المقامة الرمضانية

أم جُلَيبيب

:: عضو مُشارك ::
حدَّث محمَّد بن عليّ قال:
دخلت سوق الحيِّ، فألفيت به عبد الحيِّ، وهو بين الميِّت والحيِّ، وهو في ذلك الممشى، يخبط خبط الأعْشَى، وقد زعفر وجهَه الصِّيامُ، وجفَّف ريقَه الأوامُ، فقلت: لأقفونَّ أثرَه، ولأخبرنَّ خبره، وقد واريتُ عنه عِيَاني، فكنتُ أرَاه من حيث لا يراني، فانطلق حتَّى انغمس في أمواج الأخلاط، وهم في زحام وزَيَاط، فماجت به تلك الأمواج، وأمدَّهم بعد ذلك أفواج، فاشتدَّ في ذلك العراك بأسه، ولم يَبْدُ لي من جسده إلَّا رأسُه، فكلَّفني في اللّحاق به المشقَّة، فاختلت للعَرَمْرَم كي أَشُقَّه، فانسلَّ عبد الحيِّ بعد عناء إلى الجزَّار، وكأنَّه مكبَّل الرِّجلين، فليس الأمر لو ترى بِهَيْن، وهو في ذلك شاتم ومشتوم، وطورًا يُلام وطورًا يَلوم، فلمَّا بلغ إلى اللَّحَّام، وعاين تلك اللِّحام، جعل ينظر إليها نظر ذات وِحام، فابتاع منه رطلًا أو رطلين، ثمَّ تولَّى قرير العين، وغطس إلى ناحية الخضر، متقلِّبًا بين ضِرار وضَرَر، فلمَّا وقف عليها لفحته لوافح الأسعار، فضجَّ من ذلك السُّعار، ولجَّ في خصام الخَضَّار، ثمَّ صال وجال، واشترى ما يعجز عن حمله رِجال، ثمَّ غيَّبته عني لُـمَّة، أحاط به جمعُها فواراه، وصار بمكان حيث لا أراه، فإذا هو عند بائع الزَّيتون، وقَلْبُه بكلِّ نوع مفتون، وطال حديثه إلى البائع، والكلام عن البضائع، حتَّى أنساه السَّوْمُ حرمةَ الصَّوم، فألقى زيتونة في فمه، وسها عن صومه، فصاح به القوم: يا رجل أفسدتَ الصَّومَ! فلفظ منها ما تبقَّى، واستغفر الله وذكره، وسبَّ مِنَ القوم مَنْ ذكرَّه، فرأيته وقد تجهَّم وجهه، وشعث رأسه، وتصبَّب عرقه، وقد نهكته تلك الأثقال، وأَنْصبَه التّطواف بين جزَّار وبقَّال، وهو ينظر إلى ساعته في تلك الكروب، يحسب كم بقي للغروب، ولسان حاله يقول:
يا شمـس قد طـال النَّهار فاغربي فبالغروب ينجلـي ما حـلَّ بـي
إنـِّي إذا مـا أخذتـني الـدُّوخة أستذكر الـبُـرَاكَ والشَّخْشُوخَة
وشُـْربةً تصنع من حـبِّ الفرِيك وزلبيَّـةً تـجي مـن بُوفَـرِيك
وعنـبًـا وطـبقًـا مـن مـوز وقـهوة مـعهـا قلـب اللّـوز
تـهـيـج لـي في نـهمة أشواقي وأغـتدي مـن ذاك للأســواق
خــلُّوا سبيلـي معشر الجموع يكفـي الَّذي أصابـني من جوع
قد كسرت من بـينـكم ضلوعي لو كنت أدري جئت فـي دروع
ثمَّ أقبل نحوي بكلِّ ما يحوي، فبادرت إليه، ثمَّ سلَّمت عليه، فشكا إليَّ الحال، وما لقي في تلك الأوحال، ثمَّ قال لي: كيف حالك ورمضان؟ فقلت: شهر يستوجب الشُّكران، ولكن سلْ رمضان كيف حاله معي، إن كنت ممَّن يعي، فإنَّنا في زمن فسدت فيه الموازين، وصار ما يشين عند النَّاس يزين، ثمَّ حدَّثته بحديث لبَّد العجاج، وأنساه خبر اللَّحم والدَّجاج، حتَّى إذا استأنس بكلامي، قلت له: ما فعلت الزَّيتونة؟ فقال: سحقًا إنَّها ملعونة! ثمَّ سألني عن حكم ذلك؛ فقلت: القضاء على قول مالك؛ فقال: وهل في قول غيره ما يدفع؟ فقلت: يدفعه أن تتشفَّع، وما أراه ينفع، فاقض يومًا تبرأ به الذِّمَّة، وتحمد في مذاهب كلِّ الأئمَّة، ثمَّ طاف عليه من أحواله طائف، فأخبرني أنَّه نسي البقلاوة والقطايف، وقال: ذلك من أحكام السَّمَر، ولذَّة السَّهر، فانصرفَ وانصرفتُ







للشيخ : محمد بوسلامة
 
بارك الله فيك
 
توقيع la lune rose
تنبيه: نظرًا لتوقف النقاش في هذا الموضوع منذ 365 يومًا.
قد يكون المحتوى قديمًا أو لم يعد مناسبًا، لذا يُنصح بإشاء موضوع جديد.
العودة
Top Bottom