تابع
 
 
والدان أم أبوان؟ 
من إعجاز القرآن الكريم؛ استخدامه الكلمات المترادفة في مكانها المناسب وفق ما تعنيه بدقة وحسب الإيحاءات الخاصة لكل كلمة فيما يتعلق بالمعنى، ولذلك فالقرآن الكريم يفرق بين كلمة (والد) وكلمة (أب)، فالوالد كلمة تطلق على الرجل الذي أنجب الولد من صلبه، أما الأب فكلمة فتطلق على الرجل الذي قام بتربية أحد الأولاد وحتى وإن لم يكن ذلك الولد من صلبه. 
ومن الشواهد على ذلك، ما نلحظه في قصة إبراهيم الخليل
، إذ اشتبه على البعض أن (آزر) الكافر هو الأب الحقيقي لإبراهيم
؛ أي والده من صلبه. وهذا المعنى غير سليم، بل إن والد إبراهيم كان موحداً واسمه (تارخ) حسبما تذكر العديد من التفاسير وكتب التاريخ، وآزر لم يكن سوى عم إبراهيم
 الذي قام بتربيته واهتم بمسكنه ونفقته، ولذلك كان في مثابة الوالد، فأطلق عليه كلمة (أب) في جميع الموارد في القرآن الكريم(3). 
ومن الشواهد قوله تعالى عن أولاد يعقوب
: 
﴿أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ﴾(4)، وكما هو معلوم فإن إسماعيل
 لم يكن والداً ليعقوب
، بل كان عماً له. 
كما أنه ورد في الرواية عن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب
 أنه قال: ”إني كنت مع النبي في صلاة صلاها، فضرب بيده اليمنى إلى يدي اليمنى فاجتذبها، فضمها إلى صدره ضماً شديداً، ثم قال: يا علي، فقلت: لبيك يا رسول الله، قال: أنا وأنت أبوا هذه الأمة، فلعن الله من عقنا، قل آمين، قلت: آمين“(5)، وذلك لأنهما مربيا هذه الأمة، فكان بمثابة الأب لها. وقد يشكل البعض لورود بعض الروايات التي تطلق على الرسول
 والإمام علي
 كلمة (والدان)، ولكن يبدو أنها جاءت للدلالة على عظم الدور التربوي والقيادي الذي قام به كل من رسول الله
 ووصيه الإمام علي
. 
وكما تطلق كلمة (والد) للدلالة على الأبوة من ناحية الصلب، فكذلك الأمر بالنسبة إلى كلمة (والدة) فهي تدل على الأمومة الصلبية، أما كلمة (أم) فتطلق للدلالة على من تعهدت بأمر التربية والرعاية، ومن ذلك قولنا: (أم المؤمنين) أيضاً. 
ومجيء لفظ (والدين) في الآية الأولى من الآيتين محل التأمل؛ لدرء التوهم بأن الإحسان موجه لمن قام بأمر التربية دون الوالدين الصلبيين، فالله عز وجل يأمر العبد بضرورة الإحسان إلى والديه من الناحية الصلبية على وجه الخصوص، فالأساس هو عنصر الولادة الصلبية، حتى وإن لم يقوما بتعهده وتربيته، بل حتى لو جاهداه على الشرك بالله، فالواجب عدم طاعتهما في ذلك، لكن مع لزوم التعامل معهما بالحسنى وعدم مقاطعتهما، قال تعالى: 
﴿وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا...﴾(6). 
وفي موضع آخر ورد في سورة العنكبوت قدَّم الإحسان للوالدين على عدم طاعتهما في الشرك بالله، في دلالة على أهمية الإحسان إليهما وإن تدخلت أمور قد يتوهم البعض أنها تبرر العقوق، قال تعالى: 
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَ﴾(7). 
وقضى 
بهذا الفعل يبدأ الله جل جلاله الآية الأولى من الآيتين، وهو يدل على قوة الأمر والفصل فيه، وأن ما سيتضمنه الكلام القادم سيكون أمراً محتوماً، إذ أن ”كلمة (قضاء) لها مفهوم أمري أكثر من كلمة (أمر) وهي تعني القرار والأمر المحكم الذي لا نقاش فيه“(8)، أي أن هذه الكلمة تدل على الحتمية في الأمر أكثر من لو قال تعالى: (وأمر) أو (وأمرنا). 
وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدل على عظمة ومكانة حقوق الوالدين في نظر القرآن الكريم، ويدل على الضرورة الحتمية لتأدية هذه الحقوق. 
كما أن الله عز وجل لا يقضي إلا بما هو حق وخير للفرد والمجتمع، وبما يضمن العدالة الاجتماعية على مختلف مستوياتها.. 
قال تعالى: 
﴿وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ﴾(9). 
قال تعالى: 
﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾(10). 
قال تعالى: 
﴿وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾(11). 
الإحسان إلى الوالدين 
يربط الله سبحانه وتعالى قضية الإحسان إلى الوالدين وضرورة تأدية حقوقهما بأصل من الأصول، وهو (التوحيد)، وهو بذلك يريد التأكيد على خطورة عقوق الوالدين في تشبيه ضمني للعقوق بالشرك بالله عز وجل. 
ولا يأتي هذا الربط بين أمر العبادة والإحسان إلى الوالدين في هذه الآية فقط، بل ربط الله عز وجل بينهما في أكثر من موضع في القرآن الكريم: 
قال تعالى: 
﴿لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَان﴾(12). 
قال تعالى: 
﴿وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً﴾(13). 
قال تعالى: 
﴿قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانً﴾(14). 
وانظر إلى هذه الرواية وهي تربط بين الأمرين؛ عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبدالله يقول: إن رجلاً أتى النبي
 فقال: يا رسول الله أوصني، فقال: ”لا تشرك بالله شيئاً وإن حرِّقت بالنار وعذّبت إلا وقلبك مطمئن بالإيمان، ووالديك فأطعهما وبرَّهما حيين كانا أو ميتين، وإن أمراك أن تخرج من أهلك ومالك فافعل، فإن ذلك من الإيمان“(15). 
ويعلل الإمام جعفر الصادق
 هذه العلاقة بين الأمرين، بقوله: ”بر الوالدين من حسن معرفة العبد بالله، إذ لا عبادة أسرع بلوغاً بصاحبها إلى رضا الله من حرمة الوالدين المسلمين لوجه الله تعالى لأن حقَّ الوالدين مشتق من حق الله تعالى...“(16). 
والإحسان ضد الإساءة، وهو ”فوق العدل وذاك أن العدل هو أن يعطي ما عليه ويأخذ ما له، والإحسان أن يعطي أكثر مما عليه ويأخذ أقل مما له“(17)، فالمطلوب أن يحسن الولد لوالديه بأن يؤثرهما على نفسه وراحته. 
يقول آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي في تفسيره للآية: ”الإحسان هو العطاء بنفس راضية، وهو ممدوح عند الله. بعكس العبادة التي هي الخضوع والتسليم وبالتالي العطاء بإكراه“(18). 
وقد سأل أحدهم الإمام أبي عبدالله
 عن معنى الإحسان في الآية، فأجاب
: ”الإحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كان مستغنيين، أليس يقول الله عز وجل: 
﴿لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ﴾(19)“(20). 
ويبدو أن الإحسان هنا أعم من كلمة (حسناً) الواردة في آية سورة العنكبوت: 
﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنً﴾، إذ أن الحديث في الآية الأخيرة عن الوالدين الكافرين اللذين يحثان ابنهما على الشرك بالله، ولذلك فالإحسان إليهما سيكون أقل في بعض صوره، و(حسناً) هي القول الكريم الذي ورد في الآيتين -محل التأمل- من سورة الإسراء. 
إما يبلغن عندك الكبر 
ينبغي ألا نتوهم بأن الإحسان إلى الوالدين لا يجب إلا إذا كبر أحدهما أو كلاهما في السن، فتخصيص حالة الكبر في الآية الكريمة ”لكونها أشق الحالات التي تمر على الوالدين فيحسان فيها الحاجة إلى إعانة الأولاد لهما وقيامهم بواجبات حياتيهما التي يعجزان عن القيام بها، وذلك من آمال الوالدين التي يأملانها من الأولاد حين يقومان بحضانتهم وتربيتهم في حال الصغر وفي وقت لا قدرة لهم على شيء من لوازم الحياة وواجباتها. 
فالآية تدل على وجوب إكرامهما ورعاية الأدب التام في معاشرتهما ومحاورتهما في جميع الأوقات وخاصة في وقت تشتد حاجتهما إلى ذلك وهو وقت بلوغ الكبر من أحدهما أو كليهما عند الولد، ومعنى الآية ظاهر“(21). 
فلا تقل لهما أف 
المطلوب من الولد تجاه والديه أن يقول لهما (حُسْناً)، أي يقول لهما القول الكريم الحسن غير الجارح، ولذلك لا يجوز نهرهما؛ أي زجرهما أو الغلظة ورفع الصوت عليهما في التخاطب، بل لا يجوز في حقهما شيء فيه أبسط أمور القبح، وحتى لو كان ذلك قول كلمة (أف)، وهي اسم فعل يقال للدلالة على التضجر والتبرم. 
ورد في الرواية عن أبي عبدالله
 أنه قال: ”لو علم الله لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من (أف) لأتى بها“(22)، وفي رواية أخرى عنه
 قال: ”أدنى العقوق (أف)، ولو علم الله عز وجل شيئاً أهون منه لنهى عنه“(23). 
ولهذا فعلى الولد أن يبالغ في تواضعه تجاه والديه، وأن يبدو رحيماً عليهما، وذلك لقوله تعالى: 
﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾. وخفض الجناح هنا ”كناية عن المبالغة في التواضع والخضوع قولاً وفعلاً مأخوذ من خفض فرخ الطائر جناحه ليستعطف أمه لتغذيته، ولذا قيده بالذل فهو دأب أفراخ الطيور إذا أرادت الغذاء من أمهاتها، فالمعنى واجههما في معاشرتك ومحاورتك مواجهة يلوح منها تواضعك وخضوعك لهما وتذللك قبالهما رحمة بهما. 
هذا إن كان الذل بمعنى المسكنة، وإن كان بمعنى المطاوعة فهو مأخوذ من خفض الطائر جناحه ليجمع تحته أفراخه رحمة بها وحفظاً لها“(24). 
الدعاء للوالدين 
يعتقد البعض بأن المطلوب دائماً هو دعاء الوالدين لولدهما، ولكن ذيل الآية الثانية من الآيتين يشير إلى ضرورة دعاء الولد لوالديه، 
﴿وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرً﴾، فدعاء الوالدين لولدهما حباً منهما إليه، أما دعاؤه لهما فتكريماً لجهودهما في تربيته منذ أن كان نطفة في رحم والدته. 
ومن الدعاء: الاستغفار لهما، فقد ورد عن الإمام محمد الباقر
 قوله: ”إن العبد ليكون باراً بوالديه في حياتهما ثم يموتان فلا يقضي عنهما دينهما، ولا يستغفر لهما، فيكتبه الله عز وجل عاقاً، وإنه ليكون عاقاً لهما في حياتهما غير بار بهما، فإذا ماتا قضى دينهما واستغفر لهما“(25).