إِن تَحرِص عَلَى هُدَاهُم فَإِنَّ الله لَا يَهدِي مَن يُضِل للشيخ ابراهيم بويران

أبو هريرة موسى المسيلي

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
9 سبتمبر 2008
المشاركات
3,579
نقاط التفاعل
580
النقاط
171


إِن تَحرِص عَلَى هُدَاهُم فَإِنَّ الله لَا يَهدِي مَن يُضِل

هداية النَّاس إلى صراط الله المستقيم و إخراجهم من الظُّلمات إلى النُّور، أحدُ المقاصد العظيمةِ من البِعثة المُحمَّديَّة .
و قد كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في غايةِ الحرص على هداية النَّاس، كما وصفه الله بذلك في قوله تعالى: { لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ }[التوبة: 128]، أي: على هدايتكم، و ما فيه خيركم و صلاحكم .
و لا أدلَّ على هذا الحرص مما كان ينتاب نبِيَّنا صلى الله عليه وسلم من الحُزن و الأسى بسببِ إعراض قومه، و عدم استجابتهم لدعوته، إشفاقًا على حالهم، و خوفًا عليهم من غضب الله و عقابه .
قال تعالى: { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا } [الكهف: 6]، وقال تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ } [الشعراء: 3].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:« {فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث} يعني القرآن :{أسفاً} يقول: لا تهلك نفسك أسفًا. قال قتادة: قاتل نفسك غضبًا وحزنًا عليهم، وقال مجاهد: جزعًا، والمعنى متقارب، أي لا تأسف عليهم، بل أبلغهم رسالة الله، فمن اهتدى فلنفسه، ومن ضلَّ فإنَّما يضلُّ عليها، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات »انتهى .
و قد بيَّن الله تعالى في مواضع من كتابه أنَّ حِرص النبيِّ صلى الله عليه وسلم على هداية النَّاس لا يُوجب هدايتهم؛ لانَّ هدايتهم ليست بيده، و إنَّما هي بيد الله تعالى، يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم، قال تعالى مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه و سلم: { إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ }[النحل: 37] .
و قال سبحانه: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[البقرة:272]، و أنزل الله على نبيِّه قوله تعالى:{ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص: 56]، و ذلك بعد وفاة عمِّه أبي طالب على الكفر، وكان النبيُّ صلى الله عليه وسلم حريصًا غاية الحرص على هدايته للإسلام، كما في البخاري (1360 و مواضع أُخر )، و مسلم (24) من حديث سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ ، عَنْ أَبِيهِ المسيِّب بن حزن، قَالَ : لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلٍ وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَبِي طَالِبٍ أَيْ عَمِّ ، قُلْ : لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ كَلِمَةً أُحَاجَّ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللهِ ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ : أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟ فَلَمْ يَزَلِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ وَيُعِيدَانِهِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ : لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : أَمَا وَاللَّهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَاَلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ }[التوبة: 113] ، و أَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي أَبِي طَالِبٍ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[القصص: 56] ».
« وهذا صريحٌ في أنَّ هذا النَّوع من الهدى ليس إليه، ولو حرِص عليه، ولا إلى أحدٍ غير الله، وأن الله سبحانه إذا أضل عبدًا، لم يكن لأحدٍ سبيل إلى هدايته،كما قال تعالى:{مَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَلاَ هَادِيَ لَه} » [« شفاء العليل » (2/579)] .
و لا يتنافى هذا مع ما ورد في القرآن من إثبات الهداية للنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم، كما في قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } [الشورى:52]؛ لأنَّ الهداية المنفية، غير الهداية المثبتة، فالهداية المنفية هي هداية التَّوفيق، و هذا النَّوع من الهداية لا يكون إلَّا من الله تعالى وحده، و هو خاصٌّ بمن شاء الله لهم الهداية دون غيرهم، و لذلك نجد هذا النَّوع من الهداية مقرونًا في مواضع كثيرة بالمشيئة كما في قوله تعالى في الآيتين السَّابقتين: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص: 56]، و قوله: { لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [البقرة:272] ، إيذانٌ من الله تعالى باستئثاره بهذا النَّوع من الهداية، و تخصيصه من شاء من خلقه بها.
و أمَّا الهداية المثبتة فهي هداية البيان و الإرشاد، و هي بهذا المعنى ليست مختصَّة بالله تعالى؛ و لذلك أثبتها الله سبحانه لنبيِّه صلى الله عليه وسلم، وكذا لغيره من الأنبياء و الرُّسل، قال تعالى: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء: 73] .
و قال تعالى: { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت: 17]، أي: بصَّرناهم، وبيَّنا لهم، و وضَّحنا لهم الحق على لسان نبيهم صالح صلى الله عليه وسلم ،{فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} .
فالهداية هدايتان: هداية دِلالة و إرشاد، وهداية توفيق و سداد، إلا أن هداية التوفيق أخصُّ من هداية الدِّلالة؛ وذلك أنَّ هداية الدِّلالة ليس فيها إلا مجرَّد الإرشاد إلى الصِّراط المستقيم، و بيان طريق الهدى من طريق الضَّلال، كما أنَّها « لا تستلزم حصول التَّوفيق و اتِّباع الحق، وإن كانت شرطًا فيه أو جزء سبب؛ وذلك لا يستلزم حصول المشروط والمسبب؛ بل قد يتخلف عنه المقتضي، إما لعدم كمال السبب أو لوجود مانع» [ « شفاء العليل » (1/211)] .
و هذه الهداية هي حُجَّة الله على خلقه؛ والله عز وجل قد هدى بهذا المعنى جميع المكلفين، إنسهم و جِنهم، و أقام حُجَّته عليهم، و لذلك قطع سبحانه على نفسه الوعد بأن لا يُعذِّب أحدًا قبل بلوغ هذا النَّوع من الهداية إليه، قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء: 15]، و قال: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ} [التوبة: 115] .
و أما هداية التوفيق: فهي خاصة بمن شاء الله له الهداية، وخلق دواعيها في قلبه، وأرادها له، و هذه الهداية هي المستلزمة للاهتداء التَّام، و خلق الهدى في القلوب، بجعل العبد مؤثرًا للهدى على الضَّلال، و للحقِّ على الباطل .
« فقوله تعالى: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ يتضمن طلب الهداية ممن هو قادر عليها، وهي بيده، إن شاء أعطاها عبده وإن شاء منعه إياها، والهداية معرفة الحق والعمل به، فمن لم يجعله الله تعالى عالماً بالحق عاملاً به لم يكن له سبيل إلى الاهتداء، فهو سبحانه المتفرد بالهداية الموجبة للاهتداء، التي لا يتخلف عنها، وهي جعل العبد مريداً للهدى محباً له، مؤثراً له عاملاً به، فهذه الهداية ليست إلى ملك مقرّب ولا نبي مرسل، وهي التي قال سبحانه فيها: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص:56] .
مع قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [الشورى:52] .
فهذه هداية الدعوة والتعليم والإرشاد، وهي التي هُدي بها ثمود فاستحبوا العمى عليها، وهي التي قال تعالى فيها: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ ﴾[التوبة:115]. فهداهم هدى البيان الذي تقوم به حجته عليهم، ومنعهم الهداية الموجبة للاهتداء التي لا يضل من هداه بها، فذاك عدله فيهم وهذا حكمته، فأعطاهم ما تقوم به الحجة عليهم، ومنعهم ما ليسوا له بأهل، ولا يليق بهم » [ " شفاء العليل " (1/53)] .
« فإن قيل: فكيف تقوم حُجته عليهم وقد منعهم من الهدى، وحال بينهم وبينه؟.
قيل: حجته قائمة عليهم بتخليته بينهم وبين الهدى، وبيان الرُّسل لهم، و إراءتهم الطريق المستقيم حتى كأنهم يشاهدونه عيانًا، وأقام لهم أسباب الهداية ظاهرًا وباطنًا، ولم يحل بينهم وبين تلك الأسباب، ومن حال بينه وبينها منهم بزوال عقل أو صغر لا تمييز معه أو كونه بناحية من الأرض لم تبلغه دعوة رسله؛ فإنه لا يعذبه حتى يقيم عليه حجته، فلم يمنعهم من هذا الهدى ولم يحل بينهم وبينه .
نعم قطع عنهم توفيقه ولم يرد من نفسه إعانتهم، والإقبال بقلوبهم إليه، فلم يحل بينهم وبين ما هو مقدور لهم، وإن حال بينهم وبين ما لا يقدرون عليه، وهو فعله ومشيئته وتوفيقه، فهذا غير مقدور لهم، وهو الذي مُنعوه، وحيل بينهم و بينه » [ "المصدر السابق "(2/578) ].
هذا هو حقيقة قول أهل السنة المثبتين للقدر، فهم متفقون على أن غير الله لا يقدر على جعل الهدى، أو الضَّلال في قلب أحد... ، و أن كل من خصَّه الله بهدايته إيَّاه صار مهتديًا، ومن لم يخصه بذلك لم يصِر مهتديًا، فالتَّخصيص والاهتداء متلازمان عند أهل السنة .
أما المعتزلة فعندهم أن الله تعالى لا يقدر أن يهدي ضالًّا، ولا يقدر أن يضل مهتديًا، ولا يحتاج أحدٌ من الخلق إلى أن يهديه الله، بل الله قد هداهم هدى البيان، وأما الاهتداء فهذا يهتدى بنفسه لا بمعونة الله له، وهذا يهتدى بنفسه لا بمعونة الله له.
و يقولون: إن هُدى الله للمؤمنين والكفار سواء، ليس له على المؤمنين نعمة في الدين أعظم من نعمته على الكافرين! [ يُنظر: " منهاج السنة " (1/81)، و"درء التعارض"( 8/ 379) ] .
قال ابن أبي العزِّ الحنفيِّ رحمه الله في "شرح الطحاوية " (ص434): « وما قالته القدرية بناءً على أصلهم الفاسد: وهو إقدار الله للمؤمن والكافر، والبر والفاجر سواء، فلا يقولون إن الله خصَّ المؤمن المطيع بإعانة حصَّل بها الإيمان، بل هذا بنفسه رجَّح الطَّاعة، وهذا بنفسه رجَّح المعصية...، وهذا القول فاسد باتفاق أهل السنة والجماعة المثبتين للقدر، فإنهم مُتَّفِقون على أنَّ لله على عبده المطيع نعمة دينية، خصَّه بها دون الكافر، وأنه أعانه على الطاعة إعانةً لم يُعِن بها الكافر، كما قال تعالى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات:7] .
فالقدرية يقولون: إن هذا التَّحبيب والتَّزيين عامٌّ في كلِّ الخلق، وهو بمعنى البيان وإظهار دلائل الحق، والآية تقتضي أن هذا خاصٌّ بالمؤمن، ولهذا قال: ﴿أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ﴾ [الحجرات:7]. والكفَّار ليسوا راشدين.
وقال تعالى: ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ [الأنعام:125] ، وأمثال هذه الآية في القرآن كثير، يُبيِّن سبحانه أنه هدى هذا وأضلَّ هذا، قال تعالى: ﴿مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا﴾ [الكهف:17] »انتهى .
فالمعتزلة نفوا عن الله تعالى هداية التوفيق، وأوَّلوا جميع الآيات التي فيها أن الله يهدي من يشاء من عباده، هداية توفيق وإلهام، و فسَّروها بهداية الدلالة وبيان الطريق، و قالوا: إنَّ المراد بهداية الله للعبد أو إضلاله له، مُجرَّد تسمية الله للعبد بذلك! بعد خلق العبد للهدى و الضَّلال في نفسه! بناءً على أصلهم الفاسد في باب القدر و أفعال العباد الذي سمَّوه « العدل »! .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله في "شفاء العليل"( 1/217-219): « قوله تعالى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ﴾ [المائدة: 51] معلومٌ أنَّه لم ينفِ هُدى البيان والدِّلالة الذي تقوم به الحجة، فإنه حُجته على عباده، والقدرية تردُّ هذا كله إلى المتشابه، وتجعله من متشابه القرآن!، و تتأوَّله على غير تأويله، بل تتأوَّله بما يقطع ببطلانه، وعدم إرادة المتكلم له!، كقول بعضهم: المرادُ من ذلك: تسميةُ الله العبدَ مهتديًا وضالًّا، فجعلوا هُداه وإضلاله مجرَّد تسمية العبد بذلك، وهذا مما يُعلم قطعًا أنه لا يصحُّ حمل هذه الآيات عليه .
وأنت إذا تأملتها وجدتها لا تحتمل ما ذكروه ألبتة، وليس في لغة أمة من الأمم فضلًا عن أفصح اللغات، وأكملها، هداه بمعنى سمَّاه مهتديًا، وأضلَّه سمَّاه ضالًّا، وهل يصحُّ أن يقال: علَّمه إذا سمَّاه عالمًا، وفهَّمه إذا سمَّاه فاهمًا! .
وكيف يصحُّ هذا في مثل قوله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [البقرة:272]، فهل فهم أحد غير القدرية المحرفة للقرآن من هذا ليس عليك تسميتم مهتدين ولكنَّ الله يُسمي من يشاء مُهتديًا؟، وهل فهمَ أحدٌ قطُّ من قوله تعالى:﴿ إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص:56] لا تُسميه مهتديًا ولكنَّ الله يُسميه بهذا الاسم؟ وهل فهمَ أحدٌ من قول الداعي: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ﴾ [الفاتحة:6]، وقوله: اللهم اهدني من عندك ونحوه: اللهم سمِّني مهتديًا؟ وهذا من جِناية القدرية على القرآن و معناه، نظيرُ جِنايةِ إخوانهم من الجهمية على نصوص الصفات وتحريفها عن مواضعها... . وتأول بعضهم هذه النصوص على أن المراد بها، هداية البيان والتعريف، لا خلق الهدى في القلب، فإنَّ الله سبحانه لا يقدر على ذلك عند هذه الطائفة، وهذا التأويل من أبطل الباطل، فإن الله سبحانه يخبر أنه قسم هدايته للعبد قسمين :
قسماً: لا يقدر عليه غيره.
وقسماً: مقدوراً للعباد.
فقال في القسم المقدور للغير: ﴿ وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الشورى:52] وقال في غير المقدور للغير: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ﴾ [القصص:56]، وقال: ﴿ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ ﴾ [الأعراف:186] .
ومعلوم قطعاً أن البيان والدلالة قد تحصل له ولا تنفى عنه، وكذلك قوله: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ ﴾ [النحل:37] لا يصح حمله على هداية الدعوة والبيان، فإن هذا يُهدى وإن أضله الله بالدعوة والبيان .
وكذا قوله: ﴿ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية:23] .
هل يجوز حمله على معنى: فمن يدعوه إلى الهدى، و يُبيِّن له ما تقوم به حجة الله عليه؟ وكيف يصنع هؤلاء بالنصوص التي فيها أنه سبحانه هو الذي أضلهم؟! أيجوز لهم حملها على أنه دعاهم إلى الضَّلال؟ »انتهى .
إنَّ هداية التوفيق، هي أعظم نعمة أنعم به الرَّبُّ الهادي على عباده؛ و أكبر منَّةٍ امتنَّ بها المعبود سبحانه على عبيده، قال الإمام ابن القيم رحمه الله في " شفاء العليل " (1/181) :«.. فإن أفضل ما يُقدِّر الله لعبده وأجل ما يقسمه له الهدى، وأعظم ما يبتليهِ به ويقدِّرُه عليه الضَّلال، وكلُّ نعمةٍ دون نعمةِ الهدى، وكلُّ مصيبةٍ دون مصيبة الضلال » انتهى.
و لذا؛ قابل الله تعالى بين النِّعمة و الهداية، لأنَّ النِّعمة التَّامَّة الحقيقيَّة هي نعمة الهداية إلى الصِّراط المستقيم، قال تعالى في أعظم سُور القرآن: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ }[الفاتحة: 7] .فالمهتدون على الحقيقة: هم المنعم عليهم، و « الإنعام عليهم يتضمَّن إنعامَه بالهداية التي هي العلم النافع
والعمل الصالح، وهي الهدى ودين الحق، ويتضمن كمال الإنعام بحسن الثواب والجزاء، فهذا تمام النعمة ولفظ: النِّعمة يتضمن الأمرين»[« مدارج السَّالكين» (1/13)] .
و لشدَّة حاجة العباد إلى الهداية، أوجب الله تعالى على هذه الأمة طلب الهداية من ربها في كل ركعة من ركعات الصلاة، وذلك عند قراءة سورة الفاتحة التي لا تصح الصلاة إلا بقراءتها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في « مجموع الفتاوى »(14/320): « ولهذا كان أنفع الدُّعاء و أعظمه و أحكمه: دعاءُ الفاتحة: { اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْت عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ }، فإنَّه إذا هداه هذا الصِّراط أعانه على طاعته و ترك معصيته فلم يُصبه شرٌّ لا في الدُّنيا و لا في الآخرة، لكنَّ الذُّنوب هي من لوازم نفس الإنسان، و هو محتاجٌ إلى الهدى في كلِّ لحظة، و هو إلى الهدى أحوج منه إلى الأكل و الشرب..، ولهذا كان الناس مأمورين بهذا الدُّعاء في كلِّ صلاةٍ لِفَرط حاجتهم إليه فليسوا إلى شيءٍ أحوج منهم إلى هذا الدعاء »انتهى .
« ولما كان سؤال الله الهداية إلى الصراط المستقيم أجل المطالب، ونيله أشرف المواهب علَّم الله عباده كيفية سؤاله، وأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده والثناء عليه وتمجيده ثم ذكر عبوديتهم وتوحيدهم فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم:
توسُّلٌ إليه بأسمائه وصفاته، وتوسل إليه بعبوديته، وهاتان الوسيلتان لا يكاد يُرد معهما الدعاء... وقد جمعت الفاتحة الوسيلتين وهما التوسل بالحمد والثناء عليه وتمجيده، والتوسل إليه بعبوديته وتوحيده، ثم جاء سؤال أهم المطالب وأنجح الرغائب وهو الهداية بعد الوسيلتين فالداعي به حقيق بالإجابة » [ مدارج السالكين (1/31-32)] .
« و من هنا يعلم اضطرار العبد إلى سؤال هذه الدعوة فوق كل ضرورة، وبطلان قول من يقول: إذا كنا مهتدين فكيف نسأل الهداية؟ فإن المجهول لنا من الحق أضعاف المعلوم، وما لا نريد فعله تهاونًا وكسلًا مثل ما نريده أو أكثر منه أو دونه، وما لا نقدر عليه مما نريده كذلك، وما نعرف جملته ولا نهتدي لتفاصيله فأمر يفوت الحصر، ونحن محتاجون إلى الهداية التامة، فمن كملت له هذه الأمور كان سؤال الهداية له سؤال التثبيت والدوام .
و للهداية مرتبة أخرى وهي آخر مراتبها وهي: الهداية يوم القيامة إلى طريق الجنة، وهو الصرط الموصل إليها، فمن هدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم الذي أرسل به رسله وأنزل به كتبه، هدي هناك إلى الصراط المستقيم الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط ..فسؤال الهداية متضمن لحصول كل خير والسلامة من كل شر»[« المرجع السابق » ( 1/10) ] .
و العلم عند الله تعالى، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .​
 
رد: إِن تَحرِص عَلَى هُدَاهُم فَإِنَّ الله لَا يَهدِي مَن يُضِل للشيخ ابراهيم بويران

بارك الله فيك
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top