الاصولية والتطرف

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

نجيب القناص

:: عضو مُتميز ::
إنضم
27 جويلية 2008
المشاركات
507
نقاط التفاعل
0
النقاط
16
العمر
44
الأصولية المتطرفة ليست من الدين الإسلامي في شيء والإسلام جوهر لا مظهر
عثمان العمير​
leader.75061.jpg

يجيب الملك الراحل الحسن الثاني في هذه الحلقة من «اسئلة الاسلام» على تساؤلات الصحافي الفرنسي اريك لوران حول بعض التحديات التي يواجهها العالم الاسلامي، ويقول: لقد وقفت الأديان جميعُها صفا ضد الايديولوجيا الشيوعية التي ناصبت الفكر الديني العداء وحاربَت الإسلام في ما حاربت. فالجنوح المفرط إلى العلمانية كان ولاريب سيعود بالعالم إلى وثنيته الأولى، ولا غرابة إن تنازعته ساعتها الأهواء المتطرفة. لذلك لزم أن يتحد المؤمنون جميعهم للوقوف سدا منيعا في وجه الايديولوجيا القسرية الاستبدادية. وقد جاءت المقاومة التي قادتها الشعوب الإسلامية ضد الاستعمار السوفياتي لتدق آخر مسمار في نعش هذه الايديولوجيا. وهي بالمناسبة مقاومةٌ قديمة قِدَمَ النظام الشيوعي نفسه. وحول سؤال عن العنف الذي يسود بعض المجتمعات الاسلامية يقول الحسن الثاني: الأصولية المتطرفة ألحقت ضررا بما يقوم عليه ديننا السمح من مبادئ تحض على اتباع سلوك الأدب والكياسة وحسن المعاملة. وعلى عكس ما تسير في اتجاهه النظرةُ الأصولية، فإن أفضل حل بالنسبة إلى الإسلام هو الحل الوسط. فالتطرف يدعو إلى ما هو أدنى، وذلك باسم خير لا وجود له إلا في الخيال. وعلى كل ذي دور فاعل في المجتمع أن يحتاط من الإيمان الساذج بالخير المطلق ومن الغلو في استشراف الكمال، فلطالما كانت النيات الحسنة مجلبةً للشرور والويلات. وأذكر بهذا الصدد ما أوصى به حكيم صيني قديم من أن الخير المطلق نفسَه مزلَقٌ ينبغي التحوط منه. وإذا كان من الأسلم البدء بما هو أعجل، فلأن للضرورة أحكاما. فعلينا ببذل الجهد ما استطعنا لدرء المفاسد وابتغاء ما هو من الخير ممكنٌ ومستطاع، علما منا أن الخير المطلق قيمة مثلى، وأنه من السذاجة رسمُه هدفا يُتوخى بلوغُه. تلك هي المنهجية القمينة بتحقيق أهداف واقعية. وفي ما يلي الحلقة الثالثة.
* يمكن القول إن العقد التاسع من هذا القرن قد أساء إلى صورة الإسلام.
ـ إن رصيد الإسلام غنيٌّ بتجربةٍ عمرها أربعة عشر قرنا من المساهمة في تسطير تاريخ البشرية، مساهمةً أغنتها عطاءاتُ عدد وافر من العلماء، بينهم بالخصوص كثير من الإيرانيين. وبينما كانت وسائل الإعلام الغربية لا تعتبر الدين ذا وزنٍ في العالم الإسلامي، هاهي اليوم تقول بالنقيض من ذلك، فترى فيه قوةً رهيبة مدمرة. أما الواقع، فهو أن عدوى الإلحاد الكامنة أو الظاهرة التي واكبت المواقف العلمانية، هي ما شجع التعصب، إن لم نقل إنها هي التي ولَّدته في مجتمعاتنا العربية الإسلامية.
* لماذا؟
ـ أولا، لأنه ما من مجتمع متدين يُحمل على الانسلاخ من معتقداته إلا سقط في هوة الفراغ الثقافي. وفي الإسلام، حيث ينصهر الجانب الثقافي في الدين فيكوِّنان وحدة لا انفصام لها، فإن الانسلاخ عن العقيدة يجعل المجتمعَ برمته فريسةً سهلة أمام كل تيار إيديولوجي متطرف. أما الفتيل، فقد تشعله أقليات دينية كما قد تقدح زناده أزمةٌ اجتماعية. حينها يأتي جهل بعض الناس بالشريعة الإسلامية وأهدافها ومقاصدها ليمد النار بالحطب فيقضي على ما تبقى من الأمل، حيث يؤدي إلى تطبيق الشريعة تطبيقا ضيقا متشددا يلتزم بالحرف ويقدسه، وفي ذلك قتلٌ لروح الدين، ورفضٌ للحضارة وتنكرٌ لمزاياها. حينذاك يقام صرحُ التعصب تحت قناع الدين، فيجعل منه مطيةً للحكم وأداةً من أدوات السلطة والنفوذ وذريعةً للقمع والقهر. أما الإسلام، فدَيدَنُه التسامح لا يحيد عنه مهما قيل فيه. فهو بحر هادئ أعماقه ساكنة، لا يضيره ما قد يعتري صفو أديمه من اضطراب أو هيجان أو تلوث. «وكذلك يضرب الله الحق والباطل. فأما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» (17/13).
* ألا ترون أن الجزائر أضحت اليوم فريسة للتعصب وما يجري في ركابه من جرائم وفظائع؟
ـ نحن لا نتدخل في شؤون جيراننا الداخلية. لكن نارا تشب في بيت أحد هؤلاء الجيران لا يمكن إلا أن تكون مبعث قلق وانشغال لدينا. وحيث إن الأمر يتعلق بتأويلٍ للإسلام يطبعه التطرف والتعصب، فإن ذلك يؤلمني بصفتي رجلا مؤمنا. لكننا واثقون كل الثقة في أبناء الجزائر وبَناتها، وفي قدرتهم على إيجاد الحلول الملائمة. فلا شيء يستعصي على ذوي النيات الحسنة والعزم الصادق.
العلمانية والوثنية
* يعتقد الكثير من الناس أن الغرب كانت له يدٌ في تشجيع جماعات من المتعصبين الدينيين خلال عقد الثمانينات، وذلك لأسباب سياسية استراتيجية.
ـ لقد وقفت الأديان جميعُها صفا ضد الإيديولوجيا الشيوعية التي ناصبت الفكر الديني العداء وحاربَت الإسلام فيما حاربت. فالجنوح المفرط إلى العلمانية كان ولاريب سيعود بالعالم إلى وثنيته الأولى، ولا غرابة إن تنازعته ساعتها الأهواء المتطرفة. لذلك لزم أن يتحد المؤمنون جميعهم للوقوف سدا منيعا في وجه الإيديولوجيا القسرية الاستبدادية. وقد جاءت المقاومة التي قادتها الشعوب الإسلامية ضد الاستعمار السوفياتي لتدق آخر مسمار في نعش هذه الإيديولوجيا. وهي بالمناسبة مقاومةٌ قديمة قِدَمَ النظام الشيوعي نفسه. ولكُم في المصير الذي لقيه السلطان غالييف خيرُ دليلٍ على ذلك. فلم يكن هناك يومئذ من حاجة إلى التطرف، ولم يكن لأحد في ذلك من مصلحة، لسبب بسيط هو أن الهدف من المقاومة كان بديهيا، يتمثل في الكفاح من أجل الحرية. وكما قيل قديما، فإن خير وسيلة نضمن بها حريتنا هي أن نكون مستعدين للموت في سبيلها. فحتى المحاربون الأفغان الذين ناهضوا مذهب القسر الجماعي، كانوا يقاومون من أجل الحرية في أسمى وأنبل تجلياتها، وأعني حرية العقيدة.
* هل كانت الانحرافات التي اتخذت العنف مطية لها تعبِّر عن متابعة الكفاح المشروع والاستمرار فيه؟
ـ إن الانحراف يبقى دائما انحرافا، ومع مرور الزمن يتحول إلى مناورات ودسائس حقيرة، مما يوهن الاعتقاد ويضعفه، فيصبح الإنسان أعزل من كل سلاح، فريسةً للأطماع والأغراض التوسعية الدنيئة. وقد أضحى خلطُ الدين بالسياسة اليوم من أسباب الانفجار، خصوصا في الظروف التي تتأزم فيها الأوضاع الاقتصادية أو الاجتماعية أو الديموغرافية. إن التعصب كالمادة الحَروق يتّقد لهبها لأدنى سبب، فينشأ العنف الذي يشتد أواره ويزيد خطره حين يتنكر في لباس الواجب ويتقنَّع وجهَ العمل الحسن، فيُذهل المرءَ عن مسؤولياته الشخصية، ويجعل منه أداةً لتنفيذ مآرب الآخرين. عنفٌ نابع عن انعدام الإحساس بالمسؤولية، إجرامي ومذهل ومجاني، تستبد به اختيارات تنشُد ما هو أفظع باسم ما هو أفضل وأمثل. في منطقٍ سلوك يسيرُ على عكس منطق السياسة التي هي اختيار بين ما هو سيئ وما هو أسوأ. وليس كالإغراء بالكمال مصيدةً يوقع بها الشيطانُ المؤمنين ويضلهم عن سواء السبيل، علما أن هذا الكمال المنشود غالبا ما يكون نقيضا لما فيه الخير. إني لا أجد في الإسلام تيارا فكريا ولا مذهبا يقول بأن الحوار مع الخصم حرام، مما يدعيه أولئك الذين يرمون خصومهم في العقيدة أو في السياسة بالكفر والجحود. بل إن الرسول (ص) بيَّن من خلال أعماله أنه لا محيد عن توخي الحكمة والتحلي بالعدل حتى في ميدان القتال ذاته.
* هل تعتقدون أن الحركات التطرفية ترى في نهجها سبيلا نحو التطور يفْضُلُ السبلَ المستوحاة من التجارب الأوربية والعلمانية؟
ـ أنا لا أعتبِر متطرفا من يؤمن بمبادئ تؤدي إلى التطور واعتماد فضيلة المنطق والكلام والحوار. فما من سياسة عقلانية ترتضي اللجوء إلى العنف وتقبل به، اللهم إلا إذا كان في ذلك الوسيلةُ الوحيدة لدرء عنف آخر، فيكون اللجوء إليه إذَّاك محظورا دفعت إليه الضرورةُ وشرا لا سبيل لاتقائه. لكني ألاحظ في ما قلتم خلطا بين التطور والعلمانية. إذ ليس هناك ما يمنع من أن يكون التطور تجسيدا ونتيجةً لانصياعٍ صادق للقيم الدينية والتزامٍ تام بها. فلماذا يُستبعد أن يكون الدين حافزا على النمو وقادرا على المساهمة فيه، ولو عن طريق إذكاء الإيمان بهذا النمو وزرع الثقة بإمكانيةِ تَحَقُّقِه؟
«الاسلاماوية» إهانةلإيمان المغاربة
* أليس هذا هو ما قد يقوله متشددٌ آلت إليه مقاليد الحكم؟
ـ لن يكون ذلك المتشدد ساعتئذ زعيم عصابة مسلحة. فالاضطلاع بالسلطة يدفع الإنسان إلى الإحساس بالمسؤولية ويحْمِلُه على التفكير والتأمل. وما من مسؤول يدرك أنه يمثل دولة ويتخذ القرارات باسمها، يمكنه أن يقدِم على إعلان «الحرب المقدسة» دون أن يقيم وزنا لخطورة ما قد ينجم عن ذلك من عواقب. ورأيي أن الأمر يتعلق بأزمات عابرة غير مُتَحكَّم فيها . فالديمقراطية أمر يصعب إدماجه في إطار عقلية وعادات لا تزال تنفر من التحرر الحق، أو لا تزال غير مهيَّئة له. وعملية الإقناع والتغيير في هذا الاتجاه مهمة عسيرة ليس أصعب منها ولا أشق.
* هل هناك من أمل؟
ـ بالتأكيد. وهذا هو الإيمان. فأعمال العنف تبدأ ثم تنتهي. والأهم هو العمل على ألاَّ تدوم طويلا. فالحوار وسيلة فعالة للحد من الويلات والأحداث المأساوية التي تصيب الإنسانية. وليس هناك أقبح من التسرع والطيش وعدم التبصر.
* أتقبلون أن تُعطى الفرصة للإسلامويين المغاربة؟
ـ بما أن الإسلام هو مرجعيةُ جميع المغاربة المشتركةُ، فإن في إلباسه زي «الإسلاموية» ووصفِه بهذا النعت الغريب عنه إهانةً تشمل إيمان المغاربة جميعهم. بيد أن الإسلام لا يسمح بنهج أي اتجاه سياسي ينزع إلى التطرف. ونحن لا ننشد من خلال ديننا الكمال، بل نستمد منه التقوى التي تصلنا بالباري تعالى، ونستوحي منه الأخلاقيات التي تعطي لديمقراطيتنا اتزانها على المستويين الإنساني والاجتماعي. وتلك هي الضمانات التي نتحمل مسؤولية الوفاء بها بصفتنا أميرا للمؤمنين وملكا للمغاربة جميعا. وتبعا لذلك، فإن المجال مفتوح أمام المواطنين كلهم، رجالا ونساء، دون استثناء، شريطة أن يحترم الجميعُ ـ وأقول الجميع ـ القواعدَ المتفق عليها. وأنا الآن أرتب الأمور بخصوص ذلك كله. فأنا على بينة من نقطة الضعف ومكمن الداء، وسأنكب على التقويم والعلاج.
* ما الذي تستنكرونه ـ إسلاميا ـ من الأصولية المتطرفة؟
ـ نستنكر منها كل شيء. لكن مهلا; فكلمة «أصولية» لها دلالة تاريخية محددة يمكن أن تمتد لتشمل جميع المسلمين الذين يتوقون إلى مجتمع يقوم على المبادئ الإسلامية، وهو موقف لا ينبغي أن يحارَب إلا إذا تحول إلى نزعة طائفية متعصبة. لقد شوهت «الأصولية» ـ والأجدر أن نَصفها بالمتطرفة ـ صورةَ ديانةٍ جاءت لتتمم مكارم الأخلاق. وذاك مَنشأ حالةِ القلق والاضطراب التي تنتاب المسلمين وتشغلهم عما يمكنهم الاضطلاع به اليوم في عالمهم من دورٍ بنَّاء وفاعل.
ومن جهة أخرى، فإن الأصولية المتطرفة ألحقت ضررا بما يقوم عليه ديننا السمح من مبادئ تحض على اتباع سلوك الأدب والكياسة وحسن المعاملة. وعلى عكس ما تسير في اتجاهه النظرةُ الأصولية، فإن أفضل حل بالنسبة إلى الإسلام هو الحل الوسط. فالتطرف يدعو إلى ما هو أدنى، وذلك باسم خير لا وجود له إلا في الخيال. وعلى كل ذي دور فاعل في المجتمع أن يحتاط من الإيمان الساذج بالخير المطلق ومن الغلو في استشراف الكمال، فلطالما كانت النيات الحسنة مجلبةً للشرور والويلات. وأذكر بهذا الصدد ما أوصى به حكيم صيني قديم من أن الخير المطلق نفسَه مزلَقٌ ينبغي التحوط منه. وإذا كان من الأسلم البدء بما هو أعجل، فلأن للضرورة أحكاما. فعلينا ببذل الجهد ما استطعنا لدرء المفاسد وابتغاء ما هو من الخير ممكنٌ ومستطاع، علما منا أن الخير المطلق قيمة مثلى، وأنه من السذاجة رسمُه هدفا يُتوخى بلوغُه. تلك هي المنهجية القمينة بتحقيق أهداف واقعية. وقد قال تعالى في سورة الأنبياء (الآية 35): «ونبلوكم بالشر والخير فتنة». فلنعملْ إذن كي نفلح ونفوز.
منظور بناتي ساذج
* إذن فالتطرف كان مجلبةً للوبال؟
ـ إن التطرف عدو للمحبة والتسامح، وقد أدى إلى ارتكاب جرائم عديدة لطخت سمعة الحضارة الإسلامية.
* ما هي مثالبه الأخرى؟
ـ تنبني الأصولية المتطرفة ـ شأنها شأن الإيديولوجيات الاستبدادية جميعها ـ على منظور «بنائي» ساذج، على حد تعبير أحد كبار منظري الليبرالية. ذلك أنه لا يغتذي على أوهام الحقائق المطلقة إلا عديمُ ذمةٍ لا حياة له إلا في ظل القمع والقهر. وها هو ذا التطرف يجني ثمار الخيبة من هذا السلوك، إذ يثير الاستنكار والرفض لدى كل المسلمين الذين يشعرون بمسؤوليتهم في عالم اليوم.
* لماذا سقط بعض المسلمين فريسة لهذا النوع من الأهواء؟
ـ لأنهم يرون في المجتمعات الإسلامية الحية تجسيدا لمفهوم «القرية الظالمِ أهلُها»، ويخالون أنفسهم في فجر الدعوة يحاربون عَبَدَةَ الأوثان، ويتوهمون أن لهم سلطة مطلقة لتحقيق أمانيهم. وهم في ذلك يجهلون تمام الجهل أن للإرادة البشرية حدودا، وأن الوعي بوجود هذه الحدود هو ما أتاح للإنسان القادر على التمييز واستعمال الحكمة والتبصر، توظيفَ قدراته بكيفية أمثل. وهذا ما لا يعود ممكنا حين يَنعت مسلمٌ غيرَه من المسلمين بالملحدين والكفرة. ونحن نعلم أن الإسلام يصنِّف في جملة الذنوب الكبرى أعمالا كالسب والقذف والغيبة والفضول الدميم وكل أشكال الوشاية، فما بالك بما هو من قبيل رمي مسلم آخر بالكفر! إن فكرة «الانفصال» عن المجتمع الفعلي تفصم أواصر الرابطة الاجتماعية وتفسدها، في حين أن هاته الرابطة هي المقياس الذي به يُسبَر عمقُ إيمان المؤمن ويُعجَم عودُه. ولا تنشأ مثل تلك الأفكار الانفصالية إلا في أذهان المتطرفين الذين يعيشون على هامش الجماعة يقرعون طبول الرفض ضد كل مظاهر الحداثة والثقافة والحضارة.
* إنكم تعطون انطباعا بأن الأمر يتعلق بنماذج مسلمة من جنس «بول بوت» زعيم «الخمير الحُمر» الشهير.
ـ مهما يكن من أمر، فهذا يعني أن نخلط بين ديننا السمح ومرضٍ استحواذي كالذي نسمع عنه ـ إن صح ما تتناقله وسائل الإعلام عن مجموعة "طالبان"ـ من تحريم زيارة المرأة المريضة للطبيب، في بلد لا يوجد به العددُ الكافي من الطبيبات.
* أليست هذه سنة الإسلام؟
ـ كلا.فسنة الإسلام لم تكن قَطُّ كذلك. فهو لا يحبذ تأميم الفكر ولا حصْرَه في جماعة معينة دون غيرها. إنها دعاية شنيعة تحطم كل مفهوم أخلاقي، لأنه لا وجود لأخلاق دون مسؤولية ودون حقائق يؤمن المرء بها بمحض إرادته. فالمجتمع الحر لا يستلزم اتفاقَ أفرادِه على قانون أخلاقي كامل وشامل، لكنه يقتضي إجماع الأمة حول مبادئ أساسية ـ كالاعتراف بوجود الغير واحترامه ـ لا غنى لدولة الحق والقانون عنها.
* ومع ذلك، فإنه يشاع أن للإسلام نظرة شاملة وجامعة، تنظر في حل جميع مشاكل الحياة، الثقافية منها واليومية. فهل هذا صحيح؟
ـ ليست هذه الفكرة ـ بالمعنى الذي تسندونه إليها ـ فكرةً إسلامية أصيلة. فالإسلام ليس بالقانون الأصم المتحجر، والمجتمع المسلم لا يرى في الفرد عبدا حقُّه السمع والطاعة فحسب دون مناقشةٍ ولا إعمالِ فكر، بل إنه يحض على الاجتهاد الشخصي ويشجع المجتهد، فيوليه أجرين إذا أصاب، ولا يبخسه أجر اجتهاده إن هو أخطأ. ولئن كان الإســـلام يدعو إلى إقامــة قانــون أخلاقي كوني، فإنه ليـس من شأن مثل ذلك القانون أن يسطر بالضـــرورة خطـــةَ عمـــلٍ تنمويةً معيــنة، ولا أن يحـــدد أولوياتٍ سياســــيةً لا علاقــــة لها بشؤون العقيدة. فالإسلام، شأنه شأن كل تجربة روحية، يكتشف تدريجيا في طريقه وقائع جديدة، وحالات متضادة، وظروفا حياتية طارئة ومختلفة، وطرائقَ مستحدثةً للتوفيق بين متطلبات هذه الحياة الدنيا وبين الغايات والمقاصد المرتبطة بالحياة الآخرة. فما من وضعيةٍ إلا وتستلزم حلولا معينة وقرارات ملائمة تستند إلى مبادئ الإسلام.
* أيمكن للإسلام أن يأتي لكل مشكلة بحل؟
ـ إن الحلول لا تُؤتى بطريقة آلية. وكما أن للصلاة وزنها، فللتجربة كذلك وزن. ثم إن العلوم والتقنيات يمكن أن تطرح عدة مشاكل. فالقرآن ليس بالقطع كتاب فيزياء ولا مرجعا في العلوم الطبيعية، والآيات التي تتحدث فيه عن الخلق والكون تدعو إلى التدبر في صنعه المحكم وتوازن كل شيء فيه وانسجامه التام. فهي تتيح لنا القيام بتأويلات خاصة، إن لم ترقَ إلى مستوى النظريات العلمية، فإن فيها خيرَ عون لنا ومرشد في حل ما يشغل البال من قضايا. فالحياة تعج بالحلول المستوحاة من التجربة، كما أنها مليئة بقضايا تأتي على حين بغتة ولا يمكن توقعها.
النزعات الهوجاء
* لا يحق إذن لأحد أن يفرض نظرة معينة باسم الإسلام؟
ـ ليس لأحد الحق في ذلك، باستثناء السلطات المعينة لهذا الغرض، في مجالات معلومة وداخل إطارٍ محدَّد.
* إذا أخطأَت الإسلاموية، فهل يعتبر ذلك بدعة؟
ـ إن النزعات الهوجاء التي لا هم لها إلا تعويض الإيديولوجيات الميتة أو المحتضرة، لا يمكن أبدا أن تكون إلا إيديولوجيا.
* ما هو الفرق الذي تقيمونه بين الأصولي المتطرف والأصولي والإسلامي؟
ـ إن وسائل الإعلام تخلط ما بين هؤلاء جميعا دون أي اعتبار لمن يهمهم الأمر. ولْنتحدث بعض الشيء في مسائل دلالية، ما دمتم ترغبون في ذلك. بالنسبة إلينا، هناك كلمتان لكل منهما دلالتها الخاصة، وأعني كلمتي «إسلامي» و«أصولي». فالإسلامي، كما قلت سابقا، تطلق عندنا على طائفة من معتنقي الإسلام. أما الأصولي، فهو كل مسلم سني، أكان متخصصا في أصول الشريعة أم كان من أتباع أحد مذاهب هذا الفكر الذي يمثل منهجية حقوقية متكاملـــة. وفي ترجــمة «كتاب الملل والنحل» للشهرستاني، يستعمل المترجمون كلمة fondamentalistes مقابل عبارة «أهل الأصول»، أي أولئك الذين يهتمون بأصول الدين. ولذلك يبدو لي أن عبارة «الأصولي المتطرف» تصدق أكثر على المسلم الذي يريد اليوم أن يطبق القرآن تطبيقا حرفيا. فإن كان متعصبا، فهو متطرف لا منطق له.
* يتحدث بعضهم كذلك عن الأصولية المسيحية المتطرفة. أليس ذلك تشبيها في غير محله؟
ـ بل يتحدثون عن الأصولية الكاثوليكية المتطرفة. فالأصولية الإسلامية تذكِّر بعض الناس بالحزب الكاثوليكي الإسباني في نهاية القرن التاسع عشر، وبمصنفه «ضد الخطايا الحديثة». إن ما كان يميز الأصولية الكاثوليكية المتطرفة من خصائص ـ تتجلى أساسا في رفض كل ما من شأنه أن يمس نظريا أو عمليا بحقوق السدة البابوية أو بحقوق الكنيسة ـ قد جعل منها حركة للدفاع عن المؤسسة الدينية. ويتمثل بعض الآخرين الأصوليةَ الإسلامية على شكل التيار البروتستانتي المحافظ الذي كان سائدا خلال العشرينات، والذي عاد للظهور ستين سنة بعد ذلك. غير أن الأصولية في الإسلام ليس لها مؤسسة تدافع عنها، إذ لا رهبانية في الإسلام السني. وحيثما كان هناك ما يشبه الهيئة الدينية، فإن الأصولية يمكن أن تقترن بمصالح هذه الهيئة.
* بإيجاز، كيف يمكن أن نتعرَّف أصوليا متطرفا؟
ـ بتعصبه.
* وكيف نتبين الأصولي؟
ـ بسعة صدره وتقبُّله النقاشَ، ليس حول خفايا جوهر الأمور الربانية أو المصادر المحكمة كالقرآن والحديث، بل حول ما هو قابل للتأويل والتقييم وللتعميم أو التخصيص. فالأصولي يتبع منهجية فكرية تتلخص في الرجوع إلى الأصول واحترام حرف النص وروحه معا، وفي تدبُّر غايات الشريعة ومراميها. وهو يرى في الرجوع إلى الأصول السندَ الوحيد للتفكير الديني، مما يجعل منه ومن أمثاله اليوم خصوما للفكر الجامد والتقليد الأعمى. ولا شك أن في منظور كهذا المنظور ما قد يسهم في حل قضايا الساعة بأوفى نصيب، لأنه يصدُر عن مرجعية فكرية خصبة. فعندما يُخشى من التأويل الضلالُ، يكون في العودة إلى الأصول ما يعين على رسم النهج القويم. ذاك هو ما ساعد ابن رشد ـ الذي تلقى تكوينه أول ما تلقاه في الأصول ـ على تصحيح ما أوَّلَه سابقوه خطأ عن أرسطو، فأبدع في ذلك وأجاد، وأثَّر كبير الأثر في الفكر الأوربي من العصور الوسطى إلى عصر النهضة.
* هل تعتقدون يا صاحب الجلالة أن ابن رشد كان أصوليا؟
ـ بكل تأكيد. فقد بدأ أول ما بدأ بدراسة أعمال الغزالي حول أصول الدين، ثم لخصها. وقد تأكدنا من ذلك اليومَ بعد نشر مؤلفه الأول الذي حققه أحد أساتذتنا من جامعة سيدي محمد بن عبد الله بفاس. وفي هذا النوع من الدراسات ما يحمل كل رجل قانون حصيف على الرجوع إلى المصادر. أما بالنسبة إلى رجل القانون المؤمن، فإن أعلى المصادر منزِلةً وأوثقَها هو القرآن الذي تنيره السنة، وهما معا جوهر الشريعة وروحها، كما أشار إلى ذلك الشيخُ محمد عبده والعلماء المغاربة من مثل الشيخ أبي شعيب الدكالي وتلميذيه محمد بن العربي العلوي وعلال الفاسي.
وبكيفية عامة، يدخل في باب الأصول عند علمائنا كلُّ مسألة بين خصمين يمكن للعقل أن يفصل فيها بوضوح.
الإسلام جوهرٌ لا مظهر * هل من سمات الإسلام الأساسية أنْ ليس غيرَ الوحي مصدرٌ للتشريع؟
ـ إن الإسلام هو الدين الذي أُوحي به إلى سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام. ويتسع هذا المفهوم ليشمل كل من يدين بالإسلام، أي كل هؤلاء الناس الذين يُكوِّنون أُمَّةً برجالها ونسائها; أمةً كانت تعرف حقوقَها وواجباتها في الماضي كما تعرفها اليوم في عالمنا الذي يعيش مخاض العولمة. فهاتان الحقيقتان متلازمتان منطقيا ولا يمكن فصل إحداهما عن الأخرى.
* إن مظاهر الإسلام الخارجية ـ من حجاب ولباس خاص وتقاليد وسلوك معينة ـ هي ما ينطبع في أذهان الغربيين عن هذا الدين. ما رأيكم في فهم الإسلام بهذه الطريقة؟
ـ من يفهم الإسلام على هاته الشاكلة هو كَمَنْ يعرِّف الكنيسة بأحد منتظماتها الكهنوتية، أو الحضارةَ الغربية بالشعر الطويل أو القصير أو بالأزياء أو مطاعم الوجبات السريعة. ولئن كان للأمة الإسلامية شعائر دينية تهم المسلمين بالدرجة الأولى، فإن لها كذلك دوافع ثقافية وعلمية جعلتها تسهم بأوفى نصيب في تطور الإنسانية، ليس فحسب على المستوى الروحي، بل وعلى المستويين العلمي والثقافي كذلك. ومن أراد أن يعرف الإسلام على حقيقته، فما عليه إلا أن يتعامل مع المسلمين الملتزمين حقا بتعاليم دينهم، وسيجدهم أناسا متعطشين إلى المعرفة، مبادرين إلى الاغتراف من مناهل العلم، ساعين إلى إفادة الغير والاستفادة منه. فلا يكفي أن يرتدي المرء لباسا معينا كي يصبح مسلما، تماما كما لا يكفي عندكم أن يتزمل المرء بزي الرهبان كي يصبح راهبا، ذلك أن التقوى ورسوخ العقيدة هما سر الإيمان وجوهره.
* في أحد أعمال الكاتب البرازيلي «باولو كوليو»، يرى البطل في صلاة المسلمين مجرد حركات آلية متكررة. ألا يزعجكم هذا الوصف؟ ـ لم يكن هو أول من فعل، ولم يكن الإسلام أول دين يُفترى عليه بمثل ذلك. فقد وُصِفَت به من قَبْلُ الكنيسةُ الكاثوليكية
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top