لم يكن الرثاء مجرد دموع تسكب بل حمل بين طيّاته شعرا نحسّ فيه بذلك الأنين
و التفجع و الحسرات ،اذ يرسل فيه الشاعر أبيات تقطر دمعا مصورا بذلك آلام قلب أنهكه الحزن
و الأسى فلم يعد يصبر على هذا الفراق الأبدي
و لم يقتصر هذا الفنّ على رثاء الأحبّة فقط بل نجد العديد من الشعراء قد بكوا مدنهم
و أوطانهم التي كانت تسقط تحت نير العدو الغاصب
ك....الــأنــــــــــــــــــــــــــــــــــدلــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــس فالأندلـس ...كانت الوطن ...و الأرض...و الحبّ...و الأحبّة...و الأهل....و الجمال
الأنـــــــــــــــــــــــــــدلــــــــــــــــــــــــــــــــس
قصـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة.....رثــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــاء
انّ الذي دفعنا الى التطرق لهذه الحقبة التاريخيّة من حياة الأندلس
هو ذلك السقوط الذي أضعف من قوّتها نتيجة لذلك التناحر
و ذلك الفشل الذريع الذي أودى بها الى الهاوية
و هذا راجع الى تخاذل أمرائها و هزلهم في مواقف الجدّ و عدم اكتراثهم لذلك
الزحف الصليبي الذي كان يستولي على ديارهم و أوطانهم مشرّدا
بذلك الأهالي الذين عمّروها يوما
بدأ عصر ملوك الطوائف في الأندلس بعد انتهاء ملك الأمويين فيها
بخلع هشام الثالث سنة 422ه الموافق لسنة 1031م و الواقع أنّ
عصر ملوك الطوائف بدأ قبل هذا التاريخ بنحو عشرين سنة
و على وجه التحديد بعد ذهاب دولة المنصوربن أبي عامر
و قيام الصراع بين أمراء المرونيين على الخلافة.
و كان من نتائج هذا الصراع الذي زاد من ضعف الدولة و قلّل من هيبتها
في الداخل و الخارج، أن أغرى الطامعين فيها و جرأهم عليها و من ثمّ
أخذ يغتنم الفرصة المتاحة كلّ من يأنس الفرصة في نفسه القدرة
من رؤساء الطوائف من العرب و الموالي فيستقيل بامارته و يسميها دولة
بنصب نفسه ملكا عليها و يتخذ من أهمّ مدينة فيها عاصمة له.
و لم تكد الدولة الأموية تبلغ نهايتها و يفرط عقدها حتّى استحالت الى
دول كثيرة صغيرة يحكمها ملوك عرفوا في تاريخ الأندلس بملوك الطوائف.
و من دول الطوائف مادام حكمها نحو قرن و نصف قرن ك:
-دولة بني هود
و ما دام نحو قرن ك:
-دولة بني رزين
و ما دام نحو ربع قرن ك:
-دولة بني مزين
أمّا زمن الحكم في بقيتها فيزيد أو ينقص قليلا عن نصف قرن ومن
أهمّ هذه الدول.....:
-دولة بني هود:و ضاحيتها [ سرقسطة] و ما اليها و دام ملكها من سنة
400ه_1009م الى غاية 596ه_1141م
من أشهر ملوكها [المقتدر بالله]
و كان شاعرا ...و ابنه [يوسف المؤتمن] و كان عالما رياضيّا
-دولة بني رزين...:دام حكمها من سنة 402ه_1021م
الى سنة 497ه_1106م
من ملوكها [عبد الله بن عبود بن رزين] كان أديبا شاعرا
-دولة بني حمود..:و من ملوكها [ ادريس بن يحي ]
و كان أديبا
-دولة بني عامر...: حكموا من سنة 412ه_1021م الى غاية
سنة 478ه_1085م و كانت حاضرتهم [بلنسية]
-دولة بني الأفطس...:حاضرتهم [بطليوس] حكموا من سنة
413ه_1022م الى سنة 487ه _1094م
-دولة بني عبّاد...:و هم ملوك [اشبيليّة]و غرب الأندلس
حكموا من سنة 414ه_1023م الى سنة 484ه_1091م
و من ملوكها [ المعتمد بن عبّاد]
-دولة بني جهور...:قامت في [قرطبة] حكموا من سنة 422ه_1031م
الى سنة 463ه_1070م أوّل ملوكهم [أبو حزم بن جهور]
-دولة بني ذي النون...:و كانت حاضرتهم [طليطلة] و دام حكمها
من سنة 427ه_1036م الى سنة 478ه_1085م
فهؤلاء جميعا أخلاط من العرب و البربر و الموالي استقلوا بولايات الأندلس
المختلفة منذ سقوط الدولة الأموية في قرطبة
ثم راحوا يتنازعون الأمر فيما بينهم
لم يكن عند هؤلاء عناء لدفع العدو المغير عليهم لتفرق كلمتهم
و محاربة بعضهم بعضا و انهماكهم في اللهو و المجون ،على حين
وقف العدو لهم بالمرصاد يستخلص منهم الجزية لقاء الكف
عن قتالهم.و لا يفتأ يغير عليهم و يستولي على بلادهم من أطرافها
مهددا بالاكتساح الشامل عند أوّل فرصة.
وقد روعهم حقا أن يروا ألفونسو السادس ملك [قشتالة]تبلغ
احدى غاراته عليهم جزيرة [طريف] ثمّ يقحم فرسه في البحر
و يقول متبجحا...{هذا آخر بلاد الأندلس قد وطئته ، و هنا يجب
أن تنتهي جنودي}
فلمّا بلغ الخطر بالبلاد و بهم التمسوا النصح عند كبيرهم المعتمد بن عباد ملك اشبيليّة و كان يهمّ بطلب المعونة من المرابطين ،فحذّروه من ذلك
قائلين...{السيفان لا يجتمعان في غمد واحد}
فأجابهم بكلمته المشهورة...{رعي الجمال خير من رعي الخنازير}
فاقتنعوا برأيه ، و كتب ابن عباد الى الأمير يوسف بن تاشفين مؤسس
دولة المرابطين الفتيّة بالمغرب يسأله العون و النجدة.
و سرعان ما لبّى يوسف بن تاشفين النداء و عبر بجيوشه الى الأندلس
لنصرة الاسلام فيها، وهناك التقى بجيش ألفونسو السادس قرب مدينة بطليوس و هزمه شرّ هزيمة في معركة الزلاقة الحاسمة و كان ذلك
في يوم الجمعة 16 رجب سنة 479ه الموافق ل سنة 1086م.
ثمّ عاد يوسف بن تاشفين الى المغرب بعد زوال الخطر عن الأندلس
تاركا وراءه مقطعة من جيشه تحت تصرف ملوك الطوائف لحماية
الثغور و دفع العدو ،و لكنّهم سرعان ما نسوا خطر العدو و عادوا لحياتهم
الأولى ...حياة اللهو و المجون و التناحر معرضين بلادهم للفقد و الضياع من جديد.
و رأى أهل الأندلس ما آل اليه حال ملوكهم من الضعف و التردي
ثمّ رأوا معاودة العدو ايّاهم و الانقضاض على بلاد الاسلام ،فتعالى الصراخ
الى يوسف بن تاشفين في هذه المرّة من فقهاء الأندلس و أعيانها و عامتها
مستغيثين به ، فأسرع الى نجدتهم سنة 483ه_1090م و أوقف العدو عند حدّه.
و في هذه المرّة شرع يوسف بن تاشفين في خلع ملوك الطوائف الواحد
اثر الآخر بعدما ثبت له من تخاذلهم و طواطؤ بعضهم مع العدو،و لم تأت
سنة 495ه_1101م حتّى تمت للمرابطين السيطرة على الأندلس
و ضموها لدولتهم و ب>لك صار القطران [المغرب و الأندلس ]
دولة واحدة قويّة عاصمتها...مراكش
و لم يفت شعراء ذلك العصر أن ينتقدوا ملوكهم سياسيا
و اجتماعيّا و أن يأخذوا عليهم انشغالهم بالمجون و اللّهو
و مظاهر الكلك الكاذبة عن مقاومة أعداء البلاد الطامعين فيها
و من ذلك قول ابن الرشيق القيرواني
مـمّـا يـزهـدنـي فـي أرض أندلـس
بسماع معتضد فيها و معتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها
كالهرّ يحكي انتفاخا صولة الأسد
أو كما قال الشاعر ...أبي القاسم بن الجدّ..:
أرى الملوك أصابتها بأندلس
دوائر السوء لا تبقي و لا تذر
ناموا و أسرى لهم تحت الدجى قمر
هوى بانجمهم خسفا و ما شعروا
و كيف يشعر من في كفّه قدح
يحدو به ملهياه ، الناي و الوتر
من الفنون الشعرية التي برع فيها الأندلسيون...فن الرثاء
الذي لم يكن منحصرا في رثاء الموتى من الاهل و الأحبّة
و الخلان و انما لأسباب خاصة بهم نراهم قد توسعوا في هذا الفن
و طوروا مفهومه و ذلك برثاء مدنهم و ممالكهم خاصة في عصر
النكبة الذي صوّر بحق ذلك النزيف و تلك الآلام التي ألمت
بالأندلسيون...
و ممّا قيل في رثاء الأندلس ما نقله ابن الخطيب من قصيدة طويلة
قالها ابراهيم بن خلف القرشي منها ألا مسعدٌ منجزٌ ذو فطن ... يبكي بدمعٍ معين هتن
جزيرة أندلسٍ حسرةً ... لا غالب من حقود الزمن
ويندب أطلالها آسفاً ... ويرثى من الشعر ما قد وهن
ويبكي الأيام ويبكي اليتامى ... ويحكي الحمام ذوات الشجن
ويشكو إلى الله شكوى شجٍ ... ويدعوه في السر ثم العلن
وكانت رباطاً لأهل التقى ... فعادب مناطاً لأهل الوثن
وكانت معاذاً لأهل التقى ... فصارت ملاذاً لمن لمن يدن
وكانت شجى في حلوق العدا ... فأضحى لهم مالها محتجن.
و يمثل ما بقي لنا من هذه القصيدة الطويلة بعضا من معاناة
الشاعر التي أبرزها في مجموعة من الصور المتقابلة يمثل بعضها
ماضي الأندلس السعيد المشرق بنور الايمان ، و يمثل بعضها الآخر
حاضر الأندلس المكفهر بظلمات الشرك و الأسى فقد استولى عليها الألم
و مزقتها الحسرة لما فعله الزمن الحقود بها فساءت أحوالها و تغيرت معالمها
فأصبحت دار كفر و ضلال بعد أن كانت دار تقوى و ايمان ،و أصبحت لقمة صائغة للأعداء
بعد أن كانت غصّة في حلقهم ،فأخرجوا عمّارها و يتموا أطفالها و أيموا نساءها.
كما ارتكز ابن الأبار في استصراخه على فنّ الرثاء و ذلك عندما
استنجد ريان بن مردنيش أمير بلنسية بأبي زكريّا عبد الواحد بن حفص صاحب افريقية فأرسل اليه الكاتب البارع و الشاعر المبدع ابن الأبار الذي أنشد بين يديه القصيدة السينية المشهورة...:
أدر بخيلك خيل الله أندلسا
ان السبيل الى مناجاتها درسا
و هب لها من عزيز النصر ما التمست
فلم يزل منك عزّ النصر ملتمسا
يا للجزيرة أضحى أهلها جزرا
للحادثات و أمسى جدّها تعسا
في كلّ شارقة المام بائقة
يعود مأتمها عند العدى عرسا
ثم يرينا الأندلس و قد استولى عليها المشركون المزهوون بانتصارهم
و رحل عنها المسلمون يجرون أذيال النكسة و الهزيمة و الخيبة
و هم يرون تلك المساجد و قد تحولت على أيادي الغزاة الى كنائس
تدق فيها النواقيس بعد أن كانت أرجاؤها تردد آيات الرحمان...فيقول:
مدائن حلّها الاشراك مبتسما
جذلان و ارتحل الايمان مبتئسا
و صي<رتها العوادي العابثات بها
يستوحش الطرف منها ضعف ما أنسا
يا للمساجد عادت للعدى بيعا
و للنداء غدى أثناءها جرسا
لهفي عليها الى استرجاع فائتها
مدارسا للمثاني أصبحت درسا
و أمّا أبو البقاء الرندي فانّه لا يكتفي بالايجاز و انما يعمد الى
كثير من التفصيل فيعدد ما ضاع من مدن الأندلس مدينة مدينة
كمن فقد أبناءه و أهل بيته،طون أن ينسى مزايا كل مدينة على حدى
و ماذا يعدد ان لم يعدد مزايا تلك المدن التي ضاعت الى غير
رجعة ؟ و ماذا يبكي ان لم يبك تلك الأركان التي تصدعت و تهاوت لتترك الدنيا
خرابا لا يمكن العيش دون انقاضها؟
و يمزج كل ذلك بالبكاء على ما أصاب الاسلام من ذلّ و هوان.
و كأني بأبي البقاء الرندي في مرثيته هذه....يتحدث بلسان الأندلسيين
و يسعر بشعورهم و يترجم عن ثورتهم الدفينة المكبوحة...تفجعا على ما آل اليه
حال الاسلام و المسلمين في الأندلس
و من الشعراء الذين رثوا الأندلس وسكبوا عليها دموعا غزارا
هو ابن المرخل الذي اتخذ من الدين وسيلة للاستنجاد و الاستصراخ
لكونه الوسيلة الوحيدة التي بامكانها أن تجمع المسلمين تحت لواء واحد
هي راية الجهاد لا راية التخاذل و التراجع فيقول...:
استنصر الدين بكم فاستقدموا
فانكم ان تسلموه يسلم
لاذت بكم أندلس ناشرة
برحم الدين و نعم الرحم
فاسترحمتكم فاحموها انّه
لا يرحم الرحمان من لا يرحم
ماهي الاّ قطعة من أرضكم
و أهلها منكم و أنتم منهم