الاعتذار شيمة الكبار

الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.

عمار صادق

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
14 فيفري 2009
المشاركات
2,585
نقاط التفاعل
17
النقاط
77
الاعتذار شيمة الكبار


الأخلاق هي المعيار الحقيقي لتقدُّم الأمم، ومقياسٌ لنهضتها، ودلالةٌ من دلالات الحضارة التي تحققها، وأيُّ تقدُّمٍ ماديٍّ تحققه تلك الأمم- أيًّا كان نوعه- فسيكون مصيره الانهيار ما لم يواكبه تقدُّمٌ أخلاقي يكتسي به أفراد تلك المجتمعات، وتظهر معالمه في سلوكهم ومعاملاتهم.

ولقد استطاع المسلمون منذ بداية دولتهم الأولى، بل ومنذ ولادة الدعوة الأولى في مكة، أن يقودوا ثورةَ تصحيحِ حقيقية على كل الأخلاق الفاسدة التي كانت منتشرةً في ذلك الوقت، والاستعلاء على كل مظاهر التدنِّي الأخلاقي التي كانت سائدةً في مجتمعاتهم.

واستطاعوا- بفضل الإيمان الحق الذي رسخ في قلوبهم واختلط بدمائهم- أن يتخلَّصوا من عاداتهم المخالفة للقيم الإنسانية، بل ومن كل ما من شأنه أن يضرَّ بالآخرين، فاستطاعوا بذلك أن يحققوا انتصارًا قويًّا على نفوسهم، وينخلعوا انخلاعًا كليًّا من كل الموروثات الخاطئة التي وَرِثوها من آبائهم وأجدادهم، فكانوا كِبارًا بكل ما تحمل كلمة "كبار" من معاني الإرادة القويَّة، والعزائم الفتيَّة.

نعم.. كانوا كبارًا في أخلاقهم حينما استعلوا بإيمانهم على كل خلقٍ وضيعٍ حتى وإن كان من عاداتهم وموروثاتهم التي تربَّوا عليها.. كانوا كبارًا لأنهم استعلوا بنفوسهم الزكيَّة، وعزيمتهم الفتيَّة، وإرادتهم القويَّة، على كل ما يشين أو يخدش الحياء.

كانوا كبارًا عندما استطاعوا أن ينزعوا حظ أنفسهم من أنفسهم، حتى أصبح الله هو هدفهم ومبتغاهم؛ فالحسن عندهم ما استحسنه الله لهم، والقبيح عندهم ما قبَّحه الله وحذَّرهم منه.. كانوا كبارًا لأنهم أطاعوا ربَّهم بنفوسٍ راضيةٍ، وقلوبٍ مطمئنةٍ، سعادتهم الحقيقية حينما يُقدِّمون مرادَ الله حتى وإن خالف هواهم ومرادهم.

كانوا كبارًا لأنهم انتصروا على نفوسهم الأمَّارة بالسوء، وروَّضوها حتى ساسوها وملكوها.. كانوا كبارًا لأنهم تخلَّقوا بأخلاق القرآن، وتأدَّبوا بآدابه، وساروا على نهجه، وداروا في فلكه حيث دار.. كانوا كبارًا لأنهم لم ينتقموا لأنفسهم قط، بل كان من شِيَمهم العفوُ والمسامحةُ والمروءةُ.


ما أحوجنا!!​

والآن وفي تلك الظروف التي اختلطت فيها أخلاق الناس بين الحسن والقبيح، والسيئ والطيب.. عندما اختلف واقع الناس عن سلوكهم وأفعالهم، ما أحوجَنا في تلك الظروف أن نكون كبارًا، وأن نكون من هؤلاء الصنف أصحابِ النفوس الكبيرة التي لا يتحلَّى بأخلاق الكبار سواهم، ولا يقدر عليها غيرهم!!.. ما أحوجنا أن نكون كبارًا بقدرتنا على لجم أنفسنا والإمساك بزمام قيادتها!!.


لفتة​

لقد كان لافتًا لانتباهي كثيرًا من المواقف التي كنت أتعجَّب لها، وفي الحقيقة إنها كانت مواقفَ صعبةً لا يقدر على مواجهتها إلا الكبار، نعم.. هم الكبار وإن صغرت أعمارهم؛ فالكبار فقط هم القادرون على مواجهة الآخر بكل شجاعة وأدب.

لقد كانت مواقفَ كان المخرج الوحيد منها هو الكذب أو الحيل الماكرة، فيصرون على الصدق ويأبون إلا الصراحة.. مواقف كان الحدث فيها يضعهم في موقع التشفي والانتقام عند التمكن ممن أساء إليهم أو أخطأ في حقهم، فيأبون إلا أن يكونوا كبارًا بالعفو والتسامح.

مواقف كان الحدث فيها يضعهم في حيرةٍ من أمرهم، أن يحابوا أو يجاملوا على حساب الآخر، فيأبون إلا العدل والإنصاف، ولو كان صديقًا حبيبًا أو ذا رحم قريب.. مواقف كان الحدث فيها يضعهم على أعتاب المداهنة والمداراة، فيأبون إلا الصراحة والوضوح دون تجريح أو تشهير.. مواقف كان الحدث فيها يفرض عليهم شهادة الزور وقول غير الحق، فيأبون إلا كلمةَ الحق وشهادة الحق.

مواقف كان الحدث فيها يفرض على صاحبها الجزع في الشدائد، فيأبون إلا أن يكونوا من الصابرين المحتسبين.. مواقف كان الحدث فيها يفرض على صاحبها الخوف والجبن، فيأبون إلا أن يكونوا كبارًا بشجاعتهم وثباتهم.

مواقف كان الحدث فيها يجبرهم على مخالفة الشرع وارتكاب الصغائر من الذنوب، فيأبون إلا أن يكونوا كبارًا بتمسُّكهم بدينهم، والثبات على طاعة ربهم.

تلك المواقف جعلتني أرصد بعضًا من الأخلاق التي- بالفعل- لا يقدر عليها إلا الكبار وإن تصاغرت أعمارهم، لا يقدر عليها إلا أصحاب النفوس الكبيرة التي تعالت وسَمَت في أفاق السماء.


بصراحة​

وهنا لا بد لي من وقفةٍ جريئةٍ وصريحةٍ: هي أن بعض هذه الأخلاق التي اخترتها قد وجدت صعوبةً شديدةً في تحقيق بعضها؛ ذلك أنها كما ذكرت لك أخي القارئ "أخلاق الكبار"، وأنا ما زلت أركض محاولاً اللحاق بهم والتشبه بأخلاقهم، وترددت كثيرًا أن أذكرها وأنا ما زلت أحاول بلوغها؛ مخافةَ الوقوع في أمرٍ أدعو إليه وأنا لم أطبقة، ولكني جعلت كتابتي إحدى دوافعي للعمل، وشحذ الهمة ورفع العزيمة.

هذا من ناحيةٍ، ومن ناحية أخرى تذكَّرت قولَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِنَّا حَدِيثًا فَحَفِظَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ غَيْرَهُ فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ" (1).
ومع الخلق الأول من أخلاق الكبار، وهو..


الاعتذار​

الاعتذار من شيم الكبار، وخلقٌ من أخلاق الأقوياء، وعلامةٌ من علامات الثقة بالنفس التي لا يتِّصف بها إلا الكبار الذين لديهم القدرة على مواجهة الآخرين بكل قوةٍ وشجاعةٍ وأدبٍ.

والحياة بدون اعتذار ستحمل معاني الندِّية، وستخلق جوًّا من التوتر والقلق بين الناس؛ فالاعتذار خلقٌ اجتماعي جميلٌ يدعو للتعايش، ويمحو ما قد يشوب المعاملات الإنسانية من توترٍ أو تشاحنٍ نتيجة الاحتكاك المتبادل بين الناس.

والاعتذار ينفي عن صاحبه صفةَ التعالي والكبر، ويمنحه المصداقية والثقة في قلوب الآخرين، كما أن الاعتذار يُزيل الأحقاد ويقضي على الحسد، ويدفع عن صاحبه سوء الظن به والارتياب في تصرفاته.


لماذا الاعتذار من أخلاق الكبار؟!​

- لأن الاعتذار يعني الاعتراف بالخطأ، وقلَّما تجد إنسانًا يستطيع أن يواجه الآخرين بخطئه أو يعترف به.
- ولأن الاعتذار يعني تحمُّلَ المسئولية عن الخطأ الذي ارتكبه صاحبه، وهو كذلك صعبُ التحقيق إلا بين الكبار الذين يواجهون أخطاءهم بكل قوةٍ وحزمٍ.
- ولأن الاعتذار يحتاج من صاحبه إلى قوةٍ نفسيةٍ هائلةٍ تدفعه للمبادرة به، وهو ما لا يتوفر إلا للكبار الذين كبحوا جماح أنفسهم فسلست لهم قيادتها.
- ولأن الكبار هم الذين يُراعون مشاعر الآخرين ولا يجرحونها؛ فلا يتعدون على حقوقهم أو يدوسون على كرامتهم؛ لذا فإنهم متى بَدَرَ منهم ذلك يسارعون للاعتذار وتصحيح الخطأ، وهذا أيضًا لا يكون إلا من أخلاق الكبار.


ثقافة الاعتذار​

الكبار يفهمون الاعتذار فهمًا راقيًا؛ فلا ضيرَ من الاعتذار للزوجة إذا أخطئوا في حقها، ولا مانع من الاعتذار لمرءوسيهم إذا قصَّروا في أداء الواجبات المنوطة بهم، ولا ينقص من قدرهم إذا اعتذروا ولو كانوا في مراكز قيادية.

على العكس تمامًا من صغار النفوس والعامة من الناس الذين دأبوا على التهرُّب من الاعتذار عن أخطائهم التي ارتكبوها؛ فالزوج تأخذه العزة بالإثم من الاعتذار لزوجته؛ خوفًا من أن ينقص ذلك من رجولته، والمدير لا يعتذر لموظفيه؛ خشيةَ أن يعتبروه ذا شخصيةٍ ضعيفةٍ، والمدرس لا يعتذر لتلاميذه إذا أخطأ؛ خوفاً من الاتصاف بعدم التمكِّن من مادته، والأخ لا يعتذر عن خطئه في حق أخيه؛ خوفاً من أن يُنقص ذلك من وزنه أو يُقلل من شأنه، أو ظنًّا منه أن ذلك يجعله صغيرًا بين إخوانه.

لقد اقتصر الاعتذار بين العامة في الأشياء العابرة الخفيفة مثل الاصطدام الخفيف أثناء المشي، أما في المواقف الجادة والحقيقية والتي تحتاج إلى الاعتذار حتى تستمر عجلة الحياة ويستقر التعامل بين الأقران، نرى التجاهل وعدم المبالاة، والواقع يؤكِّد ما نقول.


الاعتذار ليس ضعفًا​

الكبار يرون في الاعتذار مصدرًا لزيادة الثقة بينهم وبين مخاطبيهم، ومجالاً خصبًا لبناء علاقاتٍ اجتماعيةٍ قويةٍ لا تتأثر بالنوازل أو الخلافات؛ فالكبار يعتبرون الاعتذار إحدى وسائلِ الاتصال الاجتماعية مع الآخرين، بل ومهارةً من مهارات الحوار معهم؛ فالاعتذار يجعل الحوار متواصلاً ومرناً وسهلاً؛ إذ إن ذلك سيرفع من قلب مُحدِّثك الندِّية الصلبة في النقاش أو الجدل العقيم في الحوار، فالاعتذار يعني الاعتراف بالخطأ والندم على فعله، والاستعداد الكامل لتحمل تبعاته، وهو ما يعني إكسابك القوةَ في نظر المتعاملين معك، وهذا ما يدفع مُحدِّثك للتعجب، وقد يصارحك بأنك شخصٌ "قوي وجريء"، وقد يُجبره اعتذارُك على احترامك بل ومساعدتك في تصحيح الخطأ إذا لزم الأمر.


أنا آسف​

الكبار لا يترددون أبدًا في تقديم عبارة الأسف "أنا آسف" إذا ما بدر منهم ما يستحقها، ولا فرقَ عندهم لمن تُقدَّم العبارة.. لرجلٍ أو امرأةٍ، صغيرٍ أو كبيرٍ؛ فالأسف عند الكبار لا يقتصر على الكبراء أو عيلة القوم أو الوجهاء وأصحاب المراكز المرموقة.

وكلمة "أنا آسف" لا يعتبرها الكبار نقيصةً يتهرَّبون منها، أو عيبً يستحيون منه، بل هو خُلُقٌ يتقرَّبون به إلى الله، وسلوكٌ إيجابي يتحلَّون به ويُزينون به أخلاقهم.

وكلمة "أنا آسف" تخرج من قلوب الكبار قبل أن ينطق بها لسانهم، فيُزيلون غضبًا عارمًا في النفوس، ويُداوون بها قلبًا مكلومًا، أو يجبرون خاطرًا مكسورًا.

كم من المشاكل والخلافات التي تقع ويكفي لاتقائها مجرد اعتذار بدلاً من تقديم الأعذار والمبررات التي يحاول بها الصغار والضعفاء تبرير أخطائهم،فتتفاقم المشكلة، ويزداد الجرح إيلامًا!!.


سياسة التبرير​

البعض من صغار النفوس، بدلاً من السعي لتصحيح أوضاعهم ومراجعة أنفسهم، وإصلاح ما أفسدته تصرفاتهم، فإنهم يحاولون تبرير أخطائهم، وتقديم الأعذار التي يحاولون من خلالها التملُّص من تحمُّل المسئولية أو تجميل الصورة والظهور بالمظهر اللائق أمام الناس.

إن السبب الرئيسي لسياسة التبرير التي ينتهجها البعض هي المبالغة الشديدة في احترام الذات وتقديسها للدرجة التي توصله إلى المكابرة وعدم الاعتراف بخطئه؛ ظنًّا منه أنه باعترافه بخطئه يُهين نفسه، ويقلل من مكانتها، فيلجأ للحيل الدفاعية التي يحاول من خلالها إبعاد النقص عن نفسه.

ومع أن ارتكاب الأخطاء أمرٌ مُشينٌ ويَعيب مرتكبيها، إلا أن الاعتراف به وعدم المجادلة بالباطل قد يمحو آثار هذا الخطأ، ويُكسب صاحبه تعاطفَ الآخرين ووقوفهم بجانبه.

إن أخطر ما في سياسة التبرير التي ينتهجها البعض هي أن تنتقل عدوى التبرير إلى من حولنا؛ فالأب الذي لا يعتذر لأولاده مثلاً عن عدم وفائه لهم بوعدٍ وعده لهم إنما ذلك درسٌ عملي لهم أن ينتهجوا نفس النهج، ويسلكوا نفس السلوك، وقِس على هذا كل المسئولين مع مرءوسيهم.

إننا نُصاب بالصدمة الكبرى عندما نرى إنسانًا يتولَّى إمارةً أو مسئوليةً أو أمرًا قياديًّا ولا حديث له إلا عن الإنجازات والعطاءات والمشروعات الناجحة والعملاقة، صفحاته كلها بيضاءُ ناصعةٌ لا خطأَ فيها، إنها صفحاتٌ تُشبه صفحات الملائكة المعصومين والأنبياء المرسلين التي لا مكان فيها للخطأ أو النقصان، أو حتى السهو أو النسيان.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
ألا فليعلمْ الجميع أن الاعتراف بالخطأ أطيبُ للقلب وأدعى للعفو، ومعلومٌ أن توبة الصحابي الجليل كعب بن مالك لم يُنقذه إلا صدقه وصراحته.


خلق جميل.. ولكن!!​

ورغم أن الكبار من سماتهم المسارعة إلى الاعتذار والبعد كل البعد عن التبرير والمجادلة في الباطل في الأمور التي ظهر فيها خطؤهم، إلا أنهم مع ذلك يجتنبون الوقوع فيما يُوجب الاعتذار، مسترشدين في ذلك بوصية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الجامعة لأبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه: "ولا تكلَّم بكلامٍ تعتذر منه غدًا" (2)، وإن أخطئوا يومًا أو زلت أقدامهم فإنه "لا حَلِيمَ إِلاَّ ذُو عَثْرَةٍ، وَلا حَكِيمَ إِلاَّ ذُو تَجْرِبَةٍ"(3).


قبول الأعذار​

ومع اتصاف الكبار بهذا الخلق العظيم وهذا السلوك الإيجابي من تقديم الاعتذار والاعتراف بالخطأ متى بدر منهم، فهم كذلك يبادرون لقبول الأعذار من المخطئين في حقهم، فلا تعاليَ ولا بطرَ ولا أشرَ، بل مسامحةٌ وعفوٌ وطيبُ خاطرٍ، وهم بذلك يقدِّمون درسًا عمليًّا للناس؛ فقبول الاعتذار بهذه الصورة يحضُّ الناس على الاعتذار متى أخطئوا؛ لأن الإصرار على الملامة والعتاب وتسجيل المواقف لإحراج المعتذرين يجعلهم يُصرِّون على الخطأ ويأبون الاعتراف به.

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ، وَمَا زَادَ اللهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ للهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ" (4).


الأنبياء يعتذرون​

ويطيب لنا أن نتوجه إلى المتعالين المتأففين، الرافضين للاعتذار، الناكفين عن تقديمه، نتوجَّه لهم بهذه الباقة من الكبار العظماء، إنهم أشرف وأطهر من مشَوا على الأرض، إنهم أنبياء الله ورسله الذين اختارهم الله على عينه، وأدَّبهم فأحسن تأديبهم، ومع ذلك فهم يُقدِّمون لنا الأسوة والقدوة في المبادرة للاعتذار؛ للتأكيد على أنه خُلُقٌ لا يشين ولا يقلِّل من قيمة صاحبه.

* آدم- عليه السلام- اعترف بذنبه لمَّا أخطأ وسارع إلى ذلك، ولم يُحاول تبرير ما وقع فيه من إثمٍ بمخالفة أمر الله والأكل من الشجرة المحرَّمة عليه هو وزوجه، لم يُراوغ، لم يتكبر، لم ينفِ، لكنه جاء معترفًا بخطئه ومُقرًا به: ﴿قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ﴾ (الأعراف:23).

* موسى- عليه السلام- أخطأ عندما وكز الرجل بعصاه فقتله، فماذا حدث؟.. إنه لم يبرر فعلته، ولم يراوغ لإيجاد المخارج من هذا المأزق، ولكنه اعترف ابتداءً أنَّ ما فعله من عمل الشيطان ﴿قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ﴾ (القصص: من الآية 15)، ثم قام ليقدِّم الاعتذار ويطلب العفو والصفح والمغفرة ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ﴾ (القصص: 16).

* بلقيس وامرأة العزيز: كلتاهما كانتا تعيشان في بيئةٍ وثنيةٍ كافرةٍ، ولكنهما اعترفتا بذنبهما، وتابتا ورجعتا عن خطئهما: أما الأولى- وهي بلقيس- فإنها متى رأت الآيات والبينات تترا على يد نبي الله سليمان حتى قالت ﴿رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ (النمل: من الآية 44).

وأما الثانية امرأة العزيز التي راوغت وكادت لتبرير موقفها الصعب وسلوكها المشين، إلا أنها اعترفت في شجاعة نادرة ﴿قَالَتْ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدتُّهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52)﴾ (يوسف).

يا لها من قوة تحليت بها، وجرأةٍ في الحق يعجز أكابر الرجال في زماننا أن يأتوا بمثلها، بيد أن البيئة الوثنية كانت أفضل حالاً من بعض البيئات اليوم التي أفرزت قطيعًا من المنافقين الكذابين المتعالين الذين ليس لديهم من الشجاعة ما يؤهلهم لمواجه الآخرين بأخطائهم.


رسول الله يعتذر​

عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: مَرَرْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَوْمٍ عَلَى رُءُوسِ النَّخْلِ، فَقَالَ: "مَا يَصْنَعُ هَؤُلاءِ؟"، فَقَالُوا يُلَقِّحُونَهُ يَجْعَلُونَ الذَّكَرَ فِي الأُنْثَى فَيَلْقَحُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَا أَظُنُّ يُغْنِي ذَلِكَ شَيْئًا". قَالَ: فَأُخْبِرُوا بِذَلِكَ فَتَرَكُوهُ: فَأُخْبِرَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِذَلِكَ، فَقَالَ: "إِنْ كَانَ يَنْفَعُهُمْ ذَلِكَ فَلْيَصْنَعُوهُ؛ فَإِنِّي إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا، فَلا تُؤَاخِذُونِي بِالظَّنِّ، وَلَكِنْ إِذَا حَدَّثْتُكُمْ عَنْ اللهِ شَيْئًا فَخُذُوا بِهِ؛ فَإِنِّي لَنْ أَكْذِبَ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ" (5).


شيم الكبار​

الكبار دائمًا وأبدًا يعتذرون لدفع الشبهة التي قد يتوهَّمها البعض؛ فهو لا ينتظر المعاتبة أو المراجعة حتى يُبرر موقفه من ذلك، بل يسارع ليُنهيَ الأمر في وقته، جاء أناس من الأشعريين- قوم أبي موسى الأشعري رضي الله عنه- وطلبوا منه مرافقتهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يكن يعلم ما يُريدون، وإذا بهم جاءوا ليطلبوا الإمارة والولاية على بعض أعمال المسلمين، فظهر أبو موسى وكأنه جاء ليشفع لهم في طلب الإمارة، فردَّهم النبي- صلى الله عليه وسلم- ردًّا لطيفًا، ولكن الصحابي الجليل شَعَرَ بالحرج الشديد، فقال: "فاعتذرت إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقَبِلَ وعَذَرَني".
 
الحالة
مغلق ولا يسمح بالمزيد من الردود.
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top