موقف المسلم من الفتن لجمع من أفاضل أهل العلم - حفظهم الله-

بذرة الخوارج نشأة في عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - ففي حديث أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - جاء عبدالله ذو الخويصرة التميمي فقال "اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ فَقَالَ وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَعْدِلْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَهُ قَالَ دَعْهُ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِ يَمْرُقُونَ مِنْ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنْ الرَّمِيَّةِ..." رواه البخاري (6933) ومسلم (1063) وبعد ما جرى بين علي - رضي الله عنه - من جهة ومعاوية وعمرو بن العاص من جهة في موقعة صفين ورفع أصحاب معاوية المصاحف طلباً للتحكيم ثم رضوا بالتحكيم وأن يرجع معاوية للشام وعلي للكوفة خرجت الخوارج على علي وكانوا معه فكفروه لأنه رضي بالتحكيم والله يقول ﴿ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المائدة: 44] وطلبوا منه التوبة من الكفر واجتمعوا بحروراء وأرسل علي ابن عباس - رضي الله عنه - لمناظرتهم ثم رجع منهم خلق كثير ثم استباحوا دماء مخالفيهم فقتلوا من اجتاز بهم من المسلمين فمر بهم عبد الله بن خباب بن الأرت ومعه سرية وهي حامل فقتلوه وبقروا بطن سريته عن ولد فبلغ عليا فخرج إليهم وحصل بينهم واقعة النهروان ونال منهم ولم يبق منهم إلا القليل الذي حمل فكرهم.



من أسماء الخوارج الحرورية نسبة إلى حروراء مكان قرب الكوفة حينما تجمعوا بها ضد علي - رضي الله عنه - والشراة حينما أدعوا أن شروا أنفسهم أي باعوها لله والمحكمة حينما انكروا التحكيم بين علي وخصومه - رضي الله عنه -


• من صفات الخوارج أنهم يتنطعون في الدين فيظهرون من الزهد والتخشع مالم يأذن به الله ففي رواية للبخاري (7562) لحديث أبي سعيد - رضي الله عنه - "مَا سِيمَاهُمْ؟ قَالَ سِيمَاهُمْ التَّحْلِيقُ أَوْ قَالَ التَّسْبِيدُ" أي أنهم يحلقون شعر الرأس تعبدا في غير النسك.



• من صفاتهم أن قياداتهم شابة غير راشدة ففي حديث علي - رضي الله عنه - "سَيَخْرُجُ قَوْمٌ فِي آخِرِ الزَّمَانِ أَحْدَاثُ الْأَسْنَانِ سُفَهَاءُ الْأَحْلَامِ" رواه البخاري (6930) ومسلم (1066).



• من صفاتهم الجهل بالعلم الشرعي فلم يعرفوا بالتتلمذ على العلماء العاملين فهم يعتمدون على فهمهم للنصوص دون الرجوع إلى أهل العلم وما ضل من ضل إلا بذلك ففي حديث علي - رضي الله عنه - "يَقُولُونَ مِنْ خَيْرِ قَوْلِ الْبَرِيَّةِ لَا يُجَاوِزُ إِيمَانُهُمْ حَنَاجِرَهُمْ" وفي حديث أبي سعيد "يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ" رواه البخاري (5058) ومسلم (1064) فهم يقرأون القرآن ويستدلون به من غير فهم فحفظهم للقرآن مجرد حفظ الألفاظ من غير فقه فيه ومعرفة متشابهه. وهذا معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - "لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ".



• من صفاتهم أن عندهم كثرة عبادة ففي حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - "تَحْقِرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ".



• من صفاتهم اعتراضهم على العلماء العاملين فقدوتهم ذو الخويصرة التميمي قال "اعْدِلْ يَا رَسُولَ اللَّهِ" وخلفه كفروا الصحابة - رضي الله عنه - وطلبوا منهم التوبة من الكفر في حادثة التحكيم.



• من معتقد الخوارج تكفير أصحاب الكبائر فكفروا بعض الصحابة: قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/ 468) النواصب الخوارج المارقون إذ قالوا: إن عثمان وعلي بن أبي طالب ومن معهما كانوا كفارا مرتدين.



• من معتقدهم أنهم يستحلون دماء المسلمين فينشغلون بالمسلمين عن الكفار ففي حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - "يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ" رواه البخاري (3344) ومسلم (1064) قال الحافظ ابن حجر في الفتح (12/301) الخوارج لما حكموا بكفر من خالفهم استباحوا دماءهم وتركوا أهل الذمة فقالوا نفي لهم بعهدهم وتركوا قتال المشركين واشتغلوا بقتال المسلمين وهذا كله من آثار عبادة الجهال.



• من معتقدهم تخليد أصحاب الكبائر في النار واستدلوا بنصوص الوعيد كقوله تعالى ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93] وكحديث "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ" رواه البخاري (2475) ومسلم (57) عن أبي هريرة - رضي الله عنه.



فمن أسباب جهلهم عدم جمعهم بين النصوص أحياناً وحمل النصوص الواردة في الكفار على المسلمين سئل نافع كيف كان رأي بن عمر - رضي الله عنه - في الحرورية قال كان يراهم شرار خلق الله انطلقوا إلى آيات الكفار فجعلوها في المؤمنين صحح إسناده ابن حجر في الفتح (12/286).



• من معتقدهم أنهم ينكرون بعض السنة بحجة مخالفتها للقرآن أحياناً ولكفر من نقلها من الصحابة - رضي الله عنه - أحياناً فمثلا أنكروا حد الرجم لأن الذي جاء بالقرآن هو الجلد فقط وأنكروا نصاب السرقة فالقرآن أطلق قطع يد السارق وأنكر عامتهم عذاب القبر.

من معتقدهم يرون الخروج المسلح على الحاكم الشرعي بسبب المعصية وإن كان متأولا فخرجوا على علي - رضي الله عنه -.
إلى هنا إنتهى المقصود من نقل الكلام و راجع للتمام فقد قرب وقت الصلاة.

رابط الموضوع: من هم الخوارج؟
تــــم الاطلاع أخي
قرأت و أعدت القراءة
 
في الغد أكمل الجزء التالي من المحاظرة
بحول الله تعالى
 
الأثر الرابع
الانتهاء إلى العواقب المُرْديَة والمآلات السَّيئَة


من آثار الفتن وعواقبها: أن من يدخل الفتنة ويتوَّرط فيها: يبوء بالعواقب المردية والمآلات السَّيئَة، ولا ينال منها خيرًا، وفي الوقت نفسه لا يحصِّل خيرًا، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تتبَّع جملةً من الفتن الَّتي ثارتْ في أزمنة قبله ورصدها رحمه الله، وذكر في كتابه ((منهاج السُّنَّة)) خلاصةً جميلةً نافعةً مفيدةً لمآلات تلك الفتن فقال رحمه الله: (( قلَّ من خرج على إمام ذي سلطان إلاَّ كان ما تولَّد على فعله من الشَّرِّ أعظم ممَّا تولًّد من الخير ))، وذكر أمثلةَ كثيرةً لِفِتَنٍ حصلتْ، ثمَّ لخَّص نَتَاجَ وآثار تلك الفتن: فقال رحمه الله: ( فلا أقاموا دينا، ولا أَبْقَوْا دُنْيَا )(1).
أي : من تصدَّروا تلك الفتن، وسعوا فيها، ما أقاموا دينًا، ولم يُبقوا دُينا: لأنَّ الفتنة إذا ثارت يقع القتلُ، ويكثر الهَرْجُ، ويموج الناس، وتحصُل الفتن، والعواقب السيئة، ولا يحصِّلُ مُثِير الفتنة أيَّ خيرٍ.
ومَرَّ قريبًا معنا قصَّةُ النَّفر الذين لم يَعْبَؤوا بنصيحة الإمام أحمد، وكذلك قصة النفر الذين لم يعبؤوا بنصيحة الحسن البصري، وكانت النتيجة عند هؤلاء وعند هؤلاء أنَّهم ما أقاموا دينًا، وكانت مآلاتهم: إما إلى حبس أو إلى قتل أو هروب أو غير ذلك من المآلات والنِّهايات، وهذا متكرِّرٌ في التَّاريخ.
وفي المجلد الثامن من (سير أعلام النبلاء) – في ترجمة الحكم بن هشام الدَّاخل الأموي- كان أمير الأندلس-: يقول الذّهبي في قصةٍ طويلة لا يَسَعُ المقام لذكرها، ولكن يمكن أن تُراجع في ( سير أعلام النبلاء) (2)، بدأها الذهبي رحمه الله بقوله: ( كَثُرَت العلماء بالأندلس في دولته –أي دولة الحَكَم- حتَّى قيل: إنه كان بقرطبة أربعة آلاف مُتَقَلِّس مُتَزيِّن بزيِّ العلماء – يعني: كَثُرَ أهل العلم وطلبة العلم المتزيِّين بزيِّ أهل العلم- قال : فلما أراد الله فناءهم: عزَّ عليهم انتهاك الحَكَم للحُرمات، وائتمروا ليخلعوه، ثم جيَّشوا لقتاله، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله فلا قوَّة إلاَّ بالله )، ثمَّ سرد القصَّة رحمه الله، وفي نهايتها أنَّ كثيرًا من هؤلاء قُتلوا ومنهم مَنْ فَرَّ، ومنهم من سُجِنَ دون أن يقيموا دينًا بمثل هذه الفتن التي تُشعل وتُؤجَّج، والسَّعيد – كما يُقال- مَنِ اتَّعظ بغيره.
بل إن عددا كبيرا ممن شاركوا في الفتن ودخلوا فيها كانت نهايتهم فيها النَّدم وتمنِّي أن لو لم يدخلوا في تلك الفتن.
وسُطِّر من ذلك شيءٌ كثير في كتب التاريخ والتراجم، أخبارٌ لأولئك الذين شاركوا في الفتن كانت نهايتهم النَّدم على ذلك.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمة الله: ( وهكذا عامَّة السَّابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال ) (3).
ويقول أيُّوب السَّخْتِيَانِي رحمه الله، ذكر القرَّاء الذين خرجوا مع ابن الأشعت: فقال : ( لا أعلم أحدًا منهم قُتِلَ إِلَا قد رُغِبَ له عن مصرعهِ، ولا نجا منهم أحدٌ إلا حَمِدَ الله إلي سلَّمه ) (4) وندم على ما كان منه.
ومن الأخبار المفيدة واللَّطيفة في هذا الباب قصة زُبيد ابن الحارث اليامي، وهو من رجال الكتب السِّتَّة، ومن علماء الإسلام، وهو ممَّن دخل في فتنة ابن الأشعت، ولكنَّه سَلِمَ منها، وسَلِمَ من القتل، قال محمَّد بن طلحة: ( رآني زبيد مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك، فقال : لو شهدتَ الجماجم ما ضَحِكْتَ! )، و (الجماجم) التي يشير إلها: جماجم المسلمين ورؤوسهم تتساقط بأيدي المسلمين أنفسهم، يقتل بعضُهم بعضًا ثم قال زبيد: ( وَلَوَدِدْتُ أنَّ يدي –أو قال: يميني- قُطعت من العَضُد ولم أكن شهدت ذلك ) (5).
ثم جاءت فتنة بعد ذلك ودُعِيَ إلى المشاركة فيها لكنه رأى الآثار والعواقب وانْتَبَه، فتأمل جوابه الطَّريف اللطيف الذي هو جواب مجرِّب، جاء في بعض الرِّوايات أن منصور ابن المعْتَمِر كان يختلف إلى زبيد، فذكر أهل البيت يُقتلون، ويريد زبيد أن يخرج مع زيد بن عليٍّ في فتنة أخرى، فقال زبيد رحمه الله: ( ما أنا بخارج إلاَّ مع نبيٍّ، وما أنا بواجِده ) (6)، أي : لن أجد نبيًّا أخرج معه، هذه قالها عن معرفةٍ وتجربةٍ ومعاينةٍ للآثار الَّتي حُصدت من تلك الفتن.


___________
1. منهاج السنة (4/527-528 ).
2. (8/253-260).
3. منهاج السنة (4/316).
4. أخرجه خليفة بن خياط ف ((تاريخه)) (ص76).
5. تاريخ خليفة (ص76).
6. أخرجه يعقوب بن سفيان في ((تاريخه)) (3/107)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (19/473).



*****

إن شاء الله
الأثر الخامس
من دخل الفتن انحطَّ قدره
يااااااااااااه يا أخي أباليث كم أبكاني هذا الجزء
خصوصا هتان العبارتان
( فلا أقاموا دينا، ولا أَبْقَوْا دُنْيَا )
و بالأخص هته الجملة
رآني زبيد مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك، فقال : لو شهدتَ الجماجم ما ضَحِكْتَ! )، و (الجماجم) التي يشير إلها: جماجم المسلمين ورؤوسهم تتساقط بأيدي المسلمين أنفسهم، يقتل بعضُهم بعضًا ثم قال زبيد: ( وَلَوَدِدْتُ أنَّ يدي –أو قال: يميني- قُطعت من العَضُد ولم أكن شهدت ذلك ) (5).
و الله لا أرضى أن يؤذي مسلم مسلما و لو بنظرة فكيف إذا وصل الحال إلى هكذا أمر و الله حزنت و تذكرت الكثير من الأمور الله المستعان
و حسبي الله و نعم الوكيل
باركك الله أخي
 
من آثار الفتن وعواقبها : أنَّ مَنْ يدخل الفتنة ويتورَّط فيها يبوء بالعواقب المردية والمآلات السَّيِّئة ، وفي الوقت نفسه لا يحصِّل خيرًا ، وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى تتبَّع جملةً من الفتن الَّتي ثارتْ في أزمنةٍ قبله ورصدها رحمه الله ، وذكر في كتابه «منهاج السُّنَّة» خلاصةً جميلةً نافعةً مفيدةً لمآلات تلك الفتن فقال رحمه الله : «قلَّ من خرج على إمامٍ ذي سلطان إلَّا كان ما تولَّد على فعله من الشَّرِّ أعظم ممَّا تولَّد من الخير» وذكر أمثلةً كثيرةً لِفِتَنٍ حصلتْ ، ثمَّ لخَّص نَتَاجَ وآثار تلك الفتن فقال رحمه الله تعالى: «فلا أقاموا دينًا، ولا أَبْقَوْا دُنْيا» .


«فلا أقاموا دينًا » ؛ أي : من تصدَّروا في تلك الفتن، وسعوْا فيها ما أقاموا دينًا ،


« ولا أَبْقَوْا دُنْيا» ؛ لأنَّ الفتنة إذا ثارت يقع القتلُ ، ويكثر الهَرْجُ ، ويموج النَّاس ، وتحصُل الفتن والعواقب السَّيِّئة ، ولا يحصِّل مُثِيرو الفتنة أيَّ خَيْرٍ ، وَمَرَّ قريبًا معنا قصَّةُ النَّفر الَّذين لم يَعْبَؤوا بنصيحة الإمام أحمد ، وكذلك قصَّة النَّفر الَّذين لم يعبؤوا بنصيحة الحسن البصري رحمه الله ، وكانت النَّتيجة عند هؤلاء وعند هؤلاء أنَّهم ما أقاموا دينًا ، وكانت مآلاتهم إمَّا إلى حبسٍ أو إلى قتلٍ أو ضروب أو غير ذلك من المآلات والنِّهايات ؛ وهذا متكرِّرٌ في التَّاريخ.


وفي المجلَّد الثَّامن من «سِيَرِ أعلام النُّبلاء» في ترجمة الحكم بن هشام الدَّاخل الأموي كان أمير الأندلس ؛ يقول الذَّهبي في قصَّةٍ طويلة لا يَسَعُ المقام لذكرها ، ولكن يمكن أن تُراجع في «سير أعلام النُّبلاء» بدأها الذَّهبي رحمه الله بقوله: «كَثُرَت العلماء بالأندلس في دولته - أي دولة الحَكَم - حتَّى قيل : إنَّه كان بقرطبة أربعة آلاف مُتَقَلِّس مُتَزيِّين بزِيِّ العلماء - يعني: كَثُرَ أهل العلم وطلبة العلم والمتزيِّين بزيِّ أهل العلم - فلمَّا أراد الله فناءهم ؛ عزَّ عليهم انتهاك الحَكَم للحُرمات وائتمروا ليخلعوه ، ثمَّ جيَّشوا لقتاله، وجرت بالأندلس فتنة عظيمة على الإسلام وأهله، فلا قوَّة إلَّا بالله» ثمَّ سرد القصَّة رحمه الله ، وفي نهايتها أنَّ كثيرًا من هؤلاء قُتلوا ، ومنهم مَنْ فرَّ، ومنهم مَنْ سُجِنَ دون أن يقيموا دينًا بمثل هذه الفتن الَّتي تُشعَل وتُؤجَّج ، والسَّعيد - كما يُقال - مَنِ اتَّعظ بغيره ، بل إنَّ عددًا كبيرًا ممَّنْ شاركوا في الفتن ودخلوا فيها كانت نهايتهم فيها النَّدم وتمنِّي أن لو لم يدخلوا في تلك الفتن ، وسُطِّر من ذلك شيءٌ كثير في كتب التَّاريخِ والتَّراجمِ ، أَخْبَارٌ لأولئك الَّذين شاركوا في الفتن كانت نهاياتهم النَّدم على ذلك .


يقول شيخ الإسلام ابن تيميَّة رحمه الله تعالى : «وهكذا عامَّة السَّابقين ندموا على ما دخلوا فيه من القتال » .


ويقول أيُّوب السَّخْتِيَانِي رحمه الله ، وقد ذكر القرَّاء الَّذين خَرَجُوا مع ابن الأشعث فقال: «لا أعلم أحدًا منهم قُتِلَ إلَّا قد رُغِبَ له عن مصرعِه ، ولا نجا منهم أحدٌ إلَّا حَمِدَ الله الَّذي سلَّمه » أي: أنه ندم على ما كان منه.


ومن الأخبار المفيدة واللَّطيفة في هذا الباب : قصَّة زُبيد ابن الحارث اليامي - وهو من رجال الكتب السِّتَّة، ومن علماء الإسلام ، وهو ممَّن دخل في فتنة ابن الأشعث ولكنَّه سَلِمَ منها وسَلِمَ من القتل - قال محمَّد بن طلحة: «رآني زُبيد مع العلاء بن عبد الكريم ونحن نضحك فقال : لو شهدتَ الجماجم ما ضَحِكْتَ!» ، والجماجم التي يشير إليها: جماجم المسلمين رؤوس المسلمين تتساقط بأيدي المسلمين أنفسهم، يقتل بعضُهم بعضًا ، ثمَّ قال زبيد: «وَلَوَدِدْتُ أنَّ يدي ـ أو قال: يميني ـ قُطعت من العَضُد ولم أكن شهدت ذلك» ، ثمَّ جاءت فتنة بعد ذلك ودُعِيَ إلى المشاركة فيها لكنَّه رأى الآثار والعواقب وانْتَبَه ، فاسمعوا جوابه الطَّريف اللَّطيف الَّذي هو جواب مجرِّب ؛ جاء في بعض الرِّوايات أنَّ منصور ابن المعْتَمِر كان يختلف إلى زُبَيد فذكر أنَّ أهل البيت يُقتَلون ، ويريد من زبيد أن يخرج مع زيد بن عليٍّ في فتنة أخرى، فقال زُبيد رحمه الله : «ما أنا بخارج إلَّا مع نبيٍّ ، وما أنا بواجِده» أي: لن أجد نبيًّا أخرج معه ، هذه قالها عن معرفةٍ وتجربةٍ ومعاينةٍ للآثار الَّتي حُصدت من تلك الفتن .




ª أيضًا من آثارها: أنَّ مَن يدخل فيها وهو من أهل العلم ربَّما أنَّها تؤدِّي به إلى نقوص قدره وسقوط شأنه ، ومن سَلِم من تلك الفتن تكون سلامته منها رفعةً له وسببًا لانتفاع النَّاس بعلمه ومضيِّ الخير وجريانه على يديه بتوفيقٍ من الله تبارك وتعالى ، ولهذا قال عبدُ الله بن عون : «كان مسلم ابن يسار عند النَّاس أرفع من الحسن - أي البصري - فلمَّا وقعت الفتنة خفَّ مسلمٌ فيها وأبْطَأَ عنها الحسن - أي: تأخَّر واعتزل الفتن - ، فأمَّا مسلمٌ فإنَّه اتَّضَعَ ـ أي عند النَّاس ـ، وأمَّا الحسن فإنَّه ارتفع» ؛ مسلم بن يسار الَّذي قال عنه عبد الله بن عون ما سمعنا ؛ وهو ممَّن دخل في فتنة ابن الأشعث؛ لكنَّه لما انتهت كان يحمَد الله ويقول في حمده لله تبارك وتعالى : «يا أبا قِلابة! إنِّي أحمدُ الله إليك أنِّي لَمْ أَرْمِ فيها بسهم، ولم أطعَن فيها برمح، ولم أضرب فيها بسيف» معنى كلامه: أنا مشيتُ معهم؛ لكنَّني ما رميتُ بسهم ولا ضربتُ بسيف ، فكان يقول هذا الكلام يحمد الله، وكان عنده أبو قلابة رحمه الله ، فقال له أبو قلابة : يا أبا عبد الله! «فكيف بمن رآك واقفا في الصَّفِّ؟ » أنت عالم معروف بين النّاس ومكانتك معروفة؛ فكيف بمن رآك بين الصَّفَّين ، فقال: «هذا مسلم بن يسار، والله! ما وقف هذا الموقف إلا وهو على الحقِّ؟!» وُقُوفُكَ بين الصَّفَّيْن وحضورك بنفسك وقيامك مع هؤلاء وجودك نفسه هذا ممَّا يزيد الفتنة ، فيقول له أبو قلابة ماذا تقول فيمن شاهدك ورآك في هذا المقام وقال إن مسلم بن يسار لم يحضر هنا إلا لأن الأمر حق فدخل وقاتل حتى قُتل أو قاتل حتى قَتَل ! فما أنت صانع بهؤلاء ؟ فبكى مسلم بن يسار لما نبَّهه على هذا الأمر ؛ يقول أبو قلابة: « فبكى وبكى حتَّى تمنَّيتُ أنِّي لم أكُن قلتُ له شيئًا» يعني: تأثَّر للحال الَّتي آل إليها أمر مسلم عندما ذكَّره بخطورة وقوفِه حتَّى بدون مشاركة ، فكيف بمن شارك؟!




ª من آثار الفتن وعواقبها : أنَّ الأمور تشتبه فيها على النَّاس وتختلط ، ولا يَمِيزُ كثيرٌ من النَّاس بين حقٍّ وباطل، ويُقتل الرَّجل ولا يدري فيما قُتل! ويقتلُه قاتله ولا يدري فيما قتله!! لكنَّها فتنة مضطرمة، ويموج النَّاس ، وتتغيَّر النُّفوس ، وتعظمُ الأخطار ، وتُحدِقُ الشُّرور بالنَّاس ، وتصبحُ الأمور مُشْتَبِهَة ، يقول أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : «إنَّ الفتنة إذا أقبلت شبَّهت، وإذا أدبرت تبيَّنت» ؛ الفتنة إذا أقبلت على النَّاس شبَّهت : تُصبح أمرُها مشتَبِهًا على النَّاس غير متَّضحٍ ، وإذا أدبرت عرف النَّاسُ حالها وتبيَّن لهم أمرُها.


ويقول مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير : «إنَّ الفتنة لا تجيء حين تجيء لتهدي النَّاس ، ولكن لتُقارعَ المؤمنَ على دينه» ؛ ولنعتبر في هذا الباب بفتنة المسيح الدَّجَّال الَّتي هي أعظم الفتن ، والنَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام ذكر لأمَّته فيها حقائق جليَّة وأمور واضحة، تكشفُ عوار الدَّجَّال وتبيِّن حقيقتَه، ومع ذلك يتبعُه خلقٌ لا يحصيهم إلَّا الله !! .


يقول عليه الصَّلاة والسَّلام : «مَنْ سَمِعَ بِالدَّجَّالِ فَلْيَنْأَ عَنْهُ - أي: يبتعد عنه ولا يقترب من مكانه - فَوَاللهِ! إِنَّ الرَّجُلَ لَيَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسِبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ فَيَتَّبِعُهُ مِمَّا يَبْعَثُ بِهِ مِنَ الشُّبُهَاتِ» ، «فيتَّبعه» أي: يتَّبع الدَّجَّال ممَّا يَبعث به من الشُّبهات : أي ممَّا يُثيره الدَّجَّالُ من الشُّبهات الَّتي تخطفُ القلوبَ وتأسِرُ النُّفوسَ .


وجاء في الحديث في صحيح مسلم أنَّ النَّبيَّ عليه الصَّلاة والسَّلام قال: «مَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ، يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً ؛ فَقُتِل فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ» ؛ وقوله: «عمِّيَّة»؛ أي: الأمر الأعمى لا يَسْتَبِين حاله ولا يتَّضح أمره ، وهذا حال الفتن وشأنها أنَّها يصبح النَّاس يموجون فيها ولا يتَّضِح لهم فيها أمرٌ ولا تَستبينُ لهم فيها جادَّةٌ .


ومن لطيف ما يُذكر في هذا المقام : قصَّةَ الصَّحابيِّ الجليل سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه وأرضاه ؛ يقول ابن سيرين: «قيل لسعد بن أبي وقَّاص: ألا تقاتل؟! - يقصدون في الفتنة الَّتي كانت والقتال الَّذي كان بين معاوية وبين عليِّ بن أبي طالب ، وكان سعد ممَّن اعتزل ذلك وابتعد عنه - فقالوا له: ألا تقاتل؟! فإنَّك من أهل الشُّورى، وأنت أحقُّ بهذا الأمر من غيرك؟! فقال: «لا أقاتل حتَّى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر». يعني تأتوني بسيف يعرف المؤمن من الكافر، إن ضربتُ مسلمًا نَبَا عنه لا يقتله، وإن ضربت كافرًا قتله. ثمَّ قال: «فقد جاهدت وأنا أعْرِف الجهاد». أمَّا مثل هذا القتال الَّذي تتساقط فيه رؤوس المسلمين ويقتل بعضهم بعضًا لا أدخل في ذلك إلَّا أن تأتوني بسيف هذه صفته ، ثمَّ ضرب مثلًا عجيبًا قال فيه رضي الله عنه : «مثلُنا ومثلُكم كمثل قوم كانوا على محجَّةٍ بيضاء ، فبينما هم كذلك يسيرون هاجت ريح عَجاجةٌ فضلُّوا الطَّريق - اشتبه الطَّريق بسبب العجاج والرِّيح والتبس عليهم - فقال بعضهم: الطَّريق ذات اليمين ؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلُّوا ، وقال آخرون: الطَّريق ذات الشِّمال ؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلُّوا ، وقال آخرون: كنَّا في الطَّريق حيث هاجت الرِّيح فنُنِيخُ ؛ فأناخوا فأصبحوا ، فذهب الرِّيح وتبيَّن الطَّريق فهؤلاء هم الجماعة ، قالوا: نَلزم ما فارَقَنَا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى نلقاه، ولا ندخل في شيءٍ من الفتن» .


وكان منهجُ سعد بن أبي وقَّاص وعبد الله بن عمر وجماعة من الصَّحابة أنَّ الحلَّ في الأمر الَّذي كان بين معاوية وبين عليٍّ ليس السَّيف، وإنَّما الحلُّ السَّعي في الصُّلح والتَّروِّي في الأمور ونحو ذلك، وعليٌّ رضي الله عنه كان له اجتهاده، ومعاوية رضي الله عنه كان له اجتهاده، ولا يُعدم مَنْ كان مجتهدًا متحرِّيًا الحقَّ والصَّواب من أجر الاجتهاد والإصابة، أو أجر الاجتهاد والخطأ وذنبه مغفور ، كما قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «إِذَا حَكَمَ الحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ فَأَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا اجْتَهَدَ فَأَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ » ، لكنَّ جماعةً من الصَّحابة رأوا أنَّ الحلَّ في مثل ذلك ليس بالسَّيف والقتال، وإنَّما بالسَّعي في الصُّلح والبُعد عن القتال وجمع الكلمة إلى غير ذلك من الأمور .


ª أيضًا في الفتن وممَّا يترتَّب عليها : أنَّ الفتن تكون سببًا ووسيلة لاستدراج النَّاشئة وصغار الأسنان والتَّغرير بهم من خلال خطوطٍ وقنواتٍ ومسارات إلى أن يصلوا إلى عواقب وخيمة ونهاياتٍ مؤلمة .


وهنا ينبغي على الشَّابِّ أن لا يَغْتَرَّ بالدِّعايات الَّتي تُرفع والشِّعارات الَّتي تُثار والعبارات ونحو ذلك ، بل إذا دُعي إلى شيء يرجع إلى أكابر أهل العلم ، قد قال عليه الصَّلاة والسَّلام : «البَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ» ؛ إذا دعي إلى طريق أو مسار أو مسلَك يرجع إلى الأكابر، أكابر أهل العلم، الرَّاسخين فيه، المعروفين بالتَّحقيق فيه، الَّذين طالت قدمهم في العلم ومدارسته ومذاكرته، وطالت قدمهم في الفتوى والبيان والتَّوجيه والنَّصيحة والتَّعليم ، يرجعُ إليه فيسأل ، لكن في الفتن قد يُستدرَج بعض النَّاشئة ويؤخذون عبر خطوات إلى أن يدخلوا في أمورٍ عظيمة وورطاتٍ ربَّما لا يجدون لأنفسهم منها مخرَجًا .


وتكون البدايات مع الصِّغار من مثيري الفتن في أشياء مألوفة وأمورٍ معروفة ، مثل أن يجتمع جماعة ويتعاهدون على أشياء معروفة ومتقرِّرة ، يقولون مثلًا : نجتمع على الإيمان بالله وملائكته وإقام الصَّلاة وإيتاء الزَّكاة ونتعاهد على ذلك، ويضيفون لها بعض الأشياء الَّتي تجعل الشَّابَّ فيما بعد يجد أنَّه التزم بعهد وربَّما دخل في حزبٍ أو سلك في تنظيمٍ أو دخل في بيعةٍ أو نحو ذلك ، ويجد نفسَه في مسارٍ يحتار فيه ، وربَّما يصعب عليه الرُّجوع ، وقد قطع فيه شوطًا وتورَّط في ذلك المسلك والمسار ، بينما إذا كان الشَّابُّ موفَّقًا ومَنَّ الله عليه بالتَّوفيق فإنَّه يسلم من ذلك.


ومثل هذه الأمور كانت توجد من قديمٍ ؛ في زمن التَّابعين يَرْوِي لنا مطرِّف بن عبد الله بن الشّخِّير قصَّةً له لما كان صغيرًا لما كان غلاماً ، يقول: «كنَّا نأتي زيد بن صُوحَان، فكان يقول: يا عباد الله! أكرموا وأجمِلوا فإنَّما وسيلة العباد إلى الله بخصلتين : الخوف والطَّمع - كان واعظا يعظُ ويذكِّر ويخوِّفهم بالله، ويرغِّبهم في العبادة والطَّاعة - فأتيته ذات يوم وقد كتبوا كتابًا فَنَسَّقُوا كلامًا من هذا النَّحو : إنَّ الله ربُّنا ، ومحمَّد صلى الله عليه وسلم نبيُّنا ، والقرآن إمامنا ، ومن كان معنا كنَّا وكنَّا، ومن خالفنا كانت يَدُنَا عليه وكنَّا وكنَّا - كتبوا كتابًا بهذه المعاني وبهذه المضامين - فجعل يعرض الكتاب عليهم رجلًا رجلًا ، كلَّما عرضوا على رجل يقولون له : أقررتَ يا فلان؟! يقول: نعم أقررتُ . حتَّى انتهوا إليَّ ؛ فقالوا : أقررتَ يا غلام ؟! - يعني بهذه الأمور - قال: قلت: لا ، ما أقررتُ . قال زيد - أي: ابن صوحان - لا تَعجَلُوا على الغلام، قال: ما تقول يا غلام؟ قلت: إنَّ الله قد أخذ عليَّ عهدًا في كتابه فلن أُحْدِثَ عهدًا سوى العهد الَّذي أخذه اللهُ عليَّ في كتابه ، فرجع القوم عن آخرهم ما أقرَّ منهم أحد، وكانوا زهاء ثلاثين نفسًا» ، أي قرابة الثَّلاثين نفسًا.


فالشَّاهد أنَّ الفتن ربَّما يُستدرج فيها كثير من الشَّباب وصغار السِّنِّ في تنظيمات أو في تحزُّبات أو في بيعات أو في نحو ذلك من الأمور ممَّا يترتَّب عليه ما لا يَحْمدون عاقبتَه.




ª أيضًا من آثار الفتن ومآلاتها المردية : أنَّها تفكِّك المجتمعات ، وتُضعِف الأخوَّة الإيمانيَّة والرَّابطة الدِّينيَّة، وتنشر بين النَّاس الضَّغَائن والأحقاد والعداوات ، ولهذا جاء في الحديث الَّذي في الصَّحيحين - حديث حذيفة بن اليمان - قال: «كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسألُه عن الشَّرِّ مخافةَ أن يدركني ، فقلت: يا رسول الله! إنَّا كنَّا في جاهليَّة وشرٍّ، فجاءنا الله بهذا الخير، فهل بعد هذا الخير من شرٍّ؟ قال: نَعَمْ، فَقلت: يا رسول الله! وهل بعد هذا الشَرِّ من خير؟ قال: نَعَمْ، وَفِيهِ دَخَنٌ » ، وجاء في بعض الرِّوايات أنَّه قال: «بَقِيَّةٌ ـ وفي رواية: جمَاعةٌ ـ علَى أَقْذَاءٍ، وهُدْنَة علَى دَخَنٌ»، وفي رواية قال: «لَا تَرْجِعُ قُلُوبُ أَقْوَامٍ عَلَى الَّذِي كَانَتْ عَلَيْهِ».


فالشَّاهد أنَّ الفتن عندما تتأجَّج تغيِّر النُّفوس وربَّما تخلخلت معاني الأخوَّة والرَّابطة الإيمانيَّة ، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات:10]، والنَّبيُّ عليه الصَّلاة والسَّلام يقول: «كُونُوا عِبَادَ اللهِ إِخْوَانًا، المسْلِمُ أَخُ المُسْلِمِ لَا يَخْذُلُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ وَلَا يَحْقِرُهُ، التَّقوَى هَا هُنَا بِحَسْبِ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ المُسْلِمَ» ، والأحاديث في هذا المعنى كثيرة .




ª أيضًا من عواقب الفتن ومآلاتها : أنَّها ترخص فيها دماء المسلمين - أي بينهم - وتتجرَّأُ النُّفوس على القتل، ويستحلُّ النَّاسُ دماء بعضهم بعضًا ، وقد جاء عن عبد الله ابن عمر أنَّه قال : «في الفتنة لا ترون القتل شيئًا»، وكان رضي الله عنه عظيم النَّهي عن الدُّخول في إراقة الدِّماء ، واستلاب الأموال ، والتَّعدِّي على الأعراض ، وله في هذا كلمة عظيمة جميلة ينبغي أن تُحفظ ويُحافظ عليها ألا وهي : أنَّ رجلًا كتب إلى ابن عمر رضي الله عنهما أنِ اكْتُبْ إليَّ بالعلم ، فكتب إليه: «إنَّ العلم كثيرٌ - يا ابنَ أخي - ولكن إنِ استطعت أنْ تَلْقَى الله خفيفَ الظَّهر من دماء المسلمين ، خَمِيصَ البطن من أموالهم ، كافَّ اللِّسان عن أعراضهم ، لازمًا لجماعتهم ، فَافْعَلْ » ؛ وهي وصيَّة من أعظم الوصايا وأجمعها للعلم كلِّه والخير كلِّه.




ª أيضًا من آثار الفتن: أنَّها تؤدِّي إلى اختلال الأمن ، والأمنُ من أعظم النِّعم الَّتي منَّ الله سبحانه وتعالى بها على أمَّة الإيمان: ﴿ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ ﴾ [قريش:4] . فالأمن نعمة عظيمة ؛ أمنُ الإنسان على دَمِه ، أمنُه على ماله ، أمْنُه على نفسه ، على عرضه إلى غير ذلك هذه من النِّعم الكبار ، لكن إذا اضطربتِ الأمورُ وشبَّت الفتن واشتعلَت أُريقت دماءٌ ، وأُتلفت أموالٌ ، وأُزهقت أرواح ، ويُتِّم أطفال ، ورُمِّل نساء، إلى غير ذلك من العواقب الَّتي لا تُحمد.




ª أيضًا من آثار الفتن: أنَّها تفتح على النَّاس أبوابًا من الانحراف ؛ سواء من الجوانب العقديَّة أو الجوانب الأخلاقيَّة ، ويتجرَّأ أهل الانحلال والفساد في نشر باطلهم وفسادهم ؛ لأنَّ أصحاب الحقِّ شغلتهم الفتنة ، واشتغلوا بها ، وضيَّعت أوقاتَهم ، وصرفتهم عن باب الإفادة والنَّفع والانتفاع ، فيستغلّ أهل الفساد وأهل الشَّرِّ ذلك ؛ فيبدؤون في بثِّ باطلهم ونشر شرِّهم ودعوتهم للرَّذيلة والفساد أو دعوتهم إلى الانحلال العقدي والمذاهب الفاسدة المنحرفة ، يجدون لأنفسهم فرصةً عند اشتغال النَّاس وأهل الخير بالفتن . وهذا ممَّا يؤكِّد على كلِّ مسلم أن يكون في غاية الحَذَر من الفتن وعوائدها.


ª أيضًا من الآثار: أنَّها تؤدِّي وتفضي إلى تسلُّط الأعداء ؛ عندما يتنازع أهل الحقِّ ويفشو فيهم الهرج والقتل ويموج أمرهم وتضطرب كلمتهم يستغلُّ الأعداء هذه الفرصة ويتسلَّطون على أهل الإيمان ويضغطون عليهم بأنواع من الضُّغوطات ؛ لأنه أصبح فيهم شيء من التفكك وضعف الرابطة وضعف الكلمة والقوة ، والله تبارك وتعالى يقول: ﴿ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ﴾ [الأنفال:46].


فالواجب على أهل الإيمان أن يكونوا في غاية الحذر من الفتن وأخطارها ، وأن يكونوا في حيطة من ذلك ، وأن يقبلوا على الله سبحانه وتعالى إقبالًا صادقًا بأن يُعيذهم من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، وأن يصلح لهم أحوالهم، وأن يجمع كلمتهم على الحقِّ والهدى.


اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله ، أوله وآخره ، سره وعلنه ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، وإن الله تبارك وتعالى لسميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .





والله تعالى أعلم ، وصلَّى الله وسلَّم وبارك وأنعم على عبد الله ورسوله نبيِّنا محمَّد وآله وصحبه أجمعين .

فيقول له أبو قلابة ماذا تقول فيمن شاهدك ورآك في هذا المقام وقال إن مسلم بن يسار لم يحضر هنا إلا لأن الأمر حق فدخل وقاتل حتى قُتل أو قاتل حتى قَتَل ! فما أنت صانع بهؤلاء ؟ فبكى مسلم بن يسار لما نبَّهه على هذا الأمر ؛ يقول أبو قلابة: « فبكى وبكى حتَّى تمنَّيتُ أنِّي لم أكُن قلتُ له شيئًا» يعني: تأثَّر للحال الَّتي آل إليها أمر مسلم عندما ذكَّره بخطورة وقوفِه حتَّى بدون مشاركة ، فكيف بمن شارك؟!

و هذا الجزء جدا مؤثر و محزن و له معان كبيرة

ومن لطيف ما يُذكر في هذا المقام : قصَّةَ الصَّحابيِّ الجليل سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه وأرضاه ؛ يقول ابن سيرين: «قيل لسعد بن أبي وقَّاص: ألا تقاتل؟! - يقصدون في الفتنة الَّتي كانت والقتال الَّذي كان بين معاوية وبين عليِّ بن أبي طالب ، وكان سعد ممَّن اعتزل ذلك وابتعد عنه - فقالوا له: ألا تقاتل؟! فإنَّك من أهل الشُّورى، وأنت أحقُّ بهذا الأمر من غيرك؟! فقال: «لا أقاتل حتَّى تأتوني بسيف له عينان ولسان وشفتان يعرف المؤمن من الكافر». يعني تأتوني بسيف يعرف المؤمن من الكافر، إن ضربتُ مسلمًا نَبَا عنه لا يقتله، وإن ضربت كافرًا قتله. ثمَّ قال: «فقد جاهدت وأنا أعْرِف الجهاد». أمَّا مثل هذا القتال الَّذي تتساقط فيه رؤوس المسلمين ويقتل بعضهم بعضًا لا أدخل في ذلك إلَّا أن تأتوني بسيف هذه صفته ، ثمَّ ضرب مثلًا عجيبًا قال فيه رضي الله عنه : «مثلُنا ومثلُكم كمثل قوم كانوا على محجَّةٍ بيضاء ، فبينما هم كذلك يسيرون هاجت ريح عَجاجةٌ فضلُّوا الطَّريق - اشتبه الطَّريق بسبب العجاج والرِّيح والتبس عليهم - فقال بعضهم: الطَّريق ذات اليمين ؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلُّوا ، وقال آخرون: الطَّريق ذات الشِّمال ؛ فأخذوا فيها فتاهوا وضلُّوا ، وقال آخرون: كنَّا في الطَّريق حيث هاجت الرِّيح فنُنِيخُ ؛ فأناخوا فأصبحوا ، فذهب الرِّيح وتبيَّن الطَّريق فهؤلاء هم الجماعة ، قالوا: نَلزم ما فارَقَنَا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتَّى نلقاه، ولا ندخل في شيءٍ من الفتن» .

لقد قلت سابقا دون سابق علم أنك ستأتي على قصة بن أبي وقاص رضي الله عنه أني منبهر بموقفه أيام الفتنة
و الله فطرتي سليمة و الحمد لله ههههههه اخي
 
الاثر الثالث غير موجود اخي اباليث
الأثر الثالث
تصدُّر السُّفهاء

ومن آثار الفتن أيضاً: أنها يترتَّب عليها تصدُّر السُّفهاء، ومن لا علمَ عندهم، ومن لا فقه لهم في دين الله، يتصدَّرون بالحماسة فقط، بدون فقهٍ في دين الله، وبدون درايةٍ، وبدون أناةٍ ولا تؤَدَةٍ، فيتصدَّرون ويُلقون الأحكامَ جزافًا، ويقرِّرون الأقوال، ويُرجفون، ويتدخَّلون في أمر الفُتْيَا وغيرها، وهم لا يُعرفون بعلمٍ ولا يُعرفو بحلمٍ، ولا يُعرفون برويَّةٍ: لكنهم يدفهم في ذلك حماسةٌ تجرُّهم إليها الفتن.
ولهذا يقول شيخ الاسلان ابن تيمة رحمه الله في كتابه (المنهاج) (1) : ( والفتنة إذا وقعت عَجَزَ العُقلاء فيها عن دفع السُّفهاء ).
وهذا شأن الفتن كما قال الله تعالى : (( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً )) [الأنفال: 25].
وإذا وقعت الفتنة: لم يسلَم من التَّلَوُّث بها إلاَّ من عصمَه الله، نسأل الله عز وجل أن يسلِّمنا أجمعين.


___________
1. ( 4/187)
 
الأثر الثالث
تصدُّر السُّفهاء

ومن آثار الفتن أيضاً: أنها يترتَّب عليها تصدُّر السُّفهاء، ومن لا علمَ عندهم، ومن لا فقه لهم في دين الله، يتصدَّرون بالحماسة فقط، بدون فقهٍ في دين الله، وبدون درايةٍ، وبدون أناةٍ ولا تؤَدَةٍ، فيتصدَّرون ويُلقون الأحكامَ جزافًا، ويقرِّرون الأقوال، ويُرجفون، ويتدخَّلون في أمر الفُتْيَا وغيرها، وهم لا يُعرفون بعلمٍ ولا يُعرفو بحلمٍ، ولا يُعرفون برويَّةٍ: لكنهم يدفهم في ذلك حماسةٌ تجرُّهم إليها الفتن.
ولهذا يقول شيخ الاسلان ابن تيمة رحمه الله في كتابه (المنهاج) (1) : ( والفتنة إذا وقعت عَجَزَ العُقلاء فيها عن دفع السُّفهاء ).
وهذا شأن الفتن كما قال الله تعالى : (( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً )) [الأنفال: 25].
وإذا وقعت الفتنة: لم يسلَم من التَّلَوُّث بها إلاَّ من عصمَه الله، نسأل الله عز وجل أن يسلِّمنا أجمعين.


___________
1. ( 4/187)

تم الاطلاع اخي ابوليث
 
الأثر الثالث
تصدُّر السُّفهاء

ومن آثار الفتن أيضاً: أنها يترتَّب عليها تصدُّر السُّفهاء، ومن لا علمَ عندهم، ومن لا فقه لهم في دين الله، يتصدَّرون بالحماسة فقط، بدون فقهٍ في دين الله، وبدون درايةٍ، وبدون أناةٍ ولا تؤَدَةٍ، فيتصدَّرون ويُلقون الأحكامَ جزافًا، ويقرِّرون الأقوال، ويُرجفون، ويتدخَّلون في أمر الفُتْيَا وغيرها، وهم لا يُعرفون بعلمٍ ولا يُعرفو بحلمٍ، ولا يُعرفون برويَّةٍ: لكنهم يدفهم في ذلك حماسةٌ تجرُّهم إليها الفتن.
ولهذا يقول شيخ الاسلان ابن تيمة رحمه الله في كتابه (المنهاج) (1) : ( والفتنة إذا وقعت عَجَزَ العُقلاء فيها عن دفع السُّفهاء ).
وهذا شأن الفتن كما قال الله تعالى : (( وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً )) [الأنفال: 25].
وإذا وقعت الفتنة: لم يسلَم من التَّلَوُّث بها إلاَّ من عصمَه الله، نسأل الله عز وجل أن يسلِّمنا أجمعين.


___________
1. ( 4/187)
من عجيب تقدير الله تعالى أن تأخر نقل هذا الأثر عن غير قصد، و كأن الله أراد يكون هناك حيث موضعه، و هنا حيث أريد، فالحمد لله أولا و أخرا، و ذلك لأهمية هذا الأصل في نقاشنا، فانظر معي أخي جيدا حفظك الله.
نقلت جل هذه النقول الطيبة و منها الأصل السابق، ليكون كلامنا وفقا لكلام أهل العلم، فأنت ترى معي خطورة الفتن و ما تؤول إليه، و أن الفتن لا يمكن أن يعرفها إلا أهل العلم، قال الحسن البصرى رحمه الله
(الفتن إذا أقبلت عرفها كل العالم وإذا أدبرت عرفها كل الجاهل)، إذا أقبلت الفتن لا يعرف حقيقتها إلا العالم وينخدع بها من ليس بعالم، وإذا أدبرت بعد خوض التجربة وإراقة الدماء عرفها كل جاهل، حينها يشترك الناس كلهم فى معرفتها و لَاتَ ساعة مندم.
لأن العالم يحكم عليها قبل أن تستفحل بالبصيرة؛ ينفذ بنور بصيرته إلى مآلاتها وحقيقتها
أما غيره فيعرفها فى وقت لا تفيد فيه المعرفةّ!!!
و لهذا كان من واجب أهل العلم أن يجنبوا الناس الفتن و ذلك بتبصيرهم بها و تحذيرهم من أهلها،و ذلك حتى تبرء ذممهم خاصة في أمر مثل هذا و قد جاء في الحديث الصحيح(
لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق . وروي بلفظ : لهدم الكعبة حجراً حجرا أهون من قتل مسلم).
و على إثرهم في البلاغ و البيان يقوم أهل السنة على التحذير من الفتن و أهلها قبل أن تقع و عند بداية وقوعها و حتى بعد وقوعها، عساهم أن يصرفوا الناس عنها قبل الوقوع، و ليقللوا من ضررها بعد الوقوع، و أنت ترى معي كيف يعرض أهل العلم للكلام عن فقه الفتن في مقالات عدة و فتاوى متعددة ، فمرة ببيان الموقف منها إذا بدئت، و مرة ببيان حال المؤمن فيها إذا وقعت، و مرة بالتنويه عن أثرها و بيان ما يكون فيها للعظة و العبرة، و من ثم يتبين أن الناقل عن أهل العلم تحذيرهم من أهل الأهواء و البدع الذين لهم اليد الطولى في الفتنة لا يعد داخلا في الفتنة، بل على العكس التمام من ذلك، إذ أنه حينها يكون قائم لله يأمر و ينهى أله و قومه و إخوانه من المسلمين، قبل أن تتلطخ أيديهم و سيوفهم بدماء بعضهم بعضا، و أنت ترى معي أخي الذي يحدث اليوم، فالله المستعان و عليه التكلان.
أتمنى أن رسالتي وصلت، و كلماتي الركيكة فهمت، و أسلوبي البسيط أمنكه الرُقي لفكرك الراقي يامحمد.

 
من عجيب تقدير الله تعالى أن تأخر نقل هذا الأثر عن غير قصد، و كأن الله أراد يكون هناك حيث موضعه، و هنا حيث أريد، فالحمد لله أولا و أخرا، و ذلك لأهمية هذا الأصل في نقاشنا، فانظر معي أخي جيدا حفظك الله.
نقلت جل هذه النقول الطيبة و منها الأصل السابق، ليكون كلامنا وفقا لكلام أهل العلم، فأنت ترى معي خطورة الفتن و ما تؤول إليه، و أن الفتن لا يمكن أن يعرفها إلا أهل العلم، قال الحسن البصرى رحمه الله
(الفتن إذا أقبلت عرفها كل العالم وإذا أدبرت عرفها كل الجاهل)، إذا أقبلت الفتن لا يعرف حقيقتها إلا العالم وينخدع بها من ليس بعالم، وإذا أدبرت بعد خوض التجربة وإراقة الدماء عرفها كل جاهل، حينها يشترك الناس كلهم فى معرفتها و لَاتَ ساعة مندم.
لأن العالم يحكم عليها قبل أن تستفحل بالبصيرة؛ ينفذ بنور بصيرته إلى مآلاتها وحقيقتها
أما غيره فيعرفها فى وقت لا تفيد فيه المعرفةّ!!!
و لهذا كان من واجب أهل العلم أن يجنبوا الناس الفتن و ذلك بتبصيرهم بها و تحذيرهم من أهلها،و ذلك حتى تبرء ذممهم خاصة في أمر مثل هذا و قد جاء في الحديث الصحيح(
لزوال الدنيا أهون على الله عز وجل من سفك دم مسلم بغير حق . وروي بلفظ : لهدم الكعبة حجراً حجرا أهون من قتل مسلم).
و على إثرهم في البلاغ و البيان يقوم أهل السنة على التحذير من الفتن و أهلها قبل أن تقع و عند بداية وقوعها و حتى بعد وقوعها، عساهم أن يصرفوا الناس عنها قبل الوقوع، و ليقللوا من ضررها بعد الوقوع، و أنت ترى معي كيف يعرض أهل العلم للكلام عن فقه الفتن في مقالات عدة و فتاوى متعددة ، فمرة ببيان الموقف منها إذا بدئت، و مرة ببيان حال المؤمن فيها إذا وقعت، و مرة بالتنويه عن أثرها و بيان ما يكون فيها للعظة و العبرة، و من ثم يتبين أن الناقل عن أهل العلم تحذيرهم من أهل الأهواء و البدع الذين لهم اليد الطولى في الفتنة لا يعد داخلا في الفتنة، بل على العكس التمام من ذلك، إذ أنه حينها يكون قائم لله يأمر و ينهى أله و قومه و إخوانه من المسلمين، قبل أن تتلطخ أيديهم و سيوفهم بدماء بعضهم بعضا، و أنت ترى معي أخي الذي يحدث اليوم، فالله المستعان و عليه التكلان.
أتمنى أن رسالتي وصلت، و كلماتي الركيكة فهمت، و أسلوبي البسيط أمنكه الرُقي لفكرك الراقي يامحمد.
أهلا بأخي أباليث
إلى حد الساعة بشكل عام عرفت الكثير من الأمور اهمها اتفاق العلماء و على مرور
الاجيال ان لا خير يأتي من الفتن و اهم هته الفتن الخروج عن ولي الامر
و الأهم عندي هو الدليل و حيثما وجد الدليل من القرآن و من السنة و من الصحابة فليس لنا الخيرة او الاختيار
بل التسليم المباشر و محاولة فهم الحكمة من ذالك
هته المحاضرة تأخذ مني وقتان وقت و انا في المنتدى و وقت إذا أويت إلى فراشي
فأحاول الاسترجاع و ترتيب أفكاري
أنا أعيش في وسط هته المحاضرة بقلبي و عقلي فأحيانا أسكت و أحيانا أشد رأسي و أحيانات أقارن
و أحيانا أبكي و أحيانا أتوجع و أحيانا يؤلمني رأسي
و لأأا اخفيك سرا أن هته المحاضرة كانت الثانية في بحثي عن الحقائق سأكملها و أعيد قراءتها لمرات
كثيرة هي الأسئلة التي أرقتني فوجدت لها دليل لكن يبقى علي إعادة القراءة لكي أعقل و لا انسى
و ستكون لي أسئلة في الوقت و المكان المناسب بحول الله تعالى
 
ضوابط لتجنب الفتن
عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إِنَّ السَّعَيدَ لَمَنْ جُنِّبَ الفِتَن)) [1].


وهاهنا يتساءل كثير من الغيورين والناصحين ممن يريدون لأنفسهم الخير والسعادة ولأمتهم أمة الإسلام العلو والرفعة : بمَ تُنال هذه السعادة ؟ وكيف يُظفَرُ بهذا المقصد الجليل ؟ وكيف تُتَقَى الفتُن ؟ وكيف يجنَّبُها المرء المسلم ويسلم من أوضارها وشرورها وأخطارها ؟


ذلك لأنَّ كلَّ مسلم ناصح غيور لا يريد لنفسه ولا لأمته ، لِمَا قام في قلبه من النصيحة لنفسه ولعباد الله المؤمنين متمثلاً في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ )) قُلْنَا لِمَنْ ؟ قَالَ : (( لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ )) [2]. ومقتضَى النصيحة للنفس والغير أن يحذر العبد من الفتن وأن يسعَى جاهداً في البعد عنها والتخلص منها وعدم الوقوع فيها ، والتعوذ بالله من شرّها ما ظهر منها وما بطن.


وفي هذه الوقفة أُنَّبهُ على نقاط مهمَّة وأسُس عظيمة وضوابطَ قويمة يكون للمسلم بمراعاتها والتزامها التخلُّصُ من الفتن - بإذن الله تبارك وتعالى - وهي ضوابطُ عظيمة مستقاة من كتاب الله العزيز وسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم.


1- وإنَّ أهم ما تُتَقَى به الفتن ويتجنَّب به شرُّها وضررها : تقوى الله جلّ وعلا وملازمة تقواه في السر والعلن والغيب والشهادة، والله تعالى يقول : {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} [الطلاق:2-3] أي : يجعل له مخرجاً من كلِّ فتنة وبلية وشرٍّ في الدنيا والآخرة ، ويقول الله تعالى : { وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا } [الطلاق:4] ، والعاقبة دائمًا لأهل التقوى.


ولما وقعت الفتنة في زمن التابعين أتَى نفر من النصحاء إلى طلق بن حبيب رحمه الله وقالوا : قد وقعت الفتنة فكيف نتقيها ؟ فقال رحمه الله : اتقوها بالتقوى ، قالوا : أجمل لنا التقوى ؟ قال: "تقوى الله : عملٌ بطاعة الله على نور من الله رجاء رحمة الله، وترك معصية الله على نور من الله خيفة عقاب الله" .


وبهذا يُعلم أن تقوى الله ليست كلمةً يقولها المرء بلسانه أو دعوى يدَّعيها، وإنما تقوى الله عز وجل جدٌّ واجتهاد ونصحٌ للنفس بطاعة الله والتقرب إليه بما يرضيه، ولاسيما فعل الفرائض والواجبات والبعد عن المعاصي والمنكرات، فمن كان هذا شأنه نال – بإذن الله – العاقبة الحميدة والنهاية الرشيدة .


2- ومن الضوابط المهمة لاجتناب الفتن لزوم الكتاب والسنة والاعتصام بهما ، فإنَّ الاعتصام بالكتاب والسنة سبيل العزِّ والنجاة والفلاح في الدنيا والآخرة، وقد قال الإمام مالك رحمه الله إمام دار الهجرة : "السنة سفينة نوح فمن ركبها نجا ومن تركها هلك وغرق". ومن أَمَّرَ السنة على نفسه نطق بالحكمة وسلِمَ من الفتنة ونال خيري الدنيا والآخرة.


وقد ثبت في حديث العرباض بن سارية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّهُ مَنْ يَعِشْ مِنْكُمْ بَعْدِي فَسَيَرَى اخْتِلَافًا كَثِيرًا فَعَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الْمَهْدِيِّينَ الرَّاشِدِينَ تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ )) [3]


فالنجاةُ عند الاختلاف والسلامة من الفتنة إنما تكون بالتمسك بسنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم والبعدِ عن البدع والأهواء ، وأن يحكِّم المرء السنة على نفسه، فيما يأتي ويذر في حركاته وسكناته وقيامه وقعوده وجميع شؤونه، ومن كان هذا شأنه فإنه يُعصم ويُوقَى - بإذن الله - من كلِّ شر وبلاء وفتنة ، وأما من يرخي لنفسه العِنان و يطلق لهواه الزِّمام فإنَّه يجر على نفسه الشر وعلى غيره من عباد الله .


3- ومن الضوابط العظيمة لاتِّقاء الفتن : الرفقُ والأناة وعدم العجلة والتأمل في عواقب الأمور ، فإنَّ العجلة لا تأتي بخير ، والأناة فيها الخير والبركة ، ومن كان عجولاً في أموره مندفعاً في تصرفاته ، فإنَّه لا يأمن على نفسه من الزلل والوقوع في الانحراف والخطل ، وأما من كان رفيقًا متأنيًا بعيدًا عن العجلة والتهور والاندفاع متأملاً وناظرًا في عواقب الأمور فإنَّه - بإذن الله - يصل إلى العواقب الحميدة التي يسعد بها في الدنيا والآخرة .


وقد جاء عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنَّه قال: "إنها ستكون أمور مشتبهات فعليكم بالتُؤَدَة ، فإنَّك أَن تكون تابعًا في الخير، خيرٌ من أن تكون رأسًا في الشر".


إنَّ من يندفع ويتهور في معالجة الأمور ويبتعد عن سبيل الأناة والتؤدة يفتح على نفسه وعلى غيره من عباد الله باباً من الشر والبلاء يتحمل وزره ويبوء بإثمه ويجني عاقبته الوخيمة ، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلْخَيْرِ مَغَالِيقَ لِلشَّرِّ ، وَإِنَّ مِنْ النَّاسِ مَفَاتِيحَ لِلشَّرِّ مَغَالِيقَ لِلْخَيْرِ ، فَطُوبَى لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الْخَيْرِ عَلَى يَدَيْهِ ، وَوَيْلٌ لِمَنْ جَعَلَ اللَّهُ مَفَاتِيحَ الشَّرِّ عَلَى يَدَيْهِ)) [4].


فالعاقل يكون على حذر ناظراً في عواقب الأمور ، حليمًا رفيقًا متأنيًا، بعيدًا عن الاندفاع والعجلة والتسرع، فإنَّ العجلة والتسرع والاندفاع لا تجرُّ على صاحبها إلا العواقب الوخيمة والأضرار الأليمة والنتائج السيئة .


4- وإنَّ من الضوابط المهمة : لزوم جماعة المسلمين والبعدُ عن التفرق والاختلاف، فإنَّ الفرقة شر والجماعة رحمة، الجماعة يحصل بها لحمة المسلمين وشدة ارتباطهم وقوة هيبتهم ، وتحقق وحدتهم ، ويحصل بها التعاون بينهم على البر والتقوى وعلى ما تكون به سعادتهم في الدنيا والآخرة . وأما الخلاف فإنَّه يجر عليهم شرورًا كثيرة وأضرارًا عديدة وبلاءً لا يحمدون عاقبته ، ولهذا جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، في غير ما حديث الوصيةُ بلزوم الجماعة والتحذير من الفرقة. قال صلى الله عليه وسلم : ((الْجَمَاعَةُ رَحْمَةٌ ، وَالْفُرْقَةُ عَذَابٌ)) [5] ، وقال صلى الله عليه وسلم ((عَلَيْكُمْ بِالْجَمَاعَةِ وَإِيَّاكُمْ وَالْفُرْقَةَ)) [6] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((يَدُ اللَّهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ)) [7] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((لَا تَخْتَلِفُوا فَإِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ اخْتَلَفُوا فَهَلَكُوا)) [8] .


5- ومن الضوابط العظيمة التي يلزمُ مراعاتها لاتقاء الفتن واجتناب شرها : الأخذُ عن العلماء الراسخين والأئمة المحققين وترك الأخذ عن الأصاغر من الناشئين في طلب العلم المقلِّين في التحصيل منه ، يقول صلى الله عليه وسلم : ((الْبَرَكَةُ مَعَ أَكَابِرِكُمْ)) [9] فالبركة مع الأكابر الذين رسخت أقدامهم في العلم وطالت مدتهم في تحصيله وأصبح لهم مكانة في الأمة بما آتاهم الله من العلم والحكمة والرزانة والأناة والنظر في عواقب الأمور ، فعن هؤلاء أمرنا أن نأخذ ، قال الله تعالى: { وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا } [النساء:83] . فمن كان مُعَوِّلاً على هؤلاء أمن الفتنة وحمد العاقبة .


6- ومن الضوابط المهمة لتجنب الفتن : حسنُ الصلة بالله ودعاؤه سبحانه ، فإنَّ الدعاء مفتاح كلِّ خير في الدنيا والآخرة، ولاسيما سؤال الله تبارك وتعالى أن يجنب المسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن ، والتعوذ به سبحانه من مضلات الفتن ، فإن من استعاذ بالله أعاذه ، ومن سأل الله أعطاه ، فإنَّه سبحانه لا يخيب عبداً دعاه ولا يرد عبداً ناداه ، وهو القائل سبحانه : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [البقرة:186] .


وإنا لنسأل الله الكريم بأسمائه الحسنى وصفاته العلى أن يجنِّب المسلمين الفتنَ ما ظهر منها وما بطنَ ، وأن يحفظ على المسلمين أمنهم وإيمانهم وأن يقيَهُم الشرور كلّها ، وأن يُحمِّدَهم العواقب ، وأن يرزقهم المآلات الحميدة والنهايات الرشيدة ، إنه سبحانه سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .


********


________________


[1] رواه أبو داود (4263) ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن أبي داود) (3585) .


[2] رواه مسلم (55) من حديث تميم الداري رضي الله عنه .


[3] رواه أبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، وابن ماجه (42) ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن أبي داود) (3851) .


[4] رواه ابن ماجه (237) ، وحسنه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن ابن ماجه) (194) .


[5] رواه أحمد (4/278) من حديث النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، وحسنه الألباني رحمه الله في (صحيح الجامع) (3109).


[6] رواه الترمذي (2165) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وصححه الألباني رحمه الله في (صحيح سنن الترمذي) (1758) .


[7] رواه ابن أبي عاصم في (السنة) (81) من حديث أسامة بن شريك رضي الله عنه ، وصححه الألباني رحمه الله في (ظلال الجنة) (1/40) .


[8] رواه البخاري (2410) من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .


[9] رواه ابن حبان (559) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وصححه الألباني رحمه الله في (الصحيحة) (1778) .
تم الاطلاع اخي اباليث
 
ثبات أهل الإيمان في الفتن


إنَّ الفتن الملمَّة والأحداث المدلهمة إذا حلَّت بالناس ونزلت بهم أظهرت حقائقهم وكشفت معادنهم وميَّزت طيِّبَهم من خبيثهم وحسنهم من سيِّئهم ، ولله الحكمة البالغة في ذلك { لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ } [الأنفال:37] ، وهذه من حكمة الله في ابتلائه خلقه ، قال الله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ } [محمد:31] .


والحياة كلها ميدان ابتلاء ودار امتحان والناس فيها ليسوا سواء ؛ فمنهم مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ، ومنهم من يعبد الله على علم وبصيرة وإيمان راسخ وعقيدة صحيحة ؛ فإن أصابته فتنة صبر فكان خيراً له ، وإن أصابته نعمة شكر فكان خيراً له ، وهذا لا يكون لأحد إلا للمؤمن ، فأمره كله خير ، وأحواله كلها حسنة طيبة ، وعواقبه كلها حميدة { وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } [الأعراف:128] .


إنَّ للإيمان الصحيح والعقيدة السليمة أثراً قوياً ودوراً بارزاً في التغلب على الأحداث والملمات ، والمصائب والمحن ، والنوازل والفتن ؛ ذلك أنَّ صاحب الإيمان الصحيح والعقيدة السليمة تعلَّم من دينه أموراً مهمة ودروساً عظيمة تُعينه على الثبات في الأحوال ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ومن أهم هذه الأمور ما يلي :


أولاً : أنه يعلم علم يقين لا يخالطه شك ولا يداخله ريب أنَّ خالق هذا الكون وموجده ومدبر شؤونه هو الله وحده لا شريك له ، وأنه وحده المتصرِّف فيه ، وأنه لا يكون فيه إلا ما شاء تبارك وتعالى ، فأزمَّة الأمور كلها بيده ، ومقاليد السماوات والأرض كلها له ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير .


ثانياً : أن الله جل وعلا تكفَّل بنصر أهل الإيمان وحفظ أهل الدين ، ووعد بذلك ووعده الحق ، وأخبر بذلك في كتابه وكلامه صدق وحق ، قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } [محمد:7-8] ، وقال سبحانه : { وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } [آل عمران:126] ، وقال تعالى : { وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [الحج:40] ، وقال تعالى : { وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } [الروم:6] .


ثالثاً : أنَّ الله وعد في كتابه بخذلان الكافرين وإبادتهم وقصم ظهورهم وقطع دابرهم وجعلهم عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين كما قال تعالى : { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ } [التوبة:98] . وشواهد ذلك في التاريخ كثيرة لا تحصى وعديدة لا تُستقصى ، فهو سبحانه يملي للظالم ولا يهمل ، وإذا أخذه أخذه بغتة { وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [هود:102]


رابعاً : أن المؤمن يعلم أنه لن تموت نفسٌ حتى تستوفي أجلها وتستتم رزقها ، فلن يموت أحد قبل منيَّته ولا بعدها { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ } [يونس:49] ، فالآجال محدَّدة والأعمار مؤقَّتة ، ولكل أجل كتاب ولكل نفس ميعاد ، ولا يحول بين المرء وبين أمر الله شيء ، كما قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ } [النساء:78] ، فلا القصور المنيعة تحمي ، ولا السراديب الخفية تقي ، ولا البروج المشيدة تمنع .


خامساً : أنَّ المؤمن لشدة ثباته وقوة يقينه لا تزعزعه الأراجيف ولا تخوِّفه الدعايات ، بل إنه إذا خوِّف بالذين من دون الله زاد إيماناً وثقة بالله وتوكلاً واعتماداً عليه ، كمثل الصحابة رضي الله عنهم { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } [آل عمران:173-174] .


وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : (( { حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ } قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَام حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالُوا { إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ }))[1] ومعنى حسبنا الله : أي كافينا .


سادساً : أنَّ صاحب الإيمان الصحيح لا يعتمد في أموره كلها إلا على الله وحده ولا يفوض أموره إلا له ولا يتوكل إلا عليه ولا يستعين إلا به ، قال تعالى { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } [الطلاق:3] ، وقال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } [المائدة:23] ، وقال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ } [الفرقان:58] ولهذا كان من دعائه صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابن عباس رضي الله عنهما أنه كان يقول : ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ وَبِكَ آمَنْتُ وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ وَبِكَ خَاصَمْتُ ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِعِزَّتِكَ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ أَنْ تُضِلَّنِي أَنْتَ الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ )) [2] .وضرب في السيرة العطرة أروع الأمثلة وأبلغها في الثقة بالله وشدة الاعتماد عليه ، ومن ذلك – على سبيل المثال – ما ثبت في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أَنَّهُ غَزَا مَعَ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَدْرَكَتْهُمْ الْقَائِلَةُ فِي وَادٍ كَثِيرِ الْعِضَاهِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَفَرَّقَ النَّاسُ يَسْتَظِلُّونَ بِالشَّجَرِ ، فَنَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ سَمُرَةٍ وَعَلَّقَ بِهَا سَيْفَهُ وَنِمْنَا نَوْمَةً فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدْعُونَا وَإِذَا عِنْدَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ : (( إِنَّ هَذَا اخْتَرَطَ عَلَيَّ سَيْفِي وَأَنَا نَائِمٌ فَاسْتَيْقَظْتُ وَهُوَ فِي يَدِهِ صَلْتًا فَقَالَ مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي فَقُلْتُ اللَّهُ )) - ثَلَاثًا - وَلَمْ يُعَاقِبْهُ وَجَلَسَ [3]. فتأمل هذا الثبات العظيم والثقة الكاملة بالله تعالى ، فالله خير حافظاً وهو أرحم الراحمين .


سابعاً : أنَّ المؤمن يعلم أنَّ التوكل الحقيقي لا يتم إلا بأمرين اثنين لابد منهما :


الأول : اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه -كما قال ابن القيم رحمه الله - بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشوش الأسباب ولا سكون إليها ، بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وهو الله . وعلامة هذا : أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره ، لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه .


والثاني : إثبات الأسباب والقيام بها ، وقد كان سيد المتوكلين وإمامهم وحامل لوائهم محمد صلى الله عليه وسلم يقوم بفعل الأسباب وما أخلَّ بشيء منها ؛ فقد ظاهر بين درعين يوم أحد ، واستأجر دليلاً مشركاً على دين قومه يدلُّه على الهجرة ، وكان يدَّخر القوت لأهله ، وكان إذا سافر في جهاد أو حج أو عمرة حمل الزاد معه ، وجميع أصحابه كانوا كذلك ، فهم أولوا التوكل حقاً .


فمن أنكر الأسباب لم يستقم منه التوكل ، ومن اعتمد على الأسباب لم يكن من أهل التوكل ، والأمر كما قال بعض أهل العلم : " الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد ، ومحو الأسباب أن تكون أسباباً نقص في العقل ، والإعراض عن الأسباب بالكلية قدحٌ في الشرع ، وإنما التوكل والرجاء معنى يتألَّف من موجب التوحيد والعقل والشرع " .


ثامناً : ثمَّ إنَّ المؤمن في الأمور الملمات والأحوال المدلهمات يجد من قلبه إقبالاً شديداً على الله وانكساراً بين يديه وخضوعاً له ، فتراه مقبلاً على الله بالدعاء والسؤال والرجاء أن يجنِّب المسلمين الفتن ويخلِّصهم من المحن ، والله تبارك وتعالى قريب من عباده يسمع نداءهم ويجيب دعاءهم ويغيث ملهوفهم ويجبر كسيرهم ويكشف مصيبتهم { أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ } [النمل:62] ، لا أحد غيره تعالى ، فمن سأله بصدق وإخلاص وعزيمة ورجاء أجاب دعاءه وحقَّق رجاه فهو القريب المجيب سبحانه . ولربما انكشف ما يحلّ بالمسلمين من بلاء وما ينزل بهم من محن بدعوة صالحة من رجل صالح في لحظة انكسار وساعة إجابة ، فالدعاء أمره عظيم وشأنه جليل .


والله المسؤول وحده أن يجنِّبنا والمسلمين الفتن ما ظهر منها وما بطن ، فلا إله إلا الله وحده ، نصر عبده وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده . وصلى الله وسلَّم وبارك وأنعم على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين .


********


________________


[1] رواه البخاري (4563) .


[2] رواه البخاري (7383) ، ومسلم (2717) واللفظ له .


[3] رواه البخاري (2913) ومسلم (843).

تمت مطالعة هذا الجزء
و هته النقطة أحتاجها حتى في حياتي اليومية
: أنه يعلم علم يقين لا يخالطه شك ولا يداخله ريب أنَّ خالق هذا الكون وموجده ومدبر شؤونه هو الله وحده لا شريك له ، وأنه وحده المتصرِّف فيه ، وأنه لا يكون فيه إلا ما شاء تبارك وتعالى ، فأزمَّة الأمور كلها بيده ، ومقاليد السماوات والأرض كلها له ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير .

ــــــــــــــــــــــــــــ

و هته تحتاج للشرح لم أفهمها
الأول : اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه -كما قال ابن القيم رحمه الله - بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشوش الأسباب ولا سكون إليها ، بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وهو الله . وعلامة هذا : أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره ، لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه .
 
تمت مطالعة هذا الجزء
و هته النقطة أحتاجها حتى في حياتي اليومية
: أنه يعلم علم يقين لا يخالطه شك ولا يداخله ريب أنَّ خالق هذا الكون وموجده ومدبر شؤونه هو الله وحده لا شريك له ، وأنه وحده المتصرِّف فيه ، وأنه لا يكون فيه إلا ما شاء تبارك وتعالى ، فأزمَّة الأمور كلها بيده ، ومقاليد السماوات والأرض كلها له ، فما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، فلله ملك السماوات والأرض وما فيهن وهو على كل شيء قدير .

ــــــــــــــــــــــــــــ

و هته تحتاج للشرح لم أفهمها
الأول : اعتماد القلب على الله واستناده إليه وسكونه إليه -كما قال ابن القيم رحمه الله - بحيث لا يبقى فيه اضطراب من تشوش الأسباب ولا سكون إليها ، بل يخلع السكون إليها من قلبه ويلبسه السكون إلى مسببها وهو الله . وعلامة هذا : أنه لا يبالي بإقبالها وإدبارها ولا يضطرب قلبه ويخفق عند إدبار ما يحب منها وإقبال ما يكره ، لأن اعتماده على الله وسكونه إليه واستناده إليه .
أحسن الله إليك محمد.
أنت الأن فعلا تقرأ قراءة المتفحص المستفيد، المتأمل المعتبر، و سؤالك يُنبئ عن ذلك، فزادك الله فهما و حرصا.
الشيخ هنا يُبين أن المؤمن لا ينبغي له أن يلتفت إلى الأسباب بقلبه يحسب أنها تؤثر إستقلالا عن قضاء الله و قدره، كما ترى حال كثير من الناس، فالأسباب مسببها في الأصل هو الله، فهو خالقها و هو مقدرها، و هو الذي شاء أن تكون، و هو الذي يعطيها أثرها أو يسلبه منها، فقد يُقدم المرء الأسباب لكنها لا تكن مجدية لحكمة يعلمها الله، و ليبين الله لعباده أنه هو الذي يقضي فيها بما شاء، و أن ما شاء منها أن يكون مؤثرا كان، و مالم يشاء منها أن يكون مؤثرا لم يكن، فإذا أنعقدت هذه العقيدة الصحيحة في قلب المرء، إطمئن قلبه إلى قضاء الله و قدره، و لم يزيد عن الحد و لم يغالي في المطالبة بالسبب و الطلب للشيئ مع فواته و لم يعلق القلب به، فما فاته مما يطلب عن غير تقصير في طلبه لم يحزنه، و ما أصب منه و لو بلغ في ذلك المنتهى و التمام لم يركنه إلى سببه و لا ما حصله من أثره و لم يطغيه و يصيبه من جراءه العُجب و الغرُور، و في هذا إلتفاته جليلة إلى معنى قوله تعالى : (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، قال الشيخ عبد الرحمان السعدي رحمه الله في تفسيرها :فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم، ولهذا قال: { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي: متكبر فظ غليظ، معجب بنفسه، فخور بنعم الله، ينسبها إلى نفسه، وتطغيه وتلهيه، كما قال تبارك وتعالى: { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بل هي فتنة }
 
أحسن الله إليك محمد.
أنت الأن فعلا تقرأ قراءة المتفحص المستفيد، المتأمل المعتبر، و سؤالك يُنبئ عن ذلك، فزادك الله فهما و حرصا.
الشيخ هنا يُبين أن المؤمن لا ينبغي له أن يلتفت إلى الأسباب بقلبه يحسب أنها تؤثر إستقلالا عن قضاء الله و قدره، كما ترى حال كثير من الناس، فالأسباب مسببها في الأصل هو الله، فهو خالقها و هو مقدرها، و هو الذي شاء أن تكون، و هو الذي يعطيها أثرها أو يسلبه منها، فقد يُقدم المرء الأسباب لكنها لا تكن مجدية لحكمة يعلمها الله، و ليبين الله لعباده أنه هو الذي يقضي فيها بما شاء، و أن ما شاء منها أن يكون مؤثرا كان، و مالم يشاء منها أن يكون مؤثرا لم يكن، فإذا أنعقدت هذه العقيدة الصحيحة في قلب المرء، إطمئن قلبه إلى قضاء الله و قدره، و لم يزيد عن الحد و لم يغالي في المطالبة بالسبب و الطلب للشيئ مع فواته و لم يعلق القلب به، فما فاته مما يطلب عن غير تقصير في طلبه لم يحزنه، و ما أصب منه و لو بلغ في ذلك المنتهى و التمام لم يركنه إلى سببه و لا ما حصله من أثره و لم يطغيه و يصيبه من جراءه العُجب و الغرُور، و في هذا إلتفاته جليلة إلى معنى قوله تعالى : (لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ)، قال الشيخ عبد الرحمان السعدي رحمه الله في تفسيرها :فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم وتشوفوا إليه، لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه ووقوعه، فلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم ودفع النقم، ولهذا قال: { وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي: متكبر فظ غليظ، معجب بنفسه، فخور بنعم الله، ينسبها إلى نفسه، وتطغيه وتلهيه، كما قال تبارك وتعالى: { ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بل هي فتنة }

بارك الله فيك أخي أباليث وصلت الفكرة و اتضحت
 
أهلا أخي أباليث
في الغد أرجع لإكمال المحاضرة بحول الله تعالى
و لقد تم تثبيت المحاظرة
 
آخر تعديل:
الرجوع إلى العلماء في النوازل
لا يخفى على كل مسلم مكانة أهل العلم وأئمة الدين ورفعة شأنهم وعلو منزلتهم وسمو قدرهم ، فهم في الخير قادة وأئمة تقتصُّ آثارهم ويقتدى بأفعالهم ، وينتهى إلى رأيهم ، فهم مصابيح الدجى ومنارات خير وأئمة هدى ، بلغ بهم علمهم منازل الأخيار ودرجات المتقين الأبرار ، قد سمت بالعلم منزلتهم وعلت مكانتهم وعظم شأنهم وقدرهم ، كما قال تعالى : {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ } [الزمر : 9] ، وقال تعالى : {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ } [المجادلة : 11] .


ومن فضلهم أن الملائكة تضع أجنحتها خُضعاناً لقولهم ، ويستغفر لهم كل رطب ويابس حتى الحيتانُ في الماء ، وهم ورثة الأنبياء فإن الأنبياء لم يورِّثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورَّثوا العلم ، والوارث قائم مقام المورث فله حكمه فيما قام مقامه فيه .


ففي حديث أبي الدرداء رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم قال : ((مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لِلْعَالِمِ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ وَفَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِ الْقَمَرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ إِنَّ الْعُلَمَاءَ هُمْ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ لَمْ يَرِثُوا دِينَارًا وَلَا دِرْهَمًا وَإِنَّمَا وَرِثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ )) [1] فالعلماء ورثوا ما جاء به الأنبياء من العلم ، فهم خلفوا الأنبياء في أممهم بالدعوة إلى الله وإلى طاعته والنهي عن المعاصي والذود عن دين الله ، وهم في مقام الرسل بين الله وبين خلقه بالنصح والبيان والدلالة والإرشاد وإقامة الحجة وإزالة المعذرة وإبانة السبيل 0


قال محمد بن المنكدر : " إن العالم بين الله وبين خلقه ، فلينظر كيف يدخل عليهم " . وقال سفيان بن عيينة : "أعظم الناس منزلةً من كان بين الله وبين خلقه : الأنبياء والعلماء " . وقال سهل بن عبد الله : " من أراد أن ينظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء ، يجيء الرجل فيقول : يا فلان ما تقول في رجل حلف على امرأته كذا وكذا ؟ فيقول : طلقت امرأته ، ويجيء آخر فيقول : ما تقول في رجل حلف على امرأته بكذا وكذا ؟ فيقول : يحنثُ بهذا القول ، وليس هذا إلا لنبي أو عالم فاعرفوا لهم ذلك " . وقال ميمون بن مهران : " إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة في البلد " .


وإذا كان أهل العلم بهذه المنزلة العلية والدرجة الرفيعة ، فإنَّ الواجب على من سواهم أن يحفظ لهم قدرهم ويعرف لهم مكانتهم وينزلهم منازلهم . عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : (( لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ)) [2].


وإن من حق العلماء ألا يفتات عليهم فيما هم أهله والجديرون به ، ألا وهو بيان دين الله وتقرير الأحكام ونحو ذلك بالتقدم عليهم أو التقليل من شأنهم أو التعسف في تغليطهم أو صرف الناس عنهم ، أو غير ذلك مما هو سبيل الجاهلين ممن لا يعرفون قدر العلماء ومكانتهم .


ومن المعلوم لدى كل الناس أن التعويل في كل فنٍّ لا يكون إلا على أهل الاختصاص فيه ، فلا يرجع في الطبِّ إلى المهندسين ولا في الهندسة إلى الأطباء ، ولا يرجع في كل فن إلا إلى أهل الاختصاص فيه ، فكيف الشأن بعلم الشريعة ومعرفة الأحكام والفقه في النوازل ، كيف يرجع فيها إلى من ليس معروفاً بالتضلُّع في هذا العلم والرسوخ فيه ، ولا يرجع إلى العلماء الجهابذة والأئمة الراسخين أهل الفقه والدراية والفهم والاستنباط .


يقول الله عز وجل : {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا} [النساء:83] والمراد بأولي الأمر في الآية : أي العلماء الراسخون الذين يحسنون استنباط الأحكام الشرعية من أدلة الكتاب والسنة ، لأن النصوص الصريحة لا تفي ببيان جميع المسائل الحادثة والأحكام النازلة ، ولا يحسن استنباط ذلك واستخراجه من النصوص إلا العلماء الراسخون .


قال أبو العالية في معنى {أُولِي الْأَمْرِ } في الآية : هم أهل العلم ، ألا ترى أنه يقول { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } . وعن قتادة { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ } يقول : إلى علمائهم ، { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } : لَعَلِمه الذين يفحصون عنه ويهمهم ذلك . وعن ابن جريج : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ } حتى يكون هو الذي يخبرهم ، { وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ} أولي الفقه في الدين والعقل 0


قال الحافظ ابن حجر في كتابه فتح الباري : " ونقل عن ابن التين عن الداودي أنه قال في قوله تعالى :{وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } [النحل : 44] قال : أنزل سبحانه وتعالى كثيراً من الأمور مجملاً ففسر نبيه ما احتيج إليه في وقته ، وما لم يقع في وقته وَكَلَ تفسيره إلى العلماء بقوله تعالى : { وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } [النساء : 83] " .


وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله في معنى الآية : " هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللائق ، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمر من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين أو بالخوف الذي فيه مصيبة ؛ عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر ، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم ، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة ، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها . فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسروراً لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك ، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه ، ولهذا قال: { لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة.


وفي هذا دليل لقاعدة أدبية ؛ وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من الأمور ينبغي أن يولَّى مَنْ هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله، ولا يتقدم بين أيديهم ، فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلامة من الخطأ . وفيه النهي عن العجلة والتسرع لنشر الأمور من حين سماعها ، والأمر بالتأمل قبل الكلام والنظر فيه ؛ هل هو مصلحة فيُقْدِم عليه الإنسان ، أم لا فيحجم عنه " انتهى كلامه رحمه الله .


وبما تقدم يعلم أن أمر البت في النوازل والحوادث المستجدة وإيضاح حكم الشرع فيها ،ليس لأحد أن يخوض فيه إلا العلماء أهل البصيرة في الدين 0


قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : " والمنصب والولاية لا يجعل من ليس عالماً مجتهدًا عالماً مجتهدًا ، ولو كان الكلام في العلم والدين بالولايات والمنصب لكان الخليفة والسلطان أحق بالكلام في العلم والدين، وبأن يستفتيه الناس ويرجعوا إليه فيما أشكل عليهم في العلم والدين . فإذا كان الخليفة والسلطان لا يدَّعي ذلك لنفسه ، ولا يلزم الرعية حكمه في ذلك بقول دون قول إلا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فمن هو دون السلطان في الولاية أولى بأن لا يتعدى طوره ) ا.ه .


وإنا لنسأل الله جل وعلا أن يبارك لنا في علمائنا وأن ينفعنا بعلومهم ، وأن يجزيهم عنا خير الجزاء وأوفره إنه سميع مجيب .


********


________________


[1] رواه أحمد (5/196) ، وأبو داود (3641) ، والترمذي (2682) ، وابن ماجه (223) ، والدارمي (342) ، وحسنه لغيره الألباني رحمه الله في (صحيح الترغيب ) (70) .


[2] رواه أحمد (5/323) ، وحسنه الألباني رحمه الله في (صحيح الترغيب) (101)

تمت مطالعة هذا الجزء
اعجبتني هته العبارة : " إن مثل العالم في البلد كمثل عين عذبة في البلد " .

وإنا لنسأل الله جل وعلا أن يبارك لنا في علمائنا وأن ينفعنا بعلومهم ، وأن يجزيهم عنا خير الجزاء وأوفره إنه سميع مجيب .
آآآآميييين آآآمييين
 
524347_9b475.gif
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top