كل الشرف لي أن أزور مدونتك وأقرأ كلماتك الصادقة، التي وجدتُ فيها ملاذاً لما أحسّ به من تجربة فقدان الأم. أبارك لكِ ختم القرآن، جعله الله شفيعاً لكِ ولوالديكِ يوم القيامة. وأسأل الله أن يوفقك في دراستك، وفي كل ما تقومين به من شؤون البيت والعناية بأهلك وإدخال السرور على قلوبهم.
ما تقومين به - رغم الحزن - من ثبات ونيابة عن أمك رحمها الله في رعاية أبيك وابن أختك، وعيادة المرضى، وملء الفراغ الذي تركته. هذا دَيدَن ذوي العزم، فبارك الله فيكِ، ونوّر طريقك، ويسّر لكِ كل أمورك. هذه الأمور تتطلبّ جهاداً عظيما من وجهين : الصبر على حرقة الفقد من جهة، وتعويض غياب الأم من جهة أخرى. وأنا بدوري اعيش شيء من هذا باعتباري كُنت المُرافق الوحيد لأمي. وأصبحتُ حلقة وصل اُعوضها - ولو رمزيا - في كثير من الأمور. وأتفهم مشقة الأمر جيداً.
مشاعر الحزن والفرح وسائر العواطف لا نتحكّم فيها، ومحاولة كبحها مُخالِف للفطرة. المطلوب هو الاتزان والثبات، وتصريف الحزن بطريقةٍ سوية وسليمة. في الأسابيع الأولى بعد وفاة أمي رحمها الله، كنتُ أعيش حالة من الثبات المفروض عليّ - كواجب اضطراري - بسبب انهيار بعض إخوتي وإكراماً لأمّي أمام الحضور. وبفضل الله، تمّت الأمور بسلام، وتمّ احتواء ما كان يُمكن أن يخرُجَ عن السيطرة. فأجّلتُ تصريف مشاعري إلى أن أكون وحيداً.
مسألة الشغف في أمور الحياة فعلًا تنخفض إلى مستوى متدنٍ، حتى لا أقول معدوما، لأن الإنسان ببساطة كان يجد في أمه الحنان والاحتواء، وكان يستمدّ منها طاقة الحياة. فأي شيءٍ مهما بدا بسيطاً... إن شعرنا أنه يُسعد الأم ويفرحها، يتحوّل تلقائياً إلى مصدر شغفٍ ومعنى.
لكن بعد فقدانها، الكثير من الأمور التي كانت تكتسب معناها بمشاركتها تفقد رونقها، وبعضها يُصبح باهتاً… كما لو أن الحياة التي كانت ملونة بألوان الطيف، صارت فجأة بالأبيض والأسود. ولهذا سُمّي الموت هادم اللذات. وباستنباطي المتواضع، لم يُسمَّ كذلك لأنه يهدمها على الميت، فأهل الجنة في نعيمٍ أعظم من ملذّات الدنيا... بل لأنه يهدمها على من حوله من أحبّته.
لكن الهدم يتبعه بناء، ورغم صدع القلب بسبب ألم فراق الأم، فإن الله عز وجل ما خلقنا هملاً، ولا أراد لنا أن نتعذّب أو نحيا حياةً باهتة. هي دورات في حياة الإنسان. فرغم أن مصيبة فقد الأم هي من أعظم مصائب الدنيا، لكن مع ذلك، أودع الله فينا طاقة خفية تجعلنا نكمل الطريق مهما ثقل الحمل.
أولاً : نحن في دار تكليف، والحياة أمانة في أعناقنا بحلوها ومرّها. كالذي يسافر إلى مقصدٍ بعيد، فيتقطع نعله أو يدخله مسمار، فلا يتوقف، بل يُصلحه ويمضي في طريقه، لأن الهدف أكبر من العثرة.
ثانياً: لا يوجد شرّ محض. فالله لا يغفل عن شوكة تصيب عبده، فكيف بمصيبة عظيمة كفقدان الأم؟ ما يعتصر القلب من ألم هو نفسه ما يُكتب في ميزان الصبر، والله يُعوّض على قدر الوجع.
ثالثاً: أفراح الدنيا وأحزانها تدور كما يدور الليل والنهار. وسنّة الحياة قائمة على التجديد، فكلُّ صباح تُزقزق فيه العصافير هو تذكير بأن الله يُجدّد لنا القدرة على النهوض. هكذا أيضاً مرحلة ما بعد الفقد: نُجدّد العزائم ونتعايش حتى يُنزل الله السكينة على قلوبنا. والله تعالى ارحم بنا من أُمّهاتنا بنا رحمهما الله وجميع اموات المُسلمين.
رابعاً: الموت لا يُشوّش الرؤية بل يُصحّحها. فما تُسمّينه "انطفاء" او "فُقدان الشغف" هو في بعض صوره صفاء بصيرة؛ رؤيةٌ صادقة لحقيقة الدنيا… فلا لذة تبقى، ولا شيء يستحقّ أن نغرق فيه، لأن الدنيا دار عبور لا دار قرار. وما نحتاجه هو توازن في الشغف. نعمل ونسعى ونتلذّذ بما أحلّ الله، لكن دون أن ننسى أن كل ذلك عابر. ونظراً لأن البشر يغفلون عن الموت فإننا نغرق في بعض النّعم - ومن بينها رفقة الأحباب - حتى يأتي الموت ليُذكّرنا بحقيقة الحياة الدّنيا.
خامساً: سيُعوضكِ الله ويجبر خاطركِ بإذنه ورحمته. فرغم أن أمّكِ وأمّي وسائر أمهات المسلمين لا يعوّضهن أحد من العالمين. إلا أن الله عز وجل سيجبر خاطركِ من أبوابٍ أخرى حتى تستنهضي "شغف" الحياة من جديد. والله حرمنا من أمهاتنا لحكمةٍ يعلمها وحده، ولا أدري متى يستردّ الإنسان "شغفه" (الذي هو في بعض وجوهه غفلة)، لأنني أحدثُ منكِ عهدًا بفقد الأم. لكن من تجارب الناس أن النفوس تهدأ، و"تعود المياه إلى مجاريها" مع الزمن ولطف الله.
أذكر - للإستئناس - أن أمّي لم تكن أمّ ابنائها فحسب، بل كانت أمّ اليتامى والمساكين، وكان بيتها مفتوحاً للاجئات السوريات والفلسطينيات للوضوء والصلاة. وكانت مُلقبّة بالصيدلية - رغم أنّها أمّية - لأنها كانت تجمع الدواء وعلى رأسها حُقن الأنسُلين غالية الثمن لتفريقها على المساكين في المغرب. وكان الجميع يأنس بكلماتها - حتى المُنعزلين عن الناس - أينما حلّت تجد قُبولاً عجيبا. ذهبتُ معها للعُمرة فقيل لي هُناك أن هذه المرأة مُباركة. ولها مواقف لم نعلمها إلا بعد وفاتها من افواه من أحسنت إليهم دون علمنا. الجميع شهد لها بالخير رجالا ونساء. فلكِ ان تتصوّري ما يتركه فقدان امرأة مثل هذه في قلب ابنها البِكر.
سادساً: وفاة الأم لا تجعلها غائبة عنكِ، فالروح لا تموت، وهي بإذن الله في دارٍ خيرٍ من دار الدنيا. وأنتِ على درايةٍ بوصايا أمكِ، بما تُحبّه وما كانت تنبذه، فإذا أحسستِ بفتورٍ في العزيمة أو نقصٍ في الشغف، استحضري وصاياها، وتذكّري أنكِ امتدادٌ لها، وأن بركتها ورضاها سينفعك بإذن الله ما يجعلك تستمرّين في الحياة الدنيا بقلب مُطمئنّ، وعينُك على دار البقاء.
إن كان عندك وقت.. انصحك بالإنصات لهذه المُحاضرة للشيخ العلامة فريد الأنصاري رحمه الله. وإن ضاق الوقت ابحثي عن مقطع بعنوان قصير بعنوان "حقيقة الدنيا للعلامة الشيخ فريد الأنصاري"
أخيراً, أسأل الله أن يُعيد إلى قلبك لذّة الحياة، لا كما كانت، بل أنقاها وأصفاها، وأن يُسكن أمّك الفردوس الأعلى. وأن يجعل لقاءك بها في دار لا فراق بعدها.