المخصصة للشاحنات، أجرّ قدمايَ بخطى طويلة محاولاً الهرب من هذا السكون الذي خيّم فجأة على المكان، لم أكن لأسمعَ أيّ أصواتٍ أخرى لو توقّفتِ النسوة عن ضجيج صارخ يهزّ المكان وضحكاتٍ مثيرة للإشمئزاز تبعثُ القرف لمسافة طويلة، لطالما كان صوت النساء يُحدِث فجوةً عميقة في أذناي، حتى أنّه قد يتّفق لي في كثير من الأحيان على أن تبقى أصواتهنّ تطاردتي طوال اليوم دون انقطاع، حتى أضع لها حدّاً عند حلول الليل، بمقاطع موسيقية عالميّة عن الحرب والحب، أسافر بها عبر الزمن ملقياً بكل تركيزي عليها، هارباً من ضغوط الحياة وأعبائِها التي تنهش العظام.
المواصلات في هذه البقعة السّامة من الأرض شبه منعدمة، الحافلات تتأخر بالمرور على هذه الطريق الرديئة، أنتظر هنا منذ أكثر من ساعتين وكانت كل الحافلات التي مرّت مملوءة عن آخرها، ولا مكان للوقوف بين الراكبين. حتى تتوقف عندي سيارة مهترئة لا لون لها يعود صنعها إلى ستينيات القرن الماضي، يقودها رجل تجاوز حاجز الخمسين من العمر، يدخّن سجائر الحشيش، وبين رجليه عند المقعد زجاجة من النبيذ، وهو يلقي ابتسامة مصطنعة ويرميني بعينيهِ الداكنتين بنظراتٍ مخيفة لتبدو وكأنهما فوهات مسدّس مصوّب نحوي، كان شعره الكثيف متشبّكاً ليبدو أنّه لم يغسله منذ أسابيع، وجلد يديه بدأ بالتهدّل لغياب الشمس وانعدام النظافة، وفضلات الطعام على لحيته البنيّة اللون، وحينما تفحّصني من قدماي إلى آخر شعرة في رأسي خاطبني قائلا : أأنت ذاهب إلى السانيا؟، فأجبته نعم، قال لي ضاحكاً : هيا إركب سيارتي الفخمة ولا تفوّت عنكَ رحلةً مميّزة كهذهِ، مؤكّداً لي أنها لن تتاح لي فرصة كهذه في كل حياتي القادمة !!
فتحت الباب فسقط كاملاً يكاد يدهس قدمي التي سحبتها بسرعة خيالية دون وعي مني، كان واضحاً أنّه ثقيل جدّاً حينما انفلت من يدي التي لم تحكم القبض عليه، وانفجر السائق بموجة ضحكٍ هيستيرية متنحيّاً عن مقعده قادماً نحوي وهو يقول لي: إركب صديقي من الواضح أنّه لا حظّ لك، فلأول مرة يحدث هذا لعروسي (يقصد سيّارته الرثّة) ، لكن اطمئن سوف أصلح الأمر، أنت إركب فقط ولا تلقي هم. ركبت السيارة على على مقعدٍ من حديد أرهقه الصدأ، من الواضح جدّاً أنّه تمّ وضعه حديثاً عند أحد الحدّادين دون مقابل مادي، فلا يمكن لإنسان أن ينفق على عربة قذرة كهذه، كنت أطرح الكثير من الأسئلة لنفسي عن شخصيّة هذا الإنسان، أتأملّ المقاعد الخلفيّة التي اتّخذ منها غرفة ينام فيها، فيما كان هو يعيد تركيب بابه اللعين، استغربت نظافة المقاعد الخلفيّة على عكس كل شيء يتعلّق به من عدم اهتمامٍ منه بمظهره وفوضوية سيارته وكل الوسخ الذي يحيط به، انتهى من التصليح ثم بدأت المغامرة التي لم أكن أتوّقعها تماماً وبأيّ شكل، لأنني لم أكن مبرمجاً لأي شيء في ذلك اليوم، ولا أعرف كيف قرّرت الخروج من مكان العمل وأين كان عليّ الذهاب، كلّ ما في الأمر أنني شعرت بضيق شديد ورغبة جامحة في المشي، ومشاهدة أعداد كبيرة من الناس أمامي، وهم يعيشون يومياتهم بشكل طبيعي، فأبدّد شعوري بالوحدة وأبثّ الروح في جسدي من جديد، لم أكن أعرف أنّ رحلتي معه لن تنتهي عند مدينة السانيا فقط، كان حديثنا معاً لمسافة عشرون كلم كافيةً أن نتحسّس الألم في أعماق أرواحنا، ولم أكن لأعرف أن الرجل يمكن أن يحمِلَ في قلبه كلّ ذلك الحب لإمرأة في ذلك العمر، حتى أنّه لم يتزوّج بعد رحيلها ولم يجد للحياة معنى بعدها على حدّ قوله !!

يتبع ...
 
بدأ الحديث بيننا بالشكل المعتاد بين سائق وراكب، نتبادل الأسئلة والكلام، استطاع أن يعرف من لهجتي أنني لست من أبناء الولاية قائلا لي:
- أنت لست من هنا حسب طريقة كلامك، أظنّ أنك من الشرق، ملامحك ودماؤك تبدو من مناطق الشاوية، أنت من سكّان الجبل دون أيّ شك !
قال ذلك وهو واثق كلّ الثقة، ولم يكن الأمر غريباً بالنسبة لي، لأنني كثيراً ما صادفت أناساً يعرفون عني ذلك بنفس طريقة كلامه.
أجبته دون النظر إليه: نعم أنا من الشرق، ريفيّ من أعماق الأوراس ولا أعتقد أنني لا أبدو ريفيّاً هنا في وهران أو في أيّ مكان آخر، فهذه حقيقتي الوحيدة التي لا أخجل منها، نعم أنا ابن جبل وُلِدَ في حفرة لعينة بطريقة بدائيّة ضاربة في القدم ...
كانت أجابتي له قاسياً نوعاً ما، حتى أنني فهمت من ابتسامتهِ الصغيرة أنّه مستاء من ردّة فعلي، لأنّه لم يكن يحمل في سريرتهِ أيّ سوءٍ لي، ولم يقصدِ الإهانة على ذكره الجبل .. ثم سألني عن اسمي وسبب وجودي هنا في المدينة وهو يحدّثني بابتسامة التمستُ فيه التفهّم، وكأنه يبذل جهداً لانتقاءِ كلماتٍ لن تثير غضبي مرّةً أخرى أو تجعلني أحسّ بالإهانة. أخبرته أنّ إسمي"عمر" وأبلغ من العمر ثلاثون عاماً أعمل في شركة خصوصيّة فقاطعني:
- هل أنت متزوج ؟
- ضحكت وأجبته :
لا ليس بعد، ولا أعتقد أنني سوف أتزوّج يوماً !!
أخبرته هذا وأنا أفكّر في ما سأقوله له بعد ذلك، توقّعتُ سؤاله لي مرة أخرى وفعلاً سألني : ماذا يعني الزواج بالنسبة لك؟
كان مفهوم الزواج عندي واضحاً، ولم يكن الأمر يستغرق الكثير من الوقت كي أبوح له بذلك، كان فارق العمر بيننا أكثر من عشرين عاماً، لست أدري لِما اعتقدت أنّ الإجابة التي كنت أملكها ستكون تافهةً بالنسبة له، دائماً ما أعقّدُ الأمور في عقلي وتنجح الأفكار التافهة أن تعبث بي كيفما تشاء،لكنني أجبته بعد تفكير عميق:
الزواج بالنسبة لي فكرة ليست صائبة تماماً، ومشروع يبدو لي فاشلاً، هو عمليّة سريعة تأتي بها بمشكل من بيت آخرين وتقوم بوضعها في بيتك، مضيفاً على نفسكَ كثيراً من الأعباءِ التي تحجبها ملذّات سخيفة، ناهيك عن المسؤوليات والإلتزامات الناتجة عنه كعلاقة ....
لزمت الصمت قليلاً ثم أضفت أقول :
الأمر لا يطاق صدّقني فلا يمكنني تحمّل كل ذلك، الزواج فكرة حقيقيّة تستحق المغامرة، لكن ليس الآن، وليس مع أيّة امرأة متاحة ... الأمر معقّد بالنسبة لي أيها السيد الكريم .. ليس لي ما أقوله أكثر، هذا كل ما في الأمر .
كنا قد وصلنا السانيا دون أن أنتبه إلى ذلك، سألني عن غاية مجيئي وما الأشغال التي يجب القيام بها، دون أن يعلّقَ حرفاً واحداً على كلامي، أحسست بالإهانة وتملّكني الخجل، صدقت مخاوفي فعلاً وكان مفهومي للزواج تافهاً وغبيّاً كما توقّعت تماماً، حتى أضاف يقول لي:
عمر ... إن لم تكن لك أعمال ضرورية هنا، ما رأيك أن نتجوّل قليلاً، لنذهب إلى مدينة عين الترك، هذا الجو مناسب لها ولا أتوقّع ازدحامها في جوٍّ ماطرٍ كهذا، أعتقد أنّها ستمطر بغزارة، كنت قد سمعتهم عبر الراديو ليلة أمس يتحدّثون عن تساقط غزير للأمطار ...
ثم أضاف قائلاً :
مفهومك للزواج ناتج عن معرفة حقيقيّة لذاتك، وقد راق لي تعبيرك عن ذلك حينما وصفت المرأة بمشكلة، النساء عبارة عن مشاكل عويصة عندنا نحن الرجال، ولك أن تأخذ مني أنا، عمّك جمال البالغ من العمر خمسة وخمسون سنة، أعيش وحيداً بعد كل هذه السنوات الطويلة، وكان كل العذاب الذي لاقيته من النساء ... ليس كل النساء طبعاً، هي امرأة واحدة في حقيقة الأمر، وإنّكَ بحديثك أثرتَ في داخلي رغبة شديدة برؤيتها، إنّما لهذا فقط أرغب بالذهاب إلى عين الترك، أريد شرب الجعة والتدخين بشراهة وسأكون مسروراً لو أنّك انضممت إليّ ...

يتبع ....
 
في الحقيقة لم أكن لأوافق على الذهاب معه، وتردّدت في ذلك أكثر من مرّة قبل أن أوافق على مرافقته، فكّرت في قصّة حبّه ورغبتُ في معرفة ما يلفّه من غموض، وجدت فيه مغامرة تستحق مرافقتها، لاسيّما حينما امتلأت عينه بالدموع، حتى أنّه استحى مني عندما طلب مني مرافقته، لقد كان حزنه شديداً حقّاً، وكنت أسمع تلك التنهيدات التي يطلقها بصمت وهي تفتح جميع جراحهِ أمامي دونما أن ينجح في إخفائها عني، أدركت ذلك حينما حدّثني عن الجعّة، ما أدراه أنني أشرب؟ وإن كنت لا أشرب الكحول وهو لا يعلم !!. لكن لا يهم فماذا أخسر إن ذهبت معه، الأمر لا يستغرق كثيراً من الوقت، وإن يكن .. ليس لي فعلاً ما أقوم بها هنا، لربّما خرجتُ فقط من أجل هذا الرجل المسكين، لكي ألتقي به وتجمعني الصدفة به بهذه الغرابة !!
ذهبت معه في سيّارتهِ التي لا تختلف كثيراً عن تابوتٍ بعجلاتٍ تعتمد في سيرها على قدرةٍ إلهيّة عجيبة تحرس أرواحنا، فالطريق من وهران إلى عين الترك مليء بالمخاطر ونحن على هذه الدبّابة الكلاسيكيّة دون مكابح، كنت خائفاً لكنني هادئ ولا أشعر بأن شيئاً سيّئاً ما سيحدث لنا. كان البحر يبثّ السلام إلى قلبي بنسيمه الدافئ ومنظره يزداد روعة وجمالاً مع بداية تساقطِ الأمطار، في حين كان عمّي جمال يقوم بتشغيل أغنية للشاب خالد بعنوان "البيرّة عربية والويسكي ڨاوري" ويهز رأسه ويعيد الغناء مقلّداً صوت خالد باحتراف لا مثيل له، أنا أيضاً كنت مولعاً بأغاني الكينغ خالد، كنت أسمعه حينما كنت في سن المراهقة مع أصدقائي الملاعين عند سفح الجبل، ندخّن لفائف الحشيش ونتحدّث في أمور لا أخلاقيّة كالعادة السريّة واللواط والجنس. سألت عمي جمال قائلا:
لاشكّ أنّك حضرت بداياتِ الشاب خالد في مشواره الغنائي، حدّثني قليلاً عن تلك الأجواء، كيف كانت الحياة في زمنكم كشباب ؟
راح عمّي جمال يقصّ عليّ بداية انحرافه على حدّ قوله، ويحكي لي عن تجربته الطويلة في الملاهي والسهرات والثمالة، كان يحكي بصوتٍ هادئ أقرب إلى الهمس، فهمت منه عدم رغبتهِ في حديثٍ كهذا، وأدركت بعد وقت وجيزٍ أنني أخطأت في الطرح لفتح موضوع فيه من الذكرياتِ الصبيانيّة مالا يمكنه أن يفصح بها لغريبٍ قد يأخذ عنه نظرة غايةً في السوء، فلم أطلب منه رفع صوته أو أن يخفض صوتَ الأغنية التي بقيَ غارقاً في أنغامها وهو لا يزال يروح برأسه يميناً وشمالاً.
بعد هذا المنعرج الأخير سنطل على عين الترك، هكذا خاطبني عمّي جمال بصوتٍ مرتفع، ثمّ انفجر ضاحكاً وهو يصيح بأعلى صوته :
ها قد وصلت إلى جنّة المخذولين، مدينة الزناة والعراة والشياطين التي لا تنام الليل وتعذّب البؤساء في النهار، ها قد وصلت إلى آخر منفى لي ولروح حبيبتي "أروى"، أنا قادم من أجل طيفكِ وبقايا روحكِ الطاهرة يا امرأة جوزيّة اللون يا ملكةً من ملكاتِ الجنّة، يا وريثة الخطيئة الأولى في الوجود ......

يتبع ....
 
لم أستغرب كلّ ما تفوّه به من كلام، ولم أتفاجئ بكل الحب الذي يحمله في أعماق روحه المنكسرة، كان الكلام الذي راح يصرخ به دليلاً على أنه ثمل تماماً، وما كان الأمر صعباً على وغدٍ مثلي أن يميّز سكره الذي تحسّسته قبل ساعة من الآن، كنت أفكر في رغبته للشرب أكثر وهو على هذا الحال، وأستبق الأحداث لما بعد الشرب وأرى ما يمكن أن يحدث لنا، هذا الخوف من المصير الغامض والمجهول يؤرّقني ويطعن في قراري بالمجيء معه، لكنني لا أقدر على تركه هنا وحيداً لأسباب لا أفهمها، أخبرته أن يتوقف عند مطعم "علي القبايلي" لتناول طعام الغداء، فالجوع تمكّن مني ولا طاقة لي على التحمّل أكثر، ففي العادة يصيبني صداع نصفيّ يدفعني إلى حالاتٍ من العنف والاضطرابات النفسيّة لعجزي التام على مواءمة الآلام التي تنتج عنه ،كانت الساعة تشير إلى الثانية عشر ونصف وهو الوقت المناسب لتناول الطعام، كان عمّي جمال يسمعني وأنا أشرح له واستفسر عن المطعم الذي أخبرته عنه، هو يعرف المدينة جيّداً وللحظة وجيزةٍ توقّف عند باب المطعم رافضاً القدوم معي ولا رغبة له بالأكل، كان النبيذ قد سحقَ معِدته الخاوية سحقاً مروّعاً وكان لابدّ أن يأكل شيئاً ما يساعده على الثبات، أصرّيت عليه بالدخول معي فما تردّد عن النزول من سيارتهِ القذرة، حاملاً في يدهِ حجراً كبيراً أخرجه من صندوق عروسهِ التافهة دون فتحه، حتى ظننت أنه التقطه من الشارع مستغرباً عدم وجود الحجارة نهائياً. قام عمّي جمال بوضع الحجرة أمام العجلة الأولى،كحاجزٍ يمنعها من التحرّك غير مبالٍ تماماً بمن حوله من مجموعة من الأطفال الحقيرين وهم يستهزؤون به بعباراتٍ جارحةٍ قابلها ببرودٍ أقرب إلى برود الجثث. تناولنا طعاك الغداء واستعدنا نشاطنا واستفاقَ جمال الثمل من سكره ليطالب بالمزيد من قنيناتِ الجعّة الباردة والمنعشة، وما كان علينا إلاّ التقدّم عبر شارعينِ حتى نبلغ البار الذي يعرف فيه البائعين من كثرة توافده عليهم، وما إن دخلنا معاً حتى اسقبله اثنين من الشباب استقبالاً حافلاً والسعادة بادية في وجوههم.
فيما كانَ عمّي جمال يتبادل التحيّة والكلام مع أصدقائه، كنت أنا أطلب ما يكفينا من جعّة، أضفت عليها زجاجة من الويسكي الأيرلندي المنعش وقمت بوضعها في السيارة منتظراً رفيقي البائس للذهاب إلى أيِّ زاوية هنا في المدينة الفاجرة ...
لم يستغرق جمال كثيراً من الوقت ليتخلّص من الشّابينِ الأحمقين، وركب سيارته المهترئة، شغّل المحرّك عند الضربة الأولى وناله ذلك من الإعجاب ما ناله، يضرب المقود بيديه فيقبّله وهو يقول :
نعم ... هذه هي حبيبتي المطيعة والحنونة، هذه آخر شيءٍ يحمل ذكرى أروى، تلك العاشقة الفاتنة، صاحبة الجمال الخارق، وأميرة من أميراتِ السماء، هنا تماماً على هذا المقعد حيث تجلس الآن يابني، هنا كانت تجلس أروى وتفتح لي زجاجاتِ النبيذ وتمرّرها لي الواحدة تلوى الأخرى، في هذه السيّارة كانت بداية حبّنا، وعلى هذه السيارة غادرتِ العالم بين يدايَ هاتين، اللتين لم أستطع أن أحقّق بهما أيّ شيءٍ بعد ذلك إلى غاية الآن، سوى كميّات هائلة ورهيبة من زجاجاتِ الجعّة التي أعود بها كلّ ليلةً أجرّ عذاباتِ الشوق والفراق، لقد كان موتها قاسياً على قلبي ... قاسياً جدّاً على نحوٍ عظيم ...
هكذا راح يردّد عمي جمال وهو يفتح أول زجاجة بيرّة والسرور يبدو عليه واضحاً كلّ الوضوح، فيما بقيت أنا أعيد سمع كلامهِ همساً في أذني، وأحاول الوصول إلى نهايةٍ كل تعابيره وأشعارِه، لقد كان يبدو رومانسيّاً حالماً ، وملامح الشباب والوسامةِ تعيد إنتاج نفسها في بسمتهِ تلك. إن هذه النوعيّة من الناس يتميّزون عن غيرهم في البوحِ كلّمَا تحسّسوا الأمان في الآخرين، ليس ذلك الأمان الذي يتوهّمهُ الجميع من الحمقى الذين ينخدعون في نهاية الأمر ويعانقون وِهادَ الخيباتِ عندما يتمّ طعنهم، إنّما الأمان الذي يكتسبه رجل ناضج فعلاً من احتكاكٍ طويل بالبشر، ذلك الأمان الذي وُلِدَ من رحمِ تجارب عديدة في الحياة مِمّا لا يخذله في أيّ حالٍ من الأحوال، كان واضحاً أنّه إنسان يعرف ذاته جيّداً وكانت فلسفته في الحياة تبدو لي مفهومة على نحوٍ يمكنني رؤيته في سلوكيّاتِهِ وطريقة كلامه، كان رجلاً حكيماُ حقّاً وجدَ في القرفِ بوابة للولوجِ في أعماق ذاتِهِ وكنت أتابع حركاتهِ وتصرّفاتِه دون غفلة وبحرصٍ شديد .. وإذا بهِ يقدّم لي البيرّة وهو يقول :
أشرب يا عمر .. أشرب واحتفل معي، لقد جئنا من أجل هذا ...
ثم أردف يقول :
نحن الآن ذاهبون إلى الأندلسيات، ذلك الشاطئ الذهبي الواسع، أين ترمِي الجميلاتُ بثمارِهنّ في فصل الصيف، لكي تداعبها الرمال الإلهية ويصنعنَ حروباً في رغباتِ الرجال والأمواج. هنا في هذا الشاطئ التقيت "أروى" أول مرة،لا يزال طيفها يلاحقني أتوقّع أنني سوف أجدها هنا اليوم ، هي تعشق المطر، لاشكّ أنها تغمض عينيها الآن على الشاطئ، فاتحةً ذراعيها رافعةً وجهها إلى السماء، هي تحبّ أن تتحسّس كلّ قطرة مطر تسقط على جسدها، آه على شعرها الذهبيّ حينما يبلّله المطر، وما أجمل هدوءها وهي تدور بصمتِ وهدوء الملائكة ...
قاطعته قائلاً : لابدَّ وأنها كانت امرأة تبعث على الحياة والاستمتاع، لاشكّ أنك كنت تقدّس الحياة والوقت حينما كنتما معاً !!
أجابني بضحكةٍ حقيرة، وكأنه يستهزأ بكلامي لكنني لم أرد عليه بشيء، ثم عمّ علينا الهدوء وتوقفنا عن الكلام غارقين في صمتٍ تطعن فيه أصواتٌ مزعجة من سيّارتهِ اللعينة التي توقّفت بنا فجأة .....

يتبع ...
 
كان من حسن حظّنا أننا نسير على طريق منحدرة، سهّلت علينا عناء التوقّف عند مكان واسع، وراحَ جمال يفتح بابه ليتفقّد سبب توقفّ المحرّك بذلك الشكل المفاجئ، وهو يبلقي بابتسامةٍ سخيفةٍ مدلّلاً عربته التافهة مخاطباً لها متجاهلاً وجودي وكأنه نسيَ تماماً حضوري معه.
كانت السماء تمطر بغزارة، مع هبوبٍ قوّي للرياح التي تطعن في آخر محافل الهدوء، وما لفت انتباهي هي أمواج البحر البعيدة، تبدو كنجوم ناصعة تتلألأ من عالم آخر، تنادي الأرواح المتشرّدة، والأجساد الخاوية التي تشبه المباني المهجورة، كان لون البحر يقترب إلى السواد، والظلام يخيّم في أعماقه، إلّا تلك الأمواج التي تشكّل جيشاً من النور وتجري في مسارٍ قصير يختفي تماماً في وقت ضئيل، كنت غارقاً مع المشهد حتى الشرود، لأستفيق على جمال وهو يتبوّل واقفاً مقابلاً البحر في حالةٍ مقزّزةٍ تثير الغثيان ...
عاد إلى السيارة وجلس على مقعده، ثم سألني قائلا:
هل تتوقع أن يشتغل المحرّك عند الضربة الأولى ؟
أعتقد أنّكَ لا تتوقع ذلك، الإحباط واضح على وجهك، ولست سعيداً بهذه الرّفقة، لكنّني أدرك جيّداً أنّك ذكيّ بما يكفي لتجدَ ما يثير فضولك في كائن منتهي مثلي، إنسان بائسٍ وغارق في الطّين، لا يجيد التعاملَ حتى مع نفسه ... لكن لا يهم، دعني أحدّثك قليلا عن أروى، فلا بد أنّك ترغب بمعرفة الكثير عنها ولربّما كان هذا سبب مجيئِك معي وتحمّلك لكل هذا الشقاء، أنظر إلى الماء كيف يتسرّب إلى هذه السيّارة، وهذه الفوضى العارمة التي تحيط بك منذ ركوبِكَ معي ... دعنا من كلّ هذا، لنسلم بالأمر فأنت أيضا ذقت من الألم ما ذقت، وشربتَ من كأس المرارة ما شربت، فقد لاحظت الألم في عينيكَ الذابلتين والنائمتين، جفونك الداكنة تعكس حجم الخيبة التي أثقلت روحك، فلا شكّ أنك أدمنت المخدرات والوحدة أنت أيضا، وإلا لما شاء القدر أن يجمع بيننا على كلّ حال، فأنا إنسان لا أمل منه، وقد نسيت كيف أحيا عندما نسيت نفسي في هذا المكان قبل أكثر من خمسة وعشرون سنة، حينما شهدت آخر نفس لأغلى مخلوقٍ بالنسبة لي في الحياة، ليصبح العالم بعدها فارغاً على نحوٍ مخيف، وكأنّما كانت هي كلّ البشرية، وكأنما الحياة فقط تعني وجودها ...
توقّف قليلاً عن الكلام وأشغل المحرّك من أول ضربة ولم يبدِ أيّة ردّة فعل كما توقّعت، وانطلق يمشي ببطء وهو يعتمدُ الصمت، ينظر إليّ بنظرات متقطّعة، كأنّه يريد مني أن أفهم كلامه الأخير !!
وفيما كان هو يقود ويماطل في صمته، كنت أنا قد أدركت استحالة كلامه، وأدركت أنه بالضرورة لي أن أقول أي شيء، فهمت أنّه يريد معرفة مدى فهمي للحياة، ربما كان يساعده ذلك في البوح أكثر، فقد كانت عيناه تفضحان كلّ العذاب الذي يطوّق قلبه، حتى أنّ طريقة كلامه معي كانت أكثر جدّية من قبل، وآثار السكر لا تبدو عليه، كان يخاطبني بمشاعره وما ينهكه من وحدة وحزن وشعور بالإغتراب، ويوجّه كلامه لظميري أو لقلبي للشعور به، وكأنّه كان يتسوّل العطف والفهم وحسن التفهّم لكي يتحدّث أكثر، كان يرغب بالكلام دونما توقّف، لكنه لا يراهن على الجهد الذي سيبذله في ذلك لو أنني لم أقدر على احتواء آلامه، هو لن يتحمّل حجم كلّ الذكريات التي تندفع في قلبه، وكأنّما يراها ستشقّ صدره لتنفذّ من أعماقهِ خارجةً دون أن يحتضنها شيء، وإنّما لأجل ذلك فقط أغلق كلّ الأبواب في وجه الحياة وعاش في وحدة طويلة، قانعاً بمصيره، يتغذّى على الذكرياتِ التي تطفو على سطح ذاكرته، متسلّحاً أمامها بحالاتٍ متكرّرة من اللاوعي، باستهلاك ما تيسّر من مخدرات تساعده على تقبّل نصيبه في الحياة ....
كنا قد وصلنا إلى الأندلسيات، وركن عمّي جمال السيارة في الشاطئ، على الرمال، وجهاً لوجه مع البحر، فتح لنا زجاجتين من الجعّة فيما كنت أحضّر سيجارة من الحشيش، ففي العادة لا أشرب إلّا وأنا منتعش بنشوة الزطلة، بل حتى أنّني لا أقوم بأيّ عمل من الأعمال بدونها مهما كان تافهاً وسخيفاً، ولا يتطلّب مني أي جهدٍ ولو كان ضئيلاً، فلا أراهن على نجاحي في أيّ أمر من الأمور، وهذا سبب ركودي في الحياة خلال السنواتِ الماضية. هكذا رحت أحدّث عمي جمال وهو يصغي إلي ولا يرفع عينيه عن عينايَ، ثمّ أضفت قائلا :
لأكون صريحاً معك أيّها السكران المعتوه، لنتحدّث بجدّية أكثر، فأنا لن أكون معك متصنّعاً بالمرّة، وسوف أعطي رأيي فيكَ بكل وضوح، دون تملّق أو إطراء، فقط دعني أقول أنني أحترم فلسفتكَ في الحياة، وأنا لا ألقي اللوم عليكَ وعلى ما أرهقك من عذاب، نحن الآن نشرب الجعّة معاً وهذا في مجتمعنا هو فعل لا أخلاقي تماماً، لكن لا يهم، لابدّ لنا وأن نتمسّك بأخلاقنا الآن، من الطبيعي أننا سنتصرّف حسب أصولنا، الخمرة تجبر أمثالنا على أن نكون صريحين، ولا نقول إلّا الحقيقة، الجعّة تطرد الكذب بالنسبة لي، ولا تتجح معها في إخفاء الألم أو تزييف الحقائق، وأنت مثلي دون أيّ شك...
حسناً أيها السيد دعني أقول أنّ طريقة معرفتِك لذاتك حينما اعتدت على القرفِ احترمها جيّداً، فأنا أرى أننا جئنا إلى هذا العالم لنكتشف ذاتنا، وليس لشيء آخر، فمتى أدرك الإنسان ذاته واصل حياته على ما تنتج ذاته الحقيقية دون تكلّف وتصنّع وابتذال. دعني أقول لك باختصار، أنت مثلاً وجدت في القرف كبوابة للولوج عند نفسك كما هو واضح عليك، شعرك الكثيف المتشبّك والمتسخ، البول على ملابسك، والجعة تقطر من لحيتك، ومعطفك هذا القبيح، كل هذا شيء من ذاتك، لذلك فهي لا تشكّل لك أي مشكلة للعيش معها، تدركَ كم أنّ الأمر مقزّز وتقول في نفسك نعم أنا مقزّز، حتى اعتدت الأمر وأصبحت لا تبالي تماماً، لكن اطمئن، أنا أيضاً اعتمدت على الألم لكي أعرف ذاتي وألامسها أخيراً، ولابد أنّك حكيم لتدرك ذلك جيّداً، فلا أتوقّعك أبلهاً ولا تقدر على فهم إنسان في حديث قصير ..

يتبع ...
 
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يسعدني كثيرا جدا ان اقرا لك
احب اسلوبك كثيرا جدا ..
في المتابعة باذن الله
ارجو تقبل مروري
تحياتي احترامي وتقديري لشخصكم الكريم
 
سعيد بتواجدك هنا آنسة، وسأكون سعيدا لو تعطين رأيك في ما أكتبه هنا، أنا مستعد لتقبل الآراء والنقد، هذا سيشجعني ويلفت انتباهي لأكون أكثر حرصاً في اختيار الأناقة الأدبية المناسبة
تقبلي تحياتي
 
كل السعادة لي والله واتشرف بان اقرا لقلمكم الراقي
لو لم يعجبني وخاصة اسلوبك لما كنت اتتبعك دائما .. ومنكم نتعلم سيدي الفاضل وانا من يجب ان تطلب رايكم حين تكتب وليس انتم ههههههههه
اني اقرا المحتوى والمعنى ولا اهتم بالاسلوب الادبي ولا ارقى ان انتقد واسلوبك ماشاء الله لا قوة الا بالله فاتن صدقا
اتمنى ان تجد من ينصحك من الناحية الادبية فحتى لو اعرفها الا اني لا اهتم بها حين اكتب او اقرا .. اهتم فقط بالاسلوب والمعاني

تحياتي القلبية
 
كل السعادة لي والله واتشرف بان اقرا لقلمكم الراقي
لو لم يعجبني وخاصة اسلوبك لما كنت اتتبعك دائما .. ومنكم نتعلم سيدي الفاضل وانا من يجب ان تطلب رايكم حين تكتب وليس انتم ههههههههه
اني اقرا المحتوى والمعنى ولا اهتم بالاسلوب الادبي ولا ارقى ان انتقد واسلوبك ماشاء الله لا قوة الا بالله فاتن صدقا
اتمنى ان تجد من ينصحك من الناحية الادبية فحتى لو اعرفها الا اني لا اهتم بها حين اكتب او اقرا .. اهتم فقط بالاسلوب والمعاني

تحياتي القلبية
أشكرك على صدقك آنسة، ويشرّفني أن تقرئي لي، فقط أحيطك علما أنني لست كاتب، ولم أتوقع أن أحاول كتابة شيء من قبل، لأنني لطالما آمنت بأت الكتابة موهبة واجتهاد على تنميتها، أنا فقط ألجأ إلى مخيّلتي الواسعة، وأترجم ما يتزاحم فيها من مشاهد وقصص اراها أمامي بوضوح، وكأنني أعيشها حقيقة فعلا.
أجدد شكري لك مرة أخرى على وجودك هنا في هذا الفضاء، تحياتي إليك
كوني بخير دوما
 
ضحك جمال كثيراً وهو يفتح الباب للتبوّل مرّةً أخرى، لكن عند العجلة الخلفيّة وهو يقول لي:
في العادة أكون وحيداً في هذا المكان كلّما تذكّرت الماضي وأتيت إلى هنا، ولم أكن لأتحرّك من مقعدي لكي أتبوّل، لكن حضورك وذكاؤك يدفعون بي لأكون مهذّباً معك اليوم، لكن لا تعتقد أنّ هذا التهذيب الذي سأبديه لك سوف يكون مبتذلاً، اطمئن ... فما زال يمكنني أن أتصرّف كإنسان طبيعي، وبشكل لائق مع من أشرب معهم، إنني أحرص على ذلك كثيراً، وقد يتّفق لي في كثير من الأحيان أن أبقى صامتاً كلّ الوقت، خِشيَة التفوّه بكلمةٍ واحدة تتسبّب بغبطة أحدهم، فلا يمكنني تحمّل عذاب الضمير عند جرح إنسان ما، فلست ممّن يتلذّذون عند فعل ذلك، وأحتسب كثيراً لحركاتي وأفعالي، فلا اُحرَجُ تماماً عند مصاحبة السكارى الذين تجمعني بهم الصدفة هنا ليلاً. كثيراً ما يأتي شباب للصيّد هنا، وينصبون خيمتهم هناك بجانبك، في الحقيقة لم أكن أكثر الحديث معهم، ودائما ما أبقى على مسافة عنهم في حديثنا، فلا يعرفون عني شيئاً سوى أنني آتي للشرب هنا أحياناً، أما أنا فأعرف عنهم الكثير على ما أظن، هم فتية من الأثرياء الحمقى، ثلاثة شبّان في العشرينيات من العمر، أجدهم هنا كلما أتيت، عند حلول الليل محمّلين بكل ما يحتاجون إليه من شراب ووسائل للترفيه، يستمتعون بوقتهم دون التسبّب بالفوضى، لعلّ ماكان يعجبني فيهم هو اعتمادهم على الصيّد لتوفير طعام عشائهم، والحق الحق أنّ هذا لفعل أعتقد أنه انقرض تماماً عند بني جيلهم، من المتّكلين والمتخاذلين، كثيراً ما تناولت معهم طعام العشاء، لكن دون الحديث في أمور خصوصية لكلٍّ منا، ولربّما أكثر ما كان يعجبني بالركن بقربهم هو أنّهم لا يذكرون النساء تماماً في أحاديثهم، وهذا شيء لا يفعله الرجال على غير العادة، كانوا يتحدّثون بمتعة وحب للحياة، ويقصّون مغامرات سفرهم إلى أوروبا، ويتناقشون في تحديد البلاد التي سيتوجهون إليها ....
ثم أضاف يقول :
أشعر بأنهم سيأتون هذه الليلة، لم يبقَ الكثير على الغروب أتمنى أن يأتوا هذه الليلة، وسوف يعجبك وجودهم هنا معنا، قد تسرّك مشاركتهم إن أنت رغبت بذلك !
فقلت له :
أنا لا أستغرب انجذابك نحو هؤلاء الشباب، وأتفهّم السبب بما يتعلّق عدم تناولهم لمواضيع النساء على موائد سهراتهم، لست أدري لِمَ أتفهّم هذا جيّداُ، ولا أنكر أنني لا أطيق تلك المواضيع بتاتاً، إنها تسبّب الضجر والإحباط، فبعدما تزوّجتِ المرأة التي أحببت، ما عدت أتحمّل وجودي في حيّز النساء، حتى أنني أصبحت قادراً على النفور من أجمل النساء في مدة أسبوع على الأكثر ...
لم يتركني جمال أكمل حديثي فقاطعني قائلاً :
حسناً ... لك تقدير خاطئ تماماً في الحب والنساء، أنت فقط لا تدرك ما تشعر به حقّاً، لأنّك لا تزال تحت رحمةِ ذكرى حبيبتك، فلا يمكن أن تحمل في سريرتك ما يسيء للنساء، أنا أعرف أنّك ترى في نفسكَ عجزاً عن خلقِ أيّة علاقة ممكنة في هذه الأوقات، لكن دعني أخبرك كنصيحة مني، حتى وإن كنت عاجزاً، لا تنسى أن تفتح قلبك، فقد يأتي الحب إليك مرّة أخرى، لا تفعل ما فعلته، ولكَ أن ترى الآن نتائج شعورك الذي يطعن في استقرار عواطفك ما جعلني عليه، كانت نفس المشاعر تقتلني على نحوٍ متكرّر حينما ماتت أروى بين ذراعيّ هنا في هذا المكان تحديداً، بعدما عجّل السرطان من موتها وهي لا تزال أمرأة فراشة في عمر الزهور، التقيت بها أول مرة على هذا الشاطئ، ولكي لا أطيل عليك الحديث ولا أدخل معك في تفاصيل كثيرة دعني أخبرك بالقصة باختصار ولك أن تعالج التفاصيل في دماغك، فأنت تعرف جيّدا حبّ رجل لأمرأة لن يتردّد بالموت في سبيلها، فهي لم تكن بالنسبة لي مشروع حبيبة أو زوجة فقط، لقد كانت أول إنسان يشعر بوجودي، في وقت كان الجميع ينبذني ويحتقرني، فقط لأنني مجهول الأبوين، ابن شارع ولقيط كما يقول الناس ويتّفق عليه المجتمع و تؤكده الأعراف، ولك أن تتخيّلَ فرحة أن تجِدَ روحاً تحبّك بصدق، بعد ثلاثون عاماً من الوجود، دونما أن تلتفت إلى عدم شرعيتك وأصولك التي لا تعرف عنها شيئاً. لقد كان توقيت حبّها لي إعلاناً عن ميلادي، وبعثاً جديداً لروحي، لقد كانت بمثابة الأم لي واحتضنتني من الشارع وأنا في أحلى مراحلي عمراً، وحتى أنني لم أعش معها أكثر من عامين، لكنها لا تزال تحفر في قلبي كلّ يوم، وإلى غاية أن يتمّ رمي جسدي في التراب، فقد شاء القدر أن يأخذها مني بمرض خبيث لا علاج له، ويأخذ روحي وكل رغباتي معها، تاركاً لي كلّ الذكريات التي احتضنتها كلّ هذه السنوات، أعيد مشاهدتها كلّما ضاقت بي الدنيا، وأوشكت روحي على الإنطفاء، دون أرضٍ ألقِي جسدي المتهالك على ترابها ...
لكي أصدقك القول ياعمر، أنا لا أشعر بالنّدم على كل اللحظاتِ التي عشتها طوال هذه السنوات، ولم تؤلمني الظروف التي عصفتني بها الحياة بقدرِ ما يؤلمني رحيلها، لأنني أجد حبّي لها في تزايد مع مرورِ الزمن، وما يزيدني حبها لها إلّا استحالة وجود قلب آخر يحتوي ضعفي وتشرّد روحي، فلم يكن وجودي إلّا عبئاً ثقيلاً على نفسي، وكانتِ الصدمة أنّني عدت إلى حقيقتي، متشرّد تافه لا أهل له ولا أقرباء، لا أصدقاء ولا علاقات تجمعه بأي كائن تحت أي مفهوم، وحيدٌ وكئيب يجرّ خيباتهِ في أحياءِ وهران الضيّقة وشوارعها المظلمة ....
توقّف جمال عن الكلام فجأةً وتنهّدَ طويلاً ثمّ سكتَ، نظر في زجاجة البيرة التي رفعها مقابل عينيهِ وراح يتمتم بهدوءٍ بكلمات لا أفهمها، كان حزيناً ويبدو ثائراً، كان وجهه يحمرّ وعيناه تمتلئان بالدموع، وكأنّه كان يريد أن يصرخ بأعلى صوته. كان واضحاً أنّه لم يشارك هذه الذكريات مع أحد منذ سنوات، حتى نال منه اليأس فقرّر دفنها في أعماقهِ، كمتّهمٍ حُكِم عليه بالسجن المؤبّد وهو بريء، دون صوت يسمع له أو يصدّقه. دون أقارب أو أهل يقومون بزيارته كل يّوم في الأسبوع، أو مرّة كلّ عام. أعتقد أن الأمر في غايةِ الألم أن يعيش الإنسان لخمسة وعشرين عاماً دون حدث يستحق أن يشاركه مع أحد، مكتفياً بذكرياتٍ عاش أحداثها مدّة عامين، مع إنسانة أكدّت له وجوده، وعاملته بإنسانيّة لأول مرة، ليتذوّق طعم العلاقات بين البشر فتتضاءل حظوظه في تكرار الأمر، خائِفاً من وحدة أبديّة تطارده وتعقّد من أزماته.
تعاطفت معه دون أن أقول له أيّ كلمة، وبقيت أتخيّل نفسي أعيش حياة مشابهة لحياته، وأنا أشرب الجعّة فما كان عليّ إلا الشفقة عليه والتفكير في موضوع يبعدنا قليلاً عن الألم ، وإذا به يقول لي :
لقد جاء أولئك الشبان الذين حدّثتك عنهم، هذه سيّارتهم أنا أذكرها جيّداً ... ثم أضاف يقول لي :
هل رأيت ... نحن لم ننتبه حتى لتوقّف المطر، وتلاشي الغيوم، لقد أسرفنا في الحديث والشرب، نسينا تماماً ما يحيط به، فهل انتبهت إلى هذه السيّارة التي تركن هناك، أعتقد أنها هناك منذ نصف ساعة، لم يكن الأمر مهمّاً لأخبرك عنها، ولم أرغب بمقاطعتك وأنت تتحدث معي ....
عموماً أنا جائع جدّاً، وقد جاء الشبّان في وقتهم، فبعد نصف ساعةٍ من الآن سوف يكون السمك متاحاً، الحوت يقترب إلى الشاطئ عند الليل، فلا وجود للبشر هنا غيرنا نحن، والشبان الثلاثة، وذلك المنحرف في سيارته مع صديقته يتبادلون القبل مع غروب الشمس .. ستكون ليلة رائعة دون أيّ شك، وأخيراً سأتمكّن من رؤية القمر ومطاردة النجوم، إنها الليلة المناسبة لفعل ذلك تأكد من ذلك ..
للحظة اختفى من وجهه كل الحزن، وتبدّد كلّ الألم وراح يحيّي أصدقاءه الذين يفرغون سيارتهم ويخيّمون بالقرب منا، حتى أنهم استغربوا قدومه نحوهم وهو يضحك من بعيد. كانت ضحكته هذه بالنسبة لهم حدثاً غير مسبوق تماماً، وكما يبدو فهم حاولوا جاهدين التقرّب منه لكن من غير جدوى، فهو كان يغلق على نفسه ويغرق في وحدتهِ طويلاً، حتى أنه لم يكن يلاحظ وجودهم أحياناً ولا يشعر بمجيئهم أو ذهابهم، لشروده الدائم وبهتانهِ العميق .....

يتبع
 
فيما كانَ جمال يساعد الشباب في نصب خيمتهم وإعداد المكان كما هو المعتاد بالنسبة إليهم، كنت أنا قد ألقيت التحيّة عليهم من بعيد، مكتفياً بتحريكِ رأسي دون التفوّه بكلمة واحدة، غارقاً في تساؤلات عميقة تحزّ في نفسي، مندهشاً من قسوة الحياة التي عاشها الرجل كلّ هذه السنوات الطويلة، وهو وحيدٌ تماماً دون ملجئٍ يهرب إليه، دون أيّ شخص قد يحتوي عذابه ويطمئنَ قلبه، دون من يقلق عليه ويسأل عليه، ويتفقّد غيابه أو يتبع أثره. كنت أطرح كثيراً من الأسئلة على نفسي، وأنا أرى تلك الحياة القاسية التي لطالما عاشها، وكل تلك العذابات التي لاحقته منذ نعومة أظافره، ربّاه ... أيّ طفولة عاشها هذا المسكين الهرم أمامي الآن، أين كان ينام؟ نعم أي كان ينام هذا البائس الحزين، كيف كان يحصل على طعامه؟ من كان يرعاه؟ وأين تم العثور عليه؟ يا له من شقاءٍ عاشه حقّا هذا الرجل، وإلّا لما تعمّق في داخله جرح رحيل المرأة التي جعلته يحس بانتمائه إلى بني جنسنا، أعتقد أنه فعلاً وُلِد حينما صادفها، وعاد للموت بعدما رحلت وتركته وحيداً كما كان عليه الحال قبلها، عاد إلى اللاشيء والعدم، فمن هو فعلاً بعدها؟ ماذا عساه سيكون هذا البائس الذي أتى إلى هذا العالم بخطيئة عظيمة !!، كيف ستكون التساؤلات التي يطرحها على نفسه كل هذه السنوات من الإغتراب؟، وهل بإمكانه الإحساس والشعور مثلنا نحن البشر الطبيعيون؟ هل من الممكن فعلاً أن لا تكون الحياة قد استنفذت كل مشاعره وأحاسيسه، بما في ذلك الخوف والرغبة بالنوم ؟
كثير وهائل هذا الغموض والسر الذي جعله بهذا الثبات حتى الآن، فقد كان لا يبدو أنه مجنوناً، وكان يتصرّف بشكل لائق كلّ الوقت، على غرار بعض السلوكيات التي قد يفعلها أي سكيّر آخر، كالتبوّل في الطرقّات والتفوّه بكلام بذيء وما إلى ذلك، على العموم هو ليس إنساناً مؤذياً في أيّ حال من الأحوال، والطّيبة صفة كان ليلاحظها كلّ من اقترب منه وطلبه في مساعدة مهما كانت، فما كان ليردّه على الإطلاق، وإن فعلَ لأثقلَ عليه عذاب الضمير على عجزه في المساعدة.
هذا ما كان يتخبّط في رأسي من ضجيج، وعلى هذا النحو أصبحت أرى عمّي جمال، فما كان مني إلّا أن أعامله بلين ولطف، وسوف يساعدني الشباب في جعل الليلة مميّزة في حياته، ولتكون أيضاً بصمةً عميقة في حياتنا نحن كشباب، فما الذي سنخسره في نهاية الأمر لو أنّنا أعدنا بعث الحياة من جديد في هذا الكائن بيننا، ونحن نتلذّذ ونستمتع بوجودنا معه في هذا المكان الجميلة، وهذه الأمسيّة التي تستعّد للإعتدال، كعروسٍ سيتم زفافها عند الصباح، فقد كان الجوّ يتحسّن شيئاً فشيئاً، والبحر يبلغ من الهدوء أنِ استوى تماماً ..

لم يستغرق الأمر طويلاً حتّى كان شيء جاهزاً وفي مكانه، الخيمة تمّ نصبها باحترافية بالغة، وتمّ تثبيتها في أعمدة حديديّة غُرِسَت عميقاً في الرمال، فلا يمكن للريّاح أن تتسبّب في دمارها أو إلحاق الضرر بها، كان واضحاً أنّ هؤلاء الشباب قد اعتادوا التّخييم في رحلاتهم ومغامراتهم، فكل شيءٍ تتطلّبه سهرة على الشاطئ تمّ توفيرها والتخطيط لها بإحكام، آلة الشواء هذه دليل على سهرات طويلة ومتكرّرة، وهذا الكيس الكبير من الفحم يوضّح أنهم لا يتوقّفون على شواءِ السمك خلال كل وقت وجودهم هنا، وتلك طاولة الطعام التي يتجمّعون حولها، وهي طاولة مصنوعة من الخشب الفاخر لها أربعة كراسي بنفس اللون اللامع، فيما تمّ تخصيص ما تحت الطاولة لوضع الجعّة والمشروبات الأخرى التي لم أميّز نوعيّتها. كان كل شيءٍ مناسباً لجعل الليلة صاخبة ومميّزة، لكنّ الخجل الذي يجتاحني عند مواجهة الغرباءِ كان الحاجز الوحيد الذي يعيقني، فهو ينعكس بأيّ شكل على ملامح وجهي، حتى أنّني قد أتلعثم عند الكلام في كثير من الأحيان، لأجدَ نفسي في مواقف تحرجني وتزيد من خجلي أكثر فأكثر.
عاد عمّي جمال إليّ وهو يتمايل بجسده الهزيل يميناً وشمالاً، وفي يده زجاجة من النبيذ، تلك التي لمحتها عند مقعده في الصباح، لم أنتبه إليه وهو يحملها حينما ذهب إلى الشباب، ولمّا وصل عندي راح ينظر إليّ وهو يقول :
مابك يا عمر ... لماذا لست سعيداً مثلي، ما الذي يشغل بالك بالتحديد، فلا أتوقّع أنّ لك أعمالاً كانت تنتظرك، ولا زوجة تشتاق إلى النوم في احضانها، فما سبب كلّ حزنك هذا يا صديقي ...
هيا لنذهب ونتشارك هذه اللحظات مع هؤلاء الشباب، لاشكّ أنّك لاحظت عليهم المرح والحيوية، إنهم في غاية اللطف حقاً وقد أخبروني أنّك مدعوّ للإنضمام إليهم، فلن أدعك تذهب وأنت تبدو محمّلاً بجبال من الشقاء، لتبتسم كما أفعل الآن، لنخدع الحياة ونحن نطعنها بالشرب حتى فقدان العقل، فلا شيء يستحق أن نحزن عليه أيها الصديق، ولا شيء يستحق أن نعيش من أجله فعلاً ...
أخبرته أن يسبقني إليهم، في حين أقوم بتجهيز قليل من سجائر الحشيش ثم الإنضمام إليهم، فعاد يجرّ بجسده متمايلاً وهو يقول :
إنني جائع جدّاً يا شباب، بالرغم من أنني تناولت طعام الغداء مع صديقي الجديد عمر، فمن العادة أن تكون لي وجبة واحدة في اليوم، ودوماً ما يكون وقتها عند الليل، ولكنني حينما تناولت الطعام في الغداء، كنت قد عبثت بالبرنامج الذي أتّبعُه منذ سنوات، فما كان ذلك إلّا أن يفتح شهيّتي ويحصر رغبتي كلّها في الأكل الآن، لذلك اصطادوا الكثير من السمك هذه الليلة، عليكم أن تقوموا بذلك ....
كان الشباب مندهشين تماماً من طريقة كلامهِ معهم، وقد كانوا يسمعون إليه وهم مبتسمين، وكأنّهم سعيدون جدّاً به وهو يخرج من صمته المعتاد ويخاطبهم بهذه الطريقة، فهو كان لا يكلّمهم إطلاقاً ولا يحفل بوجودهم أو بالأجواءِ التي يصنعونها كل ليلة، وقد بدى لي أنّهم توقّفوا عن الحركة لوقت وجيز حينما ذكر اسمي، وقال عني أنني صديقه الجديد، مستغربين أكثر طبيعة العلاقة التي تجمع بيننا، فلا يمكن أن لا ينتبهوا لأمر كهذا يصدر من كتلة من الغموض لطالما صادفوها في حياتهم على هذا الشاطئ الرائع ...
كانت فرصة رؤية منظر الغروب من هذا المكان قد تبدّدت تماماً، فالسحب الماطرة كانت تلقي بظلامها على كل الأرض، ولم تختفي إلا بعد فوات الغروب، لكن هذا لم ينقص من جمال المكان شيء، فالسماء واضحة وأكثر اتّساعاً، تزيّنها النجوم المضيئة في مشهد غاية في الروعة، والبحر أمامنا في حالة ركود صامت يستمع لصراخ القلوب الجريحة، ليُلقيَ بها عبر متاهات أعماقه المخيفة، أما الوجود كلّه فقد كان في حضور إطلالة رهيبة للقمر، عند اختفاءِ آخر غيمة حزينة كانت تحتضنه بعنف، لتحجب عنّا شعاعاتٍ من النور، تنعكس هيبتها على بساطِ البحر، عازفة لنا لحناً قويّاً في ليلة طويلة على الشاطئ ......

يتبع ...
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top