زجر الأخ الغفلان عن الاقامة و المكوث بين أهل الشرك و الكفران

ابو ليث

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
8 جانفي 2010
المشاركات
10,466
نقاط التفاعل
10,283
النقاط
356
محل الإقامة
الجزائر
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ
)[آل عمران: 102]
( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ نْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )[النساء: 1]
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا` يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )[الأحزاب: 70-71]
أما بعد :
فإن الإنسان بطبعه قد جُبِلً على حب مكان ولادته ،وأرض آبائه وأجداده ؛ ففيها جذوره وأصوله وأرحامه ،وقد عبّر النبي ﷺ عن ذلك بقوله -حين خرج من مكان ولادته ونشأته مكة مهاجرا إلى المدينة -: ( وَاَللّهِ إنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَيّ وَإِنّك لَأَحَبّ أَرْضِ اللّهِ إلَى اللّهِ وَلَوْلَا أَنّ أَهْلَك أَخْرَجُونِي مِنْك مَا خَرَجْت)[1] .
هذا ولمّا كانت ظروف المعيشة متفاوتة بين الناس ؛فإنها كثيرا ما كانت ولا زالت تضطرّ المُعسرينَ منهم إلى ترك ديارهم وبلدانهم ،طلبا للرزق وأسباب الحياة ،فهذا من أبرز أسباب هجران العبد لدياره وأراضيه ،ناهيك عن الهجرة فراراً بالدِّين ؛والتي تعتبر من أعظم أنواع وأسباب الهجرة قديما وحديثا، و قد جعلها الله من أعظم الأعمال بعد الإسلام، وحث عليها في غير موضع من كتابه ،فقال تعالى : ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً
)[النساء:100] ،وقال : ( الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ )[التوبة:20] ،كما حث النبي ﷺ أصحابة على هذا النوع من الهجرة حين اشتد أذى المشركين على المسلمين في مكة وبالغوا في فتنتهم عن دينهم، فأمرهم -صلّى الله عليه وسلم- بإذنٍ من الله بالهجرة إلى الحبشة أولا ثم إلى المدينة ثانيا؛ ولهذا صار للمهاجرين -زمن النبي عليه الصلاة والسلام- ميزة على إخوانهم من الأنصار، وصاروا يقدّمون في الذّكر لشرفهم، لأنّهم تركوا أوطانهم وديارهم وأموالهم وخرجوا، بل تركوا أولادهم وأزواجهم، وخرجوا إلى المدينة من أجل الدين ومن أجل نُصرة الرّسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فشكر الله لهم ذلك وأثنى عليهم ووعدهم بجزيل الثواب ،فكانت هجرتهم سنة يتأسى بها المسلمون الذين يفتنون عن دينهم في جميع الأمصار والأعصار ؛ إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .
إلا أن النّاظر اليوم في أحوال المسلمين يرى عجبا عُجَابَا ،فقد أصبح حالهم بخلاف حماة الدّين الأوائل الذين باعوا أنفسهم لله ،فبينما كانت هجرة أولائك -عليهم رضوان الله- من دار الكفر إلى دار الإسلام، أضحت هجرة بعض الناس اليوم -وأكثرهم من الشّباب- من بلاد الإسلام إلى بلاد الكفر ..كذلك الحسرة كل الحسرة على من نّوره الله بنور الشهادتين فأسلم هناك في بلاد الكفر ، ثم تراه يتشبّث بالمكوث فيها ،فلا هو فكّر يوماً في نفسه بأن يهاجر فيوفّر لها راحة العبادة والإخلاص،ولا هو فكّر يوماً في الإسلام بتكثير سواد أهله ،فوا عجباهُ ..!!

[ أسباب مكوث المسلمين بين أظهر الكفار والمشركين ]
والمتتبّع لحال هؤلاء يتحصّل لديه جملة من الأسباب ؛ دفعت أكثرهم لهذا الفعل المخالف لشريعة الإسلام ،ولكنها في الجملة ترجع إلى ثلاثة أسباب :

الأوّل : ضعف التوكّل على الله ؛ لأنهم في الغالب يرون بلدان الإسلام صعبة المعيشة من ناحية الرزق وطلبه ، وهذا مخالف لما تقرّر في عقيدة المسلمين من أن الرّزق بيد الله وحده،وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إن الرزق ليطلُب العبدَ كما يطلُبه أجلُه )[2]،فالحاصل أنه على هؤلاء أن يتّقوا الله ربّهم ،وأن يتوكّلوا عليه حقّ التوكّل ( وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا )[الطلاق:2-3]،ويحسنوا الظّن به ؛وقد قَالَ النبي ﷺ : ( يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى : أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ في نَفْسِي وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَىَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً
)[3]. ثم ليحذروا من مثل هذه الاعتقادات أشدّ الحذر ،فقد قال رسول الله -ﷺ-: ( إن الله تعالى يقول: أنا عند ظن عبدي بي إنْ خيرا فخير، وإنْ شرا فشر )[4].
ألا فليعلم هؤلاء أن الذي يرزقهم في بلاد الكفر هو الذي يرزقهم في بلاد الاسلام..

الثاني : حب الدّنيا والسّعي في جمع حُطامها ؛وتعلّق القلب بوسائل العيش و الرفاهية في بلادهم بحكم كونهم يعيشون حياة مادية ممتعة -في نظرهم- ، فيصعب عليهم عادة أن ينتقلوا إلى بلد إسلامي قد لا يُوفّر لهم فيه وسائل الحياة الكريمة في وجهة نظرهم ... وأي رفاهية هذه التي بسببها يسمع أصحابها شتى أنواع الكفر بالله وطُرُقِ الاستهزاء بدينه ونبيّه -عليه الصلاة والسلام- !!

الثالث : عدم وجودِ الدّاعي إلى هذه الفضيلة -بينهم-[5]،فلا تكاد ترا منهم من يفعل ذلك -إلا من رحم الله-،بل ربما كرِه بعضهم ذكر الهجرة وما يتعلّق بها ،والذي يُؤسِف حقيقة أن قلوب بعضهم تنفر من مثل هذا -إن لم يكن أصحابها ممّن يثبّط الآخرين- ،فإنّا لله وإنّا إليهِ رَاجعُون..!

[ تعريف الهجرة لغة واصطلاحا ]
الهجرة لغة: "اسمٌ من هجر يهجُر هَجْرا وهِجرانا"[6].
قال ابن فارس: "الهاء والجيم والراء أصلان، يدل أحدهما على قطيعة وقطع، والآخر على شد شيء وربطه. فالأول الهَجْر: ضد الوصل، وكذلك الهِجْران، وهاجر القوم من دار إلى دار: تركوا الأولى للثانية، كما فعل المهاجرون حين هاجروا من مكة إلى المدينة"[7].
والهجرة شرعاً: "ترك دار الكفر والخروج منها إلى دار الإسلام"[8].
وأعم منه ما قاله الحافظ ابن حجر: "الهجرة في الشرع ترك ما نهى الله عنه"[9]، وذلك لقوله ﷺ: ( المهاجر من هجر ما نهى الله عنه
)[10]، وهي تشمل الهجرة الباطنة والهجرة الظاهرة، فأما الهجرة الباطنة فهي ترك ما تدعو إليه النفس الأمارة بالسوء وما يزيّنه الشيطان، وأما الظاهرة فهي الفرار بالدين من الفتن[11].
ولما كانت الثانية أعظم أمارات الأولى وأكمل نتائجها خص بعض العلماء التعريف بها كما تقدم. ثم لما كانت هجرته ﷺ من مكة إلى المدينة أشرف الهجرات وأشهرها انصرف اللفظ عند الإطلاق إليها.
وأما لفظ الهجرتين فهو عند الإطلاق يراد به الهجرة إلى الحبشة والهجرة إلى المدينة[12].
كما أنه من الشناعة بمكان أن يطلق بعضهم لفظ "الهجرة" على السّفر من بلاد الاسلام إلى

[ أنواعها ]
نظرا لما مرّ من تعريف الهجرة ،وجمعا بين النّصوص ؛فإنه يتحصل من إطلاقاتها أنها على نوعين : حسّيّة ،ومعنوية
- الهجرة الحسّيّة
: ويمكن أن نجعلها أربعة أنواع :
الأول
: الهجرة إلى النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة، وهذه أشرف الهجرات وأفضلها على الإطلاق ، وهذه خصَّ الله تعالى بها ساداتِ الأولياء من المهاجرين ؛الذين هاجروا من مكة إلى المدينة -رضي الله عنهم وأرضاهم- .
الثاني : الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام ؛وهي المقصودة من هذه الأسطر- .
الثالث : هجرة أرض المعاصي والفسوق إلى أرض الصلاح والإيمان ،ودليلها قصة قاتل المائة نفس[13].
قال عنها النووي -
C:\Users\amine\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\clip_image001.gif
- :"قال العلماء: في هذا استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخدان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير والصلاح والعلماء والمتعبدين والورعين ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم، وتتأكد بذلك توبته"[14].
الرابع : الهجرة إلى الشام في آخر الزمان عند ظهور الفتن ،فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ( سَتَكُونُ هِجْرَةٌ بَعْدَ هِجْرَةٍ، فَخِيَارُ أَهْلِ الْأَرْضِ أَلْزَمُهُمْ مُهَاجَرَ إِبْرَاهِيمَ، وَيَبْقَى فِي الْأَرْضِ شِرَارُ أَهْلِهَا، تَلْفِظُهُمْ أَرْضُوهُمْ، تَقْذَرُهُمْ نَفْسُ اللَّهِ، وَتَحْشُرُهُمْ النَّارُ مَعَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ
)[15].
- الهجرة المعنوية
: وهي تُشارِك الأولى في المعنى اللغوي، ففيها معنى الترك والهجر، ولكن ليس للبلدان، وإنما للفواحش والذنوب، فهي هجرة القلوب لا الأبدان؛ فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ( المسلم مَن سَلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر مَن هجَر ما نهى الله عنه )[16]، ومنها نوع آخر وهو الالتزام بالعبادة في زمن الفتنة والقتل، فقال صلى الله عليه وسلم: ( العبادة في الهَرْج كهجرةٍ إليّ )[17].

[ فضائلها ]
من بين تلك الفضائل الجمّة لهذه العبادة الشريفة[18] :
1-تكفير الذنوب:
فعن عمرو بن العاص قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأُبايعك، فبسط يمينه، قال: فقبضتُ يدي، قال: ( ما لك يا عمرو؟
)، قال: قلت: أردت أن أشترطَ، قال: ( تشترط بماذا ؟ )، قلت: أن يغفرَ لي، قال: ( أما علِمتَ أن الإسلام يهدِم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدِم ما كان قبلها، وأن الحج يهدِم ما كان قبله )[19].
2- وقوع أجْر المهاجر على الله -بغضّ النّطر عن إتمام الرّحلة- :
عن سعيد بن جبير أن رجلًا من خزاعة كان بمكة فمرِض، وهو ضمرة بن العيص بن ضمرة بن زنباع، فأمَر أهله، ففرَشوا له على سرير، فحملوه وانطلقوا به متوجهًا إلى المدينة، فلما كان بالتنعيم مات، فنزلت: ( وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ
)[النساء: 100]، وكذلك قاله الحسن وغيره من المفسرين[20]، وقال الإمام البخاري: وقع: وجَب [21].
3- صاحب الهجرة يُقدَّم في الإمامة عند صلاة الجماعة:
فعن أَوْس بن ضَمْعَج، يقول: سمعت أبا مسعود، يقول: قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يؤمُّ القومَ أقرؤهم لكتاب الله، وأقدمُهم قراءةً، فإن كانت قراءتهم سواءً، فليَؤُمَّهم أقدمُهم هجرةً، فإن كانوا في الهجرة سواءً، فليَؤْمَّهم أكبرهم سنًّا، ولا تَؤُمَّنَّ الرجل في أهله، ولا في سلطانه، ولا تجلِس على تَكرِمته في بيته، إلا أن يأذَن لك، أو بإذنه ) [22] ، قال العظيم آبادي: "هذا شاملٌ لمن تقدَّم هجرةً؛ سواءً كان في زمنه صلى الله عليه وسلم، أو بعده؛ كمَن يُهاجر من دار الكفر إلى دار الإسلام" [23].
4- المهاجر في أول زُمرة تدخل الجنة:
فعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنه، قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( أتعلم أول زمرة تدخل الجنة من أُمتي؟
)، قال: الله ورسوله أعلم، فقال: ( المهاجرون يأتون يوم القيامة إلى باب الجنة ويستفتحون، فيقول لهم الخزنة: أَوَقَد حُوسِبتُم؟ فيقولون بأي شيء نُحاسب؟ وإنما كانت أسيافنا على عواتقنا في سبيل الله، حتى مِتنا على ذلك، قال: فيُفتح لهم، فيَقِيلون فيه أربعين عامًا قبل أن يدخلها الناس ) [24].
5- تمنَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكون امْرأً من الأنصار لولا الهجرة:
بوَّب الإمام البخاري لهذا الفضل العظيم في "صحيحه" فقال : باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: "لولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار"، وساق بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( لو أن الأنصار سلكوا واديًا، أو شِعْبًا، لسلَكت في وادي الأنصار، ولولا الهجرة لكنتُ امرأً من الأنصار )، فقال أبو هريرة:"ما ظلَم بأبي وأمي، آوَوْه ونصَرُوه، أو كلمةً أخرى"[25].
اختلفت تفاسير السّلف في سرّ هذا الفضل ؛وقد جمع الحافظ ابن حجر -
C:\Users\amine\AppData\Local\Temp\msohtmlclip1\01\clip_image001.gif
- شيئا منها فقال :"قال الخطابي: أراد بهذا الكلام تألُّف الأنصار واستطابة نفوسهم، والثناء عليهم في دينهم، حتى رضِي أن يكون واحدًا منهم، لولا ما يمنعه من الهجرة التي لا يجوز تبديلها، ونسبة الإنسان تقع على وجوه؛ منها: الولادة، والبلادية، والاعتقادية، والصناعية، ولا شك أنه لم يُرِد الانتقال عن نَسَب آبائه؛ لأنه مُمتنع قطعًا، وأما الاعتقادي، فلا معنى للانتقال فيه، فلم يبقَ إلا القسمان الأخيران، وكانت المدينة دار الأنصار والهجرة إليها أمرًا واجبًا؛ أي: لولا أن النسبة الهجرية لا يسعني ترْكها، لانتسبتُ إلى داركم.
قال: ويُحتمل أنه لَمَّا كانوا أخواله - لكون أمِّ عبدالمطلب منهم - أراد أن ينتسب إليهم بهذه الولادة، لولا مانع الهجرة.
وقال ابن الجوزي: لم يُرد صلى الله عليه وسلم تغيُّر نَسَبه ولا مَحْو هجرته، وإنما أراد أنه لولا ما سبق من كونه هاجَر، لا نتسب إلى المدينة وإلى نُصرة الدين، فالتقدير لولا أن النسبة إلى الهجرة نسبة دينيَّة لا يَسَع تركها، لانتسبتُ إلى داركم.
وقال القرطبي: معناه لتسمَّيتُ باسمكم، وانتسبتُ إليكم كما كانوا ينتسبون بالحلف، لكن خصوصية الهجرة وتربيتها، سبقتْ فمنعتْ من ذلك، وهي أعلى وأشرف، فلا تتبدَّلُ بغيرها.
وقيل: التقدير لولا أن ثواب الهجرة أعظم، لاخترتُ أن يكون ثوابي ثوابَ الأنصار، ولم يُرِد ظاهر النَّسب أصلًا.
وقيل: لولا التزامي بشروط الهجرة - ومنها: ترْك الإقامة بمكة فوق ثلاث - لاخترتُ أن أكون من الأنصار، فيُباح لي ذلك"[26].
 
[ حكمها ]
الهجرة من بلاد المشركين إلى بلاد الإسلام، فرض واجب بنص الكتاب والسنة، وإجماع الأمة[27]؛ وقد فرضها الله على رسوله وأصحابه، قبل فرض الصوم والحج، كما هو مقرر في الأصول والفروع.
ولما تثاقل أناس ممن أسلم، وأخرجتهم قريش معهم يوم بدر، فقُتل من قُتل منهم، حزن الصحابة، وقالوا: قتلنا إخواننا، فأنزل الله فيهم: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ
)[النساء:97] يعني: في فريق المسلمين وصفّهم، أم في فريق المشركين وصفّهم؟ ( قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ )[النساء:97] ، يعنون: أخرجنا كرهاً. قالت الملائكة رداً عليهم: ( أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا )[النساء:97] ، ولم يكن إذ ذاك دار هجرة غير المدينة، وفيها ثلاث محال كبار من اليهود، قبل أن يجلَوْا منها، وهي إذ ذاك أضيق البلاد عيشاً، ورمتهم العرب عن قوس العدوان، ومع ذلك سماها الله سبحانه أرضاً واسعة. وقال تعالى في سورة "التوبة" وهي من آخر ما نزل فيمن شح بمحبوبات الدنيا، وترك لأجلها الهجرة: ( قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )[سورة التوبة آية: 24] .
ولا يفسق إلا بترك واجب، وقد قال ﷺ: ( أنا بريء من مسلم بين ظهراني المشركين
)[28]، وقال: ( من جامع المشرك وسكن معه، فهو مثله )[29]. فهذه مسألة هي من أصول الشريعة المحمدية، وليست من مسائل الخلاف، بل هي مجمع عليها، ولا ينازع فيها إلا ضال أضل من حمار أهله، ولكن من خالط المشركين، وأقام بين أظهرهم، عوقب بمثل هذا الزيغ، نعوذ بالله من زيغ القلوب، ومن مضلات الفتن[30] .
غير أن الفقهاء وأئمة الدّين فصّلوا في ذلك باعتبار اختلاف أحوال المكلّفين ، فمن وجبت عليه الهجرة فإقامته في بلاد الكفر محرمة، ومن استحبت له الهجرة فإقامته في بلاد الكفر مكروهة أو خلاف الأولى ،وفي بيان ذلك قال ابن قدامة -
clip_image001.gif
- :"..إذا ثبت هذا، فالناس في الهجرة على ثلاثة أضرب :
* أحدها
: من تجب عليه وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه ولا تمكنه إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة لقول الله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا' فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا )[النساء:97]؛ وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب ولأن القيام بواجب دينه واجب على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته وما لا يتم الواجب به فهو واجب
* الثاني
: من لا هجرة عليه . وهو من يعجز عنها ، إما لمرض ، أو إكراه على الإقامة ، أو ضعف ؛ من النساء والولدان وشبههم ، فهذا لا هجرة عليه ؛ لقول الله تعالى : ( إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا )[النساء:98]. ولا توصف باستحباب ; لأنها غير مقدور عليها .[فإن حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها أُجِر] .
* الثالث
: من تستحب له ولا تجب عليه وهو من يقدر عليها لكنه يتمكن من إظهار دينه واقامته في دار الكفر فتستحب له[31].

[ مناط (علّة) إيجابها ]
قال الشافعي -
clip_image001.gif
- : "ودلت سنة رسول الله ﷺ على أن فرض الهجرة على من أطاقها إنما هو على من فتن عن دينه بالبلد الذي يسلم بها ؛ لأن رسول الله ﷺ أذن لقوم بمكة أن يقيموا بها بعد إسلامهم منهم العباس بن عبد المطلب وغيره"[32].

[ ضابط إظهار الدّين ]
قال الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ -
clip_image001.gif
- : "وإظهاره دينه ليس هو مجرد فعل الصلاة وسائر فروع الدين واجتناب محرماته من الربا والزنا وغير ذلك. إنما إظهار الدين مجاهرته بالتوحيد والبراءة مما عليه المشركون من الشرك بالله في العبادة وغير ذلك من أَنواع الكفر والضلال "[33].
وقال الشيخ صالح الفوزان -<حفظه الله>- : "ولا يجوز له الإقامة مع الكفار والبقاء في بلادهم إلا إذا كان يقدر على إظهار دينه؛ بأن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، ويدعو إلى الله عز وجل، هذا هو إظهار الدين؛ فإذا كان لا يستطيع ذلك؛ وجب عليه أن يُهاجِر إلى بلاد المسلمين من بلاد الكفار، ولا يبقى فيها على حساب دينه وعقيدته ".[34]
هذا ولا شكّ أن إظهارهم للدين بهذه الصفة في هذا الوقت شبه مستحيل ،وعلى فرض تمكنهم من إظهاره فلا يخفى ما للبعد عن بلاد الإسلام والمسلمين من أثر في ضعف النفس شيئا فشيئا، لما تشتمل عليه بلدان الكفر من شتى أنواع الرذائل التي أعظمها الكفر بالله ..

[ حكم التجنّس بجنسيات الدّول الكافرة ]

سئلت اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عن ذلك فأجابت ما نصّه :
لا يجوز لمسلم أن يتجنس بجنسية بلاد حكومتها كافرة ، لأن ذلك وسيلة إلى موالاتهم والموافقة على ما هم عليه من الباطل ، أما الإقامة بدون أخذ الجنسية فالأصل فيها المنع لقوله تعالى: ( إن الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً إلا المستضعفين..) الآية، ولقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أنا بريء من كل مسلم يقيم بين المشركين
) ولأحاديث أخرى في ذلك ، ولإجماع المسلمين على وجوب الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام مع الاستطاعة ؛ لكن من أقام من أهل العلم والبصيرة في الدين بين المشركين لإبلاغهم دين الإسلام ودعوتهم إليه فلا حرج عليه ، إذا لم يخش الفتنة في دينه ، وكان يرجو التأثير فيهم وهدايتهم.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم [35].
وفي فتوى للشيخ فركوس -<حفظه الله>- في هذه المسألة فقال -بعد أفتى بعدم الجواز- : "ولو كان مدفوعًا إلى ذلك لأسبابٍ ماليةٍ أو لأغراضٍ تجاريةٍ أو غيرِها؛ لأنَّ فيه تقديمًا للدنيا على الدين، وقد ذمَّ الله تعالى ذلك بقوله: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمُ ٱسۡتَحَبُّواْ ٱلۡحَيَوٰةَ ٱلدُّنۡيَا عَلَى ٱلۡأٓخِرَةِ )[النحل:107]، وكذلك ولو كان مُحافِظًا على الجنسية الأصلية؛ لمُنافاةِ الجنسية الكفرية لمبدإ الولاء والبَراء، وهو أَوْثَقُ عُرَى الإسلام.."[36].

[ عواقب ومضارّ المكوث في بلاد الكفر ]
لا شكّ أن في ذلك مخاطر ومحاذير كثيرة ،نذكر منها -لا على سبيل الحصر- :

- الوقوع في شيء من موالاة الكفارَ ومجاملتهم في أفعالهم وأقوالهم ؛ولا يخفى أن هذا مخالفٌ لأُسُسِ العقيدة الإسلامية ؛التي من أوثق عراها[37] وجوب موالاة المؤمنين والبراءة من الكفار والمشركين والمبتدعين ،وقد جاءت الشّريعة بالتحذير من مثل هذا ،فقال الله -عز و جل- : ( يا أيّهَا الذّينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار أَوْلِيَاءَ واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ
)[المائدة:57] ،وقال : ( يا أيّهَا الذَّينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمَوَدَّة وقَدْ كَفَرُوا )[الممتحنة:1] ،وقال : ( لاَّ تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ )[المجادلة:22] ،كما صرَّح النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بذلك في قوله: ( مَنْ جَامَعَ المُشْرِكَ وَسَكَنَ مَعَهُ فَإِنَّهُ مِثْلُهُ )[38].وغير ذلك من النّصوص التي ليس هذا محلّ بسطها ..

- ومنها : ضعف قلوبهم تجاه إنكار المنكرات ،لأنها -أي المنكرات- مع كثرتها وتظافرها وتنوع صُورها في تلك البلاد المظلمة تُضعِف القلب وتقسّيه وتغشّيه بسوادها،حتى يكون -عافانا الله- ممّن ( لا يعرف معروفا ولا يُنكر منكرا ؛إلا ما أشرب من هواه )[39]،ذلك أن المُنكِر من المسلمين لا يستطيع بحال من الأحوال الإنكار على كل من يشاهده ويسمعه ،فإن غاية ما يمكنه إنكاره مرّة أو مرّتين ،فلا مناص حينها بالرّضى به ،وهي الفاجعة بعينها ،ولا يخفى أنَّ الرضا بالذنب كفعله -كفرا كان أو كبيرة من الكبائر- ، ففي الحديث : ( إِذَا عُمِلَتِ الخَطِيئَةُ فِي الأَرْضِ كَانَ مَنْ شَهِدَهَا فَكَرِهَهَا -وَقَالَ مَرَّةً: ( أَنْكَرَهَا )- كَانَ كَمَنْ غَابَ عَنْهَا، وَمَنْ غَابَ عَنْهَا فَرَضِيَهَا كَانَ كَمَنْ شَهِدَهَا )[40]

- ومنها -أيضا- : صعوبة فصل أبناء المسلمين عن أبناء الكفار ؛وهذا له من الخطر عليهم الشيء الكثير ،إذ لا يخفى مدى تؤثّر الطفل والشّابّ بالمحيط الذين يعيشون فيه ،فأقل ما ينتُجُ عن ذلك الانحلال الأخلاقي -كما مشاهدٌ- ، نسأل الله العافية.

- ومنها : تكثير سواد المشركين ؛ لأن الدّاخلين في هذه الشريعة المطهّرة بالمئات يوميا ولله الحمد ،فالأولى بهؤلاء أن يهجروا بلدان الكفر ؛ ويكثّروا سواد إخوانهم من المسلمين ،وإلا كان الأمر على حسابهم ، فيتم بذلك تفويت العديد من المصالح التي من أعظمها إلقاء الرّعب في قلوب الكفّار ؛وذلك حين رؤيتهم المسلمينَ مجتمعينَ على قلب رجل واحدٍ .

- خدمة بلدان الكفر وأهلها ؛فإن المقيم بين أظهرهم لا مفرّ له من خدمتهم ،وهذا وإن تحمّل صاحبه الذلّ فليس له أن يُذِلّ هذا الدين الشّريف بفعله هذا ..! فهو مذلّة له ولدينه فليعتبر !

- كذلك : ضياع أخلاقهم وأعرافهم وشيخصيتهم الإسلامية ؛ذلك لأنَّ المساكنة -كما هو معلومٌ- تورث المشاكلةَ وتدعو إلى التمييع والتطبيع بالتشبُّه بالكفَّار في عاداتهم وأعيادهم والتحدُّث بلغاتهم ومشابهتهم في سلوكهم وطباعهم"[41].

-ومنها : ازدراء المسلمين والتحقير من شأنهم ؛وذلك لما نسمع من تنقّص بعضهم من أبناء الإسلام ؛بأن الكفّار أحسن منهم أخلاقا ،وهذا منهم غير صوابٍ البتّة ،فإن من لم يتخلّق مع خالقه بتوحيد وطاعة نبيّه لن ينفعه تخلّقه مع الخلق ،لا في الدّنيا ولا في الآخرة ،فبلاد الإسلام مهما كان عمّارها مقصّرين في تطبيق أحكام الشّريعة فإنها أفضل حالا من تلك التي يسكنها هؤلاء ويقيمون بين أهلها الذين يتلذّذون بالكفر والمجاهرة به ،فإنه لا نِعمة أفضل من نعمة التوحيد والسّنة ،والفاسق من المسلمين أفضل من أمَمِ الكفر كلها -كما لا يخفى- .

فلأجل هذه المخاطر وغيرها كانت الهجرة فريضةً مؤكَّدةً من دار الكفر إلى دار الإسلام في حقِّ كلِّ مقيمٍ في ديار الكفَّار يُضطهد في دينه أو يؤذى في جسمه أو مالِه أو عِرْضه، ويتضرَّر ضررًا يبلغ حدًّا يهمل معه الفرائضَ ويترك الواجباتِ ويتعدَّى حدودَ الله ويجترئ على محارمه، ولا يَسَعُه -مع وجود مقتضيات الضغط النفسيِّ والفكريِّ وآلياته الحسِّيَّة في دار الكفر- أن يأتيَ بأسباب الوقاية من النار المتمثِّلة في الإيمان والعمل الصالح عملاً بقوله تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ
)[التحريم: 6] ، هذا، وقد تكون هجرته دون الأُولى في الوجوب إذا كان الأذى الذي يلحقه في إقامته بدار الكفر خفيفًا والضررُ فيه يسيرًا لا يصل إلى حدِّ أن يترك معه بعضَ واجبات الإسلام[42]-كما سبق بيان ذلك- .
 
[ مقاصد الإسلام من تشريع الهجرة ]
في ذلك عدّة مقاصد وفوائد ،وهكذا هذه الشريعة المحمّدية كلها ،فمن بين أبرز تلك المرامي :

- سلامة الدين -الذي هو كما قال الْحَسَنَ البصري رحمه الله-: «رَأْسُ مَالِ الْمُؤْمِنِ دِينُهُ ، حَيْثُمَا زَالَ زَالَ دِينُهُ مَعَهُ ،لَا يُخَلِّفُهُ فِي الرِّحَالِ ، وَلَا يَأْتَمِنُ عَلَيْهِ الرِّجَالَ"[43]. ،فمن ضيَّع رأس المال كيف يطمع في الربح؛ فمن المحال بقاء الربح بلا رأس مال ، فإضاعته خسران وحسرة وندامة ، وحفظه ربح وسعادة في الدنيا والآخرة [44].

- سلامة النفس والعِرض ؛فإنه لا يُؤمَن مكر الكفار بالمسلمين ،لما عُهِد عليهم من بغضهم والحقد عليهم وعلى دينهم الحنيف .

- تقوية المسلمين وإضعاف المشركين ،كإحياء فريضة الجهاد وتقوية المسلمين وتكثير سوادهم على المشركين فالهجرة والجهاد شيئان متلازمان وأحدهما سبب للآخر ولازم له وبقاء أحدهم لازم لبقاء الآخر.

- صلاح الحال والعزِّ والكرامة وسَعَةِ الرزق، الموعود بها لمن خرج خروجًا في سبيل الله لا يريد به إلاَّ وجه الله تعالى، فإن مات قبل وصوله إلى دار هجرته فإنَّ الله لا يضيع أجرَ المصلحين العاملين الفارِّين بدينهم فيعطيهم ما يعطيه للمهاجرين في سبيله من المغفرة للذنوب والفوز بالجنَّة والنجاة من النار، قال تعالى: ( وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا
)[النساء:100][45].

[ شروط السّفر إلى بلاد الكفر ]
قال الشيخ فركوس -حفظه الله- : "..فإن دَعَت الضرورة الشرعية أو الحاجة الملحَّة إلى الإقامة المؤقَّتة في بلاد الكفر إمَّا لغرضٍ دعويٍّ أو دنيويٍّ، ضروريٍّ أو حاجيٍّ، كالعمل أو التجارة أو الدراسة أو العلاج أو لأغراضٍ مباحةٍ أخرى لا تتوفَّر في بلده أو لا يمكن الوصول إليها فيه فإنَّ أهل العلم يستثنون هذه الحالات من عموم المنع مقرونةً بالشروط الواجب توافُرها في المسافر إلى هذه البلدان والتي تظهر فيما يلي:
1- أن يكون المسافر عارفًا بأحكام دينه وما يكفيه للحفاظ عليه.
2- أن يكون آمنًا على إيمانه وإسلامه من فتنة الشبهات والشهوات، خشيةَ انحرافه عن الجادَّة.
3- أن يكون قادرًا على الجهر بشعائر الإسلام ومُظهرًا لها على سبيل الكمال ومؤدِّيًا لها على وجه التمام بدون خوفٍ أو معارضةٍ من إقامة الصلوات والصيام والحجِّ ونحوها، ويدخل ضمن الشعائر: الهديُ الظاهرُ من هيئةٍ وملبسٍ وشكلٍ عامٍّ، بحيث لا يمنعه مانعٌ من التزام الهدي المستقيم في عموم مظهره المخالف لمظاهر المشركين.
4- أن يكون قادرًا على التزام عقيدة الولاء والبراء التي هي لازمٌ من لوازم الشهادة وشرطٌ من شروطها، متجنِّبًا موالاةَ الكفَّار ومحبَّتهم فيما هم عليه، بل يبقى مُضمرًا لبغضهم وعداوتهم وعدمِ الرضا بأفعالهم، ذلك لأنَّ من حقوق البراء بُغْضَ الشرك والكفر وأهلهما بغضًا لا محبَّة فيه، وعدمَ التشبُّه بهم فيما هو من خصائصهم دينًا ودنيا، بحيث تتميَّز معالم شخصيته الإسلامية عنهم سلوكًا ومَظهرًا دون تميُّعٍ أو انصهارٍ، وعدمَ مشاركتهم في أفراحهم وأعيادهم ولا تهنئتِهم عليها، وعدمَ اتِّخاذهم أولياءَ ومودَّتِهم، لأنَّ محبَّة أعداء الله تستلزم موافقتَهم واتِّباعهم والرضا بفعلهم من غير إنكارٍ ولا كراهةٍ، وهذا بلا شكٍّ مُنافٍ لعقيدة الولاء والبراء وهي أوثق عرى الإسلام ..،ومن ذلك أيضًا عدمُ مداهنتهِم والتحاكمِ إليهم، والرضى بحكمهم وتركِ حكمِ الله تعالى، وعدمُ بدئهم بالسلام، ولا تعظيمِهم بلفظٍ أو فعلٍ ونحو ذلك. وبعبارةٍ أوجز: عدمُ التولِّي العامُّ لهم، أي: عدم موافقتهم في الظاهر والباطن"[46].

[نصّ بعض السّلف على كراهة الإقامة في أماكن المعاصي فكيف بالأماكن التي يُكفَر فيها بالله !! ]
من عظيم فقه السّلف وغيرتهم على هذا الدّين -رحمهم الله- أنه قد ورَد عن غير واحدٍ منهم الزّجر عن الإقامة في الأماكن التي يعصى الله فيها ،ويسبّ فيها أولياؤه ،ومن ذلك نقله ابن القاسم -
clip_image001.gif
-،فقال : سمعت مالكا -
clip_image001.gif
-يقول:" لا يحل لأحد أن يقيم بأرض يسب فيها السلف"[47].
قال عقِبه ابن العربي -معلّقا- :" وهذا صحيح ، فإن المنكر إذا لم تقدر أن تغيره فَزُلْ عنه ، قال الله تعالى: ( وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
)[الأنعام:68]. ;قَال سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ -
clip_image001.gif
- :فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ ) إِذَا عُمِل فِيهَا بِالْمَعَاصِي فَاخْرُجْ مِنْهَا[48]. ومقصودهم -كما يدل عليه سياق الآية- من لم يستطع إنكار المنكر ،وإلا فإنكاره من آكد الواجبات الشرعية -كما دلّت على ذلك نصوص الوحيين- ، أفلا يكون -بكلامهم هذا- هجران بلدان الكفر أولى !؟ فالله الله في دين الإسلام معشر الأحبّة..

وختامًا فالمسلم مطالَبٌ بأسباب العزَّة الدينية ومطالَبٌ -أيضًا- باجتناب أسباب الذلَّة المنافية للدين، فإن أقام في بلاد الكفر بصفةٍ مؤقَّتةٍ مقرونةٍ بالحاجة مع إظهار الدين والجهر بشعائره على سبيل الكمال بلا معارضةٍ في شيءٍ منها وحقَّق مبدأَ الولاء والبراء؛ جاز ذلك بشرطه، وقد أقرَّ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعضَ الصحابة رضي الله عنهم ومنهم أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه على السفر إلى بلدان الكفر لغرض التجارة.
ومن لا يقدر على ذلك فلا يَدَعْ نفسَه عرضةً لآيات الوعيد الواقع على من لا يأمن على نفسه الفتنةَ أو كانت إقامتُه في بلاد الكفر موالاةً لهم[49].

هذا وصلّى الله وسلم على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه أجمعين .

كتبته بطلبٍ من أخي الأكبر شمس -وفقه الله ونفعنا به- .
__________________________________________________ ________________

(1) [أخرجه ابنُ ماجه في "سننه" (3108) وحسّنه ابنُ عبد البرِّ في "الاستذكار"(2/ 464). وانظر"الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام للسهيلي (4/133)]
(2) [صححه الألباني في "صحيح الترغيب" (1703)]
(3) [متّفق عليه: أخرجه البخاري برقم:(7405) ومسلم برقم:(2675)]
(4) [صححه العلامة الألباني في "الصحيحة"(1663)]
(5) [ليخرج مما قلنا مشايخنا في بلدان الاسلام فإنهم كثيرا ما ينصحون ويحذرّون من هذه المسألة]
(6) [انظر : "لسان العرب" لان منظور(8/4616)،"الصّحاح" للجوهري(2/851)]
(7) ["معجم مقاييس اللغة" له (6/34) . ولم يذكر للأصل الثاني مثالاً]
(8) [كذا عرّفها غير واحد من الأئمة .انظر "التعريفات" للجرجاني (256) و"المفردات" للراغب (537) و"جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/72-73) ،"المغني" لابن قدامة (9/236)]
(9) ["فتح الباري"له (1/16)]
(10) [جزء من حديث أخرجه البخاري في "صحيحه"(1/53-الفتح)]
(11) ["فتح الباري"لابن حجر (1/54)]
(12) [انظر: "لسان العرب" لابن منظور (8/4617) ]
(13) [أخرجه مسلم في "صحيحه"(4/2118)]
(14) ["شرحه على مسلم" (17/82)]
(15) [أخرجه أبو داود في سننه" برقم:()،وصححه الألباني في "صحيح أبي داود"]
(16) [أخرجه البخاري في "صحيحه" برقم:(6484).
(17) [أخرجه مسلم في "صحيحه" برقم:(2948)، وهو من حديث مَعقِل بن يَسار، قال النووي: "المراد بالهَرْج هنا: الفتنة واختلاط أمور الناس، وسبب كثرة فضل العبادة فيه أن الناس يَغفلون عنها، ويَشتغلون عنها، ولا يتفرَّغ لها إلا أفراد". "شرح مسلم" (18/88)]
(18) [أخرجه مسلم في "صحيحه"برقم:(121)]
(19) [يُنظر: "السنن الكبرى"؛ للبيهقي،برقم:(17761)، و"مسند" أبي يَعلى برقم:(2679)، و"المعجم الكبير"؛ للطبراني برقم:(11709)، وقال الهيثمي في "مجمع الزوائد" (7/10): رجاله ثِقات]
(20) [قاله في "صحيحه" (4 / 18)]
(21) [أخرجه مسلم في "صحيحه"برقم:(673)]
(22) [عون المعبود وحاشية ابن القيم، (2/204)]
(23) [هذه فضائل الهجرة الحسّية فهمي متضمّنة للهجرة المعنوية كما مرّ لذلك خصّصتها بالذكر]
(24) [أخرجه الحاكم في "المستدرك" برقم:(2389)، وقال: "هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه"، ووافقه الذهبي]
(25) [أخرجه البخاري في "صحيحه"برقم:(3779)]
(26) ["فتح الباري" لابن حجر(8/51)]
(27) [ممن نقل ذلك النووي في "شرح مسلم"(8/13)]
(28) [أخرجه الترمذي في "جامعه"برقم:(1604) , والنسائي في "سننه" برقم:(4780) , وأبو داود في "سننه"برقم:(2645)،وصحّحه الألباني في صحيح أبي داود وغيره]
(29) [أبو داود في "سننه"برقم:(2787)،وصحّحه الألباني في صحيح أبي داود وغيره]
(30) ["الدرر السّنّية في الأجوبة النّجدية" (8/426،427)]
(31) ["المغني" له (9/237،236)،"الدرر السنية في الاجوبة النجدية"(8/430)وما بين المعكوفتين في النوع الثاني من كلام محمد بن عبد اللطيف -رحمه الله-]
(32) ["الأم"(2/170،171)]
(33) ["مجموع الفتاوى"له (1/77)]
(34) [ "المنتقى من فتاويه" (1/254)]
(35) [[السؤال الأول من الفتوى رقم (6582)]
(36) [فتوى الشيخ على موقعه المبارك : https://ferkous.com/home/?q=fatwa-29]
(37) [أحمد (18524) عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ( إِنَّ أَوْثَقَ عُرَى الْإِيمَانِ: أَنْ تُحِبَّ فِي اللهِ، وَتُبْغِضَ فِي اللهِ ) ،حسنه الألباني في "صحيح الترغيب" (3030)]
(38) [أخرجه أبو داود في "سننه" (2787) ،وحسَّنه الألباني في "الصحيحة"برقم: (1330)]
(39) [أخرجه مسلم في "صحيحه"برقم:(144)]
(40) [أخرجه أبو داود في "سننه"برقم:(4345)، وحسَّنه الألباني في "صحيح الجامع" (698)]
(41) ["مطوية" : "نصيحة إلى مقيم في بلد الكفر" للشيخ فركوس -حفظه الله-]
(42) [الفقرة مستلّة من"مطوية" : "نصيحة إلى مقيم في بلد الكفر" للشيخ فركوس -حفظه الله-،بتصرف يسير جدّا]
(43) ["الإبانة الكبرى "لابن بطة برقم:(585)]
(44) [أثر وتعليق للشيخ عبد الرزاق البدر -حفظه الله- بموقعه]
(45) [هذا المقصد الأخير من مطوية الشيخ فركوس -حفظه الله-]
(46) [تفسير القرطبي " (5/350)]
(47) [من مطوية" : "نصيحة إلى مقيم في بلد الكفر" للشيخ فركوس -حفظه الله-]
(48) ["احكام القرآن" لابن العربي(1/611) و "تفسير" القرطبي (5/350)]
(49) [من مطوية" : "نصيحة إلى مقيم في بلد الكفر" للشيخ فركوس -حفظه الله-]
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top