مدونتي احتفالية الموت

فكرة خطوبتكِ لم تؤثّر عليّ إلى الحدّ الذي تتوقعين، ولم تبلغ الآمال التي كنتِ قد علّقتِها عليها كوسيلة للهروب مني، لا أعتقد أن امرأة صادقة مثلكِ بقلبها الرقيق والمرهف أن تتعمّد إيذائي على هذا النحو الفظيع، ليس بإمكانكِ إلحاق الأذى بي، على الأقل ماكنتِ تخفينَ عنّي أمراً بالغ الأهمية كخطوبتكِ. ليس لكِ أيّ مبرّر يتيح لكِ تبرير فعلتكِ هذه إن اتّضحت صحة الخبر، في الحقيقة حزنكِ الذي لا يفارقكِ خلال كل الأيّام التي قضيناها معاً كان عظيماً، كان واضحاً أنّ لا ملجأ إليكِ ترمين فيه أثقالك، لا شخص لكِ تهربين إليه حينما تضيق بك الحياة، فإن كنتِ مخطوبة فعلاً، ماذا كنتِ تفعلين معي أغلب ساعات اليوم، في ليله ونهاره! لماذا كنتِ تلجئين إليّ وأنتِ تدركين تماماً أنّكِ تنتمين إلى رجل آخر ليس أنا !!
عزيزتي .. عليكِ أن تدركِي أنّ خدعتكِ هذه التي أقحمتِ فيها صديقتك، والتي تهدفين بها إلى رميي بعيداً عنكِ حتى أعانق وهاد اليأس ، هي فكرة ليست ذكيّة تماما ولم أقدر على تصديقها، بعد تحليلها والتعمّق فيها بمنطق وواقعيّة، لم أجد تفسيراً أو سبباً يدفعني إلى تصديق ما تحاولين ترويجه. كان بإمكانكِ الرحيل بصمتٍ كما العادة، مخفِّفة عنّي كثيراً من الألم الذي يلتهمني الآن، والتساؤلات التي تنهش بدماغي حتى يكاد ينفجر، كنت سأتفّهم الأمر ككائن ليس مرغوباً به، كإنسان ينفر منه الجميع، لأنّكِ لستِ أوّل من يهجرني وأنتِ تدركين هذا جيّداً، كنت سأتقبّل الأمر بالرغم من الأوقات القاسية التي سأعيشها بعدكِ، بالرغم من خوفي الشديد لما ينتظرني من اضطرابات لن تهدأ حتى يتمّ دفني في التراب.
إنّ المسافة التي قطعتها معكِ هي الأطول والوحيدة منذ خيبتي الأولى، أنتِ وحدكِ من بعثتِ الحياة في جسدي الجامد، وحدكِ من تمكّنت من جمع ما تبعثر مني، أنتِ من أعدتِ جريان الدم في شراييني بعدما كانت راكدة تماماً. لم تكن علاقتي معكِ لتنتهي على هذا الحال، وبهذه الطريقة القاتلة، فيهون عليّ كلّ ماكان بيني وبينكِ، كنتِ بالنسبة أكثر من مشروع حياة كاملة، لأنني كثيراً ما أتساءل عن آخر نفس لي كيف سيكون، كنت أرى نهايتي ورأسي على صدرك فيما تهذبّين لحيتي البيضاء وأنتِ تطأطئين برأسكِ ليقابل رأسي، وعلى هذا النحو أغادر العالم، غارقاً في عينيكِ الخالدتين، راضياً كلّ الرضا، سعيداً كلّ السعادة، لكنني كنت مخطئاً حينما تصوّرت كل هذه الأشياء معكِ، ناسياً أو متناسياً دوري المحدود في الحياة، وغاية وجودي التي سبق للطبيعة أن أوضحتها لي في كثير من الأحيان، وها أنتِ تؤكّدِين كلّ ما كنت مؤمناً به منذ البداية، ولست ألومكِ أو أعاتبكِ على أيّ شيء في أيّ حال من الأحوال، وليس أيضاً من حقّي التدخل في قراركِ بالرحيل عنّي، لأنّني لست ممّن يتسوّلون الحب وأنت تعرفين ذلك جيّداً، حتى أنّني لم أطالبك بشيء خلال وجودكِ بجانبي، ولم أجرحكِ كذلك، أو أقوم باستغلالكِ، كنت صادقاً معكِ دوماً، بعيداً كلّ البعد عن جميع أشكال التصنّع والتكلّف والابتذال، كنت حقيقيّاً دائماً وفي كل الأوقاتِ، لكنني لم أنتبه للثقل الذي كان يسبّبه وجودي معكِ، ولم أشعر بنفوركِ مني، بالرغم من أنني ألتمست حبّكِ لي في كثير من الأحيان، وشعرتُ بعاطفةٍ رهيبة تحرق أعماقكِ، لكنّكِ كنتِ خائفة ومشوّشة لأسباب أعتقد أنّني أفهمها بوضوح، وحاولت جاهداً مشاركتكِ فيها لكن من غير جدوى. قد يكون هذا وهماً كذلك أو حلماً زائفاً، أو خطأ منكِ، حتى حينما أعترفتِ بحبّكِ لي ثمّ هجرتني قد يكون اعترافكِ هذا لهواً أو شفقة عليّ ! لا أعرف ؟؟
كثيرة هي التساؤلات التي تستوطن دماغي وتجثِمُ على روحي الآن لأبدو وكأنني ممدّد على المقصلة كمجرم حُكِمَ عليه بالإعدام، كطفلٍ فقد أمّه وسط الزحام، لكنّني هادئ جدّاً وهذا ما يثير قلقي، فمن العادة أن أنكسر وأنهار، حتى أتلاشى تماماً وأستسلم للحزن الذي لا يتردّد بمعانقتي لكثير من الزمن، هذا القلق غامض وعميق، بنكهة الخوف وطعم انتصار البائس على عواطفه.
 
IMG_20191029_182214.jpg
صديق من الضباب الفاخر
يجرّ خيبة ذيله الذي تمّ قطعه في الخفاء
راجعاً من ليلة صمّاء
يلقي عليّ تحيّة الصباح
في جوّ جنائزيّ حزين
يصافحني بقدمه الخلفية
مشيراً إلى ذيله بحسرة وألم

صديق من الضباب الفاخر
يغني نشيد الربّ المقدّس
يردّد تعاويذ الخلد
يلعن المساءات الحزينة في كلّ ليلة
يرتدي ثوباً ناصع البياض
لولا بقع جراحٍ عميقة
سبّبها كلابٌ مدرّبون
قادمون من الأراضي البلجيكية
بثمن وفير، وجواز سفر لعين
في مهمّة حماية أملاكِ وغدٍ من أوغاد البلد

صديق من الضباب الفاخر
في عينيه الواسعتين الداخلتين بؤس عظيم
يبحث عن رفيق وكوخٍ يتحمل تقدّمه في السّن
كالسنابل التي تلدها الأرض، وترعاها السماء بمطرها
كفراشة تستقرّ على ضفائر ذهبيّة اللون
لامرأة تعزف الغيتار
على مواجع الإنسانية التائهة

صديق من الضباب الفاخر
يذكّرني بشخصيّة أسطوريّة
تحدّتِ الطبيعة وتوهّمتِ الأبدية
قائلاً لي :
ويحكم أيها البشر، لو تحدّثتِ الكلاب ...!

بقلم: آخر وثني في شمال أفريقيا
 
ليلة أخرى من ليالي الجحيم تجرف ما تبقّى من ثبات رجل يقف على نهاية طريقه بأفكار تتلاعب بالعقل وتجلد النفس، وتجعل المعنويات في قاعٍ لا قاع له، والأرق يسلّمني سجيناً لليقظة كقربان لآلهة الواقع العفن، هذا العجز عن النوم ليومين متتاليين أمر مقلق بالنسبة لي، فمهما كان الجهد الذي أبذله كلّ يوم هائلاً إلى أنني أصل يوماً بآخر دون نوم تماماً، كنت كلّما أضع رأسي على الوسادة تهجم عليّ أعداد مخيفة من علامات الإستفهام والتعّجب، تفتِكُ بفكري وتبعثر كل الحقائق على شكل يستحيل جمعها، ليغادرني النوم طوال الليل رغم الإرهاق والتعب، أعود بالزمن إلى الوراء أتفحّص أخطائي منذ البدايات لينتهي بي الأمر إلى كآبة عنيفة لا تطاق، واضطراباتٍ قاسية ما عدت أكبح هيجانها الذي أصبح غير قابل للترويض والتهذيب، كنت فيما مضى ألجأ إلى الفن بجميع أشكاله كطوق للنجاة، والحق أنّه دوماً ما كان يخفّف عني كلّ الأثقال التي لا طاقة لي ككائن أن أحملها على ظهري المنحني. كنت أجد السلام في الكتب والأفلام والموسيقى، كان الفنّ وفيّاً لي كما هو مع الجميع، صديق رائع للكل خاصة أولئك الذين لم تنجح الحياة بكل وسائلها أن تجعلهم نسخاً لغيرهم ممّن استغنوا عن عقولهم ووجدوا الدفء بين القطيع. الآن وأنا أسمع مقطوعة لشاعر البيانو "فريدريك شوبان" بعنوان "ذكريات الماضي" تتسلّل مخيّلتي بخفّة من أصابع الزمن راحلةً إلى ذكريات الطفولة المتوحّشة والمراهقة القاسية، أرى بوضوح ذلك الصبيّ الشقيّ الذي كان يستيقظ كل صباح ذاهباً إلى المخبزة كعادته، هنا بالضبط في هذا الشارع الضيّق والمظلم رأيت جثّة عمي الذي تمّ ذبحه بوحشيّة، بكاء عمتي وصراخها يملأ المكان، الصراخ نفسه يتردّد على مسامعي الآن، الجيران مرعوبون ولا نيّة لهم في الخروج، بعض المصلّين يعودون إلى منازلهم وهم يجرّون أقدامهم جرّاً من الخوف الذي سكن قلوبهم منذ بداية الأزمة في البلد. في ذلك الوادي كنت أنقل الدروس من عند صديقي عبد السلام، بعد انقطاعي عن الدراسة مدة أسبوع من هول المشهد الذي فتح لي أبواب الإنهيار النفسي، هنا في هذا المكان حيث هذه البيوت الفوضوية شيّدنا أول ملعب كرة قدم، من هذه الحجارة صنعنا المرمى وهنا كان جميع أطفال القرية يتجمّعون، في هذا المكان تمّ ضربي مراراً وتكراراً دون تدخّل أحد من الحضور، كنت ضعيف البنية وقصير القامة، كثير الثرثرة والكلام وطالما كان لساني يدفعني إلى متاعب كثيرة وشجارات حادّة حتى مع من يكبرني سنّاً. في هذه الإكمالية أنهيت دراستي لمرحلة المتوسط، خلف أسوارها كنّا ننتشر جماعات جماعات نلعب الورق ونقامر بدنانير قليلة، كنت ألتحق بهم عند رنّ الجرس مباشرة وأنا أتسلّق الحائط فأسقط بينهم على شكل مفاجئ مسبّباً الرعب في قلوبهم. ثم أواصل القمار معهم في أجواء حماسيّة ونحن نتحدّث حول الحياة ودورنا فيها، متفرّعين لعدّة مواضيع لا أخلاقية، تحت هذا الجدار تحدّثنا عن العادة السريّة والحسناوات من نساء القرية ومن يمارسون اللواط في كل المناسبات. فعلاً لقد كانتِ الحياة رحيمة بنا في ذلك الوقت، وماكان لنا أن نكتسب هذا الوعي الذي يقيّدنا ويعذّب أرواحنا، فرغم الفقر والرعب الذي كنا فيه إلى أنني كنت أنام مباشرة كلما ألقيت بجسدي على سريري الخشبي المهترئ، أعتقد أننا استنفذنا كل أوراق المتعة والصداقة والبساطة، ولم يبقى أمامنا إلاّ العذاب والألم النفسيّ الذي لم نشعر بيه حينما كنّا أطفالاً نهجم على المزارع ونعبث بالحقول، الحياة كانت تخفي عنّا كثيراً من الألم الذي كانت تجهّزه لنا حينما كنّا نلهو ونقطف التوت فب الجبل، فما أن اشتدّت سواعدنا حتى عصفت بنا وألقت علينا نيرانها التي تحرق كل ما هو أصيل في أعماق أرواحنا. أصبح وجودنا من عدمه سواء، وصمتنا أبلغ من الكلام، وكل حركة منّا هي إعلان عن حرب وخراب !
 
وكالعادة دوماً تُوصَد جميع الأبواب في وجهه الذي أصبح مختلفاً تماماً عمّا كان عليه قبل أيام قليلة، بعدما نجح البرد في تغيير ملامحه وتمكّن الشارع من عكس صورته في عينيه الداخلتين، حتى أصبح يظهر ككومة من العذاب البشري، تجرّ خيباتها اللامتناهية في شوارع وهران الضيّقة، وأحيائها الشعبيّة المكتظّة بالبؤس والألم والخوف، ليلة أخرى يقضيها دون نوم أو طعام أو إحساس ولو كان ضئيلاً من الطمأنينة والسلام النفسي. لينتهي الأمر به عند منتصف الليل على كرسي ثابت في مكان مظلم له إطلالة غاية في الجمال على البحر والميناء، رفقة متشرّد آخر مختل عقليّاً يطالبه بالتنحّي من الكرسي الذي اتّخذ منه مأوى له قبل عام من الآن، لقد ضاقت به الأرض وتبعثرت عظمته في المكان على مرآى النجوم، كانتِ الرياح تركض ركضاً وتحمل في أيديها كميّاتٍ هائلة من الغبار والأوراق والأكياس البلاستيكية القذرة وتقذف بهم على رؤوسهم المثقلة بالهم والغم، وصديقه الجديد المجنون يغني أغاني الخلد والمجد في ليلة ترمي بأحزان كل البشريّة على ظهره المقوّس من جفاء الحياة بحقّه، كان المجنون لا يتوقّف عن الكلام بصوتٍ أقرب من الهمس، ثم ينفجر لاعناً السماء والأرض معاً، ينهض من مكانه على حين فجأة يروح ويجيء أمام ضيفه وهو يبصق على الأرض يميناً وشمالاً، ويتلفّظ بكلماتٍ جارحة يخاطب بها العدم، أو أرواحاً تسبّبت بموت كل ما كان جميلاً فيه يوماً،فيما كانت الرياح تدفع به بقوتها نحو الطريق دون أن يشعر بذلك، حتى يستفيق من هذيانه عند أول جرس سيارة قادمة. كانت سلوكيات المجنون مثيرة للدهشة والغرابة، لكن ليس للحدّ الذي يُنسِي عابر السبيل ذلك آلامه ووحدته، للحظات قليلة تناسى وجوده تماماً وراح يتعمّق داخل صدره، ينبش في ذاكرته باحثاً عن طريقة لخلق الدفء في قلبه، كما يبحث عطشان عن مياه يروي بها عطشه في حرارة الصحراء وجوّها الكئيب، فكل شيءٍ كان بارداً وباهتاً يخنق النّفس ويرمي بها إلى أعنف الإضطرابات، وما يزيد من حدّة الشعور بالألم هي تلك المشاعر الجيّاشة التي احترقت ببرودة مدمّرة حينما كان يراها وهي تموت عند وأثناء ولادتها، فما كان عليه إلّا تحمّل آلامِ إنجابها ثم دفنها وعزائِها والحزن عليها، حتى يجيء النهار لتلقيَ الشمسُ عليه دفئها. كان شارد الذهن غير مبالٍ بما يحيط به من خطر، وقد بلغ به الصمت مبلغ الجماد والتحجّر، يطرح على نفسه أسئلةً ترهقُ عقله وتطعن في سرّ وغاية وجودهِ، كانت الحقيقة صعبة المنال والحواجز التي يتخيّلها كحال هيجان البحر الذي غاصت فيه عينيه الذابلتين، كانت روحه تخاطب جميع الآلهة بكبرياء المحاربين القدامى عند الشدائد والأزمات، فيما كانتِ الأمواج لغة تواصلٍ غاية في الصخب بين مدّ البحر وجزره، لكن الحقيقة كانت تبتعد عنه شيئاً فشيئاً، تختفي بين أمواج البحر بخفّة وحبور، ذاهبة إلى المجهول على متن سفينة مهترئة غادرتِ الميناء. كان يعتقد في قرارة نفسهِ أنّ الحقيقة في قارة لعينة كأفريقيا ليست أكثر من حلم زائل، وسرابٍ زائف خاصة حينما اعتمدتِ المجتمعات حصرها في أمور لطالما كانت تافهة بالنسبة له، وقد كان هذا يعذّب روحه بقسوة ناضجة، ويدفع عقله إلى التّشكيك في كل شيء من حوله على نحو يحرّض على الإنتحار ووضع حدٍّ لحياته التافهة.
كان الوقت يمضي ببطء شديد كامرأة حامل في شهرها الأخير، ولا يزال المجنون يلوّح بيده مشيراً إلى السماء، مخاطباً الربّ بأسلوب عنيف يعبّر عن مدى استيائه وسخطه من غيمةٍ تحجب عنه القمر شاكياً له حجم العتمة التي تحيط به، وما يتركه الظلام على روحه من ندوبٍ كلّ ليلة كلّما غادره ضوء القمر الذي اتّخذ منه رفيقاً منذ مغادرة والديه لهذا العالم وهو طفل لا يتجاوز عشر سنوات، كان يردّد ذلك في كلامه بين الحين والآخر، وينتقل من موضوع إلى آخر بشكل عشوائي غير منتظم يجعل مهمة فهمه مستحيلة تماماً. ما لفت انتباه شريكه الجديد في الكرسي هو وقوفه على حافة الكورنيش مقابلاً للبحر، وقيامه بعدّة حركات تصبّ في فكرة واحدة يعبّر بها عن انتظارٍ وشوقٍ لآخر صديق له، هاجر البلد نحو الأراضي الإسبانية قبل عقد من الزمن، منادياً باسمه بأعلى صوت: "حوسيييييين ... حوسييييين فاتت عشر سنين صحبي هاوينك "، كانت فكرة الهجرة محطّة توقّف عندها مطوّلاً هذا الغريب الذي لم يجد طوال السنوات التي عاشها مكاناً يستقرّ فيه ، ويعيد ترتيب حياته من جديد على النحو الذي يجعله يتقبّل وجوده في عالمٍ مليءٍ بالحقد والكراهية والخبث والخداع والخيانات العظيمة، مع غياب تامّ لكلّ ماهو إنساني أصيل. وراح يتناول هذه الفكرة بكل ما يحيط به من ألم وإهانات، كحلّ أخير لابدّ من خوض تجربة معه ومغامرة قد تكون نقطة تغيير حقيقي في حياته، مطلقاً العنان لمخيّلتهِ التي لا تتردّد في تبسيط كل الصعوبات، متوهّماً وجوده على الجانب الآخر من البحر على الأراضي الأندلسية، يشرب النبيذ الأحمر ويتبوّل واقفاً على الجهة الأخرى التي لطالما أشعرته بالإختناق والموت متعفّناً في إحدى محطّات الحافلات، أو ملقياً على الطرقات ككيس تملؤه القمامة تعبث بها الكلاب الضّالة.
يتبع ...
 
لا أدري لما أشعر بالوحدة تمزّقني منذ يومين، وكأنني لم أكن وحيدا في حياتي كما أنا عليه الآن، لست أعرف حتى من أفتقد إليه في هذه اللحظات، كل من هجرني أو هجرته انقرض تماما من ذهني، ولم يعد لوجودهم أثر على أفكاري وتساؤلاتي، لكنني أشعر بوحدة عميقة تأكل داخلي، تطحن هدوئي بخبث، وتقمع استقراري بوحشية فظيعة ..
 
-مابك شارد الذهن هذه الأيام ؟ هل أنت حزين ؟
- لا... أنا لست حزيناً بما يكفي
- حسناً... مابك إذن ؟ هل فقدت وظيفتك ؟
- لا أنا لم أفقد وظيفتي، ويا ليتني فقدت وظيفتي لكان ذلك أرحم من هذا، لأنني في الحقيقة فقدت ما هو أسمى من ذلك بكثير.
هل تدرك مدى فداحة الشعور حينما تفقد القدرة على النوم ؟ على الإستمتاع بأي شيء من الأشياء مهما كانت قيمته ومهما كان مغرياً.
حسنا... دعني أشرح لك بطريقة أخرى... أقضي كل اليوم قلقاً من بطء الوقت، أنتظر مرور الساعات بين العمل والموسيقى والروايات والأفلام والمسلسلات، أتسكّع في الشوارع الضيّقة وحيداً أجرّ خيباتي على رصيف بلاص دارم كل مساء، دون أن يثير شيء ما إعجابي أو يلفت انتباهي حتى، فقدت القدرة على الإحساس اتجاه كل الأشياء التي كانت فيما مضى سبباً لسعادتي، السجائر ، التنزّه، المناظر الطبيعية الخالدة، البحر ، وقت الغروب، وغيرها من الأمور التي تعجب أغلب الناس ما عادت تحزّ في نفسي إحساساً ولو كان ضئيلاً من اللذة والجمال، أصبحت عاجزاً على نحو يحجب عني الشخص الذي كنته قبل سنوات، ففي كثير من الأحيان ما أرغب بسهرة في الملهى مثلاً، أو الشرب والغناء والرقص والركض على الرمال، أو الرسم والكتابة والشعر وغيرها من الأمور التي قد تثير الحماسة لشاب في مثل عمري، لكن قوى غامضة ومرعبة تهيمن عليّ بشكل مفاجئ، تموت الرغبة فوراً عند ميلادها، يغادرني الشغف والحماس لأبقى فارغاً وباهتاً. لقد فقدت مفاتيح فن العيش تماماً، وما عدت أقدر على فعل شيءٍ سوى البقاء وحيداً، أنهب المكاتب الإلكترونية وألتهم ما تيسّر منها في عالمي الخاص، مع الشخصيات الروائية وسبر أغوارها، فالحياة الواقعية لم تعد مقبولة في أيّ حال من الأحوال، وأنا ما عدت قادراً على مواءمة كل ما يطوّقها من عبثية.
هل تدرك الآن ما فقدته ؟ حتى أنني فضلت عدم الإفصاح على قوة وإفراط تفكيري، ولم أذكر لك طبيعة تلك الأفكار القاتلة التي سلبت مني كل وسائل وغايات تحصيل الطمأنينة والسلام.
حتى مواقع التواصل الإجتماعي فقدت معها حماستي، فكلّما أفتح حسابي على الفيس بوك تعتريني موجة هائلة من الإحباط والملل، كل ما يتمّ نشره في زواياه لا يتوافق مع ما يطحن فكري، مواضيع مكررة ورديئة، أفكار خاطئة يُروّجها البلهاء مبتسمين، أعداد من الناس يشتكون من الخيانة، الفقر، الظلم، وعلاقات تبدأ وأخرى تنتهي......
ما عدت أقدر على مجاراة هذه التكتلات البشرية البائسة، وما عادتِ الحياة الإجتماعية تشجعني على الإحتكاك بمزيد من البشر، فقد أصبح العيش بجوار أحدهم مُمِلّاً ولا يستحق عناء تقديس الحياة.
لطالما كنت أناشد الحرية والإستقلالية الفرديّة، فمتى نجحت في تحقيق ذلك اعتقدت أن الحياة ستكون أقل تعقيداً على الأقل بالنسبة لي، لكنني كنت أحمقاً وأبلهاً عندما حملت في سريرتي ذلك الإعتقاد الواهم، لأنني فجأة وجدت نفسي مكبّلة على نحو يستحيل تحريرها، وعقلي مقيّد طغت عليه الشكوك والظنون والوساوس، أصبحت لا أؤمن بأي شيءٍ تقريباً وما عاد أبيض ناصعاً كما كان عليه الحال في السابق. فهذا الدماغ اللعين الذي يعشعش داخل جمجمة رأسي أصبح قبيحاً ومتمرداً على نحو لا يمكن ضبطه وتهدئته، أشعر به أحياناً كثور ضخم تتلاعب به الجماهير في سباق الجري مع الثيران بعد انتهاء مهرجان الطماطم السنوي هناك في قرية بيونول التابعة لمدينة فالنسيا على الأراضي الأسبانية. ثور ضخم بلون الظلام يجري بعبثٍ على كل الأشخاص دونما سبب، كذلك يطارد عقلي أفكاراً قاتلة لا مدّ لها، فأقضي أغلب ساعات النهار والليل أجري من فكرة لأخرى بشعور يمزّق قلبي في كل الجهات، وما يزيد الأمر تعقيداً هي حالة الإكتئاب ثنائية القطب التي لا تتخلّف تماماً بفرض وساوسها الثقيلة على معنوياتي لتلهو بها كما يلهو طفل صغير بإحدى ألعابه حتى يصيبه الملل منها فيحطمّها ضارباً بها على الأرض أو الحائط...
حقا إنّ الحياة أصبحت لا تطاق ولا تحتمل وسط هذه الأحاسيس المرعبة، فأنا لا أقدر حتى على الإستمتاع بتلك الأشياءِ التي كنت أراها ملاذيَ الوحيد من هذه الفوضى القاسية، ماعدت أجد الهدوء حتى في الموسيقى التي هي رفيقة الروح، بل حتى أنني فقدت القدرة على النوم كإنسان طبيعي، بعدما تمكّنت مني اليقظة في غفلة مني، وسلّمتني للواقع المجرم كقربان أخير، فلا أنجح بالنوم نهائيّاً كلما وضعت رأسي على الوسادة، وألقيت بجسدي المتهالك على سريري المهترئ، وقد أصل يوماً بآخر دون نوم تماماً، بغضّ النظر على الجهد العضلي والمعنوي الذي أبذله كلّ ساعاتِ اليوم.
هل تدرك الآن كم هو فظيع أن يفقد المرء القدرة على النوم، والموت لساعاتٍ قليلة فيها يشحن مشاعره، وترتاح أعضاء جسده لكي يكون جاهزاً في اليوم الموالي لخوضِ معاركَ طاحنة تنتظره على أحرّ من الجمر... ؟
لا أظنك قد تفهم كل هذا، لأنك لا تعرف أن قصتي مع الفقدان أبديّة لا تنتهي إلا عند دفني تحت التراب، وإنما بالفقدان فقط انطلقت حياتي، وبه استمّر الحال إلى ما أنا عليه اليوم، أين فقدت نفسي وأصبحت أشعر بتشرّدي في الأعماق.
 
العالم كما يظهر في وجه حبيبتي

رغم حركة لا تتوقف؛
لأشياء في داخلي،
وأخرى تحيط بي،
تعبر من خلالي وأمامي،
من مسافة واغتراب،
أفكار، مشاعر، ورواسب أحلام،
أشجار، جرذان أليفة، وعناكب بشرية
قطط متشرّدة،
تفترس أكياس القمامة،
شحاذين يعدّون في آخر اليوم الثقيل
بعض العملات المعدنيه،
رياح ومطر، شمس وقمر،
أقواس قزح العملاقة،
أشعة شمس الربيع
تزيًن قريتي الجميلة، لزفاف ملكي،
البحار في هدوئِها يُبتلَعُ المهاجرون
لِيحصل الحوت على وجباتٍ مجانية
بطعم ثمر التوت البري،

رغم حركةٍ لا تتوقّف؛
لأشياء في أعماقي،
وأخرى تحيط بي،
تعبر أمامي ومن خلالي،
من أنظمة وديكتاتوريات،
ليبرالية، اشتراكية،
رأسمالية، وغيابٍ للإنسانية؛
من طفلنةٍ للشعوب،
وتقييد الأفراد،
لقسمهم بشكل ناعم،
في صنع حروبٍ وثورات؛
دماء وضحايا، أبرياء وأطفال؛
لرسمِ جداريات بعنوانِ السلام؛
دول تحترق، تنزِف أولادها، تصير إلى رماد
العراق والحضارة
ليبيا التاريخ
وسوريا العظيمة

رغم حركةٍ لا تتوقّف؛
لأشياء في أعماقي،
وأخرى تحيط بي،
تعبر أمامي ومن خلالي،
جماهير تقود ثورةّ في البلد
لافتاتٌ وهتافاتٌ تتعالى،
دولة مدنية ماشي عسكريّة
شعاراتٌ جافّة من فجر الإستقلال
سقط الصنم بوتفليقة وأتباعه،
أبناء الزنا يملؤون سجونه
انتصر القائد الأعظم؛
وعادتِ الجماهير إلى الإسطبل
للترافس الجهوي،
وصنعِ صنمٍ جديد تعبده
فاز تبون بمنصبِ الرئيس؛
بمباركةِ أصابع زرقاء،
وأدواتٍ تعود إلى ما قبل التاريخ
بدأتِ الوعود تتهاطل على الشاشات،
كجرعات مخدرة، لترويض البغال،
وتمديد عمر المأساة

رغم حركةٍ لا تتوقّف؛
لأشياء في أعماقي،
وأخرى تحيط بي،
تعبر أمامي ومن خلالي،
نزل الطاعون بمظلّتهِ على الكوكب
تقلّص العقل البشري أمامه
اتّضحت هشاشته، ومدى سخافته
وسائل الإعلام تشوٌه المعلومات،
القطيع البشري في ذهول،
بين مؤامرة عالميّة،
وأنياب فيروس لا يرحم
حجر منزلي، تهافت على المحلات التجارية
ندرة السلع وكثرة الطلب
معقِمات، كمامات،
وإرشادات للقطعان الهائجة

رغم حركةٍ لا تتوقّف ..
للأرض، للسماء
للكواكب والنجوم
للحافلات المهترئة بعجلاتها الملساء؛
عويّ الذئاب، وركض الخنازير البرية
في أعماق غابات الأوراس، وبردها الكافر
كل شيء يتحرّك أمامي وخلفي؛
إلّا صورتكِ يا حبيبتي؛
هي الثابت الوحيد في الوجود؛
في رفوف الذاكرة،
وفي نسيج المخيّلة
بريق عينيكِ الزهريتين
كمثولِ رحيق العنب على المائدة
شعرك الطويل المتموّج والداكن
يبدو رمز ميثولوجي للتحويل والصيرورة
وشم الفراولة في كتفك
يحميني عند نشراتِ الأخبار
من الغش والخطاباتِ المزوُرة
صوتكِ الناعم في إيقاعهِ
بأمجاد ركوب الفالكيري
يرسم لوحةً فنيّة في مخيّلتي
أراكِ
ترقصين، تبتهجين، وتنثرين السكاكين
لا تحفلين بالرومانس الأبله
ولا بانهيار الإقتصاد العالمي

رغم حركةٍ لا تتوقّف ..
للأرض، للسماء
للكواكب والنجوم
إلُا صورتكِ، ورسائلكِ الصوتية
هي الثابت الوحيد، والرفيق الوحيد
الذي يسرد لي،
ملامح الطقس عن تلك القرية
التي تفيض باللبن
تفيض بالأقداح
تفيض بشهدِ العسل
ذكرياتكِ الثابتة يا حبيبتي
تحدثّني عن حكيم راقص
يعرِفُ كلُ عوراتِ العالم
لا ينفكُ يشيح بوجهه
يتعفف ثم يأخذ بالرقص
ليس الرقص
على الألم كطائر يتعذب،
وإنما بالألم وفيه وداخله.

هشام منصورية: 17/12/2020
 
كرقصةِ البجع الأخيرة،
كالغروب الوردي،
مثل روحِ البنفسج
في ثيابِ جدتي
سأبقى أنتظرك،
كما أنتظر اللقلق الراهب
فوق أسوار الجامع،
وعودة الضباءِ إلى البراري
البعيدة، المنسية
أنتظر عودتك،
مع السنونوات،
وسربٍ من فراخِ الملائكة.
سأجوعُ مطولا،
في أرض الذئاب هذه،
وأعوض حزني بالموسيقى،
عازفًا وحدتي
حتى يطل الملأ الأعلى،
وكل زبانية النار،
ليشهدوا جميعًا،
أنني لست رجلًا ضالا،
ولا مُتَجاهِلًا،
وإنما أعزف فقط
لحن عمري الضائع،
في الهم، في الألم،
وفي المواجع.

أقِفُ وحيدًا في ركن ما،
في قبوٍ قذر
نتشارَك الظلام،
المكنسة ثالثنا،
الله تخلى عنا،
كلّي ثقوب وأنزِف القلق القديم
عارٍ في غيابك أنا،
شفّاف وغير مرئِي،
أدخّن سجائِرَ رخيصَة
لأتجاوزَ ظلي،
لأنسى مرارة الوجود،
تُلَاحقني كل أشباح العدم
أتقيأ التعب
والبعد عن كل شيء،
بأفكار أعتني بها مثل كلاب شاردة
ألقِي عليها فتات الخبز من النافذة،
فتسبقها الدجاجات،
المكنسة تشرب من قهوة الغياب
مثل قدّيسة البحر،
لا يزورها أحد
سوى الحزن، وجاره الندم،
القبو يتظاهر بأنه حي
يَقصّ شعر الانتظار
قرب النافذة،
ينكمِشُ على رَصيف الحب
عندما يبدأ الزمن بالإنكماش،
لِيَعود كل شيء إلى مكانه
قطعًا لن أنسحب،
لن أنكمش،
لن أعودَ إلى بطن ابنة الله
إلى خصية رجل همجي.

أيها القلب العجوز،
أيتها الذاكرة اللعينة
أعلنكما زوجًا وزوجة،
وأستلذ بخصامكما الذي
يشكل أرقى عذاباتي
وأحلامي الفقيرة،
في آخر صفحة من
كراسة الرياضيات.
أحلام الصف الخامس،
لم أستطع أن أكون تشارلز داروين
كما توقّعَ معلّمي،
لن ير ستيفن هوكينغ خاصتي النور.
لن تفخَر بي أمي
أمي؛
نورُ الأفُق الشديد الإضاءة،
نجمة الصباح التي،
تتألق حتى الضحى
لأنني أفلحُ فقط
في تخييب ظن الجميع،
حتى الموتى،
والراحلين بصمت
دون وداع،
إلى السماء،
خلف القمر
لمعانقة غريب،
تحت نور الليل
بعد حفلٍ تقليدي.

شعر رماديّ بلون الحزن،
عينان مظلمتان
شيءٌ ما،
رخو ويزحف على الأرض
يتهاوى أمام المكنسة،
تتوالى عليه الأيام،
يموت ببطء
يكسِر رجلين الباب،
بكمّاماتٍ على الوجه،
وقفازات الأيدي
يُحمَل شيءٌ ما في كيس،
مثل أقذر شيء على الأرض،
مثل خردة لعينة
قفزة مشوّهة في سلم التطور،
خطأ طبيعي فادح،
لن يتصحّح
إلّا بالإنقراض.
يتساءلان:
من هذا البائس المتجاهل؟
يتردّد صدى غريب
من القبو:
إنه رجل أحب،
رجل عاش حياته
على الخمر والهواء.

انتظار تحت مظلة الوجود الممل.
وهران، بتاريخ:5/6/2021
 
لم أكتب هنا منذ مدة طويلة
سأعود وأدون كل ما كتبته خلال غيابي
هذا المكان فيه شيء من الراحة عكس الأماكن الأخرى التي تثير القرف والإشمئزاز.
 
رِسَالة إلى نَانا أم هَاني، المَرأة الأَعتَى مِن الحُروبِ والحَرائِق:
وهران بتاريخ: 04/03/2022.

[عِندمَا يَرفضكَ المَوت وَ ترفُضكَ الحَياة، تُجبَرُ أنْ تَكونَ لا أحَد.]
أوتشيها أوبيتو.

مُنذ عِدّة أيّام وَ أنا أصَارِعُ عَقلي أمَلًا في التّحَرّر من قَلقِي الوُجُودي الذي يَسحقُني بلا رَحمة، لِكي أحقّقَ انتِصارًا ولَو خَادِعًا علَى مَهزلةِ وُجودي، مُتجاوِزًا وَرائِي خَوفي الدّائِم من شَبَحِ كونٍ يتألّف من ذرّاتٍ وفَراغ، انتصرتُ بِصمتْ، وحَقّقت فِي نِهايةِ الأمر إنجازًا يَتمثّل في وُصولي إلى هُدنَةٍ قَصيرَة مع ألدّ أعدَائي "نفسي اللعينة" التي أبتلعَها الفَراغ وقَذف بها في حُروبٍ لا تَهدأ، وصِراعاتٍ لا مُتناهِية ضِدّ الحَياةِ والوُجود، وكمَا أخبرتك، نَجحتُ فِي التّصَالُحِ مَع الطّبيعة وقرّرتُ أن أستغِلّ رَاحتِي المُؤقّتة لكي أكتبَ لك، ولكي أتَقاسمَ معكِ ثِقلَ العذاباتِ التي أحمِلها في أعمَاقي، فأنتِ الوَحيدَة من كنتِ تَرفَعينها عني بيدكِ الإلهيّة الرّحيمة، ولا أحَد بَعدكِ في هذا العَالِم يَفهمُ طَبيعة الحَروب التي تَستنزِفني، وتَجعَل كلّ يَومٍ أعِيشُه بِمثابَة يومِ الحِساب، لا أحَد يُشارِكني ثِقَل الفَراغ وشَياطِينهُ من الكآبةِ الفِكريّة والأرَق الطّوِيل، ومَوجًاتِ من الإضطِرَاباتِ العَنيفَة، وكمَا تَعلمين يا عَظيمتي أنّ الإعترَاف بمرضٍ نفسيّ في مُجتمعِنا هو حَركةٌ رَخيصة سَوفَ تَعود عَليّ بالخِزي والعَار، فالنّاس هنا لا يَعتَرفونَ بالأمراضِ النفسيّة وَ لا يَحفلون بها، وإِن آمَنوا بِوجودِها حَصرُوهَا في الجُنون، فِي حِين لو انقَضّت على واحدٍ مِنهم سارَعوا إلى تَبريرِها بِخُرافاتٍ وعَالجُوها عَبَثًا بطرقٍ مَوروثَة ومَجنونة تَمامًا، الأمرُ يُشبهُ طَريقَة إنسَانٌ عُصورِ الظّلَام في مُعَالجةِ المُضطَربين نَفسيّاً بالتّعذيب لطردِ الأرواحِ الشريرة باستِخدَام النّار والحَدِيد وَ الضّرب فِي أحَايِينَ كَثيرَة.

قَد لا يَكون هذا سَببًا في انطِوائي ومُيولي إلى الصّمت فِي صِياغةِ الألم نَحو أفقٍ أصنَعُ مِن خِلَالهِ نَمطَ حياةٍ أستنفذُ بِهِ تَجربةَ وُجودِي الوَحيدة التِي لا تَتكرّر، لكِنني فعلًا لا أجِدني بِحاجةٍ إلى أحد، فلا شَيء يُهمّ في نِهاية الأمر، كل الأشياءِ تَستَوي في اللاقيمةِ أمَام القَاعِدة الوُجودِيّة "الموت" كمَا هُوَ وَاضِح عِندَك الآن، فما الفرق إن تَحدّثت أو وَاصلتُ الصّمتْ؟ وما الفَرقُ بَيني كَجثّة مُستقبليّة تُغذّي المَوت وبَينكِ أنتِ الوَجبة القَديمَة التي إلتَهمها قَبل أعوَام؟ الأمرُ سيّان يا جدّتي، إنّه تِكرَار سَخيف للأحداثِ والأشياءِ والأشْخَاص، لَقد أصبحَ الأمرُ فيه شَيئًا من الإهَانة أن أتحدّث بِضَمير المُتكلّم مَع الآخَرين، أجدُ نفسِي مَعهم مُنزعجًا دَائِمًا وهذا ما يَدفعُني إلى أن أكونَ سَيئًا مَعهم في كثيرٍ من الأحيان، فمَا الّذي أقُوله حَسب رَأيك؟ وأنا لا أشعرُ بوُجودِي إلّا حِين يُصيبُني حُزن لا يُطاق !! أخبِرينِي أينَ أذهَبُ بنَفسِي الّتي اُبتُلِيَت بِي؟

ما يَزيد من خَوفي يا مَلاكِي سَببُه هَذا الدّماغ السّادِي الذِي يَسكنُ جُمجمَتي، هذا الوَحش الكاسِر الذِي فَقد شَرعيّتَه وسَلامَه بَين القطِيع، الساديّ الّذي يُشكّك فِي كلّ الحَقائِق وَ القِيمِ الأخلاقِيّة، بَل ويُجرّدها من المَعنى الوَاهمِ الذي ألبَسهُ لها شَخصٌ مَا فِي قَديم الزّمَان، شَخصٌ ربّما قالها وهُو يتبوّلُ واقِفًا عِند جذعِ شَجرة فِي الغَابَة أو يَستحِمٌ عَارِيًا فِي الوِديَان،ثُم تبنّاها وطوّرها بَعدهُ مَلايينٌ مِن البَشر عَن طَريقِ التّلقين والتوارُث، مِمّن يَخافُون الظّلام، ويَتجَاهلون عَن قَصدٍ هذهِ الكلِمة الثُلاثيّة الأحَاديّة "لماذا؟"، هذه الكَلمة التّي تُهَدّد سلَامهم وَ تُرعِبُ عُقولَهم وَ تَجرّهم جَرّاً إلى طُمأنِينة القَطيع، هَذه الكَلمَة التِي أدركَها الوَعي البشريّ في مَراحِلهِ الأولى، ومَع تطوّره عَلى مرّ السّنِين أصبَحتْ فِكرة مُطارِدتِها شِبهَ مُستحِيلة، كَونها تنتهي بنا دومًا إلى طَرحِ المَزيدِ مِنها، حتّى ابتكَرَ لها الإنسَانُ مَفاهِيم تُقلّل من ثِقلها عَلى العَقل، كُمرَاوغتِها بتخذيرهِ وإعطاءِ سِيناريوهَات مُستقبليّة وإغرَاءاتٍ شَكليّة تَعتمِد بالضّرورَة على تَضليلِ العَقل ودَمجِهِ في دَائرِة الأمان وَ إخضاعِهِ لِكَائن مِيتَافيزيقي خَارجِي سَيقُوم بدورهِ هو الآخر ويُكَافئه على انخرَاطِه وَوفائِه بالخلود !!

لَقد أصبَحتُ أجِدُ الفَساد في كَثيرٍ منَ الإعتقادَات يَا جدّتِي، وعَقلِي أصبَح مُحصّنًا ضِدّ الوَهم لا يَقبل السّراب، حَتّى أنّه قَامَ بِقطعِ جَمٌيع حِبَال الأمَل والإيمَان وكلّ التّفسيرَاتِ البلهَاء التّي توَصّل إليه وَعيُنا العَاجِز على اختراقِ مَا بَعد مَدى إدرَاكِنا وامتدادِنا الفِيزيَائي، فَأنا لا أعتَقدُ بأنّني هنا في هَذا العَالم مِن أجلِ رِسَالةٍ سَامِية أو شَيءٍ من هذا القَبيلْ، بَل أجِد فِي هَذا الهُرَاء مَا يَجعلُني أبدُو سَخيفًا ومُضحِكًا، فمَن يَدري؟ قد أكُون هنَا فقَط لِمُجرّد التّسليّة، وما الإنسانُ بوُجودهِ في هَذا العَالم إلّا مُهرّجٌ الطبيعَةِ المُفَضّل، مُهرّج غَارِق بِرغَباتهِ العَميَاء في مَشارِيعَ جِدّ مُؤذية وجَميعُها دَون مَعنَى وَ بِلا هَدَف، وَ لِتحصِيلِ الرّغبةِ المُلِحّةِ لِلحَياة التٌي تَدفعُني إلَيهَا غَرِيزةُ البَقاء فِي هَذا الجَسد المُتعَب، وإمكَانِيّة إِيجَاد أسلُوب عَيشٍ أَقل قَسوَة وأكثَر رَاحَة، أصَبحَ مِنَ الضّرُوري جدّاً أن أُصَفّي ذِهنِي الغَامِض وأحذِفَ كُلّ تَرَسّباتِ القُمَامة المَوجودَة فِي العَقل البَاطِن، وإِنّمَا مِن أجْلِ هَذا رَغِبتُ فِي مُرَاسلَتك، فأنَا لَا أشعُر إطلَاقًا بالرّاحةِ مِن وِجهَةِ نَظرٍ عَقليّة، ومَلَلْتُ مِن نَفسِي الغَارقةِ فِي ضَبابِيّة المَنظور كُلّمَا نَظرتُ إلَيهَا من خَلفِ زُجاجِ الأَبوابِ المُتّسخِة التِي أُطِلّ مِن خِلَالِها عَلى حَفلَةِ التّفَاهةِ هذِه، الحَفلةُ الّتي طُرِدْتِ مِنها ذَات شِتاءٍ أورَاسِيٍّ قَارِص، بَعدمَا سَاهمَتِ بدَوركِ فِي مَجيئِي بِشكْلٍ لَم تَكونِي عَلى دِرايًة به إلى هذا العَالم الّذي يَبدُو لِي كَكوخٍ عِملَاق يَسكنُه الظّلام والفَراغ، وأنا فِيه مُجرّد كُتلَةٍ مُعتبِرةٍ مِن الجِلد والعِظامِ والقَذارَة تَسبَحُ بَين تَفاصِيلهِ دونَ بُوصلَةٍ تُرشِدُ قَاربِي المُتهالِك نَحوَ العَدمِ الَذي انطَلقتُ منه.

جَدّتِي الثّمِينَة الّتي لَا تُقَدّر بِثمَن؛
لِمَاذا أكتُبُ لَكِ فِعلًا يا عَزيزتِي وشَريكَتي فِي العَدَم؟
وَ لِمَاذا أنقُل إليكِ هَذهِ الأجواءَ الكابُوسيّة والكَئيبَة؟؟
في الحَقيقة يا نانا أم هَاني لا شَيءَ يُنقِذني من السّيطرَة الرّهيبةِ للكآبَة والأفكَار السوداوِيّة غَيرَ المُوسيقَى والكِتابة، الكِتابَة لكِ أنتِ بالتّحديد، فأنَا أجَسّد العَدَم ولَم يَبقى مّنّي سِوَى رِئتينِ تَحرِقَانِ السجَائِر فِي الليَالي الطّوِيلة، أكتُبُ لِوجهكِ الظاهِر لِي عَبرَ بردِ الشّتاء وصَقيعِه فَلا أخرُجُ من غُرفَتي. أفَضّل الإنتشَاء بالمُوسيقَى التِي بِدونِها لكَانَتِ الحَياةُ غَلطَة كَما قَال النّبي نِيتشه، أفَضّل شَهوَة الكِتابَة التِي تَفوقُ شَهوة الجِنس، أرسُمُ مُستقبَلًا بقَلمِ الرّصَاص، وأمحِي المَاضِي المَحفور في عُمقِ الذّاكِرة، أبَدّلُ الحُروبَ إلَى حَفلَات رَقص، أبتَكِر عَالمًا يَخُصّني وَحدِي، أخوصُ فيه مُغامَراتٍ لا أستطِيعُ تَجربَتها في الحَياةِ الوَاقعيّة، فأنَا أضعَفُ مِمّا أتَخيّل وَمِمَا تَتخيّلينَه أنت، هَشّ كَرجُل القشّ وبَارِد كَرجُلِ الثّلج، قَابع أسفَلَ سَحابَة دُخّان سَجائِر العَرعَار وبَينَ أكوَاب القَهوة، أرَاقِبُنِي من الخَارج، وأحَلّل أفكَارِي اللّامَنطِقيّة، وأتَابِع بِصمت الجَحِيم الّذي صَنعهُ عَقلُ الإنسَان. يُمكِنُني وَصفُ العَالم في غِيابِك ومُساعَدتك عَلى تَكوِين صُورَةٍ نَمطِيّة لَه، عَواصِمُ العَالمْ تَزدَادُ سخونَةً هذِه الأيّام، تَخيّلي يا جَدّتي أرضَنا وهِي تَفيض كَقِدرٍ عِملَاق فوقَ بُركَانٍ بحَجمِ شَمسيْن، وَنحنُ دَاخِل حَلبةٍ رُومَانيّة وَاسعة، العَبيدُ يَتقاتَلون والمَلِك فِي المَقصورَة يَشربُ النّبيذ، وأنا أركُن فِي زَاويَة أُشاهد الجَميع ضِدّ الجَميع يَتخبّطون في حُفرة الجَحيم والظلَام، مَع تَخوّفٍ رَهيبٍ يَسكُن القلوب تَرقّبًا لاندِلاع حَربٍ عَالمِيّة، وبِجنون أحَد زُعمَاء الأرض قَد يُطلقُ رَأس نَوويّ يَمحي نِصف الكَوكب فِيما يَتكفّل الآخرون بإرسَال البَشريّة إلى جَحيمٍ غَير هذا الّذي نَحن فِيه.

رُؤيَة الحَياة عَلى أنّهَا جَحيم وكِفَاح هُو مُؤشّر جَيّد يُوضّح بأنّني أمتَلِك ذِهنًا نَقيّاً وكرِيستَاليّاً، فَلا أسمَح لِهذِه الرّؤيَة بأنْ تَتشكّل في صِرَاعٍ ضِدّ نَفسِي وضِدّ كلّ شَيء. هَدفِي يا نانا هوَ الوُصولُ إلَى عَقلٍ يَعمَل بِسَلاسَة لِصَالحِي وصَالِح الوُجود ومُحيطِي الّذي أعِيشُ فيه، دونَ أن أفصِل نَفسِي عنه، فأنَا بِالضّرُورَة جُزء مٌنه، وطَالما لَم أفعَل ذلكَ وأعِيش فَقط فَردانِيّتي بِغَطرستِها الأنَانيّة فإِنّ حَياتِي دونَ أن أدرِكَ هِي عَمليّاً جَحيمٌ حَيّ مَدفوعٌ بِغرورٍ خَارِج عنِ السّيطرَة، الغَريب أنّني أعَاني باستمرَار في كُلّ ثَانية مِن حَياتِي، ولكنّنِي بِطريقَةٍ مَا لا أعرِف ذَلك بالضّرورَة، حتّى مَع أنّني أمتلِك لَمحةً عَن المُعانَاة، أيْ أنّني أُلَاحظُ مَدى صُعوبَة الحَياة، وأعرِف السّبب الجِذرِي للمُعانَاة، لِذلَك يَجبُ أن أسمَحَ بِتجَلّي حَقائِق الحَياة رَغمَ شُعورِ الإمتِعَاض الّذي تُسَبّبه، وأن أتَقبّل هذهِ الصّيغَة الحَياتيّة العَامّة، وأن أعتَبرَ نَفسِي جُزءًا منها دُون العَيش فِي فَوضى مَتاهةِ صِراعٍ مُبهَم مِن صُنعِي، مُتخَلّصًا من قُيودِ أحمالِي الدّمَاغيّة الّتي تَسحبُني للقَاع أكثر، فأيّة مُهمّة شَاقّة تَنتظرُني يا عَظيمَتي دُون أن أشَوّهَ مَا يَسكُنُ دَاخلي، وبلَا أيّ تَنازُلٍ يُهدّد مِن قِيمَة أن أكُون أنا، فالإنسَان عَلى العُموم يَمتلِكُ قُدرةً رَهيبةً عَلى تَغيِير الأقنِعة وإقَامةِ الجَنائِز لكَافّة السّقطَات والخَيبات والآلَام واللحَظات الحَرِجة والذّكرَياتِ المَريرَة التِي تَعرّض لهَا خِلالَ حَياتِه، فِي المُقابل هُو لا يَمتلِك أدنَى مَقدرةٍ على تَذكّر أيّة لَحظة سَعادَة أو فَرح أو حَتى إمتِنَان غَمرَت قَلبَه، رُبّما لأنّه بِطبعِه كَائنٌ يُقدّس الألَم والخُذلان... لا أعرِف !!

أهرُبُ مِن كُلّ شَيءٍ يَا جَدّتي حَتّي يَجيء اللّيل ثُمّ آتِي إليك دُون مَاضٍ ودونَ حَاضِر وبِلا مُستقبَل، أهرُب مِن الأمَاكنِ ومنَ الأشخَاص، مِن الإلتِزامَاتِ الثّقيلة، ومِن الإِنتِماء الّذي يَمحُو الذّات ويَشطبهَا ويَسُلبهَا هوّيتَها الإنسَانيّة، أهرُب مِن اللاجَدوَى الّذي يُغلّفُ الحَياة البَائِسة، ومِن الجَهل المُنتشرِ كَالوَباء ثُمّ آتِي إليْك وأنَا أجُرّ وَرائِي صَخبي وعَبثِي، تَتقدّمُنِي قَوافِل مِن الكَآبةِ والأرَق، تَختَفي في حُضنِكِ وأنتِ تَلعنِين رَائِحة التّبغِ الرّديء المُنبعِثَة مّني. يُقَال يَا عَظيمَتي بأنّه وبِمُجرّد أن يُدرِك ابن الإنسَان مِقدارَ السّلامِ في العُزلَة فهوَ في أمَان، لكنّني لا أجِد السّلامَ في العُزلة ولا في أيّ شَيءٍ آخر، ذَاتي وَحشيّة وهذَا العَالم لا يُطاق ولَم يَعد بالإمكَانِ احتمَاله، ورَغمَ جَميع مُحاوَلاتِي المُثيرَة للشّفقَة لِتخذِير وَحشِ رَأسي وإخرَاس بَعض الضّجِيج اللّامُنقطِع، تَستَمرّ الحَالة الإشمِئزَازيّة في ابتِلاعِي أكثَر، لِلحدّ الّذي يَبدُو فِيه تَخصيصُ وَقتٍ لتَحضير وَجبة طعَام أشبَه بِتذكرَة هَربٍ مَجانيّة وفي إِعدَادها فَقط سَيتِمّ إفرَاغِي مِن نَفسي. إنّ عُزلَتي وَسطَ هذا الخَللِ الوَظيفي هِيَ شَكلٌ من أشكَال الغَرق، صِراع ذَاتيّ مُريع بَين استِمرَار كُل هذا أو إيقَافه، إنّما عُزلتِي يا جَدّتي إلّا سِجن قَسريّ، وَجهًا لِوجه مَع ألَدّ أعدَائي "نفسي اللّعِينة" التِي تَكاثَرت فيهَا الخَيبات حَتّى أفقَدتني القُدرَة على النّطق، والقُدرَة عَلى البَحثِ والتّفكِير بِعدُوٌ خَارجِي، إلَى أن تَنازَل الخَوف عن هَوّيته والعَقل عَن خُطَطه والقلب عن مَشاعِره. باختِصار أنا الآن مُجرّد دُميةٍ تَسكنُها رُوح مَاتَت في سِتّة حُرُوبٍ آخرُها قَبل شَهرٍ من الآن.

رَأسي لَم يَعد يَتّسع لِكلّ هذا الألَم، أرِيدُ أن أغفُو قَليلًا في حُضنِك كَطفلٍ ضال، وأصرُخَ عَلى الحَياة كذِئب جَريح، أرِيدُ قَبرًا بِجواركِ يا نانا، لَعلّ قُربي منك يهَدّأ هذا الضّجيج الذي يَضربُ رَأسي من الداخِل بِغِل، مِثلَ مِطرَقةٍ ثَقيلة تَحملها يَد غَاضبَة وحَاقِدة، أرَاني أسقُط وأنهضُ بِصعوبَةٍ بَالِغة، وبِصعوبَة أيضًا أستَكمل أيّامِي، أحتَضر، أحتَرق، ثُمَ أذوب عَلى الوَرق حَقائِبَ من كَلمَات ودَم، خَربَشات بَقايَا كَائن حَاول أن يَكونَ إنسَانًا بِكلّ قوّته وجُنونِه، حَتّى يَحينَ دَوره في الإنقراض من الطبِيعَة كَولِيمة للدّيدان وَ سَمادًا لِلتّربَة، وإلى ذَلِك الحِين سَأتقمّص دَوري فِي التّمثِيليّة المُقيتَة على أنّني لَا أحَد، مُتّكِئًا عَلى وحدَتي، أبَارِكُ عَدمَ سُقوطِي بذكرَيات أحلَامِي البَسيطَة الّتي جَعلتكِ يَومًا تَبتسمِين لِرحلَتي القَصيرَة فِي مَتاهَة الحَياة تَحتَ مِطرَقَة العَبث وسندَانِ الفَراغ.

أعتِذر يا عَظيمَتي عَلى مَا نَقلتُه لَكِ من حَشرَات سَامّة تَلتَهمُ أيّامِي بِبطء، كَما أتَمنّى أن لَا تُوقفِي رَحلَاتكِ إلَى أحلامِي، إنّ طَيفَك يُنقذُني من الجُنونِ والتّعَفن أمَامَ طُغيَان الليل ومَا يَجُرّه مِن مَآسي وأحزَان، وجِبَالٍ شَامِخةٍ من الحَنين والشّوق، ومِن الرّغَباتِ المُتسَاقِطة كَأورَاق الخَرِيف، اللّيلُ لَيسَ مُقدّسًا دَائِمًا يَا جَدّتي، إنّه التّأمُل الّذي أرّقَ نيتشَه وجَعلَه يَحزّ أصَابِعهُ بسِكين أو يَحرقُها على لَهيبِ شَمعَة لِيتحَدّى قَلقه وألَمه، إنّه الهَذيَان الّي أنهَك لوتريامون بَعد أن يَكونَ قَد شَرِب عِشرين فِنجانًا منَ القَهوة الكَثِيفة ولَا أحدَ يَستطيعُ إيقَافه رَاكِضًا في شَوارع بَاريس، إنّه الجُنون الإنسَانيّ الّذي عَجّل مَوت فَان جوخ بِإرسالِه نَحوَ الرّبيع في رِحلة ذَهابٍ دُونَما عَودة.

الإِنسَانُ يَا نَانّا أم هَاني مَا هُو إلّا ضَحِيّة عَقلِه وضَحيّة وَعيه بِنفسِه ومُحيطِه، والطّبيعَة لا تُقبلُ المُتمرّدين عليها إذ تَطرُدُهم من الحَياة بِالبِطاقَة الحَمرَاء، أصبَحتُ لا أنتَظِر أيُ شَيءٍ مِن الحَيَاة ومِنَ النّاس، رُبّمَا أستَثنِي مِن كُلّ هذا انتظَاري لصَديقٍ ذَهب لِيَأتي بِالمَزيد من البِيرة التِي تُسَاعِدنِي عَلى الإِسترخَاء، فِي مُحَاولَة بَائِسةٍ هِي الأخرَى لِتَرويضِ وَحشِ رأسِي، الأمر كَما قَال الفَيلسوف المُتصَوّف "أوشو": [كلّ مَا في الوُجود يَرقصُ باستِثناءِ الإنسَان، الوُجود كلّه في حَالةِ استرخاء، الأشجَار تُزهر وتُثمر، الطُيور تُحلّق في أعَالي السّماء، الأنهَار تَنساب نَحو مصبّها، النجُوم تَسطع، كُل شَيءٍ يَبدو وكَأنه في قِمّة الإسترخَاء، لا أحَد مُسرعًا، لا أحَد مُلحّاً، لا أحَد قلقاً، إلاّ الإنسَان]
أفَكّر في الرّقص أنا أيضًا يا عَظيمَتي، أفَكّر في تَجرِبَة مُنفرِدَة خَارجَة عنِ المَألوف وعَن كُل مَا هَو مُعتَاد، أفَكّر وأبحَثُ عَبثًا فِي شَيءٍ يَخلِقُ الرّغبَة في دَاخِلي، شَيء مَا يَبعَثُ رُوحِي مِن جَديد لِلعَودَة إلى حُبّ الحَياة وخَلقِ قَضيّة أقَاتِل من أجلِها، أفَكّر فِي الرّقص يَا جَدّتي لَكنّ عَدم قُدرَتِي عَلى تَفسِير مَشاعِري بِطرِيقَة مَنطِقيّة قَطعَت جَناحَاي وأحَاطتنِي بالخَطر بَدل ذلك، مِمّا يَجعَل من كُلّ الأشيَاء تَبدو رَهيبَة وفَظيعَة بِغيابِ الإيقَاع المُناسب، وَ بِلا أيّة استِفَادة مِن فَترةِ وُجودِي القَصيرَة هنا أشَاهِد التارِيخَ وهوَ يَلعَقُ اصبعَه ويَقلِب الصّفحَة، مُكتفِيًا بِمرَاقبةِ حَاضرِي وهوَ يَتحوّل أمَامي إلَى مَتحَفٍ مَليءٍ بالذّكريَات والصّور والقَصائِد ومُعلّقَات وحَفريّات وكَثير من سِيَر الأموَات.

إنّ الوُصولَ إلى مَرحلةِ اللامُبالاة يَا نانا هو شَكل مِن أشكَال المَوت هو الآخر، لَكن لا أحَد يَشعُر بِك، الجَميع يَظنّ أنّك بِخير ولَكِن بِداخلِك هُنَاك ثقبٌ أسوَد يَبتلِعُ كُلّ شَيءٍ ولَا تَستطِيعينَ الوُقوفَ في وَجه سَطوتِه، هِي مَرحلةٌ أفقَدتني لَذّة اللحظَة فَلم يَعد بإمكَانِي تَذوّقُها ولا مُلاحظَة جَمالِها، وغَدَت كُلّ الأشيَاءِ عَادِيّة وبِلا نُكهَة، رُبّمّا لِهَذا أحِنّ كَثيرًا إلى المَاضي البَعيد، ورُبّما هَذا أيضًا مَا يُبرّرُ لي شعُوري بالأسر، فأنا لازِلتُ أسِيرَ طُفولتِي ويَبدو لي أنّ الإسَاءَة ألقَت بِظلالِها على طُول عُمري، وكَان من نَصيبي أن أعِيشَ مُثقَلًا بإعَاقاتٍ كَبيرَة في الرّعايَة الذّاتيّة، في الإدرَاك والذّاكرَة، في الهُويّة والإنتمَاء وَ اللاإنتِماء، وفي القُدرَة عَلى تَكوِين عَلاقَاتٍ مُستَقرّة، وَ فِي جَحِيم عَقلِيّ لَعِين.
يَستَحِيل يَا جَدّتي أن أكتُبَ لكِ سَنواتٍ طَويلةٍ عَبرَت فَوقِي كَشاحِنةٍ ثَقيلة، أو مُحاولَة صِياغتِها فِي كَلمَاتٍ أو رِسالة، يَستحِيل اختِصار هَذا الحَريق الهَائِل في دَاخلِي وهوَ يَتجَاوزُ لُغةَ الكلِمَات، يَستَحِيل شَرح الهَزيمَة القَاسِية كَما هِيّ بِخسارَاتِها وعُمقِ جِراحهَا بِنفسِ الألَم الّذي يَنهَشُ عِظامِي، ومَعَ ذلِك ثَرثرت بِكابُوسيّة الوَاقِع عَلى لِسَان الوَحشِ الذّي هَيمَن عَلى آخِر مَا تَبقّى مِنّي، مُخفّفًا عَن نَفسِي الكَثير من الأعبَاء المُثقَلة بِفرّاغِيّة رَهيبَة.

نَانّا أم هَانِي، الأم تيريزا المُحِبّة للجَميع، خَلِيّة النّحل المَملوءَة بأشهَى عَسل طَبيعِي، مُنذ أن اكتَشفتُ وتَقبّلت الجُزء الحَيوانِي السّاكِن فِي عُمقِ ذَاتِي البَربَريّة أصبَحتُ بِشكلٍ مَا لا أتَوقّعُ مِن الحَياة إلّا الأسوَأ، أحَاوِل قَدرَ الإمكَان امتِصاص الصّدمَات حِينَ وُقوعِها، فَحياتِي في المُجمَل عِبارَة عَن فَصليْن، فَصل للمُصيبَة وفَصل لِترقبِ المَصائِب، مُغرَيات الحَياة في تَراجعٍ مُخيف وفي المُقابِل تَتضاعَف الأشيَاء التِي تُثيرُ القَرف والإشمِئزَاز، لِهذا أبقَى وَحيدًا كلّ الوَقت، أتمَدّد عَلى السّرير كَجثّةٍ تَتوَسّط تَابُوت، أو أجلِس فَوق جِلدِ خَروف صُوفه كَثيف، أتّخِذ قَرارًا ثمّ أتمدّد من جَديد فَألغِيه، أتَداوَى ذَاتِيّاً دونَ اللجُوء إلى أحَد، غَير مُكترِثٍ لِما يُقَال عَنّي هنَا وهُناك، فَمشكِلتي مَع نَفسي لا مَع الآخرين الذينَ ما عُدت أحفَل بِهم وبِأفكَارهِم البِدائيّة والسّخيفَة، هُم أقَل بِكثِير مِن أن أضَيّعَ جُهدي وتَجربَتي اللّحظِيّة فِي سَبيلِهم دَاخِل حَيّز العَداوَة وتَسجِيل الأخطاء، وهم أقصَر أيضًا من أدخَل مَعهم فِي صِراعَاتٍ لا تَنفعُني من قَريب أو مِن بَعيد.

بَعض الكَلمَات يا جَدّتي تَسكنُ العَقل وتَتحرّك تَحت الجِلد بِعنف، تُريد الخُروجَ إلى الحَياة كَصرخَة لَومٍ على هذا العَالم الرّديء، لَكن أحيَانًا يَكون الصّمت أعظَم، صَمتٌ رَهِيب وَ خَيباتُ أمَل كَأنّها ضَباب يُخيّم على الرّوح. لَقد حَلّ الليْل هنا رُبّما مُنذ سَاعات أنا لا أعلَم ولَا يُهمّنِي، كُنت أكرَه الضّوءَ طِوال عُمري، وحُضوره أو غِيابُه لن يَجعلنِي أتَخلّى عَن وحدَتي، في الخَارج يا نَانا مَصنع كَامِل ومُتكَامل يُنتِج الحَمقَى وَ المُغفّلين، إنّهم يَضحكونَ بِهيستيريَا وَ يُربّون الأمَل في أحضَانِهم وَ يُطعِمونَه الوَهم، وَ أَسوأ ما في الوَهم أَنه يُشعرِني بالأَمَان والرّاحَة بِشكلٍ مُؤقّت فَحسب، ثُمّ يَهجمُ عَليّ التعَب والأرَق والحَرب مَع الأعدَاء الّذين لَن أقَابِلهم، ويُحاصِرني الضّمير وَ الوَعي، إنّهمَا كَسِكّينَة حَادّة تَنحَر الإنسَان حَتى تُمِيته، أنَا مَلعون وُجوديّاً حَتى العِظام يا نَانَا، أفرّ مِن كَارِثة الوِلادَة نَحو الشّيخُوخة كَسهمٍ أطلقَه لَا أحَد، فأنَا في الحَقيقَة خُرافَة لا يُصدّقهَا غَيرك، أمّا مُشارَكتِي فِي هذِه المَسرَحيّة العَبثيّة، فأنَا لَستُ فِيها سِوى مِلفّ عَالِق ومَرمِيّ يَنتَظِر الله أو الطّبيعة في الفَصل بِقضيّته !!
آلامنا يَا جَدّتِي هي فَقط التي تُعانِقنا وَ تَبكي مَعنا ولِأجلنَا، فَقط آلامُنا لا تَعتاد أو تَملّ من دُموعِنا وصُراخِنا، أمّا الآخَرين فَهم بِمثابَة المِلح على الجِرَاح لَا يَزيدُني قُربهم إلّا ألمًا، وبَعضهم كَأشجَار الزّقوم لَا شَيء يَنبُت في ظِلالِهم، يَحترِفونَ كَسر العِظام ونَشر السّم عَلى مَوائِد النّفَاق.

آسِف جدّاً يا جَدّتي على جَعل رِسَالتي لكِ طَويلة وَ مُمِلة، وآسِف لِعجزي عَلى تَحقِيق المِزاج المُناسِب للإنسِحاب مِن هذهِ الصّفقةِ الفَاشلة التي اسمُهَا "الحَياة" والتي تَمّ إقحَامِي فِيها فِي سَبيل فِكرَة استمرَار النّوع فِي مَطعمٍ كَبير لِتَغذيَة المَوت، ولِكَي لا أهِين الحُزن الذي هو التّوَابل عَلى اختِلافِها وَجدت في أمرِ استِقبَاله وَ ضِيَافته وَاجبًا إلى أن يَنتهِي كَما كُل شَيءٍ آخر، فَالحزن يَبقى حُزنًا حَتى نَفقِد نُكهَة الشّعور بِكلّ عَاطفة، فِي ذَلك الوَقت نَتحَوّل إلى أشخَاص لا عَلاقة لَنا بأنفسِنا، مُجرّد وَجبَاتٍ في صُحونٍ تَحت التّرَاب.
أترُككِ الآن يَا عَظيمتي، سَوف أعُود لِمرَاسلتك دُون أيّ شَك لأنّني أجِد دَومًا مَا يَجذبُني إليك وأرَى أنّك الوَتد الأخِير الذّي يَمنع سُقوط السّمَاء عَلى رأسي، لِترقُد روحكِ فِي سَلام أو لِتنامِي بِهدوءٍ في العَدم إلى أن أنضَمّ إليك، سَأركبُ الآن ظَهرَ بَجعة وأتَسلّق السمَاء بِأروَعٍ صَوتٍ بَشريّ عَلى الإطلَاق، ثُمّ أنزِل إلى بُحيرَةٍ النّبيذ عَلى أموَاج الإيقَاع وأغرَق في الرّقصِ مَع الظّلام واللّعَنَات، تُلاحِقني جَميعُ أشبَاحِ العَدم وَ يَصحبُني المَوت فِي رِحلةِ بَحثي المَرير عن مَعنى الحَياة، مُعَلّقًا عَلى حِبالٍ صَوتيّة وَاسعة بِمقدَار سِتّة أوكتافات لِلرّائِع "ديماش كوداي بيرجن"

حَفيدك التّائِه المَلعون وُجوديّاً والغَارق في الظلام.
 
ضيق هو هذا الأنبوب الذي يقل الأحياء إلى عالم الفناء .
يبدوا أن العالم يعاني عجزا في ميزانه التجاري بلغة المؤرخين!
 
هُوَ.. عاجِزٌ عن مَعرفةِ كَيفَ يَعيش.!!
يَقطُنُ خَلفَ جُمجمتهِ الهَشّة.. إزعاجٌ وَحشيّ، تَشويشٌ لامُنقطعٌ بِكُلِ بَلادَة، يُمزّقُ أفكارهُ وَحشٌ مُستبِد وقَبيح أسموهُ "سكيزوفرينيا.!!"، خللٌ يُحدِقُ في وَجههِ على مَدارِ يَومِه المُتباطىء، وفي حَضرَتِهِ تُصبِحُ حتى أبسط المَهام شديدة الصعوبَة.!!

هُوَ.. كان يَعجزُ عن ترويضِ هذا الوَحش أو تخديرِهِ بِشَكلٍ تامْ، مسجونٌ داخل جَحيمِهِ المُستَعِر، جائِعٌ للخروج مِن ذاتِه، والسَير نَحوَ حَتفِه عاريًا، السَير "مُرغمًا" لِيُشبع رغبتهُ الجُنونيّة في الإنتهاء، فَلا مَفَر هُنا من سعيرِه.!!

هُوَ.. كان يَوَدُ إطفاءَ رأسهِ اللعين، أو أن يَستبدلهُ بِجذعِ شجرةٍ أو حَجَر، أن يقايضهُ بأيّ شيءٍ آخرَ سِوى رأسِه، وتتقطّعَ جَميع جُذورِ روابطِ دِماغِهِ البيولوجيّة، أن يَتجرَّدَ مِن وحشيّة مَشاعرِهِ وأفكارِهِ وبَشَرِيّتِهِ التي تُثير غَثيانَهُ وإشمئزازه، أن يَختفيَ بِصمتٍ، دونَ أن يَلحَظَ حتى هُوَ ذلك، أن يَتحوّل إلى مَوجَةِ بَحرٍ وحيدة، تَتَكسّرُ فوق صخرةٍ صَمّاءَ في الظُلمَة، أو وَرقةَ خريفٍ جَافَّة، أقصى ضَوضاءِ وُجودِها هو صَوتُ تَفَتُتِها أسفَلَ قَدَمِ أحدِ المَارّةِ المَشغولِ بِمُكالمةٍ هاتفيّة، أو ربما جِلدُ أفعى مُستهلَكْ، مُلقى في وَسَطِ غابةٍ ضبابيّةٍ مَجهولة، أو غيمَةُ ليلٍ لا يَلحَظُ وُجودَها أحد، تبتلعها شَمسُ صَباحٍ صَيفيٍّ حار، أو أن يَكونَ مُجرّدَ سَمكةٍ يُمزِّقُ أحشائها طائِرٌ جَائِع، وَبِلا عاطِفَةٍ إلى أشلاء.!!

هُوَ.. كان يَوَدُ إلغاءَ فِكرةَ وُجودِه، أن لا يَكونَ شَيئًا ما، أن يتخلّص من هذا الخَلل القابِع تحت جِلدِهِ كَغُدّةٍ سرطانيّةٍ شَرِسَة، وَعلى طريقتهِ الخَاصّةِ والمأساويّة، يُحطّم أعصابَهُ أولًا، فَلا يَبقى مِنهُ إلّا الإسمُ والشَكلْ، باهِتًا، فارِغًا، آلِيًّا، لا يَشعرُ بِشيء.!!

هُوَ.. كَانَ حَزينًا جِدًا، يَتأمّلُ حَياتَهُ في دَورَتِها المُرهقةِ والدائمةِ من الهُراء المُحبِطِ والرَتيب، ويَعلمُ بأنها لَن تختلِفَ أبدًا بالنسبة له، ضَجيج، حُزن، ضَجيج، حُزن، يُريد أن يَنتهِيَ الأمر فقط، أن يَتلاشى، أن يَشُقَ بابًا في جَسدهِ ويَهربَ نَحوَ اللاشيء، إلى فراغٍ صامت، كَأن يَتِمَ إبتلاعهُ كَ حَجرٍ راكِدٍ في قَعرِ مُحيطٍ مُظلمٍ وبارد.!!

هُوَ.. كان يَوَدُ قَتلَ نَفسهِ.. فقط..
لِعجزهِ اللعين عن مَعرفةِ كَيفَ يَعيش.!!
 
يعيد المرء قراءة أولئك الذين ساهموا في تكوين ذائقته في مرحلة ما بشكل دوري، في اللحظة الراهنة لا أميز كافكا عن بائعة هوى كثيرة الشكوى، يبدو في الرسائل مثل بتول منبطح.
 
في الثلاثين ينتهي كل شيء جديد في حياة الإنسان، تختفي الرغبات المحمومة والدهشة الفكرية وتبدأ المرحلة البقرية التي تشتغل بمبدأ الاجترار: تعمل الذاكرة على قيادة الحياة اليومية وتشكيل المشاعر والأفكار قياسا على الماضي وما قدر للمرء أن يعيشه من تجارب، لا يعود للمعرفة مكانها المقدس في حياة الحالم، ويصعب الذهاب نحو الأشياء والأشخاص دون درع الحكمة العقلية، إن قدر للإنسان أن يصل الثلاثين عقليا، فلا شيء يستحق الندم ولا التطلع .
 
من الصعب التفكير في أن نصف الطريق المتبقي سيكون أسوء من مكابدات الطفولة والشباب إن لم يأت الخلاص العفوي، إنه أمر محبط ألا يكون هناك أي مهرب آخر سوى حروف مهزومة وتذمر دائم، وهذا التأرجح بين التشبت الغريزي بالبقاء ككل الثدييات، وبين اليقين الباهر بأن خلف الدقائق والأيام مساحات فراغ رمادية والمزيد من السأم، المزيد من الدوران حول المحور نفسه، من استنساخ الآلام والمباهج الروتينية، ما أثقل الذات حين تعلق في وحل التكرار والسقوط. حين تصبح الأحلام نفسها باهتة ومهترئة من كثرة الاتكاء عليها.
 
received_1934631086743671.jpeg


[عِشت بِهذه الطريقَة، وكان بالإمكانِ أن أعيشَ بِطريقه أخرى. قُمت بهذا، ولَم أقُم بذَاك. لم أفعَل أشيَاء، في حِين فَعلت أخرَى. ومَاذا بعد؟ كأنّي انتظرتُ طِيلة عُمري كي أبلغَ تلكَ الدقِيقة، ذاك الفَجر الذي سَأنال فيه جَزائي. لا شَيءَ كانَ ذا أهميّة وكُنت أعلمُ جيداً لمَاذا.]

ألبير كامو.

أشعُرُ تَمامًا بِالخَوف وهو يُحاصرني من كلّ الجِهات، ويُتابع بِصمت هذَا الكَائن وهوَ يَصرخ تَحت مِقصلة الأرَق والكآبة، يَنتظر هو الآخر دَوره في التهامِي إذا مَا نَجوت من المِقصلة ثم مَشانق الفَراغ والمَلل والحِقد اللامَشروط، هو شَعور يَتكرّر يَوميّاً لذلك أنا مُعتاد عَليه، ويُمكن تَجاوزه وخِداعه هو أيضًا كما كل شَيء آخر، فَجأة وأنا أشَاهد ألبوم الصّور القَديمة وَجدت صُورَة لي أعَادتني إلى الوَراء بثمانية عَشر سَنة، صُورة طَالب عِلم فَقير، مُبرمَج لابتِلاع القَاذورَات التي تَسدّ العَقل، مّمّا هو مُبرمَج في مُقرّراتِهم المَدرسيّة السّخيفة، الخَالية من المَعنى والفَارغة حضورًا في وَاقعنا البَائس، كُنت طِفلًا كَالآخرين، في مَرحلة المُراهقة أينَ يَنحرف الأغلبيّة لِشعورهم فَجأة بجنون العَظمة وتَضخّم الأنا، ويَكون تَمرّدهم مَليئًا بِالمغامرات الجِنسيّة وجَرائم تَافهة من عَمليّات السّطو والسرقَة ومَا إلى ذلك...

ومِثلهم أنا أيضًا كان لابدّ لي من خَوض تَجربة مَا، وأنحرَف بِشكلٍ مُختلف، فأنا أكرَه "الجَماعة" منذ طُفولتي، وأرَى دَومًا أن كُلّ جَماعةّ هي بالضّرورة هَشّة ومَليئة بالنّفاق والأخطَاء، لِذلك لم أجِد مَا يُغريني كما القِمار ولَعب الوَرق بِدنانير قَليلة، فَجماعَات القِمار على الأقل هي عبارَة عن سَاحاتٍ لِلمَعارك لا مَشاعر أو شَفقة فيها. أذكر أنني كُنت من المُمتازين في الدراسة ونَتائجي كَانت رَائعة وتُسعد أمي ونانا أم هاني اللتَان كانَتا تَتوقعان مني الأفضَل ويَتصوّرن لي حَياة مُشرقة، فَكم كَانت خَيبة أمَلهما عَظيمة وقَاتلة حِينما اكتَشفت جَدّتي ذلك وهِي تَفتح حَقيبتي المَدرسيّة، وَعوضَ أن تَجد بَعض الكتب ومَا شابه وَجدت الكَثير من الوَرق الشّيطَاني كَما أطلقَت عليه، فَتساءلتُ: ما الذي يَحدث مَعي؟ وفي الصّباح عُدت إلى عيشِ نَفس التجربَة، نُسخة من يَوم أمس ويَوم ما قَبل الأمس، واليَوم الذي يَسبقهُما واليَوم الذي يَسبق اليَوم الذي يَسبقهمَا، في الحَقيقة هَو يَوم واحَد مَليء بِالأخطاء وتَسجيل الخَيبات، يَتكرّر دونَ تَوقف كأنّني أعِيش في دَائرة لا شَيء فيها غَيري أنا وأخطَائي التي تَعرفني وأعرِفها !!

كُنت وأنا طِفل أشعر بأن هناك خَللًا مَا يَعبث بِتوازن العَالم، وبِخطأ فِي نِظام الحَياة العَاديّة، فَلا شَيء يَبدو في مَكانه، ولا مَعرفة لِي تُمكنني من فَهم هذا الخَلل والتعَامل مَعه، كَثيرة هِي المَواقف التي جَعلتني أرى الأمور على غَير طَبيعتها، كُنت مَثلًا وأصدقَائي المَلاعين نسهَر في الشّوارع إلى سَاعاتٍ مُتأخرة من الليل، وكَان آباؤهم يَخرجون للبَحث عنهم في كل مَرّة، وحينما يَنهال والد أحَدهم عَلى ابنه بالتّوبيخ والضرب في أحَايين كثيرة، كنتُ أتَمزّق ألمًا، لَيس شَفقةً على اللعين الذي يَتلقّى الضّرب، وإنّمَا لِرَغبة غَريبة مني في عَيش المَوقف نَفسه، فَلا أحَد يُوبّخني أو يَضربني عَلى الإطلَاق، وكان بَعض الآباء يُوجهون لي كَلماتٍ جَارحة، ويَتهمونني بِجرّ أولادِهم نَحو طريق الفَساد عَلى حَدّ قَولهم، لأشعَر فَورًا بأنّني مُجرم صَغير ومَنبوذ، وبأنني لستُ سِوى حَشرةٍ تَافهة استقرّت بِعشوائيّة عَلى وَبر كَلبٍ يَتمرّغ في الشّوارع وَ يَقتات من القُمامة...

كَان هذا الشعُور يُلازمني دَومًا وفي كل وَقت، ويُخبرني هَمسًا بأنّ مَا عِشته وأعِيشه لا يُناسِب عُمري، وأنّني أتَحمّل مِثلما يَتحمّل الحِمار الذّهبي لِجدي "لوقيوس أبوليوس"، فَماذا سَأقوله وأنا بِنفسِي لَم أكن أفهَم مَشاعري حِينها؟ ورُبّما هَذه المَشاعر هِي من أبعدَتني عَن الدّراسة التي لم تَكن تَنفعني ولا شَيء مِنها يُلامِس قَلبي وَ يُضمّد جِراحه، كنتُ أتساءَل وقتَها عَن إمكانيّة إدرَاج مَادة أخرى تُساعدني ومن هم مِثلي على تَجاوز الإضطرابات النّفسية، شَيء ما يَتمّ دَمجه في المُقرّر كما دُمجت فيه العَديد من المَواد الرّديئة عَلى غِرار التّاريخ المُزوّر والرّياضة التي هيَ تَبذير للوَقت، ثُمّ أدرِك سَخافة تَفكيري وألعَنه وأستَهزأ به كَعدوّ حَقير، لأنّني الوَحيد في القِسم من يُعاني بِصمت ولا أحَد أثِق فيه لإخبارِه بمَا يُؤرّقني ويَجلد نَفسيّتي بِلا رَحمة.

تَحمل هذهِ الصورَة لوَحدها الكثير من الذّكريَات والأحدَاث والأشخَاص، صُورة التقطَها لي صَديقي "الجايح" بَعد نِهاية حِصة الرياضيات مع الأستاذ الذكي والرائِع، الراحل "زرمان منصورية"، وكُنت أنا من كَتب حَل التّمرين على السبورة كمَا هو وَاضح بَعض الشيء في الصورَة التي أظهَر فيها كَامتدادٍ للطّاولة التي بِالخلف، كنتُ أبلهًا كَغيري وربّما أكثَرهم بَلاهة خِلال النّهار، ومِثل أيّ حَيوان آخر أطَارد قِطعة الخُبز وألهو وأغرقُ في سَخافاتٍ كنتُ أعرِف بِشكل مَا أنّها بِلا مَعنى، حَتى يَهجمَ الليل بِكلّ غَضب عَلى قَريتي البَائسة وَيَؤكد لِي أنّ مَا أعِيشه طِوال النهار ماهو إلّا وَهم وَسراب لا غَير، أجِد نَفسي في بَيتٍ قَديم مَصنوع من الحَجارة والطّين، وسَقفه المُغلّف بِالقرميد الأحمَر، غُرفَة يَسكنها الظّلام وأمّي وإخوتي الثلاثَة، أداعِب الوَرق الشيطَاني وأتَخيّل وُجودَ مَن يُشاركني اللعِب ثمّ أوَزّع الوَرق على أربعةِ لاعبين وأنطَلق في اللهو وأنا مُحمّل بِأطنانٍ من الحَيرة والشّكوك، مُتسائلًا إن كَان الآخرون يَشعرونَ بِنفس ما أشعرُ به، وهَل يُرعبهم الليل مِثلي؟ وهَل من المَعقول أن تَنحصر الحَياة فقط عَلى كَوكبنا رَغم شَساعة الكَون؟ في اعتِقادٍ سَخيف مّني بِوجودِ كَائناتٍ فَضائيّة سَتغزو الأرض بِصحونِها الطّائرَة العِملاقة التي أنتظِر وُصولها في الليَالي البَاردة والكَئيبة !!

اليَوم؛ وبَعد كلّ هذهِ السنوَات الطّويلة، بَعد قُرابة عَقدين من الزّمن، يُمكنني بِوضوحٍ فَهم ما كانَ يَحدث لي وما كنتُ أشعر به، كُل شَيء كمَا حَدث لا يَزال عَالقًا في الذهن والذّاكرَة بِجميع تَفاصيله، تِلك الحَيرة وتلك المَشاعر والأحَاسيس التي كَانت بِمثابة لَعنةٍ تُطاردني تَحوّلت إلى تَساؤلات وَقلق وُجوديّ عَلى شَكل صَخرةٍ هَائلة الحَجم، وهي بِدورها سَلمتني لِصخرَة أكبَر حَجمًا وأكثَر قَسوة، ظلّت تَسحقني وأنا أحَاول رَفعها مِثل لَعنة سيزيڤية، وبِصعوبَة بَالغة أدركت أنّ الخَلاص يَكمن فَقط في تَركها تَسقط، هَكذا فَحسب، وبِبساطة شَديدَة، فَلماذَا أستَغرق فَترة وُجودي الجِدّ القَصيرة عَلى عِدّة مَقاييسَ في دَفع صَخرةٍ لَعينة إلى أن يَنتهي بي الأمر تَحت التّراب وَليمَة للدّيدَان، مَادامت اللاجدوَى تَنتصر فِي النّهَاية فأنا لَست مُطالبًا بِتقديم أيّ شَيء للبَشرية، وفي المُقابَل لن آخذ منهم أيّ شَيء أيضًا، والأفضل لي أن أحَاول على أقَل تَقدير أن أعِيش كُلّ اللحَظات الجَميلة خِلال وُجودي، دُون أن أصَارعَ الحَياة في ظِل أفكَارٍ فَلسفيّة أغلبُها مَعتوهة، ودونَ تَقديس وإضَافة عُمق للرّحلة البَشريّة البَائسة، فهذا النُمو الديموغرافي الفَظيع قَتل أيّة فُرصة عَيش تَجربة جَديدة و مُنفردة قَد يَسنتزف فيها ابن الإنسَان أيّامه بَدل مُراقبتها وهِي تَمضي فَوقه كَعجلة ثَقيلة.

الآن؛ وأنا أجلِس وأضع كُرسيّاً فَارغًا يُقابِلني لِكي يُخبرني كَم أنني وَحيد وَ يُؤكّد مَدى فَداحةِ اغترَابي، أتَفحّص هَذه الصّورَة البَلهاء التي أمَامي، تُذكّرني بِميلاد شُكوكي وحَيرتي المَدفوعة بالألَم، وتَشرح لي كَم أنّ الحَياة مُهينة وَقاسية بِمجرّد أن يَدخلها كَائِن من العَدم إلى حَيّز الوُجود، هذهِ الصورَة اللعِينة التي أبدُو فيها كَفأرٍ وَقع فِي فّخ مِصيَدةٍ إسمُها "الحَياة"، صَفقة فَاشلة مَدفوعَة هي الأخرى بِحتميّة كَوني فَريسةً لابدّ مِنها، مَع ذَاكرَة قَويّة مَليئة بِمواجعَ حَقيقيّة وأفرَاح خَادعة، وجُمجمةٍ مَريضة ومُظلمة تَخشاها حَتى الوَطاوط والعَناكب. يُمكنني الآن استعرَاض السَنوات الثمانية عَشر وإلقَاء نَظرة خَاطفَة لها، رُغم قِطع الزّجَاج وَ السكَاكين التي زَرعها أكثَر من"بروتوس" حَقير صَادفته خِلال رِحلتي في هَذه المَتاهة العَبثيّة والغَير مُجدية...

رِحلةٌ حَصيلتها سَنواتٌ كَامِلة من الحُزن والفرَح، من البؤسِ والسّعادة، وأعوَام كَامِلة منَ المَعاركِ والحرُوب، -الحروبُ التِي لا تَخصّني- ،أعوَام كامِلة من الهزَائمِ المؤكّدة والإنتصارَاتِ الخَادِعة، حَياةٌ كامِلة من الضّياع، من الفرَاغ والتّوهَان، تَاريخٌ حافِل مِن الخيبَات، مِشوار طَويل من مطارَدةِ الوَهم، ومن تَجارِب ثقيلة وتَافِهة استنزَفتُ في سَبيلها أنبلَ وأصدقَ المشاعر، والآن، بعدما تمزّقَ هذا القلب الأبلَه والمُفرط في الحَساسيّة، تصدّى، احترَق، وصَار إلى رَماد، بَلغت ذَاتي وحَصّنتها بِدرعِ الحِكمة العَقليّة وَأدركتُ أخيرًا إدراكًا قاطعاً لا رَجعة فيه، أنّ الحَياة في شكلِها الحقيقي ليسَت سِوى عبثٍ مُستمر، عبثٌ يشرَحُ بوضوحٍ أنّها بلا مَعنى، ودون غَاية أو هَدف، هكذا فَحسب، وبِبساطة، مجرّد خرابٍ كبيرٍ يَعبث بذاتِه ويعبثُ بنا دون رَحمة ودون أن يُبالي.

كلّ ما حَدث ويَحدُث وما سَيحدث سَوف يَكونُ دون جَدوى ومن غيرِ طَائل، كلّ ما فَعلتُه وكلّ ما لم أفعَله، كل ما قلتُه وكلّ ما كَتمتُه، كلّ شيء حرفِيّاً في الحقيقة هو لا شيء، ولو ألبستهُ ثوبَ المعنى خِلالَ فترةِ وُجودي القصِيرة في هذا الكون الأعْمى بكلّ بلادَة، لا شَيء أفعَله في هذا العَالم المُمل سِوى مُراقبة الفَراغ وهو يَتّسع كُل مَرة تَغيب فيها الشّمس، والإنطِواء دَاخل غُرفة لا تَحتاج إلى مِكنسة، والحَديث من حِين لآخر مَع هذا الكُرسي المُغبر بِثلاثِ قَوائم والذي يَبدو لي مِثل كَلبٍ عَجوزٍ يَنبش عَن خَطايا آدم في الأيّام، وفِي كُل نَوباتِ القَلق أجَرجر نَفسي إلى المِرآة وأتَحسّس لَحمي وأفَكّر كَثيرًا في أنني مَازلت حَيّاً، أحَدّق في بُؤبؤ العَين الذي تَحوّل إلى الأبيَض من شِدّة الفَراغ والإنتِظار، وفي آخرِ محاولةٍ بائِسةٍ ومثيرَة للشّفَقة لخلقِ طيفٍ كظِلٍّ يُوازي ويُواسي لامَعنى وُجودي، أغرَق مَع مُوسيقَى أنطونيو فَالفادي التّي تُفاقِم السّواد حَول العَين وتَحني الظّهرَ من ثِقلِ الكَمانات التي تَبكي، فأنا لَست مُستعدّاً بَعد لأصِير حَيّاً مِن جَديد، وأتَابع المَسير تَحت الضّوء مَع أمَل رَخيص فَقط من أجلِ البَحث عَن طَريقةٍ للسّقوط مِن الزّمن عَبر نَافذة الأمَل الأخِيرَة إلَى العَدم.

مُخيف جدا التّفكير بِأنّ القَادم سَوف يَكون أسوَأ من المَاضي المَليء بِسذاجة الطفُولة وتَهوّر المُراهقة وحَماسة وانفعال بِدايات الشّباب، تَجاوز الثلاثِين هو بِداية النّهايَة وإعلان لِموت جَميع رَواسب الأحلام القَديمة وَ دَفنها في مَقبرة القَلب التي تَمّ تَوسيعها لِمرّاتٍ عَديدة من كَثرة ضَحايا عَبثِ الحَياة المُقدّس، المَقبرة التي تَمّ أيضًا تَسييجهَا لأكثرَ من مَرة هي الأخرَى لِغرض حِماية القُبور الصامتَة من احتماليّة عَبث الكَائنات المُفترسة، بِتخريبها أو تَوجيه المَزيد من الطعنَات لِتلك النّدوب التي لَم تُشفَى بعد.

بَعد الثلاثِين يَكون السّأم من كُل شَيء قَد بَلغ ذروَته، وَيشعُر المَرء بِعقله المُتعفّن كَأنّما تَمّ رَبطهُ عَلى سكّة حَديديّة سَوف تَعبر مِن خِلالِها جَميع قِطارَات المَلل والهَزيمة والضّجَر، تَسحق بِقسوةٍ كُلّ الأشيَاء التي كَانت يَومًا ما تَحمل دَلالاتٍ جَماليّة بَسيطة تَكفي لِلتحَايل عَلى العَقل، وتَصوير أن الحَياة في هذه المَتاهة مُمكنَة حَتى مَع حَقيقة أنّ كُل شَيءِ هو لاشيء يَسبحُ في لاشَيئية مُخيفَة تَقسو عَلى الجَميع بِلا رَحمة.

بَعد الثلاثِين يَقودناَ الوَعي المُكتسب مِن عَذاباتِ تَجارب المَاضي إلى النّضج الذي بدورِه عِبارة عَن عَمليّة بَسيطة نُدركُ مِن خِلالِها عَدم أهميتِنا خَلف جَميع الفَلسفاتِ والتفسيرَات وَ الأوهَام المُبتكرَة من طَرف الإنسان، هَذا الكَائن المَدفوع بِفضول بِدائِي يَبحث عَبثًا عَن مَعنى وغَاية وُجوده حَتى يُدركَ ويَقتنع عِند نِهاية الطّريق بِأنّ العَالم ما هو إلّا وُجهة نَظر خَاطئة لِلواقع، وأنّه يَختلف تَمامًا عَمّا يَبدو لنَا، مُتحرّرًا بذلك من الخَيال والمُعتقد والإيمان، وإلزَاميّة رُؤيَة الحَقائِق على أنّها مُجرّد تَأويلات لا غَير عَلى قَول المِطرقة نِيتشه، حَتى بِحسب الفِيزيَاء الكَميّة لا وُجودَ لِلحقَائِق إلّا عِندما نَقوم بِقياستِها، وَمن فَهمَ اللّعبَة، لن يُجرّب أيّة عَقاقيرَ أو حِيل وَ خُدع جَديدة، فَقط سَيبحث لِنفسه عَن قَبرٍ يَحتضر فيه بِسلام !!
 
ليس هناك شيء يحرر الإنسان أكثر من التشاؤم، ففي اللحظات التي تحضر فيها وعيك لتقبل أسوء ما تجود به الحياة، وهي غالبا ما تجود بأنواع مختلفة من الكوارث، تكون قد قطعت نصف الطريق نحو تجاوز الأزمات. التشاؤم ورفض الأمل لم يكونا يوما مجرد أغراق ومبالغة في الغنائية، إنها طرق إشفائية لتجاوز أمراض الوجود التي لم تحصل بعد، والتي تحصل دوما حين لا ننتظرها. إن اليأس علاج استباقي.
 
ليسَت نَرجسيّةً وَ لا غُرورًا، وَ ليسَ تَكبّرًا وَ لا تَعاليًا، كَما ليسَت تَزكيّة لِلنفسِ وَ لا تَهويلًا لِقيمَة الأنا، لكنّ مَن يُريدكَ يَا قَلبي الجَميل فَعليه أن يُحرقَ نَفسه لِكي يَراك، لقَد نِلتَ ما يَكفي من الخَيبات والطعَنات، كما احتَرقتَ عَلى مَن وَجد الدّفء فِي رَمادك كُلمَا فَتحت أبوَابك، أمّا اليَوم فأنا أحِيلك إلى التّقَاعد يَا قَلبي العَظيم، فَقد حَان مَوعد رَاحتكَ لِما تَبقّى لَك من حَياة في هَذه المَهزلة الكَونيّة، أنتَ لا تَنتمي لِحَلباتِ مُصارَعة الثّيرَان هَذه لأنّك حَسّاس أكَثر من اللّازم، لِهذا أنا أحِبّكَ يَا صَغيري الجَميل، وَ لِهذا أيضًا يَجب أن تَكون دَومًا في مَواقفَ تَعلو فِيها وَ لا يُعلَى عَليك.
 
تُصبِح الحَياة قَابلةً لِلعيش فَقط حِينما يَتحرّر المَرء من الإلتزامَات الثّقيلة ومن القُيود التي تَفرضهَا جَميع أشكَال العَلاقات المُمكنة بَين الإنسَان وأخيهِ الإنسان، وَهمُ العائلة، الصّداقَة، والحُب، مُجرّد حَواجِز زُجاجيّة تُعيق الإنسانَ في مُهمّتهِ الوَحيدَة التّي فُرضَت عَليهِ تَحت سُلطةِ حَتميّة وُجودهِ. لا تَعني العَلاقاتُ شَيئًا سِوَى أنّها تَشوِيش لَعين عَلى العَقل بِخطاباتٍ عَاطفيّة يُفرزها القَلب كَأوهَامٍ يُخاوِل شرعَنتها كَحقائِق في نِطاق التّموّج الجَمعي للأفرَاد دَاخل المُجتمع، في حِين لو أنه للحَياة مَعنى ما فلا يُمكن إلّا أن يَكون على المُستوى الفَرديّ. إن العَلاقات البَشريّة ليسَت سِوى عَثرةٍ في طَريق السمو الرّوحي وتَطوّره، وكُتَل ضَخمة من الضّباب الذي يحجِب على العَقل الزّوايا المَنطقيّة ويُعِيقُ مَحاولاتِهِ البَسيطة والفرديّة في تَفكيك عَبثِ الحَياة المُقدّس. إنّ الّثّقةَ في الآخرِين هي شَكل آخر من أشكَالِ الإنتِحار، فنَتائجها وَاضحة دَومًا، الخَيبة والألَم وكَثيرٍ من النّدَم فَحسب، ثم يَتبعها شَعور بِالخزيِ والعَار وحِقدٍ لامَشروط لِلذات، وهذهِ جَميعًا تَصنع من الإنسَان في نِهايَة الأمر: مَهزلة !!
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top