اعلامنا - متجدد

angegardienretour

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
23 أكتوبر 2016
المشاركات
1,505
نقاط التفاعل
1,027
النقاط
71
محل الإقامة
الجزائر العاصمة
الجنس
أنثى
السلام عليكم

اعلام و مشاهير- أحمد بن هارون الرشيد .. الأمير الزاهد

قصته عجب، بل أعجب من العجب، وأغرب من معظم ما يستغرب، وقلما يطالع الإنسان مثل هذا الموقف، إلا على فترات متباعدة من عمر الزمن. إذ من الذي يستطيع -وهو في عنفوان الشباب- رفض زينة الدنيا ومباهجها، وعز الخلافة وزهوها، وأمجادها ومكاسبها؟ نعم من الذي يقوى على ذلك، ويتعالى عليه؟ ويترفع عن أهله، فلا يخالطهم في ورد ولا صدر، ولا يتحرك قلبه نحو شيء من تلك المغريات، التي تركت الناس صرعى على عتباتها، هلكى من اللهاث وراءها، طمعا في الوصول إلى شيء من فتاتها؟

أجل، إن الذين تسمو هممهم إلى هذا الأفق الرفيع صنف مميز، وطراز فذ في دنيا الناس، أنعم الله عليهم ببلوغ القمة ، فعاشوا محلقين في الأفق الرحيب، أفق عزة الإيمان، وبرد اليقين، أفق نور التقوى الذي أضاء جنبات نفوسهم، وكشف حجب الظلمة عن قلوبهم، فغدوا، مستنيرين، مستبصرين، لا يصرفهم عن طريق آخرتهم صارف، ولا يخدعهم عما عرفوا من الحق خادع.

وكان أحمد بن الخليفة هارون الرشيد من هذا الطراز الرفيع من الرجال، فما قصته؟ وكيف عاش بعيدًا عن أضواء خلافة والده التي بهرت الخافقين، وجبي إليها خراج المشرقين والمغربين، وخطب ودها كل عظيم في الدول والممالك التي عاصرتها؟

من هو أحمد بن هارون الرشيد؟
عاش أحمد زاهدا، عابدًا، لا يأكل إلا من عمل يده، وكان يعمل فاعلًا، أجيرًا في الطين، رأس ماله مجرفة يجمع بها التراب، وزنبيل (قفة) يحمل بها ما جمع، ليجعله طينا، ثم يستعمله في الأغراض التي يصلح لها.

كان يعمل يومًا واحدًا في الأسبوع -وهو يوم السبت فسمي بأحمد السبتي- ويحصل على أجر مقداره درهم ودانق (جزء من الدرهم) ثم يقبل على العبادة بقية أيام الأسبوع.

قيل: إن أمه زبيدة، وصحح ابن كثير (في البداية والنهاية، ج/ 10 ص 191) أنه ابن امرأة كان الرشيد قد أحبها وتزوجها قبل توليه الخلافة، ويبدو أن ذلك لم يكن عن أمر والده أو مشورته، فلما حملت منه بأحمد هذا أرسلها إلى البصرة، وأعطاها خاتمًا من ياقوت أحمر، وأشياء نفيسة، وأمرها إذا أفضت إليه الخلافة أن تأتيه، وكان الرشيد يتابع أخبارها، ويرسل إليها ما يصلح حالها، وبلغه أنها وضعت مولودًا سمته أحمد. فلما صارت الخلافة إليه لم تأته، ولا ولدها، بل اختفيا، وبلغه أنهما ماتا، ولم يكن الأمر كذلك، وفحص عنهما، فلم يطلع منهما على خبر، وكان أحمد يعمل بيده ويأكل من كد يده.

العودة إلى بغداد
رجع أحمد إلى بغداد، وما أدراك ما بغداد! إنها حاضرة العالم، وعاصمة العواصم، لم يكن لها نظير في الدنيا: في جلالة قدرها، وفخامة أمرها، وكثرة علمائها وأعلامها، وتميز خواصها وعوامها، وعظم وكثرة دروبها ودورها، ومنازلها وشوارعها، ومساجدها، وحماماتها، وخاناتها، وطيب هوائها، وعذوبة مائها، وبرد ظلالها واعتدال صيفها وشتائها، وصحة ربيعها وخريفها. أقبلت الدنيا على أهلها برخائها ونعيمها، ومباهجها ومسراتها، ورغدها، وفتنتها حتى لكأن الدنيا كلها في بغداد، ولكأن بغداد هي الدنيا كلها، وأكثر ما كانت عمارة وأهلًا في زمن الرشيد.

فأين عاش ابن خليفة بغداد، وهو يرى الدنيا مازالت تتحدث عن عظمته وزاهي عيشه؟
عاش عاملًا يعمل في الطين يوم السبت، ليقتات وأمه مما يكسبه طوال أيام الأسبوع، ولا يذكر للناس من هو، ولا من يكون، عاش راضيًا مسرورًا، لا يسعى في الدنيا إلا إلى مرضاة ربه، وكسب رضى والدته، التي وافقته على ما أراد، ولم تفصح عن أمرها، احتراما لرغبة ولدها.

رحيل الأم
أتى القدر المحتوم، وبلغت أمه أجلها الذي أجله الله لها، وقبل أن تفيض روحها إلى بارئها أعطت الخاتم الذي وهبها الرشيد إلى ولدها، ولفظت أنفاسها الأخيرة في حجرة ضيقة، ليس فيها من متاع الدنيا ما تقع عليه العين.

حمد بعد والدته
لم يغير شيئا مما نشأ عليه، فهو في عمل يوم السبت، وفي انقطاع إلى الطاعة والعبادة بقية الأيام.

مرض أحمد ووفاته
لم تذكر لنا المصادر كم دام على هذه الحال، غير أن ابن كثير في البداية والنهاية ذكر أنه قد اتفق مرضه في دار من كان يستعمله في الطين، وأن الرجل كان كريمًا معه، فأشرف على تمريضه ورعايته حتى اللحظات الأخيرة من حياته.

وصية من الولد إلى الوالد
لما اشتد به المرض وحضره أمر الله تعالى أخرج الخاتم، وقال لصاحب المنزل: اذهب إلى الرشيد، وقل له: صاحب هذا الخاتم يقول لك: إياك أن تموت في سكرتك هذه، فتندم حيث لا ينفع نادمًا ندمه، واحذر انصرافك من بين يدي الله إلى الدارين، فإن ما أنت فيه لو دام لغيرك لم يصل إليك، وسيصير إلى غيرك، وقد بلغلك خبر من مضى، قال: هذا وفاضت روحه إلى خالقها، وذلك في عام 184هـ.

باشر الرجل تجهيزه ودفنه، وهو لا ينفك عن التفكير فيما رأى وسمع، ترى من يكون هذا الرجل؟وما سر هذا الخاتم الذى أعطاني؟ وما الذي سيحصل إذا ما أبلغت الخليفة بذلك؟

أسئلة حائرة، ليس ثمة ما يهدي إلى جواب عن بعضها، ولا إلى إشارة تهدي إلى شيء يفك هذا اللغز الحائر المحير. ولكن الرجل في نهاية المطاف صمم أن يسعى للوصول إلى الرشيد وإبلاغ الأمانة، وليكن ما أراد الله.

في مجلس الرشيد
دخل الحاجب، وأخبر الخليفة أن في الباب رجلًا من العامة يزعم أن لديه سرًا يخص أمير المؤمنين، أذن الرشيد بإدخاله، فلما دخل سأله ما حاجتك؟ وما وراءك؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين، هذا الخاتم دفعه إليَّ رجل، وأمرني أن أدفعه إليك، وأوصاني بكلام أقوله لك.

فلما نظر في الخاتم عرفه قال: ويحك: وأين صاحب هذا الخاتم؟ قال الرجل: مات يا أمير المؤمنين، وذكر له الكلام الذي أوصاه به، وأن الرجل كان يعمل بالفاعل يوما من كل جمعة بدرهم ودانق، يتقوت به سائر أيام الجمعة، ثم يقبل على العبادة.

فلما سمع الرشيد هذا الكلام قام فضرب بنفسه الأرض، وجعل يتمرغ فيها ظهرًا لبطن، ويقول: والله لقد نصحتني يا ولدي، ويشهق من شدة البكاء، ثم رفع رأسه إلى الرجل وقال: أتعرف قبره؟ قال: أنا دفنته· قال الرشيد: إذ كان العشي فائتني، فلما كان العشي ذهب به إلى قبره فجلس عند رأسه، وبكى طويلًا، حتى كاد يصبح، ثم أمر للرجل بعشرة آلاف درهم، وكتب له ولعياله رزقًا.

درس وعبرة
ما أجمل أن يترفع الإنسان عن متاع الدنيا، ويرضى بالقليل الذي يمسك عليه حياته، ويصون ماء وجهه عن ذل الحاجة، وحرج السؤال، وما اختاره أحمد بن الرشيد مذهب فردي، لا نعيب على من ارتضاه لنفسه، واختاره منهجًا لحياته.

وتعاليم ديننا رغبتنا فيما هو أكثر فائدة وأعظم عائدة، فالمسلم مطالب أن يخالط الناس، ويصبر على أذاهم، ويأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، بضوابطه وشروطه المعروفة، وأن يكون منتجًا، ذا رسالة في الحياة، يعود نفعها عليه وعلى الأمة، بل على البشرية كلها.

لابد لإعزاز الإسلام من استغلال خيرات الأرض استغلالًا تامًا، لتأمين الأمن الغذائي، والاستغناء عن موارد الأعداء، ولابد من إقامة المصانع والمعامل التي تنتج الصناعات، ليتحقق الاكتفاء عن استيراد منتجات الأعداء، لابد من جند مقاتلين، مدربين، ومسلحين بأحدث أنواع السلاح وأمضاها، ليحموا الذمار، ويصونوا الأعراض والديار.

والأمة مطالبة بتهيئة كل ما يسهم في تحقيق هذا، لابد من الأطباء لمعالجة المرضى، والمعلمين الذين ينشؤون الأجيال على الفضيلة والتقوى، والمرشدين والمربين الذي يهذبون النفوس، ويسعون في إصلاح القلوب، ويردون الشبهات التي يروجها الأعداء، فمن يقول بكل ذلك إذا ما توارى أصحاب الكفاءات في المساجد والزوايا، وعكفوا على العبادات الفردية؟

وقديمًا نما الإسلام وانتشر في ظلال مصاحف المربين، وسيوف المجاهدين، وأفاد من عمل العاملين، وكد المزارعين، وأموال التجار والمستثمرين، فأضاء جنبات الأرض، وأخرج الناس من الظلمة إلى النور، ومن الجاهلية إلى الهداية والرشاد، ومن الأمية إلى أفق العلم والتعليم، ومن عبادة الأصنام إلى عبادة الواحد الديان، ومن جور الحكام إلى عدل الإسلام.

فلو أن رجال الرعيل الأول انقطع كل فرد منهم للعبادة والتبتل والعمل في الطين يومًا في الأسبوع لما قامت للإسلام دولة، ولا تأسست له أمجاد وحضارة، ولا اندحر الكفر وظهر التوحيد، ولما نعمت الإنسانية بالخير العميم الذي جاءها بها هذا الدين العظيم.

إننا لا نعيب على فرد أو أفراد اختاروا مسلك ابن الرشيد، فذاك شأنهم، وهم أدرى بإمكاناتهم وملكاتهم، لكننا نؤكد، أن ذلك مما لم يأمرنا به ديننا، ولا يصلح نظاما عامًا لأتباع رسالة فرض الله عليهم العمل به، وإبلاغها إلى حيث يستطيعون الوصول والبلاغ.

إن مكابدة ساعة في تربية الأولاد وتعليمهم وإعدادهم لمهمات الحياة أكثر أجرًا من أيام كثيرة من أيام الزهد والعبادة، ورباط يوم في سبيل الله أعظم من شهور بل من سنوات يقطعها الآخرون في التسبيح والتهليل والأذكار.

عن أرطاة بن منذر أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لجلسائه: أي الناس أعظم أجرًا؟ فجعلوا يذكرون له الصوم والصلاة، ويقولون: فلان وفلان بعد أمير المؤمنين· فقال: ألا أخبركم بأعظم الناس أجرًا ممن ذكرتم ومن أمير المؤمنين؟ قالوا: بلى، قال: رويجل بالشام، آخذ بلجام فرسه، يكلأ من وراء بيضة المسلمين، لا يدري أسبع يفترسه، أو هامة تلدغه، أو عدو يغشاه، فذلك أعظم أجرًا ممن ذكرتم، ومن أمير المؤمنين (كنز العمال، 289/92).

نعم، هذا هو نهجنا، وهذه توجيهات ديننا: اعمل لد**** كأنك تعيش أبدًا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا.

مصادر البحث:
1- البداية والنهاية لابن كثير·
2- وفيات الأعيان لابن خلكان·
3- صفة الصفوة لابن الجوزي.
4- كتاب التوابين لابن قدامة.
5 - الوافي بالوفيات للصفدي..

موقع قصة الاسلام
 
آخر تعديل:
رد: اعلامنا - متجدد

السلام عليكم

حبيب بن مسلمة .. قاهر الروم وفاتح أرمينية

حبيب بن مسلمة الفهري القرشي، له صحبة، وهو أحد كبار قادة الفتوح في صدر الإسلام، وكان يقال له حبيب الدروب، وحبيب الروم؛ لكثرة دخوله عليهم ونيله منهم، وكان ممن شارك في فتوحات الشام، وهو فاتح بلاد أرمينية.

نسب حبيب بن مسلمة
هو حبيب بن مسلمة بن مالك الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك بن النضر القرشي الفهري، يكنى أبا عبد الرحمن، وقيل أبا مسلمة.

مولد حبيب بن مسلمة ونشأته
ذكر في أُسد الغابة، أن حبيب بن مسلمة كان له من العمر لما توفي النبي صلى الله عليه وسلم، اثنتا عشرة سنة. وقد كانت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، في صفر من سنة 11هـ، ولذا فيكون مولد حبيب قبل الهجرة بسنتين، فهو مكي المولد إسلامي النشأة.

صحبته للنبي صلى الله عليه وسلم
وقد اختلفوا في: هل كانت له صحبة أم لا؟، وأكثرهم يقول كان له صحبة، إلا أنه لم يغز مع النبي صلى الله عليه وسلم، وفي رواية لابن عساكر، عن ابن أبي مليكة عن حبيب بن مسلمة الفهري، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة فأدركه أبوه، فقال: يا نبي الله يدي ورجلي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ارجع معه فإنه يوشك أن يهلك" [1]، فهلك أبوه في تلك السنة. وروي أن حبيب بن مسلمة قال: شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نَفَل الثلث [2].

وفي رواية له أيضًا، أنه رجع إلى المدينة وغزا مع النبي آخر غزوة، وهي غزوة تبوك، وهذه الرواية تؤيد قول من قال: إن له صحبة. وقد كان حبيب من أشرف قريش، كما في رواية الزبير بن بكار، ذكرها في أسد الغابة. بل كان من شجعانهم وسراتهم ورافعي راية مجدهم، وهو كما قيل عنه من طبقة خالد بن الوليد، وأبي عبيدة، في الشجاعة والإقدام والأثر الجميل في الفتح، ذلك لأنه شب منذ نعومة الأظفار على الحرب، وألِف من صغره الطعن والضرب، فقضى معظم أيام حياته في الحروب. فكان له في تشييد دعائم الإسلام في البلاد القاصية، والممالك النائية، جهاد طويل، وعمل في الفتح جليل، لاسيما في الجزيرة وأرمينية والقوقاز.

ومما يدل أنه نشأ منذ صغر سنه على الحرب، ما رواه ابن عساكر أن حبيب بن مسلمة ذهب في خلافة أبي بكر الصديق إلى الشام للجهاد، فكان على كردوس من الكراديس في اليرموك. لذا لما أدمن الحرب من صغر سنه، نشأ قائدًا محنكًا من أعاظم قواد الفتح في عصره.

فتوحات حبيب بن مسلمة
اختلف الرواة هل ولىَّ عمر بن الخطاب حبيب بن مسلمة في خلافته أم لا؟، والأرجح أن حبيب بن مسلمة دخل دمشق مع القائد الفاتح أبي عبيدة عـامر بن الجـراح وشارك في فتح قنسرين وحلب تحت قيادة أبي عبيدة. ثم وجه أبو عبيدة بن الجراح حبيب إلى أنطاكية مع عياض بن غنم ففتحاها على الصلح الأول، وكان أهلها قد نقضوا شروط صلحهم، ومن أنطاكية سار ابن مسلمة إلى الجرجومة في جبل اللكام، وكان يقال لهم الجراجمة، فافتتحها صلحًا على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين في جبل اللكام وألا يؤخذوا بالجزية.

وفي سنة 22هـ أرسل الخليفة عمر ابن الخطاب حبيب بن مسلمة مددًا لسراقة بن عمرو، فاشترك معه في فتح الباب (مدينة على بحر الخزر) وبعد مفاوضات سُلِّمت المدينة على شرط إسقاط الجزية عن أهلها الذين يناصرون المسلمين في حربهم ضد أعدائهم، أما من استغنى عنه منهم وقعد فعليه دفع الجزية. ووجه سراقة بعد ذلك حبيب بن مسلمة إلى تفليس (مدينة من ولاية أرمينية) ولكن سراقة توفي قبل أن يتم فتحها.

ثم لما سار عياض بن غنم إلى فتح الجزيرة، كان حبيب في جملة قواده، ففتح سميساط وقرغيزيا وقرى حولها، ثم فتح شمشاط وملطية وغيرها، ثم سار إلى أرمينيا بأمر عمر، ففتح منها ما فتح، وذلك الفتح الأول الذي انتفضت بعده، وقصدها مرة ثانية على عهد عثمان.

وعندما جمع الخليفة عثمان بن عفان (23 - 35هـ) لمعاوية الشام والجزيرة، غدت مسائل الحدود تعالج بنشاط أكبر، فأرسل معاوية بناء على أمر من عثمان حبيب بن مسلمة في ستة آلاف ويقال في ثمانية آلاف من أهل الشام والجزيرة إلى أرمينية، فاستولى على قليقلا، عاصمة أرمينية البيزنطية "تيودوبولس" وجلا كثير من أهلها إلى بلاد الروم، فأقام بها حبيب ومن معه أشهرًا.

فلما وجَّه بطريق بند أرم****س جيشًا كبيرًا انضم إليه أهل اللان والخزر، كتب حبيب إلى عثمان يستمده، فكتب عثمان إلى معاوية يسأله أن يشخص إليه من أهل الشام والجزيرة قومًا ممن يرغب منهم في الجهاد، فأرسل إليه معاوية ألفي رجل أسكنهم قليقلا وأقطعهم بها القطائع، وجعلهم مرابطة بها، كما أرسل عثمان إلى سعيد بن العاص واليه على الكوفة (30 - 35هـ) يأمره بإمداد حبيب بن مسلمة، فوجه سعيد سلمان بن ربيعة الباهلي في ستة آلاف من أهل الكوفة، ولكن سلمان وصل وقد فرغ المسلمون من عدوِّهم.

بعد أن استولى حبيب على قليقلا، جرت بينه وبين الروم البيزنطيين على أرض أرمينية معارك عديدة، انتهت بسيطرة العرب على أرمينية البيزنطية، ثم تابع حبيب زحفه على القسم الفارسي حتى بلغ دبيل (دفين Dwin)، وأتم حبيب فتح أرمينية بوصوله إلى تفليس، حيث عقد صلحًا مع أهلها مقابل اعترافهم بالسيادة الإسلامية؛ وقد همَّ عثمان أن يُولي حبيبًا جميع أرمينية، ثم رأى أن يجعله غازيًا لثغور الشام والجزيرة فعاد حبيب ونزل حمص.

بقي ابن مسلمة مواليًا لمعاوية بن أبي سفيان، واشترك معه في صفين فكان على ميسرة جيشه. وحينما أخذ الحكمان عمرو بن العاص وأبو موسى الأشعري المواثيق والعهود من علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان أن يرضيا بحكم الحكمين أشهدا على ذلك فريقًا من أتباع علي وفريقًا من أتباع معاوية، وكان حبيب بن مسلمة من بينهم.

حبيب بن مسلمة قاهر الجراجمة
كان حبيب بن مسلمة مع أبي عبيدة بن الجراح، في حروبه في شمال سورية، ولما فتح أبو عبيدة أنطاكية الفتح الثاني بعد انتفاضها، ولى عليها حبيب بن مسلمة فتولاها، وقاد الجند بنفسه لأول مرة على أكثر الظن، فقصد جبل اللكام، وكان فيه قوم أشداء يسمون الجراجمة، فلم يقاتلوه، بل بدروا إلى طلب الأمان والصلح، فصالحوه على أن يكونوا أعوانًا للمسلمين، وعيونًا ومسالح في جبل اللكام، وأن لا يؤخذوا بالجزية ماداموا من أعوان المسلمين وجندهم.

ودخل معهم في هذا الصلح، وعلى هذا الشرط كثير من الأنباط وأهل القرى، فكانوا يستقيمون تارة للولاة ويعوجون أخرى، حتى غزاهم مسلمة بن عبد الملك، وأجلاهم عن جبل اللكام، وأن ينزلوا حيث أحبوا من البلاد، ويكونوا جندًا للدولة ويبقوا على نصرانيتهم، ولا تؤخذ منهم الجزية، وأن يجري عليهم الرزق كبقية الجند، فنزل بعضهم حمص، وبعضهم تيزين (من عمالة حماة) وغيرها، ولعل الحي الموجود إلى هذا العهد في مدينة حماه، المعروف مجارة الجراجمة، ينسب إلى أولئك القوم لأنه نزل منهم فريق فيه.

حبيب بن مسلمة .. يوم فتح المسلمون أرمينية
"واجه جيش مسلم تعداده 6 آلاف يقوده حبيب بن مسلمة، جيشًا نصرانيًا تعداده 80 ألفًا يقوده موريان، وانتصر المسلمون انتصارًا ساحقًا في فتح أرمينية".

بدأ المسلمون فتحَ أرمينية في عهد خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه ضمن فتوح بلاد ما وراء النهر، والتي كانت جزءًا منها؛ حيث توجَّه الصحابيُّ "عياض بن غَنْم" رضي الله عنه إلى أرمينية ودخل بدليس، ثمَّ تقدَّم إلى خلاط في قلب أرمينية، وهنا ارتأى أهلُ تلك البلاد مُصالَحة المسلمين، ورَغْبَتهم في إقرار المسلمين بطريَرْكَهم على حكم البلَد، فقبِل المسلمون الصلحَ، وذلك سنة 20هـ.

ثمَّ حدث تمرُّد على المسلمين من جانب أهلِ أرمينية في عهد خلافة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه، فأرسل إليهم "حبيب بن مسلمة الفهري" لفتح البلَد، وذلك عام 31هـ على أرجح الأقوال، وذلك في جَيش مكوَّن من ستة آلاف، وقيل: ثمانية آلاف من أهل الشام والجزيرة، فوصل إلى مدينة "قالقيليا" في أقصى شمال أرمينية على حدود الرُّوم، فتجمَّع ضدَّه جيشٌ من الروم والخزر من النصارى قادَه "موريان"، بلغ تعدادُ هذا الجيش في أغلب المصادر ثمانين ألف جنديٍّ وفارس، وقد أبلى المسلمون بلاءً حسنًا في القِتال مع الروم، واستطاع حبيب بن مسلمة بحُنْكته القتاليَّة ودربته في إدارة المعركة أن ينتصر انتصارًا ساحقًا، ويقتل ويأسر من الرُّوم العددَ الكثير.

وعلى إثر هزيمة الرُّوم والخزر في تلك المعركة العجيبة، أدرك حبيب بخبرتِه القتاليَّة أنَّ الأمر لن يستتبَّ للمسلمين في أرمينية إلاَّ بمحاولة موازنة القوى واستيطان عددٍ كبير من المسلمين بها في مقابل أعدادِ الروم والخزر، فأرسل حبيب إلى الخليفة عثمان بن عفَّان رضي الله عنه أن يبعثَ إليه جماعةً من أهل الشَّام وجزيرة الفرات ممَّن يحبُّون الجهادَ وقتال الروم، فبعث إليه معاويةَ بن أبي سفيان بألفَي رجلٍ أسكنهم حبيب بلدةَ قالقيليا، وجعلهم مرابطين بها، ثمَّ واصل فتوحَه ببلدان أرمينية؛ ففتح مدينة شمشاط وصالَح أهلَها وكتب لهم كتابًا يؤمِّنهم فيه على أموالهم وأولادِهم مقابل دفع الجِزية للمسلمين، واستقرَّ بها القائدُ المسلم "صفوان بن معطل السلمي".

وبعد فتح شمشاط توجَّه الجيش الإسلامي إلى بُحيرة أرجيش (وان)، وأتاه بطريرك بلدة "خلاط" ومعه كتاب الأمان الذي أعطاه الصحابيُّ "عياض" رضي الله عنه للمدينة في سنة 20هـ، فقِبَله حبيب وأقرَّه، ثمَّ وجَّه إلى قرى "أرجيش" و"باجنيس" مِن قادة جيشه مَن غلبَهم وجَبى له جزية رؤوس أهلها، وواصل الجيشُ الإسلاميُّ تقدُّمَه إلى "دبيل"، فتحصَّن أهلُها بها ورمَوه بالسهام، فوضع على أسوار المدينة منجنيقًا وظلَّ يرميهم حتى أَيقن أهل "دبيل" أنَّه لا قدرة لهم على مواصلة القتال، فطلب أهلُها الصلحَ والأمان، فاستجاب لهم حبيبُ بن مسلمة، وكتب لهم كتابًا كان صفتُه كما يذكر "البلاذري" في "فتوح البلدان": "بسم الله الرَّحمن الرحيم: هذا كتابٌ من حبيب بن مسلمة لنصارى أهل دبيل ومجوسِها ويهودِها شاهدِهم وغائبهم: إنِّي أمَّنتكم على أنفسكم وأموالِكم وكنائسكم وبِيَعكم وسُور مدينتكم، فأنتم آمِنون، وعلينا الوفاء لكم بالعهدِ ما وفَّيتم وأدَّيتم الجزيةَ والخراجَ، شهِدَ الله وكَفى بالله شَهيدًا. (وختم: حبيب بن مسلمة)".

ثمَّ وصل المسلمون مدينةَ "تفليس" ومنطقةَ "أران"، فصالحَهم على الجزية، وكتب لهم كتابًا مثل صفة كتاب دبيل، جاء فيه: "بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتابٌ من حبيب بن مسلمة لأهل تفليس من منجليس من جرزان القرمز - بالأمانِ على أنفسهم وبِيَعِهم وصوامعهم وصلوَاتهم ودينهم على إقرار بالصَّغَار والجزية على كلِّ أهل بيتٍ دينار".

وبذلك قام حبيب بن مسلمة بفتح كامل بلاد أرمينية في فترةٍ وجيزة، ونتيجة لمعاهدات الصُّلح بين أغلب بَلْداتها اعتنقَ كثيرٌ من الأرمن الإسلامَ؛ حيث شهدَت خلافةُ عثمان بن عفان رضي الله عنه تثبيتَ الإسلام بأرمينية.

كان مجاب الدعوة
أجمع الرواة على أن أهل الشام كانوا يثنون على حبيب بن مسلمة ثناء حسنًا، ويعتقدون فيه منتهى الصلاح، لهذا كانوا يقولون "كان مجاب الدعوة"، وقد أورد ابن عساكر في خصاله وحسنِ أخلاقه فصلًا في "تاريخ دمشق".

ومما يدلك على صلاحه، ما رواه ابن عساكر أن حبيب بن مسلمة دخل العلياء بحمص فقال: وهذا من نعيم ما ينعم به أهل الدنيا، ولو مكثت فيه ساعة لهلكت، ما أنا بخارج منه حتى أستغفر الله تعالى فيه ألف مرة، قال فما فرغ حتى ألقى الماء على وجهه مرارًا (لأنه كان يخشى عليه).

ومن شدة تقواه وصلاحه، كان دائمًا يلح على معاوية بالعمل بسيرة أبي بكر وعمر، وكان معاوية يخشاه لهذا السبب، فقد روى ابن عساكر عن ابن عجلان قال: لما أتى معاوية موت حبيب بن مسلمة سجد، ولما أتاه موت عمرو بن العاص سجد، فقال له قائل: يا أمير المؤمنين سجدت لوفدين وهما مختلفان. فقال أما حبيب: فكان يأخذني بسنة أبي بكر وعمر، وأما عمرو بن العاص: فيأخذني بالإمرة فلا أدري ما أصنع.

من مناقبه القيادية
وقد كان القائد المسلم "حبيب بن مسلمة" مِن كبار قادَة صدر الإسلام، نشأ منذ حداثَته على حبِّ الجهاد، روى ابن عساكر أنَّ حبيبًا ذهب في خلافة أَبي بكر إلى الشَّام للجهاد وهو صغير، فكان على كردوس من الكراديس في اليرموك؛ حيث اعتادَ على حنكة القِتال وضراوة المعارك.

وكان يُقال لحبيب بن مسلمة: "حبيب الرومي" و"حبيب الروم"؛ لكثرةِ جهاده فيهم، ولدربَتِه في مقابلتهم والتغلُّب عليهم. وقد أجمع الرواة أنه كان رفيقًا بالجند، مع رِقَّةٍ وزُهدٍ كانا فيه على شجاعتِه وبسالَته.

وروى ابن عساكر أن حبيب بن مسملة كان رجلا تام البدن، فدخل على عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فقال له عمر: إنك لجيد القناة، قال حبيب: إني جيد سنانها، فأمر به عمر يدخل دار السلاح، فأدخل فأخذ منها سلاحًا ورحل.

وروي أن حبيب بن مسلمة كان يستحب إذا لقي عدوًا أو ناهض حصنًا قول "لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم"، وإنه ناهض يومًا حصنًا فانهزم الروم، فقالها المسلمون فانصدع الحصن.

ولإدمان حبيب بن مسلمة الحرب أصبح مشهورًا بالشجاعة، محبوبًا من الناس، منوهًا باسمه على ألسن الشعراء، وفيه يقول حسان بن ثابت بعد حادث مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه:

يا أيها النـــاس أبدوا ذات أنفســــــــكم **** لا يستوي الصدق عند الله والكذب
قوموا بحق مليك الناس تعترفوا **** بغارة عصب من بعدها عصب
فيهم حبيب شهاب المـــوت يقدمهم **** مستلئمًا قد بدا في وجهه الغضب

ويقول شريح بن الحارث:

ألا كل من يدعى حبيبًا ولو بدت *** مروءته يفدي حبيب بني فهر
همــــام يــــقود الخـــــيل حـــتى كأنما *** يطأن برضراض الحصا جاجم الجمر

وفاة حبيب بن مسلمة رضي الله عنه
قد اختلف المؤرخون في محل وفاته، فقال البلاذري في فتوح البلدان: إنه لما أمره عثمان بالانصراف إلى الشام، نزل حمص فنقله معاوية إلى دمشق، فتوفي فيها سنة 42هـ وهو ابن 35 سنة.

وقال ابن عبد البر: إن معاوية وجهه إلى أرمينية واليًا عليها، فتوفي فيها سنة 42هـ، وكذلك قال ابن سعد وابن عساكر، وإنه مات فيها ولم يبلغ الخمسين، فرحمه الله ورضي عنه.

[1] ابن سعد: الطبقات الكبرى، ط؛ دار صادر، 7/ 409 - 410.
[2] أخرجه أبو داود (2750) في الجهاد: باب فيمن قال: الخمس قبل النفل، من طريق مكحول، عن زياد بن جارية التميمي، عن حبيب بن مسلمة الفهري، قال: " شهدت النبي صلى الله عليه وسلم نفل الربع في البدأة، والثلث في الرجعة " وإسناده صحيح، وصححه ابن حبان (1672).

المصادر والمراجع:
- البلاذري: فتوح البلدان، الناشر: دار ومكتبة الهلال- بيروت، عام النشر: 1988م.
- ابن عبد البر: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تحقيق: علي محمد البجاوي، الناشر: دار الجيل، بيروت
الطبعة: الأولى، 1412هـ / 1992م.
- ابن الأثير: أسد الغابة، الناشر: دار الفكر – بيروت، عام النشر: 1409هـ / 1989م.
- ابن عساكر: تاريخ دمشق، تحقيق: عمرو بن غرامة العمروي، الناشر: دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، عام النشر: 1415هـ / 1995م.
- رفيق العظم: أشهر مشاهير الإسلام في الحرب والسياسة، ط، 1909م.
عبد الكريم العلي: حبيب بن مسلمة الفهري. الموسوعة العربية.
- محمود ثروت أبو الفضل: غزاة حبيب بن مسلمة .. يوم فتح المسلمون أرمينية. شبكة الألوكة.

موقع قصة الاسلام
 
آخر تعديل:
رد: اعلامنا - متجدد

السلام عليكم

الإمام مسلم

الإمام مسلم اسمه ولقبه:
هو الإمام الحافظ المجوِّد الحُجَّة الصادق، أبو الحسين مسلم بن الحجاج بن مسلم بن ورد بن كوشاذ القشيري النيسابوري. وقُشَير قبيلة من العرب معروفة، ونيسابور مدينة مشهورة بخراسان من أحسن مدنها، وأجمعها للعلم والخير. وُلِد بنيسابور سنةَ 206هـ/ 821م.

الإمام مسلم .. الطفولة والنشأة:
نشأ الإمام مسلم في بيت تقوى وصلاح وعلم، فقد كان والده حجاج بن مسلم القشيري أحد محبي العلم، وأحد من يعشقون حلقات العلماء، فتربى الإمام وترعرع في هذا الجوِّ الإيماني الرائع. وقد بدأ الإمام مسلم (رحمه الله) رحلته في طلب العلم مبكرًا، فلم يكن قد تجاوز الثانية عشرة من عمره حين بدأ في سماع الحديث؛ قال الذهبي: "وأول سماعه في سنة ثماني عشرة من يحيى بن يحيى التميمي، وحج في سنة عشرين وهو أمرد".

شيوخ الإمام مسلم
للإمام مسلم رحمه الله شيوخ كثيرون، بلغ عددهم مائتين وعشرين رجلاً، وقد سمع بمكة من عبد الله بن مسلمة القعنبي، فهو أكبر شيخ له، وسمع بالكوفة والعراق والحرمين ومصر.

ومن أبرز هؤلاء الأئمة: يحيى بن يحيى النيسابوري، وقتيبة بن سعيد، وسعيد بن منصور، وأحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وأبو كريب محمد بن العلاء، وأبو موسى محمد بن المثنى، وهناد بن السري، ومحمد بن يحيى بن أبي عمر، ومحمد بن يحيى الذهلي، والبخاري، وعبد الله الدَّارِمِي، وإسحاق الكوسج، وخلق سواهم.

تلاميذ الإمام مسلم
علي بن الحسن بن أبي عيسى الهلالي، وهو أكبر منه، ومحمد بن عبد الوهاب الفرَّاء شيخه، ولكن ما أخرج عنه في (صحيحه)، والحسين بن محمد القباني، وأبو بكر محمد بن النضر بن سلمة الجارودي، وعلي بن الحسين بن الجنيد الرازي، وصالح بن محمد جزرة، وأبو عيسى الترمذي في (جامعه)، وأحمد بن المبارك المُسْتَمْلِي، وعبد الله بن يحيى السرخسي القاضي، ونصر بن أحمد بن نصر الحافظ، وغيرهم كثير.

مؤلفات الإمام مسلم
للإمام مسلم رحمه الله مؤلفات كثيرة، منها ما وُجد، ومنها ما فُقد؛ ومن هذه المؤلفات:

- كتابه الصحيح، وهو أشهر كتبه.
- كتاب التمييز.
- كتاب العلل.
- كتاب الوُحْدَان.
- كتاب الأفراد.
- كتاب الأَقْران.
- كتاب سؤالاته أحمد بن حنبل.
- كتاب عمرو بن شعيب.
- كتاب الانتفاع بأُهُبِ السِّباع.
- كتاب مشايخ مالك.
- كتاب مشايخ الثوري.
- كتاب مشايخ شعبة.
- كتاب من ليس له إلا راوٍ واحد.
- كتاب المخضرمين.
- كتاب أولاد الصحابة.
- كتاب أوهام المحدثين.
- كتاب الطبقات.
- كتاب أفراد الشاميين.

منهج الإمام مسلم في الحديث
كتب الإمام مالك رحمه الله كتاب الموطأ، أودعه أصول الأحكام من الصحيح المتفق عليه، ورتبه على أبواب الفقه، ثم عُني الحفاظ بمعرفة طرق الأحاديث وأسانيده المختلفة، وربما يقع إسناد الحديث من طرق متعددة عن رواة مختلفين، وقد يقع الحديث أيضًا في أبواب متعددة باختلاف المعاني التي اشتمل عليها.

وجاء محمد بن إسماعيل البخاري إمام المحدثين في عصره، فخرَّج أحاديث السنة على أبوابها في مسنده الصحيح بجميع الطرق التي للحجازيين والعراقيين والشاميين، واعتمد منها ما أجمعوا عليه دون ما اختلفوا فيه، وكرَّر الأحاديث يسوقها في كل باب بمعنى ذلك الباب الذي تضمنه الحديث، فتكررت لذلك أحاديثه حتى يقال: إنه اشتمل على تسعة آلاف حديث ومائتين، منها ثلاثة آلاف متكررة، وفرَّق الطرق والأسانيد عليها مختلفة في كل باب.

ثم جاء الإمام مسلم بن الحجاج القشيري (رحمه الله)، فألَّف مسنده الصحيح، حذا فيه حذو البخاري في نقل المجمع عليه، وحذف المتكرر منها، وجمع الطرق والأسانيد، وبوَّبه على أبواب الفقه وتراجمه، ومع ذلك فلم يستوعب الصحيح كله، وقد استدرك الناس عليه وعلى البخاري في ذلك. قال الحسين بن محمد الماسرجسي: سمعت أبي يقول: سمعت مسلمًا يقول: "صنَّفت هذا - المسند الصحيح - من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة".

وقد استغرقت مدة تأليفه لهذا الكتاب خمسة عشر عامًا، قال أحمد بن سلمة: "كنت مع مسلم في تأليف صحيحه خمس عشرة سنة". وقد ألَّفه في بلده، كما ذكر ابن حجر في مقدمة فتح الباري حيث قال: "إن مسلمًا صنف كتابه في بلده، بحضور أصوله في حياة كثير من مشايخه، فكان يتحرز في الألفاظ، ويتحرى في السياق".

ثناء العلماء على الإمام مسلم
قال أبو قريش الحافظ: سمعت محمد بن بشار يقول: "حُفَّاظ الدنيا أربعة: أبو زرعة بالري، ومسلم بنيسابور، وعبد الله الدَّارِمِي بسمرقند، ومحمد بن إسماعيل ببخارى".

ونقل أبو عبد الله الحاكم أن محمد بن عبد الوهاب الفراء قال: "كان مسلم بن الحجاج من علماء الناس، ومن أوعية العلم".

وقال الحافظ أبو علي النيسابوري: "ما تحت أديم السماء أصحُّ من كتاب مسلم في علم الحديث".

وقال عنه صاحب أبجد العلوم (صديق بن حسن القنوجي): "والإمام مسلم بن الحجاج القشيري البغدادي أحد الأئمة الحفاظ، وأعلم المحدثين، إمام خراسان في الحديث بعد البخاري".

وقال أحمد بن سلمة: "رأيتُ أبا زرعة وأبا حاتم يقدمان (مسلمًا) في معرفة الصحيح على مشايخ عصرهما".

من كلمات الإمام مسلم الخالدة
- قوله للإمام البخاري: "دعني أُقبِّلْ رجليك يا أستاذ الأُسْتَاذِينَ، وسيِّد المحدثين، وطبيب الحديث في علله".

وفاة الإمام مسلم
عاش الإمام مسلم 55 سنة، وتُوفِّي ودفن في مدينة نيسابور سنةَ 261هـ/ 875م. رحمه الله رحمة واسعة، وجزاه عن المسلمين خير الجزاء.

المراجع
- الذهبي: سير أعلام النبلاء.
- ابن حجر: تهذيب التهذيب.
- القنوجي: أبجد العلوم.
- عبد الرحمن السديس: التعريف بالإمام مسلم وكتابه الصحيح.
موقع قصة الاسلام
 
رد: اعلامنا - متجدد

السلام عليكم

ابن بشكوال

تعريف وجيز بالإمام الحافظ ابن بَشْكُوال (494 - 578هـ/1101 - 1183م) أحد أعلام قرطبة في الحديث والتاريخ وغيرهما من العلوم الإسلامية، الذي آثر التفرغ للعلم على الولايات، وقضى عمره المَديد طالبًا للخير ومطلوبًا فيه، فتلقى العلم عن كثير من أئمة عصره، وتحمل عنه العلم أعداد كبيرة لا تُحصى كثرة، ولم يقنع بهذا الأثر الجليل الذي خَلّفه من طلبة العلم، فقد أبقى أيضًا تراثًا زاخِرًا مباركًا، وهو مصنفاته الحفيلة في فنون العلم المختلفة، والتي بلغت خمسين تأليفًا.

نسب ابن بشكوال ونشأته:
هو الإمام المتقن الحجة، الحافظ الكبير، الناقد المجود، المؤرخ، الفقـيه، محـدِّث الأندلس وراويتها، وأحد أعلام المؤرخين وأصحاب الأخبار المحققين، في العصر المرابطي: أبو القاسم خَلَـف بن عبد الملك بن مَسعود بن موسى بن يوسف بن دَاحَهْ بن دَاكَهْ بن نصر الأَنصاري الخَزرجي، الأندلسي، ابن بشكوال، القاضي، المالِكي، الزاهد، المعروف بـ "ابن بَشْكُوال القُرْطُبي".

ولد في قرطبة وفيها نشأ يوم الاثنين ثالث ذي الحِجة سنة 494هـ / 1101م. تنتسب أسرته إلى شُرِّيُّون Sorrion من نواحي بلنسية. أما الاسم بشكوال فيأتي من كلمة "بَسكوال" الإسبانية نسبة إلى بَسكا ومعناها عيد الفصح.

حياة ابن بشكوال العلمية:
بدأ ابن بشكوال حياته العلمية منذ حداثة سنه، فقد كان والده أبو مروان من أهل الفقه والقراءات، كما أن أخاه الأصغر منه أبا عبد الله محمد بن عبد الملك كان من أهل الرواية والفقه أيضًا، وكلاهما سمع من أبيه، فتلمذ له وروى عنه.

وطلب أبو القاسم العلم في قُرْطُبة وإشبيلية، ولم يرحل من الأندلس، لكنه تحمل عن جماعة من أهل المشرق بالإجازة، وشيوخه نحو المئة. أولهم: أبو بكر يحيى بن خَلَف بن زكريا الفِهْري القُرْطُبي، كما تلمذ في قرطبة لآخرين، منهم: أبو الوليد بن رُشد الكبير الفقيه المالكي قاضي الجماعة في قرطبة (ت520هـ)، وأجازه أبو علي حسين بن محمد (ت 514هـ) كما سمع من علماء آخرين، ولمّا انتقل إلى إشبيلية سمع من أبي بكر بن العربي (ت 543هـ) وغيره، كما سمع أبا محمد بن عتّاب فأكثر عنه، وهو أعلى شيخ له، وأبا بحر بن العاص، وطبقتهما، وأجاز له أبو علي الصّدفي. وكان يكاتب طائفة من أهل المشرق ويكاتبونه.

ولي ابن بشكوال القضاء مدة في بعض نواحي إشبيلية نيابة عن أبي بكر ابن العربي، وعَقَد الشروط (الوثائق) بقرطبة، ولكنه مالبث أن تركه وانصرف إلى الدرس والتأليف في السِّير والتاريخ.

اكتسب ابن بشكوال معرفة واسعة بالحديث فيما كان يرويه ويسنده حتى وصفه ابن الأبّار بأنه كان آخر حجة في الحديث بقرطبة. كما اكتسب معرفة واسعة بتاريخ وطنه، ولم يكن له نظير في معرفة تاريخ الأندلس، قديمه وحديثه

تلاميذ ابن بشكوال:
وتلقى عن ابن بشكوال العلم عدد كبير، قال ابن الأبّار: "والرواة عنه لعلو الإسناد وسَعَة المسموع لا يُحْصَوْن كثرة". فمن أشهر تلامذته: الإمام البارع الحافظ المتقن ابن خير (ت 575هـ)، العلاّمة الحافظ ابن القنطري (561هـ)، الإمام، المحدِّث المتفنن قاضي الجماعة بمَرّاكُش ابن بقي بن مخلد (ت 625هـ)، والعلامة مسند الأندلس ابن السراج (ت 657هـ)، والمسند الفرضي المهندس القضاعي (ت 657هـ). وممن روى عنه أبي بكر بن سَمْحون، وأبي الحسن بن الضّحاك.

منزلة ابن بشكوال ومكانته:
وقد أشاد الأئمة بمنـزلة ابن بشكوال العالية التي لا تُدرك إلا بالجد التام، وصدق الصبر، وحسن النية، وحسبنا من ثنائهم الواسع قول ابن الأبّار: "بقية المُسْنِدين بقُرطبة، والمسلّم له في حفظ أخبارها ومعرفة رجالها... وكان رحمه االله متسعَ الرواية، شديد العناية هبا، عارفًا بوجوهها، حجة فيما يرويه ويسنده، مقلَّدًا فيما يُلقيه ويُسمعه، مقدَّمًا على أهل وقته في هذا الشأن، معروفًا بذلك، حافظًا، حافلًا، أخباريًا مُمَتَّعًا، تاريخيًا مفيدًا، ذاكرًا لأخبار الأندلس القديمة والحديثة، وخصوصًا لما كان بقُرطبة، حاشدًا مكثرًا، روى عن الكبار والصغار، وسمع العالي والنازل، وكتببخطه علمًا كثيرًا، وأسند عن شيوخه نَيِّفًا وأربع مئة كتاب بين كبير وصغير وعُمِّر طويلًا، فرحل الناس إليه، وأخذوا عنه، وانتفعوا به، ورغبوا فيه، وحدثنا عنه جماعة من شيوخنا الجِلّة، ووصفوه بصلاح الدِّخْلة، وسلامة الباطن، وصحة التواضع، وصدق الصبر للراحلين إليه، ولين الجانب، وطول الاحتمال في الكَبْرَة للإسماع رجاء المثوبة".

وكل هذه الخلال الجميلة -الذي ذكرها ابن الأبار- تتجلى في كتاباته، لذلك لم يجد أحدٌ من سبيل إلى الطعن فيه، وقد عاش طويلًا حتى جاوز الثمانين، وكان يكره أن يسأله أحد عن مولده، فكان يردّ عليه: "أقبل على شأنك، ليس من مروءة الرجل أن يخبر بسنه".

مؤلفات ابن بشكوال:
لقد ترك ابن بَشْكُوال تراثًا علميًا جليلًا، يدل على إمامته وحفظه وإتقانه، قال ابن الأبار عقب تسميته لبعض مصنفاته: "إلى غير ذلك من مؤلفاته ومجموعاته الشاهدة له بالحفظ والإكثار"، وتآليف هذا الإمام متنوعة ونافعة مع كثرتها، قال ابن خَلِّكان: "وله التصانيف المفيدة".

فقد ترك ابن بشكوال عددًا كبيرًا من المؤلفات، قيل إنها بلغت خمسين مؤلفًا، قال ابن الأبار: "وألف خمسين تأليفًا في أنواع مختلفة". وقد ذكرها الذهبي في تذكرته، وعامتها في علم الحديث وتراجم الرجال لاسيما رجال الحديث. أشهرها:

كتاب "الصلة":
في مجلدين، وقد جعله ابن بشكوال ذيلًا على "تاريخ علماء الأندلس" لابن الفرضي، وجمع فيه تراجم عدد كبير من علماء الأندلس وترجم فيه لأبيه، ويعدّ هذا الكتاب من أهم الكتب التي ألفها ابن بشكوال، واعترف معاصروه بقيمته ورأوا فيه كتابًا لا يستغني أهل الفقه عن النظر فيه والاحتجاح به، وفرغ ابن بَشْكُوال من تأليف هذا الكتاب الجليل سنة 534هـ. وقد اعتمد المؤلف فيه على مصادر أساسية أهمها: الرواية المتواترة، التي استقاها من شيوخه، ومن المكاتبات التي كانت بينه وبين غيره من العلماء، ومن النقل من الكتب التي سبقته في هذا الفن وخاصة كتاب ابن الفرضي وكتاب "جذوة المقتبس" للحميدي، وكان يقابل الروايات التي كتبت بخط من سبقوه ويعتمد على مصادر للتثبت من صحة الرواية.

وقد ذكر في كتابه رواة الحديث من الأندلسيين الذين عاشوا في الأندلس أو رحلوا عنها أو جاؤوا إليها، وكان يضيف إلى ذلك ما له قيمة علمية في هذه الرحلات، التي كانت في الأصل للحج، ولكن العلماء كانوا يعدونها فرصة للاطلاع العلمي على أحدث ما وصل إليه العلماء شرقًا وغربًا.

ووضّح ابن عبد الملك المَرّاكُشي منهج ابن الفَرَضي وابن بَشْكُوال في كتابيهما فقال: "إن الحافظ أبا الوليد رحمه االله رتّب أبواب كتابه على توالي حروف المعجم المعروف ببلاد المشرق .. وتبعه على ذلك الترتيب أبو القاسم بن بَشْكُوال في صلته تاريخه .. وجعل ابن الفَرَضي وابن بَشْكُوال الأسماء في الأبواب على طبقات المذكورين فيها، فقدّما الأسبق في الوجود فالأسبق، وعقّبا كل اسم من أسماء الأندلسيين بمن وجدوه من موافقه من الغرباء -وهم في مصطلحهما الطارئون على الأندلس من غيرها، سواء كان أصلهم منها أو من غيرها- إن وجدا له في الغرباء سميًا، وجعل الأسماء في كل باب على حسب الأكثر فالأكثر، والأشهر فالأشهر، وختما كل حرف بذكر مفاريد الأسماء الموجودة فيه بتقديم الأندلسيين وتأخير الغرباء إن وَجَداهُم".

ولم يكن ابن بشكوال يكتفي بعرض الجانب العام من شخصية المترجم له، بل كان يلمس الجوانب الخاصة من حياته، وكان في ذلك يبين حالة المجتمع في زمانه، ولم يكن يعنى بالجوانب الأدبية عند العالم، لذلك قلّت النصوص والشواهد في كتابه فلم يكن يشير إليها إلا نادرًا، إذ ركّز اهتمامه في ترجمته لرجال الفقه والحديث على الجانب الأخلاقي والسلوكي. وقد نشر الكتاب المستشرق الإسباني كوديرا Codera في مدريد في المكتبة العربية الإسبانية سنة 1883م.

وأثنى ابن الأبّار على كتاب الصلة مع الإشارة إلى بعض منهجه، فقال في سِياق كلامه عن مؤلفات ابن بَشْكُوال: "أجلُّها كتاب الصلة، سلّم له أَكْفاؤه فيه، ولم ينازعه أهل صناعته الانفراد به، ولا أنكروا مَزِيّة السَّبْق إليه، بل تشوّفوا للوقوف عليه، وأنصفوا من الاستفادة منه . وقد حمله عنه أبو العباس بن العريف الزاهد ممن يَعده في شيوخه، وصار إليّ ما كتب منه أبو القاسم بن حبيش على الاختصار وهو من كبار، وكان أبو الفضل عِياض وأبو محمد الرُّشَاطي -وناهيك بهما- يكاتبانه".

ومن المعروف أن ابن الأبار وضع ذليلًا لصلة ابن بشكوال سماه "كتاب التكملة لكتاب الصلة" سار فيه على نهجه. وكتاب ابن بشكوال عظيم الفائدة لا يستغني عنه أهل الأدب، ولا يكاد إنسان يجد فيه خطأ.

وقد اعتمد ابن بشكوال في تصنيف الصلة على تاريخ الأندلس لأبي بكر حسن بن مفرج بن حماد بن الحسين المعافري المعروف بالقُبَّشِي القرطبي الذي يبدو أنه ألف كتابه على غرار مصنف آخر في نفس الموضوع لابن عفيف، عنوانه: "الاحتفال في تاريخ أعلام الرجال في أخبار الخلفاء والقضاة والفقهاء". ونظر ابن بشكوال كذلك إلى معجم الرجال لأبي عمر المهدي، وإلى كتابين آخرين في الأدب والتاريخ لابن زورقة ، وكتاب آخر لابن عابد. ورجع ابن بشكوال كذلك إلى كتاب "طبقات النحويين واللغويين" لابن خزرج الفقيه، وإلى تاريخ فقهاء طليطلة وقضاتها لأبي جعفر أحمد بن عبد الرحمن الأنصاري بن مطاهر.

وقد أكمل فوات "الصلة" مؤلفون آخرون، متبعين طريقة ابن بشكوال، هم: أبو بكر بن محمد بن عبد الله بن سفيان بن سِيدالَّة التجيبي (ت سنة 558هـ/ 1162م) وهو من أهل قَونَكَة بكتابه "مجموع في رجال الأندلس"، ويوسف بن أبي عبد الله بن سعيد بن أبي زيد اللِّرِّي (ت سنة 575هـ/ 1179م)، وهو من أهل ليرية. ويقول ابن الأبار في ترجمته في كتاب التكملة إنه: "كان قد شرع في تذييل كتاب ابن بشكوال"، وأنه "ألف كتابًا في طبقات الفقهاء من عصر ابن عبد البر إلى عصره". ووضع ابنْ الزبير كذلك ذليلًا على صلة ابن بشكوال سماه "صلة الصلة" (نشره ليفي بروفنسال سنة 1938م).

كتاب "الغوامض والمبهمات من الأسماء":
ولابن بشكوال كتاب "الغوامض والمبهمات من الأسماء" وهو من الكتب التي اتسعت روايتها، وهو مطبوع متداول. وهو معجم لكبار رواة الحديث وذوي الأسماء العسيرة التهجية أو التي تختلط بغيرها من الأسماء، فوضّحها، وقد نسج فيه على منوال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد". وقد أثنى الأئمة على هذا الكتاب في إتقانه وسعة جمعه رَغْم عدم ترتيبه، قال الإمام الذهبي: "يُنبئ عن إمامته"، وقال زين الدين عبد الرحيم بن الحسين العراقي: "وهو أكبر كتاب فيه (يعني في معرفة المُبْهَمات)، جمع فيه ثلاث مئة حديث، وواحدًا وعشرين حديثًا، ولكنه على غير ترتيب"، وقال ولي الدين العراقي: "وهو أنفس كتاب صُنِّف في المُبْهَمات .. غير مرتب، فتصعب الاستفادة منه على من أراد ذلك". وقال السيوطي: "وهو أكبر كتاب في هذا النوع وأنفسُه"، وقال شمس الدين السخاوي: "وهو أجمعها".

كتاب "الفوائد المنتخبة من الحكايات المستغربة":
وهو عشرون جزءًا في مجلدٍ واحد، ويُعد هذا الكتاب من كتب الفوائد الحديثية، التي يُعنى أصحاهبا فيها بانتقاء الغرائب والأفراد من مروياهتم، لذا فإهنا تشتمل على الصحيح وغيره. وقد أسند ابن بَشْكُوال كل ما أورده فيها، سواء أكان من الأحاديث المرفوعة أو الموقوفة أو الحكايات، أو غير ذلك. ولعله رأى في حكاية الإسناد البراءة من العهدة فيما ساقه من الروايات الباطلة التي لم يبيِّن أمرها.

كتاب "المستغيثين بالله تعالى":
وله كتاب "المستغيثين بالله تعالى عند المهمات والحاجات والمُتَضَرِّعين إليه سبحانه بالرغبات والدعوات وما يسّر االله الكريمُ لهم من الإجابات والكرامات"، واقتبس منه ابن حجر في الإصابة في تمييز الصحابة، وهذا الكتاب يتحدث عن كريم إجابة االله تعالى، كاشف الكَرْب ومجيب دعوة المضطر، لمن صَدَق في استغاثته ربه، وصَدَق في توكله عليه، وصَدَق في إيمانه به، مع تضمنه أدعية للنجاة والفَرَج . وهو في جملته عبارة عن قصص وحكايات عن النبي صلى االله عليه وسلم وأصحابه، وعن بعض الأنبياء السابقين، وعن الصالحين والداعين من أمة نبينا محمد صلى االله عليه وسلم ومن الأمم السالفة. وقد ساق المؤلف قسمًا منه بإسناده، واكتفى في قسم آخر منه بذكر أسانيد المؤلفين الذين نقل عن كتبهم. والكتاب جليل القدر، يرقق القلب، ويسلي النفس، ويبعث على اليقين، ويدعو إلى الصلاح. لكن فيه بعض الأخبار الواهية التي يُعتذر عنها بإيراد الإسناد.

كتاب "معجم الشيوخ":
وقد أثنى ابن الأبار عليه ورواه واقتبس منه، قال: "وله معجم في مشيخته مفيد، قد كتـبته، ومن أغفل منهم في صِلته أثبته في هذا الديـوان (يعني التكملة) واستدركته" وقد تقدم أن شيوخ ابن بشكوال نحو المائة، ومعجم الشيوخ هذا مفقود.

كتب أخرى:
ولابن بشكوال عدة مصنفات أخرى، منها كتاب "ذِكر من روى الموطّأ عن مالك" في جزأين، رتّب أسماءهم على حروف المعجم فبلغ عددهم ثلاثة وسبعين رجلًا. وكتاب "المحاسن والفضائل في معرفة العلماء الأفاضل". وله تاريخ صغير في أحوال الأندلس، كثيرًا ما نقل عنه المَقّري. وله "الزيادات على كتاب الاستدراك على أبي عُمر بن عبد البَر الحافظ في كتابه الاستيعاب في الصحابة رضي االله عنهم أجمعين لابن الأمين القُرْطُبي". وله "زهاد الأندلس وأئمتها". وكتاب "قضاة قرطبة"، ومن كتبه: "أخبار ابن المبارك"، "أخبارالأعمش"، "أخبار ابن وهب"، وله في أخبار الترمذي، وابن عيينة، والنسائي، وإبراهيم الحربي، وأبي داوود، وغيرها.

وفاة ابن بشكوال:
وبعد تلك الحياة الحافلة بالجد والعطاء توفي ابن بشكوال رحمه االله تعالى، وذلك في بلده (قرطبة) ليلة الأربعاء لثمان خلون من شهر رمضان، سنة 578هـ / 1183م، وله ثلاث وثمانون سنة وتسعة أشهر وخمسة أيام، ودفن بمقبرة قرطبة بقرب قبر الإمام الفقيه يحيى بن يحيى بن كثير الليثي تلميذ إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمهم الله جميعًا.

وختامًا: فإن هذا البحث ذكّر بتلك الشخصية الفذة، المتفننة في التحمل والأداء، والمجوِّدة في التأليف والعطاء، التي وقفت مدتها على العلم والعمل، واغتنمت في الخير دهرها لتعُِلّ بعد النَّهَل، وما زال عَبيرها يَفوح، وأَرِيجها يَلوح، من خلال مؤلفاتها المُدَبِّجة المباركة، التي ما تفتأ تُذكر فتُشكر، وتُنشر فتُكبر، فكم عَوّل عليها المستفيد، واستمد منها المستزيد. فرحمة االله على هذا الإمام، وعلى سائر أئمة الإسلام، وصلى االله وسلم على البشير النذير، والسراج المنير، سيدنا محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه أجمعين، وآخر دعوانا أن الحمد الله رب العالمين.

المصادر والمراجع:
- ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة، تحقيق: عبد السلام الهراس، الناشر: دار الفكر للطباعة - لبنان
سنة النشر: 1415هـ / 1995م.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق: مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط
الناشر : مؤسسة الرسالة، الطبعة: الثالثة، 1405هـ / 1985م.
- قاسم علي سعد: محدث الأندلس ابن بشكوال شخصيته ومؤلفاته، مجلة جامعة أم القرى لعلوم الشريعة واللغة العربية وآدابـها - جامعة أم القرى بمكة المكرمة، ج١٦ ،ع٢٨ ،شوال ١٤٢٤هـ.
- آنخل جنثالث بالنثيا: تاريخ الفكر الأندلسي، ترجمة: حسين مؤنس، مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، 2008م. مركز دراسات الأندلس وحوار الحضارات.
- نهلة الحمصي: ابن بشكوال، الموسوعة العربية العالمية.
موقع قصة الاسلام
 
رد: اعلامنا - متجدد

السلام عليكم

شعيب الأرنؤوط المحقق المحدث

لَمَحَاتٌ من حياة العلامة شعيب الأرنؤوط
هو شعيب بن محرم الأرنؤوط، ينحدر نسبه من أسرة ألبانيَّة الأصل، هاجرت إلى دمشق سنة 1926م واستقرَّت بها، لسبب يعود رُبَّما إلى اعتقاد والده فضل الشَّام وسُكناها، فقد كان والده محبًّا للعلماء حريصًا على مصاحبتهم.وُلد الشيخ شعيب الأرنؤوط في مدينة دمشق سنة 1928م، ونشأ في ظلِّ والدَيه نشأةً دينية خالصة، تعلَّم خلالها مبادئَ الإسلام، وحفظ أجزاءً كثيرة من القرآن الكريم، ولعلَّ الرَّغبة الصَّادقة في الفهم الدَّقيق لمعاني القرآن الكريم، وإدراك أسراره، هي من أقوى الأسباب التي دفعته إلى دراسة اللُّغة العربيَّة في سنٍّ مبكِّرة، فمكث ما يربو على السَّنوات العشر يختلف إلى مساجد دمشق ومدارسها القديمة، قاصداً حَلَقات اللُّغة في علومها المختلفة، من نحو وصرف وأدب وبلاغة وما إلى ذلك.

طلب العلامة شعيب الأرنؤوط للعلم وشيوخه:
تَلْمَذ الشيخُ في علوم العربيَّة لكبار أساتذتها وعلمائها في دمشق آنذاك، منهم الشيخ صالح الفرفور، والشيخ عارف الدُّوَجي - اللذان كانا من تلاميذ علامة الشَّام في عصره الشيخ بدر الدين الحسَني - فقرأ عليهم أشهر مصنَّفات اللُّغة والبلاغة العربيَّة؛ منها: شرح ابن عقيل، و(كافية) ابن الحاجب، و(المفصَّل) للزمخشري، و(شذور الذهب) لابن هشام، و(أسرار البلاغة) و(دلائل الإعجاز) للجُرجاني.

وممن قرأ عليه أيضاً: الشيخ سليمان الغاوجي الألباني، الذي كان يشرح لطلاَّبه كتاب (العوامل) للبَركوي، و(الإظهار) للأطَهْلي، وغيرهما.

وبعد هذه الرِّحلة الطَّويلة الشاقَّة مع العربيَّة، اتجَّه الشيخ لدراسة الفقه الإسلامي، فلزم أكثر من شيخ يقرأ عليه كتب الفقه، ولا سيَّما تلك المصنَّفة في الفقه الحنفي، مثل: (مراقي الفلاح) للشرنبلالي، و(الاختيار) للمَوْصلي، و(الكتاب) للقدوري، وحاشية ابن عابدين.

وقد استغرقت دراسته للفقه سبعَ سنوات أخرى، تخللها دراسة أصول الفقه، وتفسير القرآن، ومصطلح الحديث، وكتب الأخلاق، وكان في تلك المرحلة قد جاوز الثلاثين.

اشتغال العلامة شعيب الأرنؤوط بالتحقيق:
لمس الشيخ - في أثناء دراسته للفقه - القصورَ الواضح عند شيوخه ومن عاصرهم في معرفة صحيح الحديث من سقيمه، وذلك جعله يدرك أهميَّة التخصص في علم السُّنة ليتسنَّى تحقيق كتبها، ومن ثمَّ تمييز صحيحها وضعيفها، فعقد العزم على الاضطلاع بهذه المهمَّة الصَّعبة، فترك لأجلها مهنةَ تدريس اللُّغة العربيَّة التي كان يزاولها منذ سنة 1955م، وفرَّغ نفسه للاشتغال بتحقيق التُّراث العربي الإسلامي.

وكانت بدايته الأولى في (المكتب الإسلامي) بدمشق سنة 1958م، حيث رَأَسَ فيه قسم التَّحقيق والتَّصحيح مدَّة عشرين عاماً، حقَّق فيها أو أشرف على تحقيق ما يزيد على سبعين مجلداً من أمَّهات كتب التُّراث في شتَّى العلوم.

ثم بدا له أن ينتقل إلى العمل مع (مؤسَّسة الرِّسالة) في مكتبها بعَمَّان سنة 1982م، ليترأَّس من جديد قسم تحقيق التُّراث التَّابع لها، فكان عملُه فيها أنضجَ وأرحب مدى، ويمكن القول: إنَّ أهمَّ إنجازاته في تحقيق التُّراث قد تمَّت في أثناء عمله في هذه المؤسَّسة التي تُعد بحقٍّ رائدةَ بعث التُّراث العربي الإسلامي.

ولعلَّ ما كتبه الدكتور (بشَّار عوَّاد معروف) في مقدمته لكتاب (سير أعلام النُّبلاء) في معرِض حديثه عن تحقيق الكتاب، يجلِّي نواحيَ مهمَّة من طبيعة العمل الذي نهض به الشيخ الأرنؤوط في قسم تحقيق التُّراث بالمؤسَّسة، يقول: ".. ثم توَّج عمله - صاحب الرسالة - بأن ندب لمراجعة الكتاب والإشراف على تحقيقه، عالماً بارعاً، متأبهاً عن الشُّهرة، قديراً على تذليل الصعاب، فطيناً لإيضاح المبهم، كفياً بتيسير العسير، هو الأستاذ المحدِّث الشيخ شعيب الأرنؤوط، وقد عرفتُ لهذا العالم فضلَه الكبير على هذا السِّفر النَّفيس، آثِرَ ذي أثير حين اشترط أن يُقام التَّحقيق على أفضل قواعده.. وهو اليوم فارسُ هذا الميدان الخطير الذي ضرب آباطه ومغابنه، واستشفَّ بواطنه".

تلاميذ العلامة شعيب الأرنؤوط:
تخرَّج على يد الشيخ شعيب الأرنؤوط في التحقيق عددٌ غير قليلٍ من طلبة العلم، منهم: محمد نعيم العرقسوسي، وإبراهيم الزيبق، وعادل مرشد، وعمر حسن القيَّام، وأحمد عبد الله، وعبد اللَّطيف حرز الله، وأحمد برهوم، ورضوان العرقسوسي، وكامل قره بللي.

وقد قرَّ الشيخ عينًا حين رأى كل واحدٍ من هؤلاء قادرًا على القيام بأعباء التعامل الصَّحيح مع علوم السُّنة والاستقلال بعمله.

وأثَرُ الشيخ الأرنؤوط واضحٌ جليٌ في الكتب التي حقَّقها هؤلاء، الذين حفظوا له فضلَه عليهم ورعايته لهم.

يقول الشيخ نعيم العرقسوسي في مقدمة تحقيقه لكتاب (توضيح المشتبه) لابن ناصر الدين: "وأخَصُّ الشكر وأجزَلُه، وعظيمُ الوفاء وأجملُه، إلى من لولا رعايتُه وعنايته ما كنت في عِداد من يُعنى بتحقيق التُّراث، إلى من هو جديرٌ بكل تقديرٍ واحترامٍ، وأهلٌ لكل تكريمٍ وإعظامٍ، إلى فضيلة الشيخ المفضال المعطاء المحتسب أستاذي شعيب الأرنؤوط حفظه الله".

ويقول الأستاذ إبراهيم الزيبق أيضًا في مقدمة تحقيقه لكتاب (طبقات علماء الحديث) لابن عبد الهادي: "وبعدُ.. هل تكفي كلمة شكر أزجيها لأستاذي وشيخي شعيب الأرنؤوط؟ وهل تجزي عني كلمة ثناء أكتبها له بحروف المحبة والصدق؟.. إن ما بعنقي له أوسعُ من الشكر، وأجزل من الثناء، إنَّ ما فتح عليه عينيَّ من أمر الحياة، وأنا أتلمَّس طريقي بعقلٍ غضٍّ وقلبٍ مرهفٍ جعل أيامي معه سنين في عمقها وغناها، ثم أخذ بيدي في عالم التَّحقيق، فمنحني ثقتَه وما أغلاها، وأنار دربي بعلمه وما أغزرَه، فلَك يا أستاذي شكرٌ أوسع من الشُّكر، وثناءٌ أعظم من الثَّناء، والله يتولَّى عنِّي حُسنَ جزائك".

ويقول الأستاذ عمر حسن القيَّام في مقدمة تحقيقه لرسالة ابن رجب الحنبلي (شرح حديث اللهمَّ بعلمك الغيب): "وشجَّعني على المضيِّ قُدُماً في هذا الطَّريق شيخي المحدِّث العلاَّمة شعيب الأرنؤوط أحد شيوخ هذا الفنِّ في هذا العصر، والعَلَم الذي نشر من نفائس السُّنة النَّبوية ما يقضي بنبالة قدره، ومن ارتضاني للعمل في هذا العلم الشَّريف بعد سياحة غير قصيرة في علوم اللُّغة والأدب، فله منِّي أجزل شكرٍ وأوفاه على حُسْن صنيعه معي، وإيثاره إياي بنفيس أوقاته".

وقد كانت علاقةُ الشيخ بتلاميذه علاقةَ الصَّديق بأصدقائه، فكان قريباً منهم، حريصاً على نفعهم وهدايتهم، ولم يكن يفرض عليهم آراءه وأحكامه، بل كان يحثُّهم على أن يُعملوا عقولهم، ويبدوا حجَّتهم، وكثيراً ما كان يستشيرهم، وينزل عند رأيهم، مما كان له أثره الطَّيب في نشأتهم وتعلُّمهم.

منهجُ العلامة شعيب الأرنؤوط في التَّحقيق:
للشيخ منهجٌ واضحٌ مستتبٌّ في التحقيق، تجده مطبَّقاً في معظم الكتب التي حقَّقها، أو أشرف على تحقيقها، وكثيراً ما كان يعرض هذا المنهج في مقدماته الضافية التي كان يصدِّر بها هذه الكتب، والتي تشتمل في الغالب - فضلاً عن (منهج التَّحقيق) - على ترجمةٍ وافيةٍ للمؤلِّف ودراسةٍ شاملةٍ للكتاب ووصفٍ دقيقٍ للنُّسخ التي اعتمدها، ونماذجَ من هذه النُّسخ.

إنَّ المحقِّق الأصيل عند الشيخ الأرنؤوط، لا ينحصرُ عملُه في أن يُخرج النصَّ مصحَّحًا كما كتبه المؤلِّف وحسْب، وإنما يتعدَّى ذلك إلى تتبُّع ما أورده المؤلِّف من أفكار، ورجَّحه من أقاويل، وبيان ما جانبَ فيه الصَّوابَ، ولذا كثيراً ما نجده يخالف مؤلِّفي الكتب التي يحقِّقها في بعض آرائهم وأحكامهم، كما قد يخالف كبارَ العلماء المحقِّقين ممن سبقوه، القدماء منهم كالحافظ ابن حجر، والمحدَثين كأحمد محمد شاكر. على أنه إذ يخالفهم، ويسجِّل مؤاخذته عليهم، يحرص كلَّ الحرص على أن يؤكِّد أن مخالفته إيَّاهم وانتقاده لهم، لا ينقص من قَدْرهم الجليل، ولا يغضُّ من قيمتهم، متمثِّلاً قول الإمام أحمد رحمه الله: "لم يعبر الجسر إلى خراسان مثلُ إسحق بن راهويه، وإن كان يخالفنا في أشياء، فإن النَّاس لم يزل يخالف بعضهم بعضاً".

والواقع أنَّ هذا الأسلوب المتَّزن في النَّقد مِن أَظهر ما يتميَّز به منهج الشيخ الأرنؤوط في التَّحقيق، إذ قلَّما تجده في كتابات المشتغلين بهذا الفن في الوقت الحاضر.

آثار العلامة شعيب الأرنؤوط في التحقيق:
بلغ ما حقَّقه الشيخ شعيب الأرنؤوط أو أشرف على تحقيقه، نيِّفاً وأربعين ومئتي مجلد، شملت كتب السُّنة النَّبوية، والفقه، وتفسير القرآن، والتَّراجم، والعقيدة، ومصطلح الحديث، والأدب وما إلى ذلك.

أما أهمُّ هذه الأعمال وأبرزها فهي:

أ- في المكتب الإسلامي:
1- (شرح السُّنة) للبغوي، ستة عشر مجلَّداً.
2- (روضة الطَّالبين) للنَّووي، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، اثنا عشر مجلَّداً.
3- (مهذَّب الأغاني) لابن منظور، اثنا عشر مجلَّداً.
4- (المبدع في شرح المقنع) لابن مفلح الحنبلي، عشرة مجلَّدات.
5- (زاد المسير في علم التَّفسير) لابن الجوزي، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، تسعة مجلَّدات.
6- (مطالب أولي النُّهى في شرح غاية المنتهى) للرحيباني، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، ستَّة مجلَّدات.
7- (الكافي في فقه الإمام المبجَّل أحمد بن حنبل) لابن قدامة، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، ثلاثة مجلَّدات.
8- (منار السَّبيل في شرح الدَّليل) لابن ضويان، مجلّدان.
9- (المنازل والدِّيار) لأسامة بن منقذ، مجلّدان.
10- (مسند أبي بكر) للمروزي، مجلّد.

ب- في مؤسَّسة الرِّسالة:
1- (سير أعلام النُّبلاء) للذَّهبي، خمسةٌ وعشرون مجلَّداً.
2- (الإحسان في تقريب صحيح ابن حبَّان) بترتيب الأمير علاء الدِّين الفارسي، ثمانية عشر مجلَّداً.
3- (سنن النَّسائي الكبرى)، بالاشتراك مع حسن شلبي، اثنا عشر مجلَّداً.
4- (العواصم والقواصم في الذبِّ عن سنة أبي القاسم) لابن الوزير، تسعة مجلَّدات.
5- (سنن التِّرمذي)، ستة مجلَّدات.
6- (سنن الدَّارقطني)، بالاشتراك مع حسن شلبي، خمسة مجلَّدات.
7- (زاد المعاد في هدي خير العباد) لابن القيِّم، بالاشتراك مع الشيخ عبد القادر الأرنؤوط، خمسة مجلَّدات.
8- (تاريخ الإسلام) للذهبي، بالاشتراك مع الدكتور بشار عواد معروف، صدر منه أربعة مجلَّدات.
9- (التعليق الممجَّد شرح موطَّأ محمد) لأبي الحسنات اللَّكنَوي، أربعة مجلَّدات.
10- (مسند الإمام أحمد)، صدر في خمسين مجلداً، ضمن (الموسوعة الحديثيَّة الكبرى) التي تنوي مؤسَّسة الرِّسالة إخراجها بإشراف الشيخ.
11- (الآداب الشَّرعيَّة والمنح المرعية) لابن مفلح الحنبلي، بالاشتراك مع عمر حسن القيَّام، أربعة مجلَّدات.
12- (طبقات القرَّاء) للذهبي، بالاشتراك مع الدكتور بشار معروف، مجلَّدان.
13- (موارد الظمآن بزوائد صحيح ابن حبَّان) للهيثمي، بالاشتراك مع رضوان عرقسوسي، مجلَّدان.
14- (شرح العقيدة الطحاويَّة) لابن أبي العز، بالاشتراك مع الدكتور عبد الله التُّركي، مجلَّدان.
15- (رياض الصَّالحين) للنَّووي، مجلَّد.
16- (المراسيل) لأبي داود، مجلَّد.

ومما هو جدير بالذكر أن العلامة شعيب الأرنؤوط رحمه الله ليس شقيقا للشيخ عبد القادر الأرناؤوط رحمه الله تعالى وإن كان قد جمع بينهما أمران:

الأول: أن لقبيهما واحد، وذلك لأن الأتراك كانوا يطلقون على أهل البلقان المنحدرين من أصل ألباني لقب (أرناؤوط) ولقد ولد الشيخ عبد القادر في إقليم كوسوفا، بينما ولد شعيب الأرناؤوط في دولة ألبانيا.

والأمر الثاني الذي جمع بينهما: أنهما عملا معا في قسم تحقيق التراث بالمكتب الإسلامي وأخرجا معا كتبا بالاشتراك، منها: زاد المعاد لابن القيم.

ثم إن انشغال الشيخ عبد القادر بالدعوة عن طريق الخطابة والتدريس أكبر من انشغال شعيب الأرناؤوط الذي كرس أغلب وقته لإخراج كتب التراث محققة في حلل قشيبة ومن أهمها سير أعلام النبلاء للذهبي، حيث اشترك في إخراجه وأشرف على فريق العمل الذي قام بتحقيقه.

وفاة العلامة شعيب الأرنؤوط
توفي العلامة شعيب الأرنؤوط يوم الخميس 26 محرم 1438هـ الموافق 27 أكتوبر 2016م حيث وافته المنية في المملكة الأردنية الهاشمية عن عمر ناهز الـ 90 عامًا

المرجع:
كتاب: (المحدِّث شعيب الأرنؤوط، جوانبُ من سيرته وجهوده في تحقيق التُّراث)، تأليف: الدكتور إبراهيم الكوفحي، صادر عن دار البشير بعمَّان، الطبعة الأولى، 1423هـ - 2002م.
موقع قصة الاسلام
 
رد: اعلامنا - متجدد

السلام عليكم

ابن حيان القرطبي..شيخ مؤرخي الأندلس

يتبوأ ابن حيان القرطبي الأندلسي مكانة مرموقة بين مفكري الأندلس؛ نتيجة لما أخرجه من تراث تاريخي لا يمكن الاستغناء عنه في دراسة تاريخ المغرب والأندلس، وهو بلا شك -كما يؤكد دكتورمحمود علي مَكي: "أعظم مؤرخ أنجبته الأندلس، بل والغرب كله الإسلامي والمسيحى منه على السواء"، وقد أشاد المستشرق الهولندي دوزي Dozy (ت 1883م) بصدق الرواية عند ابن حَيَّان؛ ناهيك عن شهادة المؤرخ والفيلسوف ابن خلدون (ت 808هـ / 1406م) في مقدمته فقال أنه: "قَيَّد شوارد عصره واستوعب أخبار أفقه وقطره". فمن هو ابن حيان شيخ مؤرخي الأندلس وعمدتهم؟

نسب ابن حيان ونشأته:
هو الإمام، المحدث، المؤرخ، النحوي، صاحب التصانيف، أبو مروان حيان بن خلف بن حسين بن حيان بن محمد بن حيان بن وهب بن حيان القرطبي الأندلسي الأخباري الأديب، شيخ الأدب ومؤرخ الأندلس ومسندها. ابن أسرة عُرفت بقربها من السلطة، فقد كان جده الكبير حيان مولى للأمير عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان مؤسس الدولة الأموية في الأندلس. ولد ابن حيان في قرطبة حاضرة الأندلس سنة 377هـ / 987م، وكان أبوه خلف بن حيان كاتبًا لشؤون المال والإدارة لدى المنصور بن أبي عامر حاكم الأندلس المطلق، أي أحد وزرائه بمفهوم عصرنا، وتوطدت علاقة الوالد بالمنصور فلازمه في غدواته وغزواته إلى الممالك النصرانية في الشمال.

شيوخه وتلاميذه:
ذكره الحافظ أبو علي الغساني في شيوخه وقال: "كان عالي السن، قوي المعرفة مستبحرا في اللآداب بارعا فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه، وأحسنهم نظما له. لزم الشيخ أبا عمر بن أبي الحباب النحوي صاحب أبي علي البغدادي، ولزم أبا العلاء صاعد بن الحسن الربعي البغداذي وأخذ عنه كتابه المسمى بالفصوص، وسمع الحديث علي أبي حفص عمر بن حسين بن نابل وغيره". وروى عنه أبو محمد عبد الرحمن بن عتاب، وأبو الوليد مالك بن عبد الله السهلي، والحافظ أبو علي الغساني، وقد أثنى عليه الحافظ الغساني في فصاحته وصدقه وبلاغته وقال: وسمعته يقول:" التهنئة بعد ثلاث استخفاف بالمودة، والتعزية بعد ثلاث إغراء بالمصيبة".

ولم يذكر الذين ترجموا لابن حيان أنه تنقل في مدن الأندلس، أو غادرها إلى بلاد المشرق، كغيره من العلماء والأدباء. وقد كتب ابن حيان في كتبه عن أبيه روايات تاريخية عدة عن أحداث وقعت في قصور الخلافة الأموية في الأندلس، ساهمت في إيقاظ حاسته التاريخية، ومكنته من الوقوف على شؤون الدولة ودراسة مختلف التيارات السياسية.

كما سنحت لابن حيان، وهو معاصر لدول الطوائف، ومدوِّن لأحداثها، فرصة لدراسة أحوال هذه الدويلات عن قرب، فقد ولى الوزارة لبني جهور سادة قرطبة وحكامها عن طريق نظام الجماعة أو الشورى، وكان أحد معاوني أبي الوليد محمد بن جهور ابن أبي الحزم بن جهور مؤسس حكومة الشورى، واستمر في وظيفة الوزارة حتى انهيار دولة بني جهور، إثر افتتاح المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية لها في سنة 462هـ /1070م، وعلى إثر هذا الفتح أرسل ابن حيان برسالة تهنئة إلى المعتمد بن عباد.

عصر ابن حيان السياسي والفكري:
وُلد أبو مروان ابن حيان القرطبي سنة 377هـ/ 987م، وتوفي سنة 469هـ/ 1076م، وعلى ذلك فإنه شهد في مطلع شبابه وحدة الأندلس ومنعتها على عهد الدولة العامرية، ثم شهد قيام الفتنة وزوال خلافة قرطبة وقيام دول ملوك الطوائف في الأندلس. آلمه كثيرًا ما آلت اليه حال الأندلس من تمزق وفرقة بعد أن نعمت بالوحدة والمنعة أيام الخلافة الأموية، التي يسميها ابن حيان بأيام الجماعة، فأخذ في تدوين تاريخ عصره بعمقٍ وإسهاب.

أما الوضع السياسي:
فقد شاهد ابن حيان في شبابه تغيرات سياسيّة خطيرة كان لها آثارها الخطيرة على الوجود الإسلامي في الأندلس، إذ انهارت الدولة العامرية المسيطرة على شؤون الحكم في الأندلس، وأعقبها ترنح الخلافة الأموية على مدار 40 عامًا، ثم سقطت لينفرط عقد المدن الأندلسية ووحدة البلاد السياسية، فقامت على أنقاض الأندلس دويلات عدة عرفت بدول الطوائف وكان بعضها لا يزيد على كونه مدينة ودولة، فيما أخذت البقايا الأسبانية تعيد تنظيم قواتها وتبدأ في توجيه جيوشها صوب الأراضي الأندلسية.

وعلى الصعيد الاقتصادي:
وبعد انهيار الخلافة ثم سقوطها حدثت الانتكاسة وعم الكساد الاقتصادي وتدهور العمران، وحفل العصر بالأزمات إلى حدِّ المجاعة وأفل نجم قُرْطُبَة عمرانيًا وبشريًا، وصور ابن حَيَّان الوضع قائلًا: ".. وطمست أعلام قصر الزهراء ..، فطوي بخرابها بساط الدنيا وتغير حسنها؛ إذ كانت جنة الأرض، فعدا عليها قبل تمام المائة من كان أضعف قوة من فارة المسك، وأوهن بنية من بعوضة النمروذ، والله يسلط جنوده على من يشاء، له العزة والجبروت".

وعلى الصعيد الاجتماعي:
شهد المجتمع الأندلسي في ظل الخلافة والحجابة مرحلة المزج والانصهار بين العرقيات المتنوعة ليحدث نوع من التجانس لم تشهده الأندلس من قبل؛ إلا أن السخائم العرقية والإقليمية عادت مرة أخرى لتؤثر سلبيًا في هذا التجانس، ولتمزق وحدة الأندلس من جديد بظهور النزعة العنصرية؛ ولذا لم يغب عن ابن حَيَّان أيضًا أن يعبر عن تلك النزعة في الأندلس في تلك الفترة؛ وذلك من خلال حديثه عن اجتماع خازنَي بيت المال في عهد الأمير محمد، وهما "عبد الله بن عثمان بن بسيل، ومحمد بن وليد بن غانم "واستدعى الأمر أن يكتب ابن غانم كتابًا قدم نفسه فيه، فما كان من ابن بسيل إلا أن قال له: "والله لا أطبع كتابًا تتقدمني أنت فيه، وأنا شامي وأنت بلدي". كما أشار أيضًا إلى الفتنة بين اليمنية والمضرية.

أما الحالة الثقافية:
فالعجيب أنه وعلى النقيض من الوضع السياسي؛ لم تكن الثقافة الأندلسية يومًا أشد إشعاعًا، وأقوى خصوبة كما كانت عليه في تلك الفترة. ففي الغالب تكون الأزمة "تحديًا" يوجب "الاستجابة" -حسب مفهوم أرنولد توينبي، وغالبًا ما تناط النخبة المفكرة بريادة الاستجابة على الصعيدالمعرفي. ويجمع الدارسون على ازدهار الحركة الثقافية في عصر ملوك الطوائف وذلك راجع إلى تداعيات وظلال العصر السابق، بما يؤكد أن الظواهر الفكرية في تطورها وفي أفولها تحتاج إلى فترة زمنية طويلة.

هذا وقد مجد الأندلسيون العلماء والفقهاء ورجال الأدب، وكان لهؤلاء القيادة والريادة في المجتمع الأندلسي. أما العلماء فقلَّ من تجده متبحرًا في علم واحد أو علمين؛ بل فيهم من يعد من الفقهاء والمحدثين والفلاسفة والأدباء والمؤرخين واللغويين، ولم يقتصروا على العلوم النظرية بل كانت لهم دراسات في علوم عملية كالفيزياء، وعلم العقاقير والصيدلة، والزراعة (علم الفلاحة) والذي أبدعوا فيه وصنفوا التصاميم المشهورة، مسجلين ما توصلت إليه تجاربهم في النباتات والتربة.

وهذا التعدد المعرفي لعب دورًا مهمًا في إثراء فكر ابن حَيَّان خاصة وأنه كان مكثرا من الاطلاع على تلك الكتب، وسهلت له تلك النهضة العلمية الاطلاع على تاريخ الممالك النصرانية أيضًا، مما يرجح أنه كان يعرف عجمية الأندلس وأن ما أورده ابن حَيَّان من أخبار عن إسبانيا النصرانية ينم عن معرفته الدقيقة بكل أحوالهما وأنساب حكامها.

وكان لكثرة مطالعاته التاريخية أن تجنب الروايات الخرافية والأسطورية ولم يشع ذلك في كتاباته؛ مما كون وعى تاريخى ناقد لديه ومكنه من أن يصور ما وُجد فى البلاط الأندلسي من دسائس وفتن بين الحجاب والوزراء تصويرًا نقديًا لا يعتمد على القص فقط.

كما كانت قرطبة في القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي، غدت أحد أعظم مراكز العلم والحضارة في العالم الإسلامي، وأضحت جامعتها الشهيرة في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري إحدى أعظم جامعات الأندلس قاطبة. فاستفاد ابن حيان من هذا الجو العلمي سواء الذي وفره له والده، أو الكفاءات العلمية المتوافرة في قرطبة، فانكبّ على دراسة الحديث والأدب واللغة، وبرع في الأدب والرواية حتى غدا أحد أعلامها ومحققيها. وكانت نشأته في أسرة ميسورة الحال ترتبط بالأوساط العليا في قرطبة تتيح له الاطلاع على أفضل ما في مكتبات قرطبة، خصوصًا المكتبة الملحقة بقصر الخلافة، كبرى مكتبات العالم آنذاك ولم تقارن إلا بمكتبات بغداد والقاهرة.

والخلاصة أن الفكر التاريخي قد اذدهر إبان تلك الحقبة التي شهدت "القرن الذهبي" في تاريخ الفكر الإسلامي، وخير نموذج هو حامل لواء التاريخ في الأندلس "ابن حَيَّان القرطبي".

مكانة ابن حيان العلمية والفكرية:
أجمع معظم الذين ترجموا لابن حيان القرطبي الأندلسي على أنه كان إمام المؤرخين في الأندلس؛ لما تميزت به كتاباته التاريخية من سعة ودقة وتفصيل وجودة وجمال وأسلوب. لذا يحظى بتقدير كبير من المؤرخين، وعموم الكتاب ببلده يعتمدونه في الأخبار، وينقلون عنه تراجم الرجال، ويعجبون بأدبه وأسلوبه البليغ، حتى قال فيه تلميذه أبو علي الغساني (ت 498هـ / 1105م)، وهو من هو علما ودينا وقد ذكره ضمن شيوخه: "كان عالي السن قوي المعرفة، مستبحرا في الآداب بارعا فيها، صاحب لواء التاريخ بالأندلس، أفصح الناس فيه وأحسنهم نظما (أي تأليفًا) له".

ونقل ابن بشكوال عن أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عون قوله: "كان أبو مروان بن حيان فصيحا في كلامه، بليغا فيما يكتبه بيده. وكان لا يعتمد كذبا في ما يحكيه في تاريخه من القصص والأخبار". وقال الحميدي في جذوة المقتبس: "صاحب التاريخ الكبير في أخبار الأندلس وملوكها، وله حظ وافر من العلم والبيان وصدق الإيراد ..، وأدركناه بزماننا". أما ابن الآبار فيسميه "جهينة أخـبار المروانية، ومؤرخ آثارها السلطانية".

وقيل إن ابن حيان ثلب أبا الحزم بن جهور، فتوعّده حفيده عبد الملك بن جهور، وحلف أن يسفك دمه، فأحضره أبوه أبو الوليد محمد وقال: والله، لئن طرأ على ابن حيّان أمر، لا آخذنّ أحدا فيه سواك، أتريد أن يضرب بنا المثل في سائر البلدان: بأنّا قتلنا شيخ الأدب والمؤرخين ببلدنا تحت كنفنا، مع أن ملوك البلاد القاصية تداريه وتهاديه؟ وأنشد له نظما، وقال: سبحان من جعله إذا نثر في السماء، وإذا نظم تحت تخوم الماء".

ونوه به ابن حزم في رسالته في فضل الأندلس وذِكر رجالها، بقوله: ""ومنها كتاب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس تأليف أبي مروان بن حيان، نحو عشرة أسفار، من أجلّ ما ألف في هذا المعنى. وهو في الحياة بعد، لم يتجاوز الاكتهال". وكذلك نوه به الشقندي في رسالته المعروفة. وعده ابن خلدون مؤرخ الأندلس والدولة الأموية.

ولا يستغرب من أهل الأندلس أن يحيطوا نابغة من نبغائهم بهذه الهالة من التقدير، وهم الذين عرفوا بفرط الاعتزاز ببلدهم، والاعتداد برجالاتهم إلى حد التعصب. على أنه في الواقع شخصية فذة لا جدال في قيمة ما قدمه إلينا من مادة تاريخية دسمة، تتوزع ماضي الأندلس من لدن الفتح العربي إلى زمنه، وحاضرها المعاصر له، في كتابيه "المقتبس" و"المتين"، بمجلداتهما العديدة التي لم يصلنا منها إلا أقل القليل.

ونُقل عن دوزي أنه قال: "إن كتاب العرب يمتدحون في كتب ابن حيان صدق الرواية بقدر ما يعجبون بجمال أسلوبه وجزالة لغته ورنين عباراته. وأنا أؤيدهم في ذلك كل التأييد، ولا أتردد في القول بأنه كتبه -لو بقيت- لألقت على تاريخ الأندلس الغامض ضياء باهرا، وصورته لنا أحسن تصوير، ولوجدنا أنها تبلغ من الامتياز مبلغا يجعلنا نستغني بها عن غيرها من الكتب التي تتناول تاريخ هذه العصور".

وبالجملة فهو من كبار المؤرخين الذين ظهروا في مغرب الوطن العربي، وإن لم يكتب تاريخا عاما يشمل البلاد العربية والإسلامية، كما فعل ابن جرير الطبري وابن الأثير وابن كثير وأبو الفداء وابن خلدون وغيرهم من أئمة التاريخ العام، لكنه وقد قصر تاريخه على بلاده الأندلس، سدّ فراغا لولاه لم يسدّ وعمل في دائرته الخاصة عملا متقنا، فلحق بركب المؤرخين المجيدين والمؤلفين المتميزين في هذا الشأن، ويبالغ بعض الكتاب في شأنه فيجعلونه أعظم مؤرخ ظهر في الأندلس.

مؤلفات ابن حَيَّان (التصنيف والمحتوى):
ارتكزت كتابات ابن حيان على الأندلس وما مرّت به من أحداث منذ فتحها سنة91هـ/ 711م وحتى عصر الطوائف. لذلك اعتبر أحد أكبر مؤرخي الأندلس، خصوصًا أن مؤرخي الأندلس اللاحقين لم ينسجوا على منواله، وينهجوا نهجه، واكتفوا بالكتب الإقليمية الضيقة، فلم يضطلع أحد منهم بكتابة موسوعة مثل موسوعته، لكن ثمة مؤرخ يشبه ابن حيان في أسلوبه النقدي القوي، وهو الوزير لسان الدين بن الخطيب مؤرخ غرناطة.

وقد ترك ابن حيان مؤلفات كثيرة في التاريخ، وغيره، قاربت الخمسين مؤلفا، فُقد معظمها، ولم يبق منها إلا اليسير. واشتمل محتوى تلك الأعمال من مختلف الجوانب حيث اشتملت على جوانب عديدة، سياسية، واقتصادية، واجتماعية، وثقافية. وأهم تلك المؤلفات هي: "المقتبس في تاريخ الأندلس" وكتاب "المتين"، وكتاب "البطشة الكبرى"، وكتاب "أخبار الدولة العامرية"، وكتاب في "تراجم الصحابة"، وكتاب "تاريخ فقهاء قرطبة". ومجموع هذه الكتب يشكل ما يطلق عليه اسم "التاريخ الكبير" لابن حَيَّان.

كتاب المقتبس في أخبار الأندلس:
خصص ابن حيان كتابه الرئيس والأكثر شهرة "المقتبس في أخبار الأندلس" لمعالجة تاريخ الأندلس منذ الفتح الإسلامي حتى نهاية عصر الخليفة الحكم المستنصر. ويقدم لنا فيه أوسع رواية عن تاريخ الأندلس في القرون الهجرية الأربعة التي يغطيها الكتاب بصورة لم تتكرر في كل ما وصلنا من كتب عن تاريخ الأندلس. وهو كتاب من أعاظم كتب التاريخ، لم تصلنا سوى أجزاء متفرقة منه. وموضوعه تاريخ الأندلس منذ الفتح العربي سنة 91هـ حتى آخر خلافة الحكم المستنصر سنة 336هـ. وهو أحد الكتب التي فاخر بها ابن حزم في رسالته في فضل الأندلس قال: "ومنها كتاب التاريخ الكبير في أخبار أهل الأندلس تأليف أبي مروان بن حيان، نحو عشرة أسفار، من أجلّ ما ألف في هذا المعنى. وهو في الحياة بعد، لم يتجاوز الاكتهال".

ولم يعثر إلى الآن إلا على أربعة أجزاء من مجمل أجزاء "المقتبس" العشرة، وقد نشرت الأجزاء الأربعة، وهي: الجزء الثاني، ويتناول الفترة 232 - 267هـ، والجزء الثالث، ويتناول الفترة 275 - 298هـ، والجزء الخامس، ويتناول الفترة 299 - 330هـ، والجزء السابع، ويتناول الفترة 360 - 364هـ.

وفضلًا عن ذكر أخبار الأندلس، يأتي "المقتبس" -وبدقة- على بعض أخبار إسبانيا المسيحية، مما جعل باحثًا حديثًا يقرر بأن "ابن حيان ينبغي ان يُجعل في طليعة من يرجع إليهم عند الحديث عن تاريخ إسبانيا المسيحية حتى أواخر القرن العاشر الميلادي". ولعل ابن حيان كان يعرف عجمية مستعربي الأندلس، أو أنه استمد أخباره من المستعربين بقرطبة، وكانوا على اتصال بإخوانهم في الدين في شمال إسبانيا.

كتاب المتين:
لابن حيان أيضًا كتاب "المتين"، وفيه تناول بالتفصيل أخبار الفتنة، وقيام ممالك الطوائف في الأندلس من 399هـ إلى 462هـ، وضاع ضمن تراث الأندلس، إلا أن بعض الروايات يصفه بأنه يقع في 60 جزءًا. وكتاب المتين هو كتابُ ابن حيان الأصيل، لم يصلنا الا في مقتطفات ونتفٍ أوردها ابن بسام الشنتريني في كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة"، كما احتفظ ببعض فقرات الكتاب المؤرخون الذين أتوا بعد ابن بسام كابن الأبار وابن عذاري وابن الخطيب. وإن الفقرات التاريخية في كتاب ابن بسام الموسوعي، الذي أرخ فيه للأدب الأندلسي في القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي، مقتبسة في معظمها من كتاب "المتين" لابن حيان. يقول ابن بسام: "واعتمدت المائة الخامسة من الهجرة، فشرحت بعض محنها ..، وأحصيت علل استيلاء طوائف الروم على هذا الإقليم الأندلس ..، وعولت في معظم ذلك على تاريخ ابن مروان بن حيان ..، فإذا أعوزني كلامه، وعزني سرده ونظامه، عكفت على طللي البائد، وضربت في حديدي البارد". ويقول ابن بسام في موضع آخر من "الذخيرة" إنه يلخص أخبار ملوك الجزيرة الأندلس اعتمادًا على ابن حيان "لأني إذا وجدت من كلامه فصلًا قد أحكمه أو خبرًا قد سرده ونظمه، عولت على ما وصف ..؛ إقرارًا بالفرق، واعفاءً لنفسي من معارضة من أحرز بأفقنا في وقته قصـبات السبق".

كتاب أخبار الدولة العامرية:
كذلك خصّ فترة حكم المنصور بن أبي عامر بكتاب "المآثر العامرية" أو " أخبار الدولة العامرية المنسوخة بالفتنة البربرية"، وهو مؤلف ضخم، ضم أخبار الفترة الواقعة بين 336هـ إلى 399هـ، يقص فيه ابن حيان سيرة المنصور، وتفاصيل غزواته الخمسين.

كتاب البطشة الكبرى:
أمّا كتاب "البطشة الكبرى" فيتضمن تفاصيل قيام دولة بني جهور في قرطبة وسقوطها (422هـ - 449هـ)، إضافة إلى تفاصيل غدر المعتمد بن عباد واستيلائه على قرطبة وبطشه بحكامها بني جهور ونفيه لهم، وهم الذين استنجدوا به لإنقاذهم من غزوة المأمون بن ذي النون حاكم طليطلة.

وقد نقل مؤرخو الأندلس الذين جاؤوا من بعد ابن حيان معظم كتب الأخير وضمنوها في ثنايا كتبهم، فحفظوا لنا تراث أحد أهم أعلام الأندلس، ومؤرخها الأول بلا جدال.

ملاحظات على كتابات ابن حيان التاريخية:
هناك عدة ملاحظات حول أعمال ابن حيان التارخية من حيث أنه "أرخ للعدوتين الأندلس والمغرب" تأريخا شاملًا مؤسسًا على الاهتمام بالأخبار بالدرجة الأولى خاصة في كتابه "المقتبس"، ولم يحاول لسبب أو لآخر أن يكتب في تاريخ أي قطر من أقطار العالم والإسلامي، وإنما قَصَرْ نشاطه العلمي على العدوتين -المغرب والأندلس. والملاحظة الأخرى أنه ركّز بصفة خاصة على قُرْطُبَة التي كان يعتد بها أشد الاعتداد، متخذًا من ولاءه لبني أمية منطلقًا أساسيًا في كتاباته ؛ مما أدى ذلك إلى تسفيه خصومهم في الداخل والخارج .

وملاحظة أخرى تم رصدها من خلال العديد من مفرداته وهي تعدد مجالات المعرفة الاجتماعية والثقافية التي طرقها ابن حَيَّان وعكست لنا ألوانًا من الحياة الأندلسية الاجتماعية والثقافية؛ فنراه يرصد العديد من الظواهر الاجتماعية عندما يصور شرائح المجتمع بما فيها من صور الوشاية، والذم، والمكائد، وفساد القضاة، كما عكس الصراع الذي كان يدور بين الفقهاء والخليفة وأوضحت أيضًا مدى اهتمامه بالجانب الاقتصادي من خلال تعدد مفردات مثل" دار السكة" و"دار الضرب" و"خالص الذهب والفضة"، و"قبض الجباية"، و"تدليس العملة" الخ .

وهناك ملاحظة أخرى اتصفت بها بعض كتابات ابن حيان حيث اتصف بشيء لا يحمد عليه، ولا يعد من المميزات الحسنة، بل هو نقطة ضعف في تاريخه، تجعل القارئ لا يطمئن إلى كل ما يرويه أو ما يخبر به. ونعني بذلك الذمّ والطعن والتشنيع على الناس مما ضج منه غير واحد من العلماء والمؤرخين الذين نقلوا عنه واستفادوا منه، فكانوا يستخلصون المعلومات والإفادات التي تهمهم في الموضوع ويعرضون عن لمزاته ونيله من الأعراض والأشخاص الذين يترجم لهم. وابن بشكوال في كتابه "الصلة" أول من يفعل ذلك. ولما ترجم لابن حيان أثنى عليه الثناء الجميل، وأشار إلى ما ينتقد عليه من ذلك في صورة إبراء على عادة العلماء. إذ حكى عن الفقيه الصالح أبي عبد الله بن عون أنه رآه في النوم بعد وفاته، فسأله ما فعل الله به فقال: غفر لي. قال: فقلت له فالتاريخ الذي صنعت ندمت عليه؟ فقال: أما والله لقد ندمت عليه إلا أن الله عز وجل بلطفه عفا عني وغفر لي.

فهذه الحكاية صحّت أم لا، في سياقها الجميل اعتذار لطيف كان هو الإعلان من ابن بشكوال رحمه الله عن عدم موافقته على صنيع ابن حيان في نبش عيوب الناس ولو كانت واقعا ثابتا، فإنه لم يقدح في صدقه، ولكنه استنكر التشهير بعباد الله فيما أمرنا بستره وعدم البحث عنه، ولا سيما مع عدم المقتضي لذكره واستكمال فائدة الخبر بالسكوت عنه، فإنه حينئذ يصبح هِجاء، وهل يكون المؤرخ هَجَّاء.

المرجعية التاريخية لابن حَيَّان:
استند ابن حيان في تاريخه إلى مرجعيات عدة منها: "المشاهدات العيانية" خاصة وأن عصره كان زاخرًا بالأحداث التي تستحق الرصد والتسجيل، واعتمد كذلك على"الروايات الشفوية" التي أخذها عن مقربيه ومكاتبيه، وهم أشخاص توافرت لديهم المعرفة بالحدث والثقة فيما يوردون من أخبار؛ فدوّن الكثير برواية هؤلاء كما استند أيضًا إلى"الوثائق الرسمية"، التي اطلع عليها بحكم نشأته في أسرة مقربة من بلاط الخلافة، أو ًاطْلَعهُ عليها والده حيث كان كاتبًا ووزيرًا مقربًا للعامريين، كما استند إلى آثار من تقدمه من الإخباريين والمؤرخين.

وقام بنقل مؤلفات هي الآن في عداد المفقود من التراث الأندلسي، وكان في المقتبس أكثر اعتماده على الكتب والنقل منها. وكان ابن حَيَّان قد عرف كيف يستفيد من جميع الكتب السابقة ذات القيمة التاريخية؛ ولذا اجتهد في أن يجمع أكبر عدد من المصادر التي تنوعت بتنوع الموضوعات التي عالجها في تاريخه الكبير منذ الفتح الإسلامي للأندلس حتى عصره.

خصائص وأسلوب الكتابة التاريخية عند ابن حَيَّان:
كان أسلوب ابن حيان يمتاز بالسهولة والوضوح والتعبير الدقيق عن الحقائق، وقوة التدليل والتفسير والتعليل، وامتاز بترابط الفكرة، وتخير المفردات والتراكيب العربية السليمة، وتخلص من قيود السجع ومحسنات البديع المتكلفة، وتدلنا كتاباته التاريخية على أدبه الرفيع مع التزام الدقة والأمانة التاريخية.

وبالاطلاع على ما أمكن من هذه المادة، نجد أنه حقا أديب متمكن واسع المعرفة جزل العبارة قوي الأسلوب، بحيث يعد من بلغاء كتاب عصره، إلا أنه سلم من آفة السجع الذي كان قد أصبح حلية الكتاب وعلامة البراعة. وهذه المكانة الأدبية هي التي جعلته متميزا بين المؤرخين بصفاء ديباجته وعلو لغته، لأن طبع الأديب فيه يغلب على طبع المؤرخ، حتى إنه يقع في كلامه بعض الألفاظ الغريبة أحيانا. ومع ذلك فهو في التاريخ نسيج وحده في عصره وبلده، استوعب تواريخ من سبقه لعهد الولاة وخلافة قرطبة إلى حين سقوطها. وسجل ما شهده من أحداث التاريخ الكبرى كأخبار الدولة العامرية، والفتنة البربرية وقيام ملوك الطوائف، وغير ذلك بدقة متناهية واستقصاء كامل، مما جعله المرجع الوحيد في هذه الفترة الخطيرة من تاريخ الأندلس الذي لا غنى عنه لكاتب أو باحث.

كماكان ابن حيان مفسرا للتاريخ، فطن إلى أهمية التفسير والتعليل في مجال كتابة التاريخ؛ وذكر السبب بالحدث قد استمد تفسيراته من الاستقراء الواعي للأحداث حيث قام بتعليل وتفسير العديد من الأحداث، وقد عول في تفسيره على عدة محاور منها: التعويل على العقل والاستقراء الواعي للأحداث، وكذلك على البعد المذهبي، ونراه أيضًا يعول على التفسير الإثني أو العرقي، كما استند في تفسيراته على البعدين الديني والأخلاقي.

اهتمام المستشرقين بكتابات ابن حيان:
نال ابن حَيَّان اهتمامًا كبيرًا من المستشرقين وعلى رأسهم دوزي الذي فطن مبكرًا إلى قيمة ما كتبه ابن حَيَّان، واستعان بمخطوطاته في كتاباته عن تاريخ الأندلس، وقام بإبراز مكانته بين مؤرخي الإسلام، وجاء من بعده المستشرق الإسباني فرانشيسكو كوديرا F.Codrea (ت 1917م) الذي نشر بعض الأبحاث استفاد فيها من المقتبس تحت عنوان "دراسات نقدية حول تاريخ الأندلس".

وهناك أيضًا جهود ملتشور أنطونيا Antonia (ت 1936م)، الذي يرجع إليه الفضل في نشر أول أثر تاريخي لابن حَيَّان، وقام بإعداد رسالته للدكتوراه حول ابن حَيَّان ومؤلفاته التاريخية، ونشر فصولًا حول هذا الموضوع في مجلة "مدينة الله" Ciudad de Dios"، ثم نال درجة الدكتوراه ببحثه هذا في سنة 1933م. وواصل الاهتمام بتاريخ ابن حَيَّان المستشرق الفرنسي ليفي بروفنسال Lévi Provençal (ت 1956م) خليفة دوزي، وتابَع عمله في محاولة كتابة تاريخ شامل للأندلس.

وهناك أيضًا دراسة قيمة نشرها بدرو تشالميتا Pedro Chalmeta بعنوان "الكتابات التاريخية الإسبانية خلال العصور الوسطى: المدونات العربية" نشرها في مجلة الأندلس" Al-Andalus، وناقش فيها إنتاج اثنين من كبار مؤرخي الأندلس هما: ابن حَيَّان، وابن عذارى المراكشي (ت720هـ/1320م). وبالنسبة لابن حَيَّان ناقش قضية تاريخ تأليف "المقتبس" بصورة تفصيلية. وهناك مقال المستشرقة ماريا خيسوس بيغيرا Viguera، ونشر في مجلة "القنطرة" حول التاريخ الذي كتب فيه ابن حَيَّان"، ومقال آخر لنفس الباحثة بعنوان "ملاحظات حول ابن حَيَّان" ونشرته في مجلة "شؤون عربية" والتي تصدرها جامعة الدول العربية في تونس في طبعتها الإسبانية سنة 1986م.

كما أن هناك دراسة ماريا لويسا آبيلاAvila Maria Lusia بعنوان "تاريخ كتابة المقتبس لابن حَيَّان" La Feche de redaccion del Muqtabis وهو منشور في مجلة "القنطرة" المجلد الخامس.

الدراسات العربية حول كتابات ابن حيان التاريخية:
أن عن الدراسات العربية حول كتابات ابن حيان التاريخية فكان أهمها على الإطلاق، دراسة الأستاذ الدكتور محمود علي مَكي عندما قام بتحقيق كتاب المقتبس - السفر الثاني- سنة 1973م واستعرض فيها قيمة ابن حَيَّان التاريخية ونشأته وشيوخه وأعماله ومنهجه في كتابة التاريخ، ثم تابع الدراسة سنة 2002م عندما قام بنشر السفر الثاني (الشطر الأول المكتشف حديثًا)، وهناك دراسات متخصصة حول ابن حَيَّان تضمنها عدد مجلة المناهل الذي صدر بمناسبة الندوة العلمية التي عقدت بالرباط عام 1981م حول ابن حَيَّان وآثاره التاريخية، وحمل رقم 29، ونعرض باختصار لأهم تلك الأبحاث.

ومنها مقال الدكتور إحسان عباس حول "طريقة ابن حَيَّان في الكتابة التاريخية"، وتعرض فيه لمنهج الكتابة التاريخية عند ابن حَيَّان وتتبع فيه عددًا من النصوص، التي نص ابن حَيَّان في المقتبس على أنه نقلها عن مؤرخين سابقين، مثل ابن الْقُوْطِيَّة، والرَّازي، والزُّبَيْديّ، وابن حَزْم وانتهى من المقابلة بين ما كتبه ابن حَيَّان، وما ورد في أصول هؤلاء المؤرخين إلى نتيجة وهى أن "ابن حَيَّان لم يكن يرى في نفسه محض ناقل عن الآخرين، بل كان له من قدرته على التحليل والأسلوب الجميل، ما يقنعه بأنه لابد من أن يعيد كثيرًا مما كتبه غيره، ليكون التاريخ متناسقًا في مستوياته المختلفة".

ويلي هذا البحث مقال للدكتور مصطفى الشكعة بعنوان "أبو مروان ابن حَيَّان بين الأدب الإبداعي، وأدب كتابة التاريخ"، واستعرض فيه خصائص وأسلوب الكتابة لدى ابن حَيَّان، وأن الكتابة التاريخية لديه قد تحولت إلى أدب متميز. أما دراسة الدكتور محمد مفتاح عن "منهاجية ابن حَيَّان في تأريخ الأدب ونقده" وقام بتوجيه النظر إلى التراجم، التي ساقها ابن حَيَّان في تاريخه للشعراء، والأدباء، التي تبدو فيها خصائص الكتابة التاريخية عند ابن حَيَّان.

وهناك دراسة الدكتورة وداد القاضي واستعرضت فيه مسألة "الفكر السياسي لابن حَيَّان" والمهمات التي يجب على الخليفة أن يضطلع بها من وجهة نظر ابن حَيَّان سواء بالنسبة للجهاد ضد العدو الخارجي، أو موقفه من الفتن الداخلية بمختلف أشكالها السياسية والمذهبية.

وهناك دراسة قيمة عن فكر ابن حَيَّان التاريخي للأستاذ الدكتور محمود إسماعيل في كتاب "الفكر التاريخي في بلاد المغرب والأندلس"، وتضمن دراسة تقويمية لفكر ابن حَيَّان ورؤيته التاريخية وما له وما عليه.

وفاة ابن حيان القرطبي:
عاش المؤرخ ابن حيان عمرا طويلا إذ بلغ أكثر من 90 عامًا، حيث تُوفي في 27 من ربيع الأول سنة 469هـ / 1076م، ودفن يوم الأحد بعد صلاة العصر في مقبرة الربض في جنوب شرقي قرطبة، مثوى عظماء رجال الأندلس.

فرحم الله ابن حيان القرطبي شيخ مؤرخي الأندلس وحامل لواء التاريخ فيه.

المصادر والمراجع:
- ابن حيان: المقتبس في أخبار الأندلس، من التقديم الذي وضعه للكتاب الدكتور صلاح الدين الهواري، المكتبة العصرية، صيدا - بيروت، 2006م.
- ابن بشكوال: الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، عني بنشره وصححه وراجع أصله: السيد عزت العطار الحسيني، الناشر: مكتبة الخانجي، الطبعة: الثانية، 1374هـ / 1955م.
- د. أنور زناتي: حامل لواء التاريخ في الأندلس ابن حيان القرطبي، دار زهران للنشر والتوزيع، د.ت.
- عبد الله كنون: نقطة ضعف في تاريخ ابن حيّان، مركز الدراسات والأبحاث وإحياء التراث، المغرب.
- ابن حيان .. مؤرّخ الأندلس الضائع، موقع الجريدة، سبتمبر 2009م.
- أحمد توفيق الطيبي: الدولة العامرية وزمن الفتنة وممالك الطوائف في الأندلس كما أرخ لها ابن حيان القرطبي، جريدة الحياة، رقم العدد: (13400)، 24/4/1422هـ / 15/7/2001م.
موقع قصة الاسلام
 
رد: اعلامنا - متجدد

السلام عليكم

الطناحي .. العالم والإنسان

ازدهر تحقيق التراث العربي في مصر في مطلع القرن العشرين منذ أن حمل رايته شيخ العروبة أحمد زكي باشا، فأضاء طريقًا وعبّد نهجًا سلكه مِن بعده نفر كرام من حملة العلم وأئمته، فأخرجوا للناس كنوز أمتهم المخبوءة، ويسروا لهم الوقوف على التراث، حتى يتصل الحاضر بالماضي، وينتقل علم السلف إلى الخلف في سلامة وأمان، بعيدًا عن التصحيف والتحريف.

وحمل هذه الأمانة أعلام بررة من أمثال أحمد محمد شاكر ومحمود محمد شاكر ومحيي الدين عبد الحميد، وعبد السلام هارون، والسيد أحمد صقر ومحمد أبو الفضل إبراهيم ..، وهؤلاء الأفذاذ كانوا أشبه الناس بعلمائنا القدامى في سعة العلم ورحابة الأفق ورجاحة العقل، وعت صدورهم علوم العربية، فهي تنثال على أقلامهم دون كدّ أو تعب، وكتبوا صفحات مشرقة في صحائف الثقافة العربية.

وتتلمذ على هذا الجيل عدد من أبناء العربية النابهين من أمثال عبد الفتاح محمد الحلو ومحمود علي مكي، وإحسان عباس، ومحمد يوسف نجم ومهدي المخزومي .. وغيرهم. وكان محمود محمد الطناحي واحدًا من أبرز هذا الجيل، اتصل بالتراث العربي مبكرًا .. ناسخًا ومحققًا، حتى صار من خبرائه المعدودين في العالم، ولازم شيخ العربية محمود محمد شاكر وتوثقت صلته به، فأفاد منه علمًا غزيرًا، وهو إلى جانب ذلك حجة في فنون العربية وآدابها، بصير بعلومها، متقن للقرآن وقراءاته، كثير الرواية، حلو الحديث لا يمل جليسه.

المولد والنشأة:
في إحدى قرى محافظة المنوفية، ولد محمود محمد الطناحي في (23 من ذي الحجة 1353هـ / 29 من مارس 1935م)، وانتقل إلى القاهرة مع أسرته وهو في الثامنة من عمره إلى حي الدرب الأحمر بوسط القاهرة التاريخية، وبعد أن حفظ القرآن الكريم وتعلم مبادئ القراءة والكتابة التحق بمعهد القاهرة الديني التابع للأزهر، وحصل منه على الشهادة الابتدائية ثم الثانوية في سنة (1378هـ / 1958م)، والتحق بكلية دار العلوم ولم يواصل طريقه في الجامعة الأزهرية.

وفي ذلك الوقت اتصل بفؤاد السيد أمين المخطوطات في دار الكتب الذي أعجب بذكائه وشغفه بالمعرفة، فعهد إليه بنسخ بعض المخطوطات لحساب بعض المستشرقين الذين كانوا يترددون على دار الكتب، فنسخ أجزاءً من كتاب الوافي بالوفيات للصفدي وكنز الدرر لابن أيبك الداوردي، والمغازي للواقدي.

وفي أثناء تردده على دار الكتب اتصل بعدد من العلماء والباحثين العرب الذين كانوا يقصدون قائمة المخطوطات بدار الكتب من أمثال إسماعيل الأكوع من اليمن، وشاكر الفحام من سوريا، ومحمد بن شريفة من المغرب. وفي الوقت نفسه عمل مصححًا في مطبعة عيسى البابي الحلبي، وهي من أعرق المطابع ودور النشر في مصر والعالم الإسلامي، أخرجت كنوزًا كثيرة من التراث، وقد أوقفه عمله بالتصحيح على أشياء كثيرة، وحصَّل معارف واسعة.

في معهد المخطوطات العربية:
وبعد تخرجه في كلية دار العلوم سنة (1382هـ / 1962م) عمل معيدًا بمعهد الدراسات العربية التابع للجامعة الأمريكية، ولم يستمر في هذا العمل طويلاً، فانتقل سنة 1965م إلى معهد المخطوطات التابع لجامعة الدول العربية، الذي بدأ الاستعانة بعدد من شباب الباحثين في مجال المخطوطات كان من بينهم الطناحي وعبد الفتاح محمد الحلو.

وأكسبه العمل في المعهد خبرات واسعة بكنوز التراث العربي بفضل تلمذته على عالِمي المخطوطات الكبيرين محمد رشاد عبد المطلب وفؤاد السيد. وكان رشاد عبد المطلب كما يقول الطناحي: "من العلماء بالمخطوطات وأماكن وجودها، وكان لا يجارى في معرفة المطبوعات وأماكن طبعها شرقًا وغربًا، والفرق بين الطبعات، وعدد طبعات الكتاب المختلفة، ومن وراء ذلك كانت له صلات وثيقة بعلماء الدنيا من عرب وعجم، كنت لصيقًا به ملازمًا له عشر سنوات في معهد المخطوطات .. وتعلمت منه الكثير".

وقد اشترك الطناحي في البعثات التي كان يوجهها المعهد إلى البلاد التي احتوت خزائن كتبها على نوادر المخطوطات، لتصويرها وحفظها في المعهد لتكون تحت تصرف المحققين والباحثين، فسافر إلى تركيا مع بعثة المعهد سنة (1390هـ / 1970م)، والمملكة المغربية عامي (1392هـ / 1972م) و (1395هـ / 1975م)، والسعودية سنة (1393هـ / 1973م) واليمن سنة (1394هـ / 1974م).

رحلة كفاح وجهاد:
واصل الطناحي في أثناء عمله بالمعهد دراساته العليا، فحصل على الماجستير في النحو العربي من كلية دار العلوم سنة (1392هـ / 1972م) بتحقيق كتاب "الفصول الخمسون" لابن معط ودراسة آرائه النحوية، ونال درجة الدكتوراه من الكلية نفسها سنة (1398هـ / 1978م) برسالة موضوعها "ابن الشجري وآراؤه النحوية".

إلى جانب ذلك فقد كان يشتغل بإخراج عدد من كنوز التراث محققة تحقيقًا علميًّا، فأخرج في سنة (1383هـ / 1963م) بالاشتراك مع الطاهر أحمد الزوي ثلاثة أجزاء من كتاب "النهاية في غريب الحديث والأثر" ثم انفرد بتحقيق الجزأين الأخيرين من هذا الكتاب. ثم اشترك مع زميله عبد الفتاح محمد الحلو في إخراج واحد من أهم كتب التراجم، فبدأ في سنة (1394هـ / 1964م) نشر كتاب "طبقات الشافعية الكبرى"، في عشرة أجزاء، ثم أعاد نشره مرة ثانية مع مزيد من العناية والتدقيق سنة (1413هـ / 1992م).

وتوالت بعد ذلك أعماله في تحقيق نصوص تراثية بالغة القيمة، فنشر الجزء الثامن من كتاب "العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين" لتقي الدين الفاسي سنة (1389هـ / 1969م)، والجزء الأول من كتاب الغريبين - غريبي القرآن والحديث- للهروي سنة (1390هـ / 1970م) والجزأين السادس عشر والثامن والعشرين من كتاب تاج العروس للزبيدي في سنتي (1396هـ / 1976م) و(1414هـ / 1993م).

وهذا النشاط الوافر في إخراج كتب التراث لم يشغله عن مجالسة أئمة العلم وشيوخ المحققين والتلمذة على أيديهم، من أمثال محمود محمد شاكر وعبد السلام هارون ومحمد أبو الفضل إبراهيم، وأتاح له تردده عليهم وحضوره مجالسهم أن يقف على أبواب واسعة من العلم، وأن يستفيد بخبراتهم الواسعة في فن التحقيق.

وظل الطناحي وفيًا لهم دائم الذكر والدعاء فيما يكتب، عارفًا بفضلهم عليه..

ومن بين المشايخ الذين تردد عليهم وحضر مجالسهم: شيخ الإقراء في مصر عامر السيد عثمان، وكانت له مقرأة حافلة في مسجد الإمام الشافعي في يوم الجمعة، يؤمها القراء والدارسون، والفقيه الأصولي عبد الغني عبد الخالق الأستاذ في كلية الشريعة.

العمل بالجامعات العربية:
وبعد حصوله على الدكتوراه انتقل الطناحي للعمل باحثًا في مركز البحث العلمي وإحياء التراث الإسلامي بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، ثم أستاذًا بكلية الشريعة والدراسات الإسلامية بالجامعات نفسها. وقد عرف القائمون على الجامعة قدر الرجل وخبرته النادرة في تحقيق التراث، فلم يعامل مثل غيره من أساتذة الجامعة، وإنما وضعوه بإزاء الأساتذة: محمد متولي الشعراوي، ومحمد الغزالي، والسيد أحمد صقر، والسيد سابق، ومحمد قطب.

وهذه الأسماء اللامعة لعلماء العصر تنبئك بحق مكانة الطناحي وقدره.

وفي فترة إقامته هناك التي امتدت لأكثر من عشر سنوات نجح في تكوين مدرسة من تلامذته الذين أشرف على رسائلهم أو شارك في مناقشتها، كما نشر هناك تحقيقه لكتاب "منال الطالب في شرح طوال الغرائب" لمجد الدين بن الأثير سنة (1403هـ / 1983م)، وكتاب "الشعر" لأبي على الفارسي في مجلدين سنة (1409هـ / 1988م).

العودة إلى القاهرة:
وبعد عودته إلى القاهرة عمل أستاذًا بجامعة القاهرة في كلية الدراسات العربية والإسلامية، ثم انتقل سنة (1417هـ / 1996م) أستاذًا بكلية الآداب جامعة حلوان، وظل الطناحي على صلة بالجامعات العربية. فعمل أستاذًا زائرًا في كل من جامعة محمد بن سعود بالرياض سنة (1412هـ / 1991م)، وجامعة الكويت سنة (1415هـ / 1994م)، وجامعة العين بالإمارات المتحدة سنة (1418هـ / 1997م).

وخلال هذه السنوات اختاره مجمع اللغة العربية سنة (1410هـ / 1989م) خبيرًا في لجنة المعجم الكبير، وكان عمله في هذه اللجنة مثريًا لها بما كان يقدمه من تحقيقات ومراجعات تشهد بعلمه الواسع بالتراث، ومعرفته العميقة بمظانه، والتمرس بتحقيق مخطوطاته. كما اختير خبيرًا بمركز تحقيق التراث بدار الكتب المصرية، وانتخب عضوًا بالهيئة المشتركة لخدمة التراث العربي في معهد إحياء المخطوطات العربية.

وأخرج في هذه الفترة عددًا من عيون كتب التراث، فأخرج كتاب أمالي ابن الشجري في ثلاثة أجزاء سنة (1413هـ / 1992م)، وذكر النسوة المتعبدات لأبي عبد الرحمن السلمي، سنة (1414هـ / 1993م)، وأعمار الأعيان لأبي الفرج بن الجوزي سنة (1415هـ / 1994م). وجهود الطناحي في الكتب التي حققها وأخرجها تضعه في مصاف كبار العلماء الذين نهضوا بهذه الرسالة الجليلة من أمثال عبد العزيز الميمني وعبد السلام هارون ومحمود محمد شاكر.

مؤلفات الطناحي ومقالاته:
للطناحي مؤلفات أصيلة دار أكثرها حول نشر التراث، وهو العلم الذي قضى حياته خادمًا له، من ذلك كتابه النفيس "مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي" تعرض فيه لبواكير نشر التراث العربي، وتتبع مداخله في مصر وغيرها، وعرض لمراحل تطوره والأدوار التي مر بها، ومدارس التحقيق وأعلامه في مصر والعالم العربي، وتطرق لجهود دور النشر الأهلية والرسمية في نشر التراث. وله أيضًا: الموجز في مراجع التراجم والبلدان والمصنفات وتعريفات العلوم.

وتعد المقدمات التي كان يكتبها الطناحي للكتب التي قام بتحقيقها كتبًا أصيلة، تحدد أصول المنهج الذي ينبغي أن يلتزم به من يقوم بالتحقيق.

ووضع فهارس علمية لبعض كتب التراث، وهي تعد نماذج لما يجب أن تكون عليه الفهرسة للكتب التراثية، وهو عمل يحتاج إلى دقة ودأب وصبر، فوضع فهرسًا لكتاب "الأصول في النحو" لابن السراج ونشره في القاهرة سنة (1407هـ / 1986م)، وفهرس الأشعار لكتاب "ديوان المعاني" لأبي هلال العسكري، ونشره في العدد السابع والثلاثين من مجلة معهد المخطوطات العربية. وله بحوث علمية دقيقة نشرها في المجلات العلمية المتخصصة.

وفي العشر السنوات الأخيرة من حياته طلع على الناس بمقالاته البديعة التي كان يكتبها بانتظام في مجلة الهلال فكشفت عن جوانب جديدة، وأبانت عن تمكنه الشديد من الثقافة العربية، مع قدرة على الإبانة في أسلوب طلي جذاب، ومن يطالع هذه المقالات يعرف أن الرجل قد احتشد لها واستعد فهي ليست مما يقرؤه الناس من بعض الأقلام تحمل خواطر وآراء، وإنما هي تحمل علمًا وأدبًا، يدهشك ما ينثره بين ثنايا مقالاته من فوائد لغوية وتاريخية، هي خلاصة خبرته وملازمته للكتب ومشافهته أهل العلم.

شخصية الطناحي:
جمع الطناحي إلى علمه الواسع صفات وخلالا أسرت كل من التقى به وخالطه وجالسه فهو كريم الخلق، نقي النفس، خفيف الروح، عذب الحديث، فإذا تكلم وحكى بهر جلساءه بظرفه وفصاحته ونوادره التي لا يمل حديثها، فكان زينة المجالس والمحافل مع هيبة واعتداد بالنفس.

وهو وفيّ لشيوخه ومعلميه كثير الدعاء لهم إذا استشهد بواحد منهم أو عرض لذكراه، فإذا كانوا من الأحياء دعا لهم بمثل قوله: "أطال الله في الخير بقاءهم" ، وإذا كان أحدهم من الأموات قال: "برَّد الله مضجعه" أو "طيَّب الله ثراه".

وعلاقته بشيخه محمود محمد شاكر مثال نادر للوفاء يقدمه تلميذ لشيخه، فكان دائم الثناء عليه، ذاكرًا له في كل موضع، معترفًا بفضله، حريصًا على حضور مجلسه الأسبوعي في منزله في يوم الجمعة مهما كانت الشواغل، وكان الطناحي لا يترك مناسبة إلا ذكر الناس بفضل شيخه وقيمته في الثقافة العربية، يقول عنه في أحد المواضع من كتابه "مدخل إلى تاريخ نشر التراث": "كيف أكتب عنك أيها الشيخ الجليل، ومن أين أبدأ، وكيف أمضي وإلى أين أنتهي؟ فالحديث عنك إنما هو عن تاريخ هذه الأمة العربية: عقيدة ولغة وفكرًا ورجالاً .. ومعذرة ثم معذرة شيخي أبا فهر إذ أكتب عنك بهذه الوجازة التي تراها .. ثم معذرة من بابة أخرى، وهو أن كثيرًا مما ستقرؤه إن شاء الله منتزع من كلامك، مدلول عليه بفكرك، فأنا إنما أكتب عنك بك، وأتقدم إليك بسابق فضلك وموصول علمك ..".

وهو مع تلاميذه كأحدهم ولكن في وقار، يأنس بهم ويعاونهم ويشجعهم على طلب العلم، ويفتح لهم مغاليق العلم، وكانت روحه دائمة الشباب، لا تستشعر إذا جالسته أنك أمام عالم تخطى الستين من عمره.

وفاة محمود الطناحي:
وبعد وفاة محمود محمد شاكر تطلع الناس إلى تلميذه الوفي ليكون خليفته ويواصل مسيرته في خدمة التراث العربي، لكن الموت لم يمهله فاختطفه فجأة وهو في أتم صحة وعافية في (6 من ذي الحجة 1419هـ / 23 من مارس 1999م).

من مصادر الدراسة
- محمود علي مكي: محمود محمد الطناحي أديبًا ومحققًا، مجلة الهلال، العام السابع بعد المائة - مايو 1999م.
- أيمن فؤاد السيد: محمود محمد الطناحي عالم التراث والمحقق الموسوعي، مجلة الهلال، العام السابع بعد المائة - يونيو 1999م.
- عبد الله حمد محارب: الطناحي ورحلته مع التراث العربي، مجلة العربي، العدد (491)، أكتوبر - 1999م.
- محمود محمد الطناحي: مدخل إلى تاريخ نشر التراث العربي، مكتبة الخانجي – القاهرة، 1984م.
موقع قصة الاسلام
 
رد: اعلامنا - متجدد

السلام عليكم

عبد العزيز بن موسى بن نصير

عبد العزيز بن موسى بن نصير أحد القادة الأفذاذ من الرعيل الأول الفاتحين في الإسلام، والذي كان له دور كبير في فتح البرتغال وتثبيت دولة الإسلام في بلاد الأندلس، فمن هو عبد العزيز بن موسى بن نصير؟ وما هي صفته فاتحا وقائدا وإنسانا وشهيدا؟

نسبه وأسرته
هو عبد العزيز بن موسى بن نصير بن عبد الرحمن بن زيد، عربي من بني لَخْم، أبوه موسى بن نصير رحمه الله فاتح الأندلس المشهور، وكان واليًا على إفريقية والمغرب من أواخر سنة (85هـ أو 86هـ / 704م أو 705م)، كما شغل عدة مناصب إدارية وقيادية قبل ذلك، تدل على أنّه كان قريبًا من بني أُمية ومَن يعمل معهم في الإدارة والقيادة.

ولم يكن جَدُّه نُصَير، بعيدًا عن مراكز السلطة في الإدارة والقيادة أيضًا، وأصله من سبايا بلدة عين التمر الذين سباهم خالد بن الوليد رضي الله عنه سنة 12هـ/ 633م، فقد وجد خالد أربعين غلامًا يتعلّمون الإنجيل، عليهم باب مغلق، فكسره عنهم وقال: "وما أنتم؟! "، فقالوا: "رُهُن!"، منهم نُصَير أبو موسى بن نصير، فقسَّمهم خالد في أهل البلاد، فأصل عبد العزيز من عين التمر.

وقد أعتق نُصيرًا بعضُ بني أمية، فرجع إلى الشام، ثم أصبح من حرس معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ثمّ أصبح على حرس معاوية وعلى جيوشه، وكانت منزلته عند معاوية رضي الله عنه مكينة.

ولا نعلم متى وُلِد عبد العزيز بن موسى بن نصير، فالمصادر المتيسرة سكتت عن تاريخ مولده، كما سكتت عن أيامه الأولى، ولكننا نستطيع أن نستنتج: كيف نشأ وترعرع واستوى على عوده شابًا يشقُّ طريقه في الحياة [1].

نشأته وأيامه الأولى
لقد نشأ عبد العزيز وترعرع وشبَّ في ظروف ملائمة كل الملائمة لاستكمال مزاياه الشخصية، فأبوه وجده من المقربين للبيت الأموي المالك، وظروف والده الإداريَّة والقيادية بخاصة لا تخلو من مشاكل صعبة، تُعين على التعلم النظري والتدريب العملي.

وكان التّعليم النّظريّ، لاستيعاب العلوم المتيسّرة السّائدة حينذاك، ميسورًا لأبناء الإداريين والقادة الكبار ولغيرهم من الناس، إذ كان العلماء وقتذاك يعتبرون التّعليم والتّعلم من أجلّ العبادات. لذلك نشأ عبد العزيز ليتعلّم علوم القرآن الكريم والحديث النّبويّ الشَّريف، ويدرس التاريخ والسِّيَر وأيام العرب قبل الإسلام وبعده، ويُتقن علوم الّلغة، ويتلقى فنون الأدب شعرًا ونثرًا، ويتعلّم الحساب والهندسة وتقويم البلدان.

كما أنّ التدريب العملي بالممارسة، كان ميسورًا له في القضايا السياسية والإدارية والعسكرية، فهو إلى جانب والده الذي كان على المغرب وإفريقية إداريًا وقائدًا، وعلى الأندلس إداريًا وفاتحًا، يسمع ويرى كيف تُعطى القرارات الخطيرة وكيف تُعالج المشاكل الصّعبة.

كما تدرّب عمليًا على الفنون العسكرية: ركوب الخيل، والرّمي بالسِّهام، والضّرب بالسيوف، والطّعن بالرِّماح، والسباحة، وتحمّل المشاق سيرًا وجوعًا وعطشًا، وهو ما نُطلق عليه في المصطلحات العسكرية الحديثة: التدريب العنيف.

وقد طبّق عبد العزيز الفنون العسكريّة النظريّة عمليًّا في ميدان الجهاد، وبذلك جمع التدريب الفنّي النظري والعملي، ووضع معلوماته العسكريّة النظريّة في حيِّز التنفيذ. ولعلّ مما زاد في فرصه تعليمًا وتدريبًا، هو تلقّي علومه وتدريباته في كنف والده القائد الإداريّ الّلامع موسى بن نصير، وبخاصة بعد تولّي موسى إفريقيّة والمغرب في أواخر سنة 85هـ أو أوائل 86هـ، حيث شهد فتوح موسى في المغرب، فلما عبر موسى إلى الأندلس في رمضان من سنة 93هـ /712 م، ازدادت فُرص عبد العزيز التعليمية والتدريبية عمليًا في الفتوحات، حتى إذا نضج وأصبح قادرًا على تولّي مهام القيادة، ولاّه أبوه موسى منصبًا قياديًا، فأضاف بقيادته فتحًا جديدًا على فتوح طارق بن زياد وفتوح والده موسى بن نُصير.

عبد العزيز بن موسى بن نصير فاتحا
فتح إشبيلية ثانية
رافق عبد العزيز أباه موسى بن نصير في عبوره إلى الأندلس، وكان معه في فتوحه الأندلسية، فلما كان موسى محاصِرًا مدينة مَارِدَة، ثار عجم إشبيلية (القوط الغربيون) وارتدوا وقاموا على مَن فيها من المسلمين. وتجالب فلُّهم من مدينة لَبْلَة وبَاجَة، وقتلوا من المسلمين نحو ثمانين رجلًا. وأتى فلُّ المسلمين موسى من إشبيليَة وهو بماردة، فلما أن فتح ماردة وجَّه ابنه عبد العزيز في جيش إلى إشبيلية، ففتحها وقتل أهلها. ونهض عبد العزيز إلى لَبْلَة وباجة ففتحهما أيضًا، واستقامت الأمور وعلا الإسلام، ثمّ انصرف عبد العزيز إلى إشبيلية. وقد استعاد عبد العزيز فتح إشبيلية ثانية سنة 94هـ /713 م، وكان طارق قد فتحها لأول مرة صلحًا، إذ صالحه أهلها على الجزية، وذلك سنة 92هـ /711 م [2].

فتح جنوب وجنوب شرقي الأندلس
وجه موسى بن نصير ابنيه عبد العزيز وعبد الأعلى إلى جنوبي وجنوب شرقى الأندلس، وكان هذا على الأغلب بعد استعادة فتح إشبيلية ولَبْلَة وباجَة، واستطاع عبد الأعلى بالتعاون مع أخيه عبد العزيز، أن يستعيد فتح مالقة وإِلْبِيْرَة، ثم توجه عبد العزيز بن موسى إلى المنطقة الجنوبية الشرقية من البلاد، فقد التقى بالقرب من أُورْيُوْلَة بالدوق تُدْمِيْر وعقد معاهدة صلح بينه وبين المسلمين في شهر رجب من سنة 94هـ /أبريل 713 م، وبموجب هذه المعاهدة، التي ذكر تفاصيلها المؤرخون العرب والمسلمون وغيرهم، حصل تدمير على شروط مناسبة جدًا للصلح، وبعد استقرار الأمور في المنطقة الجنوبية الشرقية من شبه جزيرة الأندلس، عاد عبد العزيز إلى إشبيلية.

فاتح البرتغال .. غرب الأندلس
في الوقت الذي كان موسى بن نصير وطارق بن زياد يقومان بفتوحاتهما في شمالي الأندلس، كان عبد العزيز يقوم بفتح وسط البرتغال. فقد عاد عبد العزيز كما ذكرنا، إلى إشبيلية، ومن ثم إلى مارِدَة، حيث ولاه أبوه القيادة العامة للبلاد المفتوحة، ومن باجَة زحف إلى يَابُرَة وشَنْتَرِيْن وقُلُمْرِيَّة، وظل متجهًا إلى أقصى الغرب، بقصد ملاقاة الفرق الإسلامية في أَسْتُرْقَة.

وقد قام عبد العزيز بن موسى بن نصير بهذا الفتح قبل رحيل أبيه موسى من الأندلس إلى دمشق: "فلم يبق في الأندلس بلدة دخلها المسلمون بأسيافهم، وتصيّرت ملكًا لهم، إلاّ قسّم موسى بن نصير بينهم أراضيها، إلاّ ثلاثة بلاد، وهي: شَنْتَرِيْن وقُلُمْرِيَّة في الغرب، وشَيَّة في الشرق، وسائر البلاد خُمِّسَت وقُسِّمت بمحضر التابعين الذين كانوا؟ مع موسى بن نُصير"، ومعنى هذا عبد العزيز افتتح شَنْتَرِيْن وَقُلُمْرِيَّة صلحًا، وذلك أثناء وجود أبيه في الأندلس، وبذلك فتح ما بقي من مدائن الأندلس.

ومن الواضح، أنّ طارقًا وموسى لم يفتحا جميع أنحاء شبه الجزيرة الأندلسيّة، فبقيت مناطق لم تصل إليها جيوش الإسلام بعد. وقد تجمّعت في بعض الأقاليم غير المفتوحة، وفي الجيوب الجبليّة النائية الوعرة، مراكز للمقاومة القوطية ضد المسلمين، فاقتضى الأمر إخماد تلك المقاومات وإتمام فتح الأندلس.

وتمت فتوح عبد العزيز خلال سنة 94هـ /713 م وسنة 95هـ / 714 م، أي حين كان أبوه موسى على الأندلس، ولا أرى أنّ القوّات التي قادها عبد العزيز كانت قوات جسيمة، بل هي قوات خفيفة، مؤلّفة من الفرسان، سريعة الحركة، تستغل قابليتها في التنقّل السريع، لتحقيق أهدافها في الفتح؛ ذلك لأنّ المقاومة القوطيّة كانت تتمركز في المناطق الوعرة والجبلية في شمالي الأندلس، وفي المدن الأندلسية الشمالية النائية.

وكان على موسى وطارق بن زياد، أن يقضيا على جذور المقاومة وعلى أصولها، وأن يجتثا جذورها من مراكزها الرئيسة في المناطق الوعرة والجبليّة في شمالي الأندلس، والمدن الأندلسية الحصينة في تلك المناطق الصّعبة النائية، لذلك كان من الصّعب الاستغناء عن قسم كبير من قوّات المسلمين التي كانت تعمل بقيادتهما المباشرة، لأنّ هدفهما في تطهير المقاومة القوطيّة، وفتح المدن الأندلسية الشمالية كانا بحاجة ماسة إلى قوّات جسيمة، لإمكان تهيئة أسباب تحقيقهما، كما أنّ المقاومة القوطية في وسط البرتغال، لم تكن مقاومة عنيفة، ولا يمكن مقارنتهما بالمقاومة القوطيّة في شمالي الأندلس، لذلك اكتفى موسى بتخصيص قوّات خفيفة لابنه عبد العزيز من أجل تحقيق أهدافه في تفتيت المقاومة القوطية في غربيّ الأندلس وفتح مدنها، فنجح عبد العزيز في ذلك نجاحًا باهرًا [3].

عبد العزيز بن موسى القائد الوالي
لقد كان أثر عبد العزيز بمعاونة أخيه عبد الأعلى في الفتح الأندلسي، وفي ترصين ذلك الفتح، وفي حماية القوّات الإسلامية الفاتحة، عظيمًا للغاية في واقعه وفي حاضر المسلمين في الأندلس ومستقبلهم، دون أن يُعطى الأهمية المناسبة له من المؤرخين قديمًا وحديثًا.

فهو الذي تولى الأندلس: "بعد قُفُول أبيه عنها .. فضبط سلطانها، وضمّ نَثَرَها، وسدّ ثغورها، وافتتح في ولايته مدائن كثيرة، مما كان قد بقي على أبيه موسى منها، وكان من خير الولاة، إلاّ أنّ مدّته لم تطل ..". ومعنى ذلك، أنّ بقاءه واليًا لم يطل أمده، لتظهر مزاياه القيادية في الفتوح وفي إحراز الانتصارات الباهرة.

وبالإمكان إضافة عامل آخر، على قِصر مدّته واليًا، هو أنّ ظروفه الراهنة، بعد غضب الخلافة الأموية على أبيه موسى وعلى أهل بيته، لم تكن ملائمة لاستئناف الفتوح وإحراز الانتصارات، إذ كان هو الآخر مصيره معلّقًا في مهبّ الريح، ومن المتوقّع أن يُصيبه ما أصاب أباه وأهل بيته عاجلًا أم آجلًا، فكان بحقّ منهكًا نفسيًا، لا يدري ما تخبِّؤه له الأيام من مِحَن ومصائب، ولا يستطيع والٍ في مثل موقفه هذا غير المضمون أن يفعل ما فعله عبد العزيز أو يحقِّق ما أنجزه. ومن المعلوم أنّ الوالي يومئذ هو القائد العام على البلاد، فهو إداريّ وقائد، يعمل في القضايا الإداريّة، كما يعمل في القضايا العسكرية، فهو إداري وقت السّلام، إداريّ وقائد وقت الحرب.

وقد ظهر لنا، أنّ عبد العزيز بن موشى بن نصير قد تهيّأت له في أيامه الأولى مزيتان من مزايا القائد الّلامع، هما: العلم المكتسب، والتجربة العمليّة. فإذا تجاوزنا مفتاح شخصية عبد العزيز القياديّة، إلى سمات قيادته بإيجاز، نجد أنه كان يتحلّى بسمة: إصدار القرار الصحيح السّريع، فقد كان ذكيًا حاضر البديهة متعلِّمًا، مثابرًا على الحصول على المعلومات عن العدو، والأرض التي يقاتل عليها، من شتى مصادر الحصول على المعلومات، ومنها العيون والاستطلاع.

وكان يتحلّى بالشجاعة والإقدام، فكان يقود رجاله من الأمام، ولا يقودهم من الخلف، ويكون أُسوة حسنة لرجاله بشجاعته الشّخصيّة، وكان ذا إرادة قويّة ثابتة، إذا عزم على أمر نفّذه، وإذا أصدر أمرًا أصرّ على تنفيذه، وكان يُقدم على تحقيق أهدافه في الفتح بعزم وإصرار.

وكان من أولئك القادة الذين يتحملون مسئولياتهم كاملة، ولا يتهرّبون منها، أو يلقونها على عواتق الآخرين، وكان ذا نفسية لا تتبدّل في حالتي النّصر والاندحار، واليُسر والعُسر، فما عرفناه ضَعُفَ أو أبدى ضعفًا، حين أصبح والده موسى مغضوبًا عليه من الخليفة، بل ظلّ يزاول أعماله، أقوى ما يكون ثباتًا ونشاطًا، حتى أتاه اليقين.

وكان يتمتّع بمزية: سبق النّظر، فيتوقّع ما سيحدث، ويتصوّر ما سيقع، ويُعدّ لكلّ شيء عدّته حلًا لما عسى أن يجابهه من معضلات، وكان ذا شخصية قويّة نافذة مؤثِّرة فيمن حوله من رجاله ومن الإسبان الذين فتح بلادهم، ولولا تلك الشخصية المتميِّزة، لما استطاع السّيطرة على الأندلس، بعد أن تسامع النّاس، بأنّ أباه أصبح في عِداد المغضوب عليهم من الخليفة، وأنّ مركز عبد العزيز واليًا وقائدًا أصبح مهددًا بالعزل اليوم أو غدًا.

وكان يتمتّع بقابلية بدنيّة متميّزة، فقد كان في ريعان الشباب، واستطاع مشاركة رجاله في ميادين القتال صيفًا وشتاءً، وتعبًا وعناءً، وتنقّلًا وثواءً. وكان ذا ماضٍ ناصع مجيد، فهو ابن فاتح الأندلس، موسى بن نُصَير، وهو قد أضاف إلى أمجاد أبيه مجدًا جديدًا في الفتح وفي ميادين القتال.

ويبدو أن عبد العزيز بن موسى بن نصير كان يساوي بينه وبين رجاله، فكان يعيش بينهم، ويصلّي في مسجدهم، ولو أنّه اتّخذ حرسًا لنفسه، وجماعة مختارة من رجاله لحمايته، ومكانًا خاصًا به في المسجد للصّلاة، لصعب على المتآمرين عليه في تنفيذ خطتهم في اغتياله، ولكنّهم استطاعوا اغتياله بسهولة ويسر، مما يدلّ على أنّه كان يساوي نفسه برجاله، ولا يتميَّز عليهم في شيءٍ من المظاهر الخارجيّة، التي يحاول أن يتميّز بها أصحاب السُّلطة والحكم.

معضلات في طريق القائد عبد العزيز بن موسى
حين غادر موسى بن نُصير الأندلس ولَّى ابنه عبد العزيز على الأندلس، وترك معه مَن يعاونه من أقدر الرجال، مثل حبيب بن أبي عبيدة الفهري، أحد أحفاد عقبة بن نافع الفهري، وترك مع ابنه كثيرًا من القادة المسلمين الآخرين مع أفراد قبائلهم، ليدافعوا عن الأندلس ويحموه، وقد اختار موسى إشبيلية عاصمة للبلاد، بسبب قربها من البحر والمضيق، كما جعلها أيضًا قاعدة بريّة بحرية للمسلمين في الأندلس.

وبدأت مشاكل عبد العزيز بن موسى بعد مغادرة أبيه الأندلس إلى دمشق، فأصبح يحارب في جبهتين: الجبهة الداخلية المتمثلة في الطّامعين بحكم الأندلس، المنافسين له على ولايتها، يشجِّعهم على ذلك موقف الخلافة من موسى بن نصير، في اضطهاده ومحاسبته حسابًا عسيرًا، فكان التيار السّائد على عبد العزيز لا معه. والجبهة الخارجية، المتمثلة بالمقاومة القوطية المتربِّصة بالفاتحين، التي تنتهز الفرصة للانقضاض على الفاتحين، وإعادة المناطق المفتوحة إلى الحكم القوطي من جديد.

زواج عبد العزيز بن موسى بن نصير
وقضى عبد العزيز في ولايته نحو سنتين، عنى خلالهما بتحصين الثُّغور وقمع الخروج والعصيان، وأبدى همّة في تنظيم الحكومة الجديدة وإدارتها، وأنشأ ديوانًا لتطبيق الأحكام الشرعيّة وتنسيقها. وشجع الزواج بين العرب والإسبان، وتزوج أجيلونا (إيجلونا) التي تسميها المراجع العربية: أَيْلُه (أيلونا) أو أم عاصم، وكانت أيلونا قبل ذلك زوجًا للذريق، فيما تذهب إليه المراجع: "وكانت قد صالحت على نفسها في وقت الفتح، وباءت بالجزية، فأقامت على دينها، فحظيت عنده وغلبت على نفسه"، فتزوجها بعد خروج أبيه موسى من الأندلس، فجاءته من الدنيا بشيء كثير لا يُوصف.

اغتيال عبد العزيز بن موسى
وانتهز الطامعون بولاية الأندلس، المنافسون له بولايتها فرصة زواجه بأيلونا المسيحية، فزعموا أنّها ملكت زمام زوجها، فتابعها في كثير مما أرادت، وأنّها عملت له تاجًا من الذهب والجوهر، وحملته على أن يلبسه، لأن: "الملوك إذا لم يُتوَّجوا، فلا ملك لهم" كما قالت، وما زالت به حتى قَبِل أن يلبسه إذا خلا إليها، فشاع تتويجه في خيار جند المسلمين، فلم يكن لهم هَمٌّ إلاّ كشف ذلك، حتى رأوه عيانًا، فقالوا: تنصَّر! ثم هجموا عليه، فقتلوه.

ولم تقف حرب الإشاعة على عبد العزيز إلى هذا الحد، ويبدو أنّ قصّة لبس التاج وتنصّره، تؤثِّر في الرأي العام لجند المسلمين في الأندلس، باعتبار أنّهم يرفضون كلّ انحراف عن تعاليم الإسلام، ولكنّ مثل تلك الإشاعة، لا تؤثّر في الذين خبروا مزايا عبد العزيز تقيًّا نقيًّا ورعًا، كما لا يصدِّقها العقلاء الذين في السُّلطة أو خارجها، فأشاعوا أنّه: "لما بلغ عبد العزيز بن موسى ما نزل بأبيه وأخيه عبد الله بن موسى الذي كان في القيروان على إفريقيّة والمغرب وآل بيته، خلع الطاعة وخالف، فأرسل إليه سليمان بن عبد الملك رسولًا فلم يرجع.

فكتب سليمان إلى حبيب بن أبي عبيدة بن عقبة بن نافع ووجوه العرب سرًا بقتله، فلما خرج عبد العزيز إلى صلاة الفجر، قرأ فاتحة الكتاب، ثم قرأ سورة الواقعة، فقال له حبيب: حقَّت عليك يا ابن الفاعلة! وعلاه بالسيف، فقتله"، وقد ركز قسم من المستشرقين على تصديق اتّجاه عبد العزيز إلى الاستقلال عن الخلافة بالأندلس، وتابعهم على تصديق هذا الزّعم المتهافت قسم من مؤرخي العرب والمسلمين [4].

الرد على شبهة إيعاز الخليفة سليمان بقتل عبد العزيز
وأمّا القول بأنّ الخليفة سليمان بن عبد الملك أوعز بقتله، فقول لا يجد ما يؤيِّده من الواقع ومن التفكير السّليم، لأنّ الخليفة لم يكن عاجزًا عن عزله إن أراد، وقد سبق للخليفة عزل أبيه موسى وهو أقوى منه وأكبر مكانة وأنصع تاريخًا وأكثر أتباعًا، فعزله بسهولة ويسر، واستخرجه من الأندلس مع رجل أو رجلين من رجال للخليفة، دون أن يستطيع موسى تحريك ساكنًا. كما لم يكن سليمان ليخشى ثورته بالجند، لأنّ الجند كان مختلفًا عليه، وليس بمعقول أن يكون حقد سليمان على عبد العزيز أشدّ من حقده على أبيه موسى، ما أوعز سليمان بقتل موسى ولا فكّر بذلك، ولا قتله حين أصبح في دمشق رجلًا بلا غد.

ومصداق ذلك، أن سليمان لما بلغه: "مقتل عبد العزيز بن موسى، شقَّ ذلك عليه، فولَّى إفريقية عبيد الله بن يزيد القريشي ..، وأمره سليمان فيما فعله حبيب بن أبي عبيده وزياد بن النّابغة من قتل عبد العزيز، بأن يتشدّد في ذلك، وأن يقفلهما إليه ومَن شركهما في قتله من وجوه النّاس. ثمّ مات سليمان، فسرّح عبيد الله بن يزيد والي إفريقيّة على الأندلس الحرَّ بن عبد الله الثَّقفي، وأمره بالنظر في شأن قتل عبد العزيز"، مما يفهم صراحة أنّ الأمر دُبِّر بغير علم الخليفة، وأنّ الخليفة لا علاقة له بقتل عبد العزيز.

ولم يكن من سمات خُلق سليمان بن عبد الملك الإقدام على الاغتيالات أو التحريض عليها، فقد وصف سليمانَ المؤرِّخون بأنه: "مفتاح الخير، أطلق الأسارى، وخلَّى أهل السُّجون، وأحسن إلى الناس، واستخلف عمر بن عبد العزيز"، فلا يتّهمه بالاغتيال، أو يصدِّق هذا الاتهام، عاقل غير متحيِّز [5].

هل أراد عبد العزيز بن موسى الاستقلال بالأندلس؟
كما أن عبد العزيز بن موسى بن نصير لو أراد الاستقلال بالأندلس عن الخلافة، لأعدّ لذلك عدته، التي من أوّلها: إبعاد غير الموثوق بهم من صفوف جنده، واتِّخاذ الحماية الكافية لنفسه، وتقريب مَن يعينه سلى تحقيق ما يصبوا إليه. ولم يتّخذ عبد العزيز شيئًا من هذه التدابير، ولو اتّخذ شيئًا منها، لما سهل على الطّامعين والمنافسين له اغتياله بسهولة ويُسر.

اتهام عبد العزيز بن موسى بالضعف والتنصر
أمَّا اتِّهام الأمير عبد العزيز بن موسى بن نصير بأنّه ضعيف مترف مُستَخذٍ لزوجه، وأنّه تنصّر، فلا سبيل إلى تصديق ذلك، فقد أقام مع زوجه أيلونا في دار متواضعة قريبة من اجتماع المسلمين ومكان صلاتهم. ولو كان ضعيفًا مترفًا لسكن أحد قصور إشبيلية الفخمة، ولما استقرّ في دار متواضعة، ليكون قريبًا من رجاله ومن مسجده.

أمّا أنّه تنصّر، فقد كان خيّرًا فاضلًا، ومن خير الولاة، ولمّا أُحضر رأس عبد العزيز بين يدي سليمان، حضر أبوه موسى، فقال له سليمان: "أتعرف هذا؟ "، قال: "نعم، أعرفه صوَّامًا قوَّامًا، فعليه لعنة الله إن كان الذي قتله خيرًا منه".

والمعقول، أنّ عبد العزيز ذهب ضحيّة الطامعين بولاية الأندلس والمنافسين له على الحكم، وبخاصة بعد أن أصبح أبوه موسى وأهل بيته من المغضوب عليهم، فكان موقف عبد العزيز في مدّة ولايته ضعيفًا، وأصبحت الفرصة سانحة أمام الطّامعين والمنافسين له: "ثمّ اجتمعوا على أيوب بن حبيب الَّلخْمِيّ الذي قُتل عبد العزيز بمشورته"، مما يدلّ بوضوح على أنّ الأمر تمّ في الأندلس بعد أن تشاور الطّامعون والمنافسون له، فشنّوا حرب الإشاعة، وكان موقف عبد العزيز يومئذ بعد نكبة أبيه واهنًا، فنجح أعداؤه في قتله وتولّى السّلطة بعده، ولو إلى حين.

ويبدو أنّ حال عبد العزيز مع جنده لم يكن على ما ينبغي، لا لأنّهم كانوا ساخطين عليه، بل لأنّ نفرًا منهم كان شديد التّطلع والطموح، وكان هؤلاء النّفر في الظّاهرين في جنده وكبار رجاله [6].

عبد العزيز بن موسى في التاريخ
لقد أصبح عبد العزيز بن موسى بن نصير واليًا على الأندلس منذ مبارحة أبيه موسى الأندلس في صفر من سنة 95هـ /أكتوبر - نوفمبر سنة 713 م، وجرى اغتياله في رجب سنة 97هـ / يناير سنة 716 م، فقضى في ولايته زهاء عامين فقط، أنجز ما أنجز خلالهما من أعمال جِسام، وكان بإمكانه أن ينجز أعمالًا أكبر مما أنجزه وأكثر، لولا أن نفسه كانت طوال أيام ولايته مروّعة ينتابها الخوف على مصير أبيه موسى بن نصير، ومصير أسرته، فمال إلى السّكون والانتظار والترقب، وبهذا وحده يمكن أن نعلّل عدم نشاطه في العمل، وقد عرفناه إلى ذلك الحين رجلًا مقدامًا نشيطًا لا يكلّ ولا يملّ من العمل، ويُتعب من يعمل معه دون أن يَتعب، فقد كان من أولئك القلائل الذين لا ينامون ولا يُنيمون.

وقد كان موسى بن نُصير من التابعين، فيكون عبد العزيز ابنه من تابعي التابعين، رضوان الله تعالى عليهم أجمعين.

ويذكر التاريخ لعبد العزيز، أنّه كان السّاعد الأيمن لأبيه موسى ابن نصير فاتح شطر الأندلس، في فتوحه الأندلسية. ويذكر له، أنّه فتح مناطق واسعة جدًا في جنوبي وجنوب شرقي الأندلس، وطهّر تلك المناطق من جيوب المقاومة القوطيّة. ويذكر له أنّه فتح الشّطر الأكبر من البرتغال، غربي الأندلس، وفتح مدنها، وقضى على جيوب المقاومة القوطيّة في أرجائها. ويذكر له، أنّه استعاد فتح إشبيلية ولَبْلَة وباجَة من جديد، ودحَر المقاومة القوطيّة التي استولت عليها بعد فتحها من المسلمين.

ويذكر له، أنّه قضى على تهديد المقاومة القوطيّة لخطوط مواصلات قوّات طارق بن زياد وموسى بن نصير في الأندلس، وعلى جناحي تلك القوات الأيمن والأيسر، مما أتاح لطارق وموسى التغلغل شمالًا في الفتح.

ويذكر له، أنّه اغتيل ظلمًا وعدوانًا، فنال باغتياله شرف الشهادة. ويذكر له، أنّه كان مجاهدًا صادقًا، وإداريًا حازمًا، وكان يعمل بأمانة وإخلاص، للإسلام والمسلمين، مجاهدًا وإداريًا، دون كلل ولا ملل. ويذكر له، أنّه رحل وهو في ريعان الشباب، فكأنّه كان يغالب الزّمن، ليخلِّف من بعده، ما لم يخلفه الشيوخ فتحًا ومآثر وأمجادًا.

رحمه الله، جزاء ما قدم للعرب والمسلمين، من خدمات لا تنسى، قائدًا وفاتحًا وإداريًا وشهيدًا. لقد رحل عن هذه الدنيا، ولكن آثاره في الأندلس وفي صفحات التاريخ، لن ترحل أبدًا.

[1] البلاذري: فتوح البلدان، 248. ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، 1/ 235. الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 2/ 577. ابن الأثير: الكامل، 2/ 151. ابن كثير: البداية والنهاية، 9/ 171. ياقوت الحموي: معجم البلدان، 7/ 267. ابن خلدون: تاريخ ابن خلدون، 4/ 187. ابن خلكان: وفيات الأعيان، 4/ 402. المقري: نفح الطيب، 1/ 224، 254. ابن عذاري: البيان المغرب، 1/ 32. الضبي: بغية الملتمس، 457.
[2] البيان المغرب، 2/ 22. ونفح الطيب، 1/ 272. وأخبار مجموعة، ص18. والكامل، 4/ 565. نهاية الأرب في فنون الأدب، 22/ 29.
[3] ابن القوطية: تاريخ افتتاح الأندلس، ص36. شيت خطاب: قادة فتح المغرب العربي، 1/ 273.
[4] قال الواقدي ونقله ابن عبد الحكم، إنها كانت ابنة لذريق لا زوجته، انظر أخبار مصر، ص212، وفتوح مصر والمغرب، ص285. البيان المغرب، 2/ 23- 24. وضبطت فيه أَيْلُه. ابن الأثير: الكامل، 5/ 22.
[5] أخبار مجموعة، 22 – 23. الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 5/ 304.
[6] المقري: نفح الطيب، 1/ 234، 281. ابن الأثير : الكامل، 5/ 489. ابن حيان: جذوة المقتبس، ص271. بغية الملتمس، ص386. البيان المغرب، 2/ 34. وفي بغية الملتمس، ص386، أنّه قتل سنة 99هـ.
 
رد: اعلامنا - متجدد

السلام عليكم

أسد الدين شيركوه .. فاتح مصر الثاني

في أحداث التاريخ الإسلامي تبرز أسماء كبيرة عظيمة كان لها أكبر الأثر في أمة الإسلام، لما كان لها من أعمال وبطولات وتضحيات في سبيل الله عز وجل ومن أجل نصرة دين الله, هذه الشخصيات العظيمة كانت عادة لا تقوم بمفردها بهذه المهام المقدسة، إنما في الأعم الأغلب يكون بجوارهم أسماء وشخصيات أخرى لا يقل دورها وعملها عن الأخرى, ومع ذلك هذه الشخصيات لم تنل الحظ الوافر في كتب التاريخ من الذكر والتقدير، فلقد ضاع ذكرها وانزوى نورها بجانب قوة الشخصيات الأخرى وصاحبنا من هذا النوع أسد الدين شيركوه رحمه الله.

من هو أسد الدين شيركوه ؟
هو الأمير الكبير أسد الدين شيركوه بن شادى الزرزازي الكردي، ولد في إحدى قرى أذربيجان هو وأخوه نجم الدين أيوب والد الناصر صلاح الدين الأيوبي، وهما من أشرف شعوب الأكراد وأكثرها شجاعة وبأسًا, عمل هو وأخوه نجم الدين في خدمة الأمير نهروز أمير شحنة العراق "مدير الأمن"، فاستناب نهروز نجم الدين أيوب على قلعة تكريت, فاتفق أن دخلها عماد الدين زنكي مصابًا في إحدى غزواته، فأحسنا إليه وخدماه فحفظ عماد الدين هذا الصنيع لهما.

في صحبة نور الدين محمود
وحدث ذات يوم أن تعرض رجل من نصارى تلك القلعة لإحدى بنات الأيوبيين، فخرج أسد الدين لهذا الرجل فقتله، فثار قومه في القلعة فأخرجهما نهروز من القلعة، وذلك في نفس الليلة التي ولد فيها صلاح الدين, فسارا إلى حلب ليخدما عماد الدين زنكي فأحسن إليهما، ولما تولى نور الدين محمود الأمر من بعد أبيه زنكي صار أسد الدين مقربًا عنده، ومن يومها بزغ نجم أسد الدين شيركوه في سماء الفتوحات ضد الصليبيين.

ما لبث أن صار أسد الدين شيركوه هو الساعد الأيمن للسلطان نور الدين محمود الشهيد، وأكبر أمرائه، لذلك اعتمد عليه نور الدين في كثير من غزواته ضد الصليبيين لشهامته وشجاعته وصرامته في جهاد الصليبيين، وأقطعه نور الدين بلاد حمص والرحبة، و وكان لأسد الدين شيركوه أكبر الأثر في معارك حاسمة مثل فتح دمشق سنة 549هـ، حيث أرسله نور الدين على رأس مجموعة صغيرة من الفرسان كسلاح استطلاع ومقدمة للجيوش النورية قبل دخولها، واستطاع أسد الدين أن يدخل دمشق وينتصر على جيوش ضخمة على الرغم من قلة جنده.

فاتح مصر الثاني
أما أفضل أعمال أسد الدين شيركوه والتي كانت سببًا لشهرته التي لا يعرفها الكثير هو فتح مصر، والذي جاء على عدة مراحل, وهذا الفتح يعتبر سببًا لسقوط الدولة العبيدية الرافضية في مصر، بعد أن دامت أكثر من مائتي سنة.

وتبدأ فعاليات هذا الفتح العظيم عندما جاء الوزير شاور من القاهرة، يستنجد بالسلطان نور الدين زنكي على الأمير ضرغام الذي استولى على مقاليد الأمور في مصر وقتل أولاد الوزير شاور وذلك في سنة 559هـ. فلما دخل على نور الدين وعرض عليه الأمر رحب نور الدين جدًا بالأمر، وأحس أنها الفرصة المناسبة لتحرير مصر من سلطان العبيديين المجرمين.

فأعد نور الدين جيشًا بقيادة أسد الدين شيركوه، واستطاع الأسد أن يدخل الديار المصرية ويقتل الأمير ضرغام ويعيد شاور للوزارة, ولكن شاور أحد الخائنين الذي يعملون لمصلحتهم، فغدر بنور الدين وأسد الدين، واستغاث شاور بالصليبيين ليطردوا أسد الدين من القاهرة ومصر.

وأبدى أسد الدين شجاعة وقيادة فائقة، واستطاع أن يصمد أمام جحافل الصليبيين أكثر من ثمانية شهور, وجاء هذا الصمود في صالح الإسلام؛ لأن السلطان نور الدين استغل غيبة الصليبيين في مصر ودخل بلادهم وضرب حصونهم وسبى أولادهم ونساءهم، وعندها فك الصليبيون الحصار عن أسد الدين وعقدوا معه صلحًا خرج بموجبه كلاهما من مصر.

ثم كانت الحلقة الثانية من حلقات الفتح الأسدى للديار المصرية, عندما أقبلت جحافل كثيرة من الصليبيين إلى مصر ليأخذوها، وبالفعل استطاعوا بمعاونة بعض الخائنين أن يدخلوها، فاستأذن أسد الدين شيركوه نور الدين في المسير لمصر فأذن له, فلما علم شاور بذلك راسل الفرنج فأتوا من كل مكان وذلك في سنة 562هـ.

واشتبك أسد الدين بجيشه الصغير المكون من ألفي مقاتل مع جحافل الصليب وهزمهم شر هزيمة، ثم اتجه أسد الدين إلى الإسكندرية ففتحها واستناب عليها ابن أخيه صلاح الدين، ثم اتجه للصعيد فملكه، فاستغل الصليبيون الفرصة وحاصروا صلاح الدين في الإسكندرية، فامتنع عليهم صلاح الدين جدًا، واضطر أسد الدين لمصالحتهم ليفك حصارهم، وفي هذه الأثناء أغار نور الدين على بلاد الصليبيين، فغنم وأسر وسبي وقتل.

ثم كانت الحلقة الثالثة والأخيرة في فتح مصر سنة 564هـ، عندما تحكم الصليبيون في مصر وعزموا على دخولها لاحتلالها، وعندها استغاث الخليفة العاضد العبيدي بنور الدين وأرسل له بشعور نسائه ويقول له: "أدركني واستنقذ نسائي من أيدي الفرنجة"، فأرسل نور الدين أسد الدين ومعه صلاح الدين بجيش كبير هذه المرة، فلما سمع الصليبيون بقدومهم خرجوا من الديار المصرية خوفًا من أسد الدين. وكان نور الدين قد استدعى أسد الدين من حمص إلى حلب لقيادة الجيوش، فقطع أسد الدين هذه المسافة الكبيرة في يوم واحد، ولم يتفق هذا لأحد من الناس سوى الصحابة، ففرح نور الدين بذلك جدًا واستبشر بالفتح.

وبالفعل دخل أسد الدين القاهرة في 7 ربيع الآخر سنة 564هـ، فوجد الصليبيين قد هربوا من مصر ووجد شاور الخائن نفسه قبالة أسد الدين الذي افترسه جزاءًا وفاقًا لخيانته المتكررة للإسلام وأهله، وخلع عليه الخليفة العاضد وعينه وزيرًا مكان الخائن شاور، وقبل أسد الدين ذلك كخطوة على طريق إزالة العبيديين من مصر.

وبدأ أسد الدين يعمل على إزاحة العاضد من الخلافة وإسقاط دولة بني عبيد، وبدأ في تنظيم الأمور وعين العمال وأرسل النواب وأقطع الإقطاعات، ولكن أمر الله عز وجل كان أسرع من تخطيطه، فمات رحمه الله فجأة لخنق حصل له في حلقه في 22 جمادى الآخرة سنة 564هـ، بعد أن مكث في الولاية شهرين وخمسة أيام، فجزاه الله عنا كل الأخير ورحمه الله تعالى.

 
رد: اعلامنا - متجدد

السلام عليكم

السلطان الظاهر برقوق

http://islamstory.com/sites/default...de_fullcontent_img/public/16/09/37/barqoq.gif
مسجد الظاهر برقوق

الملك الظاهر أبو سعيد سيف الدين برقوق بن آنص العثماني اليلبغاوي الجاركسي (نحو 738 - 801هـ / 1337 - 1398م)، السلطان الخامس والعشرون من سلاطين المماليك في ديار مصر والشام، وأول السلاطين الشراكسة (المماليك البرجية) إذا لم يُعدّ السلطان الملك المظفر بيبرس الجاشنكير من الشراكسة. وقد سمي هؤلاء بالبرجية لأنهم ينتسبون إلى المماليك الذين كانت ثكناتهم في أبراج قلعة القاهرة.

تسلطن برقوق مرتين (784 - 791 ثم 792 - 801هـ)، وهو يعد صلة الوصل بين سلالتين من سلاطين المماليك، إذ حكم مصر والشام قائدًا للعسكر (أتابك العسكر) قبل توليه السلطنة، وكان ذلك في ظل سلطانين صغيرين من نسل المنصور قلاوون من المماليك البحرية.

أصله ونشأته:
ينحدر برقوق إلى بلاد الشركس (الجركس)، وأصله من قبيلة كسا، وإنما سمى برقوق لجحوظ في عَيْنَيْه، وبيع في شبه جزيرة القرم وجلبه إلى مصر تاجر رقيق معروف يدعى الخواجة فخر الدين عثمان بن مسافر فعرف به (العثماني)، واشتراه بمصر الأمير يلبغا العمري الخاصكي من مماليك السلطان الأشرف شعبان في حدود سنة 764هـ/1364م، فأعتقه وجعله من جملة مماليكه، واستمرّ بخدمته إلى أن ثارت مماليك يلبغا عليه وقتل في سنة 768هـ، ولما قتل يلبغا وتمزّقت مماليكه وحبس أكثرهم، حبس برقوق هذا مع من حبس مدّة طويلة مع بعض زملائه، ثم أفرج عنه وخدم عند الأمير منجك اليوسفىّ نائب الشام سنين، إلى أن طلب الملك الأشرف مماليك يلبغا إلى الديار المصرية فحضر برقوق من جملتهم وصار بخدمة الأسياد أولاد الملك الأشرف جنديّا ولم يزل على ذلك حتى ثار مع من ثار من مماليك يلبغا على الملك الأشرف شعبان في نوبة قرطاى وأينبك وغيرهما، فلما اغتيل الملك الأشرف شعبان سنة 778هـ/1377م، نصب ابنه الملك المنصور علي القلاووني سلطانًا (778 - 783هـ) وكان عمره نحو سبع سنوات.

برقوق أتابكًا:
صعد نجم برقوق، وكوفئ بترقيته من الجندية إلى رتبة أمير طبلخاناه دفعة واحدة (نصيب الأمير فيها أربعون فارسًا وقد يزيد حتى الثمانين بحسب إقطاعه)، ولم تمض أيام حتى غدا برقوق أمير آخور كبيرًا (مسؤولًا عن الإسطبل السلطاني)، ثم أتابكًا للعسكر (قائدًا للجيش) وصار إليه الحل والعقد مفوضًا من السلطان.

توفي الملك المنصور علي بالطاعون سنة 783هـ/1381م، ونُصِّب أخوه صلاح الدين أمير حاج سلطانًا، فتلقب بالملك الصالح حاجي، وعمره لا يتجاوز أحد عشر عامًا، فكان آخر سلاطين الدولة القلاوونية بمصر والشام، وانفرد الأتابك برقوق بتصريف الأمور بعد أن تخلص من شركائه في الحكم وأكثر خصومه.

برقوق على عرش السلطنة المصرية:
لم يلبث برقوق أن تاقت نفسه إلى السلطنة بتشجيع من أنصاره فقام بخلع السلطان الجديد، وقلده الخليفة المتوكل على الله مقاليد البلاد، وشهد بذلك القضاة الأربعة وشيخ الإسلام سراج الدين عمر البلقينى. وخطب الخليفة المتوكل على الله خطبة بليغة، ثم بايعه على السلطنة وقلّده أمور المملكة ثم بايعه من بعده القضاة والأمراء. وتسلم برقوق السلطنة في وقت الظّهر من يوم الأربعاء تاسع عشر شهر رمضان سنة 784هـ / الموافق للسادس من نوفمبر سنة 1382م.

ثم أفيض على برقوق خلعة السلطنة، وهي خلعة سوداء خليفتيّة على العادة، وأشار السّراج البلقينى أن يكون لقبه "الملك الظاهر" فإنه وقت الظّهيرة والظّهور، وقد ظهر هذا الأمر بعد أن كان خافيا، فتلقّب بـ "الملك الظاهر" وركب فرس النّوبة من الحرّافة من المقعد الذي بالإسطبل السلطانىّ من باب السّلسلة. والقبّة والطّير على رأسه، وطلع من باب السّر إلى القصر الأبلق، وأمطرت السماء عند ركوبه بأبّهة السلطنة، فتفاءل الناس بيمن سلطنته ومشت الأمراء والأعيان بين يديه إلى أن نزل ودخل القصر المذكور وجلس على تخت الملك. ودقّت البشائر بقلعة الجبل عند ركوبه ثم زيّنت القاهرة ومصر ونودى بالقاهرة بالدعاء للسلطان الملك الظاهر برقوق.

ثم كُتب بذلك إلى سائر البلاد وخرجت الأمراء لتحليف النّوّاب بالبلاد الشامية ثم أمر الملك الظاهر في السلطنة وثبتت قواعد ملكه. ومدحه جماعة من شعراء عصره منهم الشيخ شهاب الدين أحمد بن العطار فقال:

ظهور يوم الأربعاء ابتدا *** بالظاهر المعتز بالقاهر
والبشر قد تمّ وكلّ امـرئ *** منشرح الباطن بالظاهر

الصعوبات التي واجهت السلطان برقوق:
واجهت السلطان برقوق منذ أول عهده، صعوبات أضعفت موقفه وأفقدته السيطرة على مقاليد الأمور شيئًا فشيئًا إلى أن دالت دولته الأولى بعد سبع سنوات من حكمه. فقد أكثر من القبض على الأمراء من أقرب المقربين إليه أو عزلهم أو نقلهم، حتى أصاب العزل الخليفة نفسه والقضاة، فتغيرت عليه الخواطر وخافه الخاصة والعامة.

ثورة الأمير يلبغا الناصري وعودة الصالح حاجي سلطانا:
وكان أخطر ما واجهه ثورة نائبه على حلب الأمير يلبغا الناصري، الذي تحالف مع أحد الأمراء المطرودين المعروف باسم "منطاش" وانضم إليهما عدد من الأمراء في بلاد الشام، ومنهم نائب سيس. وسيطر الناصري على كامل سوريا وهزم جيش السلطان عند أسوار دمشق، ودخلت دمشق في طاعته في ربيع الأول 791هـ/ مارس 1389م.

وصلت طلائع الناصري أراضي مصر وعسكرت في الصالحية على مقربة من القاهرة قبل أن يتمكن السلطان برقوق من تجهيز جيش آخر استعدادًا للمعركة الحاسمة، ودارت المعركة شمالي القاهرة وبين أسوار المدينة في التاسع من جمادى الأولى 791هـ/ مايو 1389م من غير نتائج حاسمة، وبدأ السلطان برقوق يفقد رجاله وسلطانه يومًا فيومًا إلى أن قرر مغادرة قلعته في خاتمة المطاف والاختفاء عن الأعين. ولم يلبث الملك الظاهر أن كشف أمره فقبض عليه وأودع السجن في قلعة الكرك (في الأردن اليوم).

وأعيد الملك الصالح حاجي إلى السلطنة مرةً ثانية فغيّر لقبه وتلقب بالملك المنصور سنة 791هـ/ 1389م. وصار يلبغا الناصري أتابك العسكر وبيده الحل والربط ولكن سرعان مادب النزاع بين يلبغا الناصري وحليفه منطاش، ودارت رحى المعارك بين الطرفين في القاهرة وغيرها، وتمكن منطاش من القبض على ناصية الأمور، وانتهى أمر الناصري.

عودة برقوق سلطانا على مصر مرة أخرى:
وانتهز برقوق الفرصة في غمرة الفوضى التي عمت البلاد، ففرَّ من سجنه وجمع حوله قوة من مماليكه وأنصاره ومن البدو العرب، استطاع بها بعد كثير من المغامرات المثيرة، أن يحقق نصره كاملًا ويدخل القاهرة في شهر صفر سنة 792هـ/ فبراير 1390م. ولم يكن في وسع السلطان الصغير الملك المنصور حاجي سوى الانسحاب متخليًا عن السلطنة لبرقوق، فخلع نفسه من السلطنة صلحا سنة 792هـ وعاد مع برقوق إلى مصر، فدخل دور الحرم وبه ختمت الدولة القلاوونية، وكانت مدتها 103 سنين. بيد أن السلطان برقوق لم يتمكن من عدوّه القديم منطاش إلا بعد سنتين من المطاردة المستمرة.

برقوق والصراع بين العثمانيين وتيمور لنك:
كان عهدا السلطان برقوق حافلًا بأحداث مختلفة أكثرها محاولات تمرد وانشقاق ومنازعات بين كبار أمراء المماليك الأتراك والشراكسة من أجل السلطة، إضافة إلى تفشي الأمراض وكساد الأسواق، وكانت العقود الأخيرة من القرن الثامن الهجري / الرابع عشر الميلادي سنوات جدب في تاريخ مصر والشام.

ولم يخل الأمر من حوادث مهمة لا يمكن إغفالها. ففي عهده الأول تواترت الأنباء عن ظهور تيمورلنك في أواسط آسيا، بعد أن سيطر على مناطق شاسعة منها واتخذ من سمرقند عاصمة له، وغزا فارس (782هـ/1381م)، ثم استولى على تبريز (788هـ/1386م)، وراح يهدد العراق وديار بكر. وفي العهد الثاني للسلطان برقوق عاد تيمورلنك إلى الظهور في آسيا الصغرى (أواسط عام 795هـ/1393م)، وأرسل السلطان بايزيد الأول العثماني إلى الملك الظاهر برقوق طالبًا مساعدته عسكريًا، في حين اكتسح تيمور العراق واستولى على بغداد ولجأ السلطان أحمد بن أويس إلى القاهرة في 27 ربيع الأول سنة 796هـ، وأكرمه الملك الظاهر وأمده بالمال، واستضافه حتى جلا تيمور عن بغداد فأعاده إليها.

لم يحاول تيمور في أول الأمر الدخول في صدام مباشر مع دولة المماليك، واكتفى ببعض التحرشات على الحدود الشمالية والشرقية من بلاد الشام، وأرسل سفارة إلى الملك الظاهر مع رسالة تهديد في3ربيع الثاني سنة 796هـ يدعوه فيها إلى الدخول في طاعته، وكان رد الملك الظاهر برقوق عنيفًا في رسالته الجوابية بعد أن أعدم سفراء المغول، ولم يلبث أن غادر القاهرة إلى بلاد الشام على رأس جيش مملوكي وفي صحبته السلطان أحمد بن أويس، فأقام في دمشق مدة ثم توجه إلى حلب، وأجرى تعديلات في قيادات المناطق الحدودية وبعض التحصينات استعدادًا لخوض المعركة الحاسمة مع تيمور، ولكن الصدام لم يحدث، إذ انسحب تيمور إلى بلده وعاد الملك الظاهر إلى القاهرة في 13 صفر سنة 797هـ/8 ديسمبر سنة 1394م. ولم يتجدد صراع المماليك مع تيمور إلا بعد وفاة الملك الظاهر برقوق.

مآثر السلطان برقوق:
أجمل السخاوي في وصف الظاهر برقوق في ترجمته بالضوء اللامع فمما قال: " وَكَانَ شهما شجاعا ذكيا خَبِيرا بالأمور، إِلَّا أَنه كَانَ طماعا جدا لَا يقدِّم على جمع المَال شَيْئا، وَلَقَد أفسد أُمُور المملكة بِأخذ الْبَدَل على الولايات حَتَّى وَظِيفَة الْقَضَاء والأمور الدِّينِيَّة، وَكَانَ جَهورِي الصَّوْت كَبِير اللِّحْيَة وَاسع الْعَينَيْنِ عَارِفًا بالفروسية خُصُوصا اللّعب بِالرُّمْحِ، يحب الْفُقَرَاء ويتواضع لَهُم وَيتَصَدَّق كثيرا وَلَا سِيمَا إِذا مرض".

وبالجملة كان الملك الظاهر السلطان برقوق في سلطنته يخلط الصالح بالطالح، قليل الثقة بمن حوله، ويكثر من عزل أصحاب المناصب في دولته، وتجاهر الناس في أيامه "بالبراطيل"، فلايولّى أحد وظيفة أو عملًا إلا بمال.

كما كانت له إصلاحات وأعمال حسنة، فقد أبطل بعض المكوس التي ترهق الرعية، وأنشأ جسرًا على نهر الشريعة (الأردن)، وجدد خزائن السلاح بالاسكندرية، وحصَّن بعض الثغور، وعمَّر سور دمنهور والجبال الشرقية بالفيّوم، وزاوية البرزخ في دمياط، وبنى قناطر في بيت المقدس، وبحيرة عند رأس وادي بني سالم عند المدينة المنورة. وبناء السبيل والطاحون في قلعة الجبل.

ومن أهم آثاره المدرسة الظاهرية أو المدرسة البرقوقية التي أقامها بين القصرين في القاهرة، وكان شركس الخليلي أمير آخور هو المشرف على تنفيذ بنائها، والقائم بهندستها المعلم المهندس شهاب الدين أحمد بن الطولوني، فقيل في ذلك:

قَدْ أَنْشَأَ الظَّاهِرُ السُّلْطَان مَدْرَسَةً *** فَاقَتْ عَلَى إِرَم فِي سُرْعَةِ العَمَلِ
يَكْفِي الخَلِيـــلَ بِأَنْ جَاءَتْ لخدْمَته *** صمُّ الجِبَالِ لَها تَمشي عَلَى عَجَلِ

وقد اكتمل عملها في أوائل شهر جمادى الأولى سنة 788هـ. وقرر فيها برقوق أربعة من المذاهب وشيخ تفسير وشيخ إقراء وشيخ حديث وشيخ ميعاد بعد صلاة الجمعة وغير ذلك.

وفاة السلطان الظاهر برقوق:
عهد الظاهر برقوق في أواخر حياته بالسلطنة إلى ولده الناصر فرج، ثم مرض أياما وتوفي بقلعة الجبل رحمه الله تعالى ليلة الجمعة منتصف شوال سنة 801هـ / 1398م. وقد استمرت دولة الشراكسة من عهده إلى سنة 922هـ وعدة ملوكها 23 ملكا، وكانت لهم مصر والشام.

ومما قيل في رثائه وعهده للناصر فرج:

مَضَى الظَّاهِرُ السُّلْطَانُ أَكْرَمُ مَالِكٍ *** إِلَى رَبِّهِ يَرْقَى إِلَى الخُلْدِ فِي الدَّرَجْ
وقَالُوا سَتَأْتِي شِدَّةٌ بَعْدَ مَوْتِـــــهِ *** فَــأَكْذَبَهُمْ رَبِّــي وَمَا جَا سِوى فَرَجْ

وكانت مدة حكم برقوق بالديار المصرية أتابكا وسلطانا قرابة 21 عاما. فمنذ صار أتابكًا إلى أن آلت السلطنة إليه 4 سنين و9 أشهر و10 أيام، ومنذ تسلطن إلى أن مات 16 سنة و4 أشهر و27 يومًا خلع منها بالملك المنصور حاجي بيد الناصري 8 أشهر و16 يومًا.

وخلف الملك الظاهر برقوق من الأولاد ثلاثة ذكور وثلاث بنات؛ فالذكور: الملك الناصر فرج (تسلطن من بعده بعهد منه إليه)، والملك المنصور عبد العزيز، وإبراهيم. والبنات: خوند سارة (زوجة الأمير نوروز الحافظي) وخوند بيرم (زوجة الأمير إينال باي بن قجماس) وخوند زينب (زوجة المؤيد شيخ ثم الأتابك قجق).

وَخلف برقوق من الذَّهَب الْعين ألفي ألف دِينَار وَأَرْبَعمِائَة ألف دِينَار، وَمن الْخَيل المسومة وَالْبِغَال الفارهة سِتَّة آلَاف، وَمن الْجمال خَمْسَة آلَاف، وَكَانَ عليق دوابه كل شهر أحد عشر ألف أردب شعير وفول.

مراجع للاستزادة:
- ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، ج11 و12، الهيئة المصرية العامة للتأليف، القاهرة 1971م.
- ابن تغري بردي: المنهل الصافي والمستوفى بعد الوافي، حققه ووضع حواشيه: دكتور محمد محمد أمين، تقديم: دكتور سعيد عبد الفتاح عاشور، الناشر: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك، تحقيق: محمد عبد القادر عطا، الناشر: دار الكتب العلمية - لبنان/ بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ / 1997م.
- ابن إياس، بدائع الزهور في وقائع الدهور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1984م.
السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، الناشر: منشورات دار مكتبة الحياة – بيروت.
- العصامي: سمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي، تحقيق: عادل أحمد عبد الموجود- علي محمد معوض، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى، 1419هـ / 1998م.
- الزركلي: الأعلام، الناشر: دار العلم للملايين، الطبعة: الخامسة عشر، مايو 2002م.
 
السلام عليكم

شمس الدين السخاوي
شمس الدين السخاوي من أعلام مؤرخي عصر المماليك
يمثل شمس الدين السخاوي شخصية بارزة تتبوأ مكانة رفيعة في آداب مصر الإسلامية، وفي الآداب العربية بوجه عام، وتمثل وحدها مدرسة فكرية زاهرة، وتمتد عبقريتها الشاملة إلى عدة نواح وفنون مختلفة، وما زال تراثها إلى اليوم يكون مجموعة قوية حافلة في تراث الأدب العربي والتفكير الإسلامي، كما ملأت شخصيته الحركة الأدبية المصرية زهاء نصف قرن، فالسخاوي إحدى هذه العبقريات الأدبية التي تفتحت بمصر في القرن التاسع الهجري (القرن الخامس عشر الميلادي) واختتمت بها مصر الإسلامية حياة أدبية باهرة سطعت مدى قرنين.

نسبه ونشأته:
هو الشيخ الإمام، العالم العلامة المسند، الحافظ المتقن شمس الدين أبو الخير السخاوي محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان، السخاوي الأصل القاهري الشافعي. ولد بمدينة القاهرة، بحارة بهاء الدين، في ربيع الأول سنة831هـ / 1428م في أسرة أصلها من بلدة سخا من أعمال الغربية، واستقرت في القاهرة قبل ذلك بجيلين. ولما بلغ الرابعة من عمره تحولت أسرته إلى منزل جديد في نفس الحي اشتراه أبوه؛ وكان موقعه بجوار دار علامة العصر الحافظ ابن حجر العسقلاني؛ وكان لهذا الجوار أكبر أثر في حياة السخاوي، كما سنرى.

ابتدأ تحصيل العلوم الشرعية في سنٍّ مبكرة، فحفظ القرآن وجوَّده، ثم حفظ كثيرًا من المتون في مختلف الفنون، وقابل الشيوخ وأهل العلم في عصره وأخذ عنهم، وأخذ عن جماعة لا يحصون يزيدون على أربعمائة نفس. فقد أنفق السخاوي بضعة أعوام في المكتب وحفظ القرآن؛ ثم أخذ يطوف بأشياخ العصر يتلقى عنهم مختلف العلوم والفنون؛ ودرس النحو والعروض واللغة والفقه والحساب والميقات والأصول والبيان والتفسير والمنطق؛ وهنا يعدد لنا السخاوي ثبت أساتذته وما أخذه عن كل منهم، وما درسه من مختلف الكتب؛ وتجلت مواهبه ومقدرته بسرعة مدهشة؛ وأجاز له الكثيرون من شيوخه، بل أجازوا له الإفتاء ولما يبلغ العشرين بعد.

ابن حجر شيخ السخاوي الأول:
وقد كان ابن حجر في مقدمة أساتذته؛ وكان ذلك الجوار الذي رتبته ظروف الحياة مبعث هذه الصلة الوثيقة التي استمرت مدى الحياة بين الأستاذ وتلميذه، والتي بثت غير بعيد إلى نفس الفتى نوعًا من العبادة الروحية لهذا الذي كان يعتبر يومئذ إمام الأئمة وقطب العلماء والباحثين. والواقع أن ابن حجر كان يتبوأ يومئذ مركز الزاعمة العلمية في مصر الإسلامية، وكان في ذروة نضجه ومجده، وقد انتهت إليه الرياسة في معظم علوم العصر، ولا سيما الحديث والشريعة.

وكان بدء اتصال السخاوي بأستاذه في سنة 838هـ، أي وهو طفل لم يجاوز الثامنة؛ وكان يذهب مع أبيه ليلًا إلى مجالس الشيخ فيستمع إلى دروسه في الحديث. ويصف لنا السخاوي علاقته بأستاذه في عبارات مؤثرة تنم عما كان لهذه العلاقة من عظيم الأثر في تكوينه فيقول متحدثًا عن نفسه: "وقبل ذلك كله سمع مع والده ليلًا الكثير من الحديث على شيخه إمام الأئمة الشهاب ابن حجر، فكان أول ما وقف عليه من ذلك في سنة ثمان وثلاثين، وأوقع الله في قلبه محبته، فلازم مجلسه، وعادت عليه بركته في هذا الشأن. وأقبل عليه بكليته إقبالًا يزيد على الوصف بحيث تقلل ما عداه .. وداوم الملازمة لشيخه حتى حمل عنه علمًا جمًا، واختص به كثيرًا بحيث كان من أكثر الآخذين عنه؛ وأعانه على ذلك قرب منزله منه، فكان لا يفوته مما يقرأ عليه إلا النادر .. وينفرد عن سائر الجماعة بأشياء. وعلم شدّة حرصه على ذلك فكان يرسل خلفه أحيانًا بعض خدمه لمنزله؛ يأمره للمجيء للقراءة".

وهنا يفيض السخاوي في ذكر الكتب والمتون التي قرأها ودرسها على شيخه ابن حجر، سواء من تصنيفه أو تصنيف غيره، ومعظمها في الحديث، ودرس عليه أيضًا التاريخ والتراجم؛ ودرس في الوقت نفسه على كثير من شيوخ العصر؛ ويعدد لنا السخاوي كثيرًا من شيوخه، ويقول لنا إنهم بلغوا أكثر من أربعمائة؛ بيد أن ابن حجر كان دائمًا إمامه وشيخه المفضل، وقد أذن له غير بعيد في الإقراء والإفادة والتصنيف؛ ويقول لنا السخاوي إنه لم ينفك عن ملازمة أستاذه، ولا عدل له بملازمة غيره من علماء الفنون خوفًا على نقده، ولا ارتحل إلى الأماكن النائية بل ولا حج إلا بعد وفاته؛ لكنه حمل عن شيوخ مصر الواردين إليها كثيرًا، وفي الأوقات التي لا تعارض وأوقاته سيما حين اشتغاله بالقضاء وتوابعه. وقد لبثت هذه العلاقة الوثيقة بين التلميذ وشيخه حتى توفى ابن حجر في أواخر سنة 852هـ.

رحلات السخاوي العلمية:
وهنا تبدأ المرحلة الثانية في حياة السخاوي؛ وهي مرحلة درس وتحصيل أيضًا ولكن خارج مصر. فبعد وفاة ابن حجر، ارتحل السخاوي إلى عدد كبير من البلدان لتحصيل العلم، ففي مصر سافر إلى دمياط والمنصورة والرشيد .. إلخ. ثم رحل إلى مكة والمدينة ودمشق وحلب وبيت المقدس ونابلس، وسَمِعَ في هذه البلدان لعدد كبير من علمائها وأخذ عنهم.

كان السخاوي يومئذ في الثانية والعشرين من عمره؛ ولكنه كان رغم حداثته قد برز في كثير من العلوم التي تلقاها؛ وكان قد استأثر في هذه الأعوام الطويلة التي قضاها إلى جانب ابن حجر بكثير من علمه ومعارفه، وتأثر أعظم تأثير بأساليبه ومناهجه؛ بل نستطيع أن نقول إن السخاوي كان بعد ابن حجر، مستودع علمه وتراثه، وكان أشد تلاميذه تمثيلًا لمدرسته؛ بل كان بعد شيخه زعيم هذه المدرسة وأستاذها القوي يرفع لواءها ويحمل مناهجها حتى خاتمة القرن التاسع؛ وقد أشار ابن حجر نفسه في أواخر أيامه إلى تلك الحقيقة، وكثيرا ما وصف السخاوي بأنه (أمثل جماعته) أو (ممثل جماعته).

وسافر السخاوي عقب وفاة أستاذه إلى دمياط ودرس على شيوخها حينًا؛ ثم سافر مع والدته بحرًا إلى مكة ليؤدّي فريضة الحج؛ وانتهز هذه الفرصة فدرس على شيوخ مكة والمدينة، وطاف بالبقاع والمشاهد المقدسة كلها؛ ثم عاد إلى مصر، وسافر إلى الإسكندرية وقرأ بها مدى حين؛ وزار معظم عواصم الوجه البحري وقرأ على شيوخها الأعلام جميعًا، وحصل كثيرًا من الفوائد والمعارف. ثم رأى أن يقوم برحلة إلى الشام ليزور معاهدها، ويتعرف بشيوخها؛ فسافر إلىفلسطين وطاف بيت المقدس والخليل ونابلس؛ ثم قصد إلى الشام، وزار دمشق وحمص وحماه، ثم استقر حينًا في حلب؛ كل ذلك وهو يدرس ويقرأ على أعلام هذه العواصم؛ ويقول لنا إنه "اجتمع له في هذه الرحلة من الروايات بالسماع والقراءة ما يفوق الوصف".

ويبدو من تعداده للكتب التي درسها وقرأها في هذا الطواف، إنه كان يعنى بدراسة الحديث والقراءة والنحو والفقه وعلوم البلاغة والتصوّف. ولم يعين السخاوي لنا تواريخ تنقلاته في هذه الرحلة، ولكن الظاهر إنها استغرقت بضعة أعوام.

السخاوي شيخ مصر الأول:
ولما عاد السخاوي إلى مصر، عكف على التدريس، ولا سيما تدريس الحديث، أحيانًا بمنزله، وأحيانًا بخانقاه (معهد) الصوفية المعروف بسعيد السعداء؛ وكذا انتدب في أوقات مختلفة للتدريس في أعظم مدارس القاهرة كدار الحديث الكاملية والصرغتمشية، والظاهرية، والبرقوقية، والفاضلية وغيرها، وذاع صيته وأقبل عليه الطلاب من كل صوب. وفي سنة 870هـ سافر مع أسرته وكان قد تزوج يومئذ ورزق بعض الأولاد كما يفهم ذلك من إشارته إلى مولد ولده أحمد، ومع والده وأكبر أخويه إلى الحج للمرة الثانية؛ وصحبه أيضًا في تلك الرحلة صديقه وأستاذه النجم بن فهد الهاشمي وكان من أعلام العصر. ودرس بمكة مدى حين، وقرأ بالمسجد الحرام بعض تصانيفه وتصانيف غيره. ولما عاد إلى القاهرة استأنف دروسه وإملاءاته؛ وتبوأ مركز الزعامة يومئذ في علم الحديث، وشغل فيه نفس المركز الذي كان يشغله فيه أستاذه ابن حجر قبل ذلك بثلاثين عامًا.

ثم حج السخاوي للمرة الثالثة في سنة 885هـ، وقضى بمكة عامًا في التدريس والدرس؛ ثم حج سنة 87 وقضى ثمة حين في الدرس والإقراء؛ وحج للمرة الخامسة في سنة 892هـ وقضى ثمة عامًا آخر في الدرس والإقراء؛ ثمّ حج في سنة 894هـ، وقرأ الكثير من دروسه وتصانيفه، وغدت مكة وطنًا ثانيًا له؛ وكتب بها كثيرًا من مؤلفاته.

ولما عاد إلى القاهرة في سنة 898هـ استقر بمنزله، وأبى الدرس والإقراء في المعاهد والحلقات العامة (ترفعًا عن مزاحمة الأدعياء) حسب قوله، وترك الإفتاء أيضًا واكتفى بالإقراء في منزله لخاصة تلاميذه؛ وكان السخاوي قد اشرف يومئذ على السبعين من عمره، ولكنه استمر منكبًا على الدرس والتأليف؛ وكانت قد انتهت إليه الرياسة يومئذ في معظم علوم عصره، ولا سيما الحديث، حتى قيل أنه فاق شيخه ابن حجر في ميدانه، وانتهى إليه فن الجرح والتعذيب، حتى قيل لم يبلغ أحد مكانته فيه منذ الحافظ الذهبي؛ وكانت شهرته قد تعدت حدود مصر منذ بعيد وذاعت في أنحاء العالم الإسلامي، ولا سيما في الشام والحجاز حيث تلقى عليه مئات العلماء والطلاب.

ولبث السخاوي رغم مكانته العلمية الرفيعة ونفوذه القوي بعيدًا عن ميدان السياسة ودسائس البلاط والمناصب الرسمية؛ واقترح عليه صديقه الأمير يشبك الداوادار أن يقرأ التاريخ بمجلس السلطان الظاهر خشقدم فأبى؛ ثم عرض عليه أن يتولّى القضاء بعد ذلك، فاعتذر وأشار بتعيين خصمه ومنافسه السيوطي رغم ما كان بينهما من الخصومات الأدبية الشهيرة.
يتبع..........
 
السلام عليكم

مما قاله العلماء في حق السخاوي:
ذكر الكثير من العلماء ممن تعرضوا لترجمة الحافظ السخاوي العديد من مناقبه مما يبين علو منزلته ومكانته، فهذا ابن العماد الحنبلي يقول فيه: "وانتهى إليه علم الجرح والتعديل، حتى قيل: لم يكن بعد الذهبي أحد سلك مسلكه". وبعد أن ذكر الشوكاني ترجمته في البدر الطالع قال: "وَبِالْجُمْلَةِ فَهُوَ من الْأَئِمَّة الأكابر حَتَّى قَالَ تِلْمِيذه الشَّيْخ جَار الله بن فَهد فِيمَا كتبه عقب تَرْجَمَة صَاحب التَّرْجَمَة لنَفسِهِ فِي الضَّوْء اللامع ما نصه: قَالَ تِلْمِيذه الشَّيْخ جَار الله بن فَهد المكي إن شَيخنَا صَاحب التَّرْجَمَة حقيق بِمَا ذكره لنَفسِهِ من الْأَوْصَاف الْحَسَنَة، وَلَقَد وَالله الْعَظِيم لم أر فِي الْحفاظ الْمُتَأَخِّرين مثله .. وَلَا أعلم الْآن من يعرف عُلُوم الحَدِيث مثله وَلَا أَكثر تصنيفا وَلَا أحسن، وَكَذَلِكَ أَخذهَا عَنهُ عُلَمَاء الْآفَاق من الْمَشَايِخ والطلبة والرفاق، وَله الْيَد الطُّولى فِي الْمعرفَة بأسماء الرِّجَال وأحوال الروَاة وَالْجرْح وَالتَّعْدِيل وَإِلَيْهِ يشار فِي ذَلِك، وَلَقَد قَالَ بعض الْعلمَاء لم يَأْتِ بعد الْحَافِظ الذهبى مثله سلك هَذَا الْمسك، وَبعده مَاتَ فن الحَدِيث وأسف النَّاس على فَقده، وَلم يخلف بعده مثله".

ومما قاله الشوكاني كذلك: "ولو لم يكن لصَاحب الترجمة من التصانيف إلا الضوء اللامع لكان أعظم دليل على إمامته".

مؤلفات السخاوي الحديثية:
وللسخاوي تراث حافل ينم عن غزير مادته ونشاطه؛ ولقد تلقينا منه الكثير، وتلقينا بالأخص أهمه وأقيمه. ويعني السخاوي في ترجمة نفسه بتعداد رسائله ومؤلفاته؛ ويستغرق تعدادها عدة صفحات من ترجمته؛ ويضم هذا الثبت الحافل كتبًا ورسائل في عدة فنون مختلفة؛ ولكنا نستطيع بوجه عام أن نقسم آثاره إلى قسمين: قسم الحديث، وقسم التاريخ.

وقد كان السخاوي كما رأينا محدثًا كبيرًا، انتهى إليه علم الحديث في عصره؛ بيد أنه كان أيضًا مؤرخًا بارعًا، ونقادة لايجاري؛ والجمع بين الحديث والتاريخ خاصة لكثير من أقطاب المؤرخين المسلمين مثل كتاب السيرة، والطبري، والذهبي؛ وعلم الحديث بما يحتويه من قواعد الإسناد وتمحيص الرواية، والجرح والتعديل، خير معوان للمؤرخ الناقد على تحري الحقائق؛ وهكذا كان السخاوي محدثًا ومؤرخًا؛ وكانت براعته النقدية في التاريخ ترجع في كثير من الوجوه إلى براعته في الجرح والتعديل كمحدث؛ وهذه الصبغة النقدية البارزة هي التي تسبغ على آثاره التاريخية قوتها وطرافتها.

ويحدثنا السخاوي في ترجمته بأنه شرع في التأليف (قبل الخمسين)؛ ولكن هنالك ما يدل على أنه وضع بعض التصانيف قبل سنة 870هـ، أعني وهو في نحو الأربعين من عمره؛ فهو يحدثنا أنه لما حج للمرة الأولى سنة 870هـ، قرأ بعض تصانيفه في مكة، وإذا فهو قد بدأ التأليف في سن متقدمة؛ بيد أنه أنفق شبابه في استيعاب النصوص والمراجع، ونزل ميدان التأليف مزودًا بمادة غزيرة؛ ولبث مدى الثلاثين عامًا التالية يخرج الكتب والرسائل تباعًا، ولم ينقطع عن الكتابة حتى أعوام حياته الأخيرة.

وبدأ السخاوي التأليف في ميدان الحديث، فوضع فيه عدة كتب ورسائل يعنى بتعدادها في ترجمته، ولكنا لم نتلق منها سوى القليل؛ وأشهرها كتاب (المقاصد الحسنة في الأحاديث المشتهرة)، وهو من كتب الحديث المتداولة، ومنها (فتح المغيث بشرح ألفية الحديث) و (الغاية في شرح الهداية) و (الأخبار المكللة في الأحاديث المسلسلة) و (شرح الشمائل النبوية للترمذي) و (التحفة المنيفة فيما وقع من حديث أبي حنيفة)، وعدة كتب ورسائل أخرى في شرح متون الحديث، وعدة حواش وذيول لبعض كتب الحديث المعتبرة يذكرها كلها في ترجمته، ولا يتسع هذا المقام لذكرها.

وكتب السخاوي في هذه الفترة الأولى أيضًا عدة رسائل عن رحلاته المختلفة؛ منها الرحلة السكندرية وتراجمها؛ الرحلة الحلبية وتراجمها؛ الرحلة المكية؛ والثبت المصري؛ وفيها يصف تجواله ودراساته في تلك الأنحاء؛ ووضع كتابًا في تراجم شيوخه وأساتذته اسمه (بغية الراوي فيمن أخذ عنه السخاوي).

مؤلفات السخاوي التاريخية:
على أن أهم ما في تراث السخاوي هو مجهوده التاريخي والأدبي، ففيه يرتفع السخاوي إلى ذروة القوة، وفيه تبدو شخصيته في أبرز خواصها ومواهبها؛ وقد انتهت إلينا نخبة من هذا التراث القيم.

التبر المسبوك في ذيل السلوك:
ومن الصعب أن نتتبع الترتيب الزمني في استعراض هذه الآثار، ولكن يلوح لنا أن السخاوي قد استهل مجهوده التاريخي بوضع كتاب (التبر المسبوك في ذيل السلوك) والسلوك الذي وضع هذا الكتاب ذيلًا له هو كتاب (السلوك في دول الملوك) لتلقي الدين المقريزي، وقد تناول فيه تاريخ دول المماليك المصرية حتى سنة844هـ؛ وتناول السخاوي في كتابه تاريخ مصر الإسلامية من سنة 845 - 857هـ؛ وكتبه كما يقرر في مقدمته نزولًا على رغبة الداوادار يشبك المهدي وزير السلطان الظاهر خشقدم؛ وعني السخاوي بتدوين حوادث هذه الفترة المعاصرة بإسهاب، وذيل كل عام بوفيات أعيانه، واتبع فيه طريقة الترتيب الزمني.

ذيل رفع الأصر:
وكتب السخاوي أيضًا ذيلًا لكتاب شيخه ابن حجر (رفع الأصر عن قضاة مصر) وهو الذي يتناول فيه تراجم القضاة المصريين حتى عصره، وسماه (ذيل رفع الأصر)، وفيه يتناول تراجم القضاة المصريين حيث وقف شيخه ابن حجر.

الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع:
وأعظم آثار السخاوي بلا ريب هو كتابه الضخم (الضوء اللامع في أعيان القرن التاسع)، وهو موسوعة حافلة تقع في عدة مجلدات وينم عنوانها عن موضوعها، ويبسط لنا السخاوي موضوع كتابه في ديباجته على النحو الآتي: "فهذا كتاب جمعت فيه من علمته من هذا القرن الذي أوله سنة إحدى وثمانمائة، ختم بالحسنى، من سائر العلماء والقضاة والصلحاء والرواة والأدباء والشعراء، والخلفاء والملوك والأمراء، والمباشرين والوزراء، مصريًا كان أو شاميًا، حجازيًا أو يمنيًا، روميًا أو هنديًا، مشرقيًا أو مغربيًا، بل وذكرت فيه بعض المذكورين بفضل ونحوه من أهل الذمة".

وقد هيأت حياة السخاوي نفسه وتجواله في مصر والشام والحجاز؛ ولقاؤه لمئات العلماء والأدباء في عواصم هذه الأقطار، وما قيده عنهم في مختلف رحلاته، مادة حسنة لكتابة المستقبل. وأنفق السخاوي بلا ريب أعوامًا طويلة في إعداد مواده وتنظيمها واستكمالها؛ والظاهر أنه لم يبدأ في كتابة معجمه إلا في أواخر القرن التاسع حوالي 890هـ واستمر في الكتابة فيه حتى سنة 897هـ أو 898هـ؛ يدل على ذلك أنه يصل في ترجمة نفسه حوادث حياته حتى سنة 897هـ، وأنه يذكر ضمن كتبه (كتاب التوبيخ لمن ذم أهل التاريخ) وقد كتبه حسبما يقرر في خاتمته بمكة سنة 897هـ؛ هذا فضلًا عن أنه يترجم لكثيرين توفوا سنة 897هـ.

ويمتاز (الضوء اللامع) بقوة فائقة في التصوير ليس لها نظير في كتب التراجم الإسلامية، ويمتاز بالأخص بروحه النقدية اللاذعة؛ وهنا يبدو السخاوي في أعظم خواصه وكفاياته الأديبة نقاده لا يجارى؛ بيد أن هذه النزعة النقدية تحمله بعيدًا في مواطن كثيرة، فينزع عندئذ إلى التجريح والهدم بقسوة، ويطبع نقده تحامل بين؛ وقد ترجم السخاوي كثيرًا من أقطاب العصر، ولكن أحدًا منهم - إلا شيخه ابن حجر - لم ينج من تجريحه اللاذع؛ وتراجم المقريزي وأبن خلدون وأبن تغري بردى والسيوطي أمثلة واضحة لهذه النزعة الهدامة.

يتبع...........
 
السلام عليكم

الشافي من الألم في وفيات الأمم:
وكتب السخاوي إلى جانب الضوء اللامع كتبًا أخرى في التراجم منها حسبما يذكر كتاب (الشافي من الألم في وفيات الأمم) وهو ثبت لوفيات الأعيان في القرنين الثامن والتاسع مرتب حسب السنين، وعدة تراجم مطولة لبعض الأئمة.

كتاب الجوهر والدرر:
بيد أنه لم يصلنا من هذه الكتب سوى ترجمة شيخه ابن حجر في مجلد ضخم أسماه (كتاب الجوهر والدرر)، وفي خاتمته ما يفيد أن السخاوي كتبه في مكة سنة 871هـ؛ وفيه يتحدث بإفاضة عن نشأة أبن حجر، وتربيته، وصفاته، ومواهبه، وعن حلقاته ودروسه وتصانيفه، ثم يورد مختاراته من كلامه وفتاويه، وما قيل في رثائه من نثر ونظم.

كتب تاريخية أخرى للسخاوي:
وهناك عدة مؤلفات تاريخية أخرى يذكر السخاوي أنه كتبها، ولكنها لم تصل إلينا مثل (التاريخ المحيط) الذي يشغل ثلاثمائة رزمة، وتاريخ المدنيين، وتلخيص تاريخ اليمن، ومنتقى تاريخ مكة، ثم طائفة أخرى منوعة منها: ختم السيرة النبوية لأبن هشام، القول النافع في بيان المساجد والجوامع، القول التام في فضل الرمي بالسهام، عمدة المحتج في حكم الشطرنج، الكنز المدخر في فتأوي شيخه أبن حجر، القول البديع في الصلاة على الحبيب الشفيع؛ ومن هذا الأخير نسخة بدار الكتب.

تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والبقاع المباركات:
ونجد أخيرًا في تراث السخاوي أثرين من نوع خاص ولهما أهمية خاصة، وقد انتهى كلاهما إلينا؛ أولهما كتاب (تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والبقاع المباركات) وهو دليل لخطط المشاهد والمزارات والبقاع المقدسة، ولا سيما مصر القاهرة؛ وفيه وصف لأحياء مصر القاهرة التي تقع فيها هذه المشاهد في أواخر القرن التاسع؛ وذكر لكثير من المشاهد والمدافن التي لم يمن بها المقريزي في خططه، ولا يزال الكثير منها باقيًا إلى اليوم؛ ومن ثم كانت أهمية الكتاب في تاريخ الخطط المصرية، إذ نستطيع بالرجوع إلى معالمه أن نحدد كثيرًا من مواقع القاهرة القديمة وأحيائها وشوارعها في القرن التاسع الهجري.

الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ:
وأما الثاني، فهو كتاب (الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ) وهو رسالة نقدية قيمة، يعرف السخاوي فيها علم التاريخ ويشيد بفضله؛ ويتناول طائفة كبيرة من المسائل والمباحث النقدية التي تدخل في حيز التاريخ؛ ثم يذيلها ببيانات ضافية لجميع المؤلفات التاريخية الإسلامية التي ظهرت في مختلف أبواب التاريخ وعصوره، مثل كتب السيرة، وكتب التراجم المختلفة، وما ألف في تواريخ الطوائف والجماعات المختلفة، مثل تواريخ القضاة والحفاظ والشعراء واللغويين والأطباء والأشراف والأدباء والعشاق والصوفية وغيرهم؛ فهو بذلك فهرس بديع شامل لأمهات الكتب التي وضعت في هذه النواحي المختلفة، ويتخلل ذلك مواقف نقدية كثيرة تجعل لهذا الأثر قيمة خاصة.

وقد أقام السخاوي بهذا الكتاب نصبًا قيِّمًا لعلم التأريخ العربي، والكتاب كما يدل عليه العنوان كان ذا صفة اعتذارية، وقد كُتِبَ للدفاع عن دراسة التأريخ موضوعًا ثقافيًا مساعدًا في مناهج الدراسة الدينية. كما أنه يقدم عرضًا شاملًا، وأحيانًا رائعًا، لعلم التاريخ الإسلامي وآماله ومعضلاته لمن يعرف كيف يقرأه.

يتكون كتاب "الإعلان بالتوبيخ" من ثلاثة أقسام:
القسم الأول:
يتناول بعض الملاحظات العامة عن طبيعة علم التاريخ، فعرَّف التاريخ لغة (الإعلام بالوقت)، وإصطلاحًا (التعريف بالوقت الذي تُضبَطُ به الأحوال) وحدد موضوعه (الإنسان والزمان، وفائدة التاريخ (معرفة الأمور على وجهها).

فحدَّ السخاوي من أفق هذا العلم، وجعله علمًا فرعيًا مساعدًا لعلم الحديث بتحقيق تواريخ ميلاد الرواة أو وفاتهم، والتثبُّت من صحة رواة الحديث أو عدم صحتهم وتقديم مادة نافعة في تفسير القرآن الكريم، وإضافة إلى ما سبق فهو حافل بالعبر والمواعظ، وأفرد السخاوي بحثًا عن ذم ناقدي التاريخ، كما حدد شروط المؤرخ ومنها: العدالة مع الضبط التام، والتمييز بين المقبول والمردود مما يصل إليه من ذلك، والمحاباة المفضية للعصبية، ويشترط على المؤرخ ألا يكون جاهلًا بمراتب العلوم، ولاسيما الفروع والأصول، كما يحتاج إلى مصاحبة الورع والتقوى.

القسم الثاني:
خصَّه لكتب التاريخ كما وردت في تصنيف الذهبي.

القسم الثالث:
يتضمن سردًا لكتب التاريخ تبعًا لتصنيف السخاوي قصد أن تكون تكملة للذهبي، ومنها على سبيل المثال: الرسول والأنبياء، الصحابة، الأشراف، آل أبي طالب وآل علي، الرواة المعتمدون، وغيرهم.

فما بين الرواية الشفوية القديمة وفلسفة التاريخ للعلامة ابن خلدون وتاريخ التاريخ للسخاوي قد نما التاريخ عند العرب وتفرع وأزهر وأثمر.

وفاة الإمام السخاوي:
أقام السخاوي حينًا في القاهرة؛ ثم سافر إلى مكة ليحج للمرة السابعة؛ وعكف بعد أداء الفريضة على الإقراء والدرس، وتردد حينًا بين مكة والمدينة؛ ثم استقر أخيرًا بالمدينة؛ واستمر في الإقراء بها حتى توفّى فِي عصر يوم الأحد 28 من شعبان سنة 902هـ / 1497م، في في الحادية والسبعين من عمره، ودفن بالبقيع بجوار مشهد الإمام مالك. فرحمه الله رحمة واسعة.

ولا ريب أن مجال البحث والقول يتسع لأضعاف هذا العرض الموجز، إذا أردنا أن نفي شخصية السخاوي ونواحيه الأدبية والنقدية المتعددة حقها من التحليل والبحث؛ وقد كان السخاوي بلا ريب من أعظم شخصيات مصر الإسلامية والعالم الإسلامي في القرن التاسع الهجري.

المصادر والمراجع:
- السخاوي: الابتهاج بأذكار المسافر والحاج، تحقيق أحمد مصطفى الطهطاوي، بإشراف أحمد يوسف الدقاق، بلا تاريخ.
- السخاوي: الضوء اللامع لأهل القرن التاسع، دار مكتبة الحياة، بيروت.
- السخاوي: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ.
- ابن العماد الحنبلي: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناءوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناءوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1406هـ / 1986م.
- محمد عبد الله عنان: شمس الدين السخاوي .. حياته وتراثه، مجلة الرسالة، العدد 103، بتاريخ: 24 / 6 / 1935م، والعدد 104، بتاريخ: 1 / 7 / 1935م.
- وجيه خشفة: الإمام السخاوي، الموسوعة العربية العالمية.

انتهى.
 
السلام عليكم

أحمد المنصور الذهبي

فيما يلي نُحاول أن نُلقي الضوء على شخصيةٍ من أهم الشخصيات التي حكمَت بلادَ المغربفي بداية العصور الحديثة؛ لما كان لها من بصمات قوية على تاريخ بلادها، وحضارة أمَّتها، في زمن كان الاستعمار الأوربي تحفَّز للانقضاض على أوطان العالمين العربي والإسلامي، ويحاول قهر شعوبها واستعمارَ أرضها.


وأمير المؤمنين أحمد المنصور الذهبي [1] جديرٌ بالدراسة، وإبراز مَعالم شخصيته؛ فهي مثالٌ للشخصية الإسلامية ذاتِ الطموح، الغَيورة على بلادها وأمَّتها العربية والإسلامية. وكان من حسن حظِّ المنصور وحظِّ بلاد المغرب أن بَدأ حكمُه عقبَ انتهاء هذه المعركة الخطيرة الكبيرة (معركة وادي المخازن) التي انتصَر فيها المغاربةُ على البرتغاليِّين انتصارًا حاسمًا والتي كان لها دَويُّها ومؤثِّراتها على المغرب، وعلى القوى الصليبيَّة، كما كان لها نتائجها المباشرة على المعسكرَين الإسلامي والمسيحي.

الدولة السعدية في عهد أحمد المنصور الذهبي (986 - 1012هـ):
ويعتبر المنصور واسطةَ عِقد الدولة السعدية، وقد ظل متربِّعًا على عرشها ربع قرنٍ من الزمان انتهى إليه مجدُها وعظمتها، ويمكن اعتبارُ عصر المنصور عصرًا قائما بذاته، أخَذ فيه المغرب شخصيته المتميزة عن الأقاليم المجاورة له، وأصبحَت له في هذه الفترة سياسةٌ معينة غيرُ مرتبطة بسياسة جيرانه في الجزائر، وبقية أقاليم المغرب الكبير، كما أن البنيان الاجتماعيَّ والاقتصادي للمغرب قد أخذ شكلاً واضحًا يختلف عن شكله في الأقاليم المجاورة.

وُلد أبو العباس أحمد المنصور بن المهدي سنة 956هـ، وتربى بمدينة فاس؛ حيث أخذ يدرس العلم والأدبَ والفقه في مَدارسها، ثم أقام بسجلماسة، ولما تولى أخوه الغالب أمرَ المغرب رحَل هو وأخوه عبد الملك إلى الجزائر ثم إلى تركيا، وقد أكسبه مقامه في الأستانة اطلاعًا على شؤون أوربا ودول البحر المتوسط، فأظهر مهارة ودهاء ساعَداه في توجيه سياسة المغرب الخارجية، وقد ألف للمغاربة بنفسه كتابًا في علم السياسة، بيَّن فيه كيف تُنظِّم الأمَّة المُلك وتحافظ على كيانها ومجدها، وكان يهتم بمشكلات دولته ويطَّلع على شؤون بلاده اطلاعًا واسعًا [2].

كما كان وَلوعًا بالمعارف الطريفة، إلى جانب أنه كان عالمًا حفيًّا بالعلماء، حتى أُطلق عليه عالمُ الخلفاء وخليفةُ العلماء، كما كان شاعرًا من أحسن الشعراء، وكما يقول بعضهم: إنه أشعرُ ملوك المغرب قاطبة [3]، وكان له ديوانٌ باسم ديوان الشرفاء [4].

ولقد كان لهذا الرجل العبقريِّ دورٌ كبير في توطيد وتأسيس حكم أخيه المعتصم بالله عبد الملك بالمغرب؛ ولذلك رشَّحه لولاية عهده، وكان المنصور خليفةً لأخيه على فاس، ومنها كان يُرسل النَّجدات، ويقود الجيوش لمحاربة أعداء الدولة، كما كان له دورٌ عظيم في معركة وادي المخازن التي انتصَر فيها المغاربةُ على أعدائهم الصليبيين.

بويع أبو العباس بالخلافة غداةَ الانتصار في معركة وادي المخازن، وتلقب بالمنصور بالله؛ تيمنًا بانتصار المسلمين فيها، وكانت بيعته في نهاية جُمادى الأولى سنة 986هـ، ولقد بايعه الجندُ الذين كانوا في المعركة أولاً، والذين كانوا قد طالبوه بالرَّواتب والأُعطِيَات، فطالبهم بخُمس الغنائم، فسُوِّيَت بذلك الأمور بين الخليفة الجديد وجنودِه، ثم أتته بيعةُ فاس، وأرسل المنصور فأذعن الكلُّ للطاعة، وسارعوا فيما دخلَت فيه الجماعة [5].

وقد تعرَّض المنصور في بداية توليته لمؤامرةٍ كاد يفقد فيها سلطانَه؛ وذلك حينما علم قادة الأتراك بأمر بيعته، فاتفقوا مع بعض كبار الجيش المغربي على تنحية المنصور، وإعلان بيعة إسماعيل بن عبد الملك للعرش السعديِّ، مستغلِّين شعبية عبد الملك المعتصم في نفوس العامَّة، ولبثِّ روح التفرقة بين أبناء المغرب، مما اضطر معه المنصورُ إلى الفِرار؛ خشيةً على حياته. ولكنَّ المغاربة رفَضوا ذلك وأصرُّوا على بيعة المولى أحمد المنصور؛ لذلك كان أول ما فعله المنصور -بعد استِتباب أمره- أن قام بالتنكيل ببعض كبار الجيش المغربيِّ، والتخلُّص من المشكوك في إخلاصهم له [6].
 
السلام عليكم

علاقات أحمد المنصور الذهبي مع الإمبراطورية العثمانية:
ولما استقر حكم المنصور بالمغرب أرسل إلى السلطان مراد الثالث وإلى سائر المماليك الإسلامية المجاورة للمغرب: "بما أنعم الله به عليه من إظهار الدِّين، وهلاك عبَدة الصليب، واستئصال شأفتهم" [7]. وقد استقبل الخليفةُ السعدي الجديد وفودَ التهنئة من تركيا والجزائر وإسبانيا والبرتغال وفرنسا .. إلخ، وقد استُعرِضَت الهدايا والتُّحف الثمينة التي جاءت بها تلك الوفودُ في حفل شعبي عظيم.

ويبدو أنَّ استقبال المنصور للوفد التركيِّ كان استقبالاً فاترًا، وربما كان المنصور قد استقبَل هدية سلطان تركيا، وكانت سيفًا محلًّى لم يُر مثله مَضاءً وصفاءَ متن، فتَشاغل عن الوفد وأهمَله، وتأخَّر عن جواب خافان مالك القسطنطينية العظمى السلطان مراد بن السلطان سليم التركماني، والذي كان يطلب تبعيَّة المغرب للإمبراطورية العثمانية [8]، فاغتاظ السلطان العثماني، وكان في بلاطه بعضُ أعداء المنصور الذين زيَّنوا لصاحب القسطنطينية ضرورةَ تأديب المنصور، والاستيلاء على المغرب الأقصى، وكان على رأسهم عليّ علوج وزير البحر، وقد نجَح علوج في إيغار صدر السلطان التركيِّ واستثارته، فأمر بتوجيه حملة لمنازَلة المنصور.

ولقد بلغ الخبر للخليفة السعدي، ولم يضيع المنصورُ وقته، فاتَّجه إلى فاس، وشحن الثُّغور، واستعد أكملَ استعداد للحرب، وفي نفس الوقت بعثَ رسولين للسلطان العثمانيِّ، ومعَهما هدية عظيمة مقدِّمًا اعتذاره عما سلَف منه، والتقت رسل المنصور بالريس علي علوج وهو قاصدٌ المغرب، وحاول أن يُثني رسولَيِ المنصور عن هذه السفارة، ولكن أحد الرسولين وصل إلى بلاط السلطان التركيِّ ونجح في إزالة النُّفور من صدره، فقَبِل السلطان مرادٌ اعتذارَ المنصور، وقبِلَ هديته، وصدرت أوامرُ سلطان تركيا إلى علوج بالرجوع عن مُنازلة المنصور [9]. وهكذا استطاع المنصور بحنكته السياسية وحسن تدبيره أن يَقِي بلادَه شرَّ حملة لا يُمكن التنبؤ بنتائجها في تلك الفترة التي يُحاول فيها توطيدَ دعائم القوة والاستقرار في دولته.

ضربة على أيدي الثائرين:
ولم يكن أمر حملة علوج -التي عادت قبل أن تصل المغرب- هو كلَّ ما أقلق المنصور، بل الحقيقة أنه تعرض طوال سِني حكمه الطويلة لثوراتٍ ومؤامَرات من الداخل والخارج؛ كما سنوضِّح ذلك بعد قليل. ولقد مرض المنصور مرضًا خطيرًا في العام التالي، وهذا ما جعله يفكِّر في تعيين ولي للعهد، كما طلب منه كبارُ رجال دولته أيضًا ذلك، وقد وقع اختيارُ المنصور على ابنه محمد الشيخ وليًّا للعهد.

ويبدو أن ذلك الاختيارَ أسخط داود بن عبد المؤمن ابنَ أخي المنصور، فقام داود بثورته ضد عمِّه الذي اعتقد أن عمه لم يُراعِ حقَّه عند ولاية العهد على الرغم مما قدَّمه من خدمات لعمَّيه أحمد وعبد الملك في استخلاص المُلك من المتوكِّل.

وقد أرسل المنصور قائده ابنَ بجَّة الذي ظلَّ يطارده بجبل سكسيره، ففرَّ الثائر إلى جبال هوزالة، ولم يزل ابن بجة في مقاتلته إلى أن شرَّده إلى جبال هوزالة، ففر داود منها إلى الصحراء إلى أن هلَك سنة 988هـ، وانتهى أمر ثورته [10].

وقد أوقع المنصورُ كذلك بعرب الخلط الذين عاثوا في البلاد فسادًا، وضايقوا الرعيَّة، فكَثُرت الشكاية منهم إلى المنصور، فأرسل إليهم قائده موسى بن أبي حُميد العمري، فانتزع منهم الخيل، ثم حكَّم السيفَ في رقابهم، واستأصل جمهورهم؛ فمِن ثم خُضِدت شوكتهم، ولانت للغامز قناتهم [11].

كما قضى المنصور على ثورة الحاج قرقوش ببلاد غمارة وبلاد الهبط الذي كان قد ثار هنالك، وتَسمَّى بأمير المؤمنين واعتقدَت فيه العامة، فأُخذ وقُتل، وحُمل رأسه إلى مرَّاكُش سنة 993هـ [12].

أمَّا أخطر هذه الثورات التي هزَّت المغرب الأقصى، وأقلقَت المنصور ردحًا من الزمن فثَورتان: ثورة ابن أخيه الناصر بن الغالب، وثورة ابنه ووليِّ عهده المأمون محمد الشيخ.

أما ثورة الناصر بن الغالب فكان وراءها المحرِّض عليها فيليب الثاني ملك إسبانيا، وقد كان الناصر واليًا على قادلا أيام أبيه الغالب، ولما تولى أخوه المتوكِّل عرش البلاد سجَنه إلى أن أطلَقه من سجنه عمُّه عبد الملك حينما استولى على حكم المغرب، فلما توفي المعتصم فرَّ الناصر إلى آصيلا، وكانت تحت البرتغاليين، ثم عبر البحر إلى إسبانيا حيث بقي عند ملك إسبانيا إلى أن بعثَه إلى مليلة؛ لتفريق الكلمة في بلاد المغرب، وتحطيم كل مشروعات المنصور، وإثارة القلائل ضده.

ولما نزل الناصر مليلية سارع إليه الناس، وكثرت جموعه، فخرَج منها قاصدًا لتازة، والتفَّت أيضًا حوله القبائل المجاورة، ولما علم المنصور بأمره أحزَنه ذلك، وتخوَّف منه غاية الخوف؛ لأنَّ الناصر اهتزَّت لقيامته البلادُ؛ لميل القلوب عن المنصور؛ لشدة وطأته وكثرة عسفه للرعية.

ثم حدث أن بعثَ المنصور جيشًا كبيرًا، فهزمَه الناصرُ واستوثق له الأمر، فأمر المنصورُ وليَّ عهده بمنازلته، فلما التقى الجمعان كانت الدائرة على الناصر، فهرب إلى تازه بالجاية، وهي بلدة من عمل بلاد الزبيب، فلحق به وليُّ العهد، فلَم يزَل في مقاتَلته إلى أن قبض عليه، واحتزَّ رأسه، وحملها إلى مراكش سنة 1005هـ [13].

ولقد تردَّد أصداءُ هذا النصر في الرسائل الموجَّهة من المنصور إلى علماءِ مصر وسلطانِ تركيا مندِّدةً بمناورات إسبانيا الصليبية في إثارة الأدعياء ضد دار الإسلام [14]. ولقد تميزت العلاقات بين المنصور وفيليب الثاني ملك إسبانيا بالتقلُّب والتعاقب بين الصفاء والكدر، وبخاصة بعد تدخل المنصور في النِّزاع المسيحي بين الدول الكاثوليكيَّة والدول البروتستانتيَّة.
 
السلام عليكم

علاقات أحمد المنصور الذهبي مع القوى المسيحية:
ولقد تآمر فيليب الثاني ضدَّ المنصور حينما أطلَق سراح الناصر ابن أخي المنصور، الذي كان محتفظًا به في الأراضي الإسبانية للقيام بثورة؛ لإزعاج الدولة وحاكمها، والقضاء على استقرار البلاد. ويمكن القول: إن إطلاق فيليب للناصر كان ردًّا على سياسة المنصور إزاء تأييده لملكة إنجلترا (إليزابيث) في مساعدتها للأمير (دون أنطونيو) المطالب بالعرش البرتغالي الذي كان الملك الإسباني قد ضمه إلى أملاك إسبانيا منذ سنة 1581م، وبالرغم من ذلك استطاع المنصور إخماد ثورة الناصر بعد جهودٍ كبيرة، وبعد أن شغلَت البلادَ المغربية حوالي سنتين من الزمان.

وقد تراجع المنصور عن سياسته في تأييد إنجلترا والأمير البرتغالي في الوقت الذي دخل مع فيليب الثاني في مفاوضات سرِّية انتهت بتنازل الإسبان عن مدينة آصيلا إحدى قواعد الاحتلال الإسباني بالشواطئ المغربية والجلاء عنها، فعادت هذه السياسة على المغرب بتحرير بعض المدن المستعمَرة من جهة، وساعدت المنصور من جهة أخرى على إرسال الحملات العسكرية لتوسيع رقعة البلاد المغربيَّة [15].

ولقد كان لسياسة المهادنة مع القوى الخارجية -وبخاصة القوى المسيحية- بالإضافة إلى الدبلوماسية المحنكة التي اتَّبعها الخليفة السعدي أثرُها في أن حقَّقَت للمغرب الكثير من الاستقرار والمكاسب، ومن ثَم اتجه المنصورُ إلى تطوير الدولة السعدية، محاولاً أن يُضفي عليها طابعًا إفريقيًّا بتوسيع رقعتها في أقصى فيافي الجنوب، ولعل انحدارَ البرتغال وتقلُّص نشاطِها الاستعماري هو الذي جعَله يتَّجه إلى أن يخلفها في اكتساح الصَّحراء؛ وذلك بعد أن تعلَّل المنصور بوجوب الجهاد جنوبًا بعد تعذُّر ذلك بالأندلس شمالاً [16].

توسيع رقعة المغرب:
وقد عاودَت المنصورَ أحلامُ والده المهديِّ في تحقيق الدولة المغربية الكبرى، وأراد أن يَنجح فيما قصرت به إمكانيات وظروف والده الراحل. ولعل أهم حدث سياسي يَرتبط باسم المنصور الذهبي، ويتميَّز به تاريخ دولة الأشراف السعديين هو ضمُّ بلاد السودان الغربي إلى المغرب الأقصى؛ فقد امتد سلطان المنصور إلى تمبكتو وكاغو وكاتم بأرض السودان، ولولا كيد آل عثمان ومؤامراتهم لانضمَّت لسكان المغرب مملكة التيكرور وبرنو منذ ذلك العهد، ولكانت بأفريقيةَ دولةٌ إسلامية معتزة بشعوبها وسلطانها في العصر الذي تحوَّلَت فيه الحياة في أروبا إلى الصناعة والغزو والفتوحات [17].

وقد استطاع المنصور الاستيلاءَ على واحتي تيكورارين وتوات من أرض الصحراء سنة 990هـ، فاشتهر أمره في السودان، فأرسل إليه سلطان برنو بهدية وبايعَه، ثم تطلَّعَت نفسه لفتح السودان الغربي، فجهَّز لذلك جيشًا تحت قيادة جؤذر باشا، فمرت جيوشه بتنانسيف ثم بدَرعة، ثم قصَدوا تميكتو ثم إلى كاغو، وكان ملكها يُدعى إسحاق اسكيه، فبرز لقتالهم، وصبر السودانيُّون على نار المدافع المغربية، ولكن جيوش المنصور استطاعت آخر الأمر أن تستولي على بلاد السودان الغربي، وتعلن تبعيَّتَه لدولة الأشراف السعديين في مراكش [18].

ولم يأت عام ألف للهجرة (1000هـ / 1591م) حتى غدا المنصورُ إمبراطورًا يحكم أراضيَ واسعة بغربي أفريقية، تضم من بين مناطقها بلاد السودان الغنيَّة بذهبها وتوابلها ورقيقها، والتي كانت من أهم الأسواق التجارية في العالم وفي أفريقية بوجهٍ خاص.

وغدا المنصور بذلك ندًّا قويًّا لكلٍّ مِن منافِسَيه: مراد الثالث سلطان تركيا، وفيليب الثاني ملك إسبانيا، كما أصبحَت للمنصور شهرةٌ واسعة ومكانة خاصة يَحسَبُ لها حكامُ الشرق والغرب أيَّما حساب، وقد تفرَّغ منذ هذا التاريخ للأعمال العمرانيَّة والإنشائية، ولتطوير دولته سياسيًّا وحضاريًّا، ورفع مستوى المعيشة لمختلِف طبقات الشعب المغربي.

انحراف وليِّ عهده:
ولئن كان معروفًا أن فيليب الثاني ملك إسبانيا وراء ثورة الناصر بن الغالب، فهناك دلائلُ تشير إلى أنَّ هناك صلةً بين ثورة ابنه محمد الشيخ وليِّ عهده وبين الأتراك، وربما كانت جهاتٌ أجنبية أخرى وراء هذه الثورة، ويمكن القول: إن ثورة الشيخ كانت من الخطورة بمكان؛ إذ إنه لو قُدِّر لهذه الثورة أن تستمرَّ حتى نهايتها لأدَّى ذلك إلى تدخُّل الأتراك في شؤون المغرب الأقصى، وهي الأمنيةُ التي طالَما تطلَّعوا إليها منذ زمن بعيد.

كان محمد الشيخ خليفةً لأبيه على فاس، إلا أنه كان سيِّئ السمعة موغلاً في ضُروب الفساد، ولما استشرى عبَثُه وفسادُه نهاه وزيرُ أبيه إبراهيم السفياني عن سوء فعله مرارًا فلم يَنته، فلما أكثر الوزير من التقريع والتوبيخ سقاه الشيخ سمًّا فكان فيه حتفُه [19].

ولما كثرت الشكاوي ضد الشيخ كتب له المنصور أن يكفَّ عن غيِّه، فما زاده التحذير إلا إغراء، فلما رأى المنصورُ أنه لم يكترث بأمره عزم على التوجُّه لفاس؛ بقصد أن يؤدِّبه بما يكون رادعًا، فلما سمع بذلك الشيخ جمَع عسكرَه، واستعرض جيشه وعزم إن بلغَه خروجُ أبيه عن مراكش أن يتوجَّه في أصحابه إلى تلِمْسان؛ للاستنجاد بالأتراك.

فلما بلغ المنصورَ ما عزم عليه ولدُه من الذَّهاب إلى تلِمسان تخلَّف عن الخروج من مراكش، فصار يُلاطفه إليه ولاية سِجِلْماسة ومعها دَرعة، وخلَّى له خَراجهما حتى تسكن ثورتُه، فأظهر المأمونُ امتثال الأمر، وخرج يومًا قاصدًا سجِلماسة، فما هو إلا شيء يسير حتى عاد فجأةً إلى فاس، ورجع إلى ما كان عاكفًا عليه من الفساد والاستهتار، فأرسل إليه الخليفة أعيانَ مراكش وعلماءها، فنصَحوه وحذَّروه سطوةَ والده وعقوقَه، فتظاهر بالقَبول، ولم يطمئنَّ المنصور لذلك، فخرج سرًّا في اثني عشرَ ألفًا من الخيل لدار الملك في فاس الجديد، شاكرًا الله على ما أولاه من الظَّفَر بابنه والنصر عليه، مِن غير إراقة دماء، وقد انتهت ثورة الشيخ المأمون سنة 1011هـ / 1602م [20]. وهكذا استطاع المنصورُ بدهائه وتخطيطه الدقيق وحُسن تصرفه أن يَقضي على ثورة ولَدِه ووليِّ عهده، وأن يقِيَ المغرب الأقصى شرَّ أعدائه المتربصين به وبدولته.
 
السلام عليكم

إنجازات أحمد المنصور الذهبي السياسية والاقتصادية والعلمية:
أما إنجازات المنصور السياسية والإدارية والاجتماعية والعمرانية والثقافية، فقد سجَّل له التاريخ العديدَ والعظيم منها؛ حيث برَزَت في عهده أهمُّ النظم ومظاهر الحضارة المختلفة في شتى مرافق الدولة، وبين طبقات المجتمع المغربي، وفي هذا المجال لا يُمكن أن نُغفِل ذِكر قصر البديع الذي استغرق بناؤه منذ تولِّي المنصور الخلافةَ حتى وفاته، وقد أخذ هذا القصرُ مِن اسمه الكثيرَ من مظاهر الإبداع. كما أنشأ المنصورُ الكثيرَ من المدارس ومعاهد العلم، والمستشفيات والقناطر، والحصون والقلاع، والطرق في المدن والقرى في شتى أنحاء الإمبراطورية المغربية. ويعدُّ عصرُ المنصور الذهبيِّ من أعظم عصور حكَّام السعديين؛ لما حفَل به عهدُه من رقيٍّ وازدهار، ولما ترَكه من آثار حضاريَّة، امتدَّت بعده على مدى سنينَ طويلة.

علاقات أحمد المنصور الذهبي ببلاد المشرق:
ويبدو أنَّ أمير المؤمنين أحمد المنصور الذهبيَّ لم يَقنَع بما وصلَت إليه الدولة السعدية في عهده من اتِّساع، فاتجه نحو الشرق العربي الإسلاميِّ الخاضع للأتراك العثمانيِّين؛ وذلك لأنه كان يعتزُّ -كما كان آباؤه من قبل- بأصله العربيِّ ونسبه الشريف، ويرَون أنهم أولى بالخلافة الإسلاميَّة من سَلاطين الأتراك.

ثم إنه اتَّجه للمشرق العربي؛ وذلك لأن الاكتشاف البرتغاليَّ والإسباني لطريق الهند والشرق الأقصى، وتحوُّل التجارة العالمية من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي -قد أثَّر في اقتصاديات بلاد الشرق الأوسط، وقد أدى ذلك إلى اضطرابات في أوضاع الشرق العربي في المجالات الاقتصادية والسياسيَّة، مع عجز الأتراك عن معالجة مَشاكل شعوبهم.

كما يُضاف إلى ذلك إقبال عرب المشرق -بعد التحول الذي طرأ على أوضاعهم الاقتصادية- على الأسواق التجارية في أواسط أفريقية وبلاد السودان وغربي أفريقية الغنية؛ لتوثيق الروابط التجارية معهم، فشرَعَت قوافلُهم التجارية تسلك طريقًا خاصًّا، يبدأ بنهر النيل في مصر، وينتهي بنهر النيجر في بلاد السودان، عبر برنو والهاوسا وغيرها، وأصبح هذا الطريق يعد أساسيًّا للتجارة؛ لصعوبة السفر عبر البحر المتوسِّط؛ نتيجةً لتزايد أعمال القرصَنة وقطع الطَّريق في البحار، ومنذ الفتح المغربيِّ للسودان أخذ المنصورُ يفكِّر في وضع اليد على طريق التجارة الرئيسية في أواسط أفريقية؛ لعائداتها المادية، ولأنها تنتهي ببلاد مصر، باب المشرق العربي، والتحكم في مصر يُساعد على بسط النفوذ على باقي البلاد العربية في الشرق [21].

لذلك أرسل المنصورُ دعاته للتبشير بخلافته إلى المشرق، ولتوثيق علاقته ببعض البيوتات الشهيرة والشخصيات العلميَّة في الشرق الإسلامي عامة، وفي مصر بوجه خاص. لكن الأحداث الداخلية ومؤامرات فيليب الثاني ملك إسبانيا ضدَّ الدولة السعدية جعلَت المنصور يتَّجه من الشرق إلى الغرب؛ لمحاربة فيليب الثاني، وعملِ تحالفٍ عسكري إنجليزي مغربي؛ لغزو إسبانيا في عقر دارها!

وفعلاً كاد يتم هذا التحالف بين إنجلترا البروتستانتيَّة والمغرب الإسلاميِّ، لولا أنَّ إليزابيث ملكة إنجلترا (1557 – 1603م) وهي الملكة المسيحيَّة، لا يمكن أن تمكِّن ملكًا مسلمًا -مهما كانت الأسباب- مِن احتلال بلادٍ مسيحيَّة؛ لذلك وجَّهَت نظر المنصور إلى غزو مستعمَرات إسبانيا البعيدة؛ سعيًا منها للوصول إلى موضع التوابل في الشرق.

ولم يكن المنصور ليُغامر بوقته وجهده وماله في مشروعٍ بعيدِ المنال، وخاصة بعد أن تغيَّرَت ظروفه الداخلية؛ إذِ انتشر داء الطاعون في المغرب منذ سنة 1007هـ / 1598م، وانعكس ذلك على الأوضاع الاقتصاديَّة والسياسية للبلاد، كما أخذ وليُّ عهده ابنه محمد الشيخ يهدِّد بالثورة والخروج على أبيه، والاستنجاد بالأتراك، غير أنَّ المنصور قد نجح في إفساد خطَّة ابنه، وأفسد بالتالي على الأتراك فرصةَ التدخل ضد المغرب سنة 1011هـ كما سبق أن ذكَرنا.

ولكن الزمن لم يمتدَّ بالمنصور طويلاً بعد ذلك؛ فقد توفِّي في العام التالي سنة 1012هـ بداءِ الطاعون، بعد أن بلغَت دولة الأشراف السعديين في عهده أوجَ عظمتها واتِّساعها، وبلغَت شأوًا كبيرًا في الحضارة والعمران.

المصدر: موقع شبكة الألوكة.
[1] وسبب تلقُّبه بالذهبيِّ يُقال: إنه لِما أفاض الله من الذَّهب على أيامه من غنائم السودان وتجارتهم، حتى صار الذهب أكثرَ المعاملات، ورواتب الجند المرتزقة وغيرهم؛ انظر: (محمد الإمام بن ماء العينين الشريف الإدريسي الشنجيطي: الجأش الربيط في النضال عن مغربية شنجيط وعربية المغاربة من مركب وبسيط)؛ جـ 1 ص 19.
[2] نقولا زيادة: صفحات مغربية، ص 60.
[3] عبد العزيز عبد الله: تاريخ المغرب، جـ 1 ص 184.
[4] عبد السلام بن سودة: دليل مؤرِّخي المغرب الأقصى، ص 210.
[5] السلاوي: الاستقصا، جـ 5 ص 91.
[6] من أبرز القواد الذين نكل بهم المنصورُ سعيد بن فرج الدغالي قائد جند الأندلس، ومحمد ابن أخيه، ومحمد بن زرقون الكهية وأبو الفضل الغري؛ انظر: الفشتالي، مناهل الصفا، ص 7 - 13.
[7] السلاوي: الاستقصا جـ 5 ص 91.
[8] اليفرني: النزهة ص 86.
[9] المرجع السابق، نفس الصفحة.
[10] انظر: السلاوي: الاستقصا، جـ 5 ص 94.
[11] انظر: الفشتالي: مناهل الصفا، ص 160 - 170.
[12] الفشتالي: المناهل، ص 105 - 107.
[13] انظر عبد العزيز الفشتالي: مناهل الصفا في أخبار الملوك الشرفاء، ص 138 - 144.
[14] المرجع السابق، ص 158 وما بعدها.
[15] د. عبد الكريم كريم، عصر المنصور الذهبي، ص 4.
[16] عبد العزيز عبد الله، تاريخ المغرب، جـ 1 ص 184.
[17] عبدالكريم الغلالي، المغرب ملكًا وشعبًا، ص 43.
[18] محمد فريد وجدي، دائرة معارف القرن العشرين، جـ 5 ص 151.
[19] اليفرني، النزهة، ص 179.
[20] انظر: اليفرني، النزهة، ص 180 - 181.
[21] عبد الكريم كريم: عصر المنصور الذهبي، ص 7.
 
السلام عليكم

ابن عساكر .. حافظ الشام ومؤرخ دمشق

اسمه ونسبه:

هو أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله بن الحسين الدمشقي الشافعي المؤرخ الرحالة الحافظ، المعروف بابن عساكر. ولد في أول الشهر المحرم سنة 499هـ / 1105م في مدينة دمشق.

أخذ العلم والفقه منذ الحداثة بدمشق حيث عاش في بيت جليل، وقد كان أبوه الحسن بن هبة الله شيخا صالحا عدلا محبا للعلم مقدرا للعلماء مهتما بأمور الدين والفقه.

البيئة التي نشأ فيها ابن عساكر:
يقول د. صلاح الدين المنجد في مقدمة المجلدة الأولى من تاريخ ابن عساكر: "كان للبيئة التي نشأ فيها الحافظ ابن عساكر أثر كبير في اتجاهه نحو العلم ونبوغه فيه، فقد نبت في بيت قضاء وحديث وفقه، وكان ألاف هذا البيت من كبار علماء دمشق وقضاته، فما أرى ابن عساكر منذ نشأته غير العلماء وما وعى غير العلم.

وكان أخوه الأكبر صائن الدين هبة الله بن الحسن (488 - 563هـ) فقيها مفتيا محدثا قرأ القرآن بالروايات وتفقه وبرع، ورحل فسمع وقرأ الأصول والنحو وتقدم وسمع الكثير وأعاد بالأمينية لشيخه أبي الحصن السلمي، ودرس وأفتى وكتب الكثير، وكان إماما ثقة ثبتا دينا ورعا. وأما أخوه أبو عبد الله محمد بن الحسن بن هبة كان قاضيا، وقد نشر أولاده الستة العلم والحديث.

وكانت أمه من بيت القرشي، أبوها يحيى بن علي بن عبد العزيز القاضي الفقيه الكبير، وكان عالما بالعربية ثقة حلو المحاضرة فصيحا، تفقه على أبي بكر الشاشي وبدمشق على القاضي المروزي والفقيه نصر، وقد سمع منه وروى عنه نافلته أبو القاسم بن عساكر.

وأما خاله أبو المعالي محمد بن يحيى فقد سمع أبا القاسم بن أبي العلاء والحسن بن أبي الحديد والفقيه نصر المقدسي وأبا محمد بن البري والقاضي الخلعي بمصر وعلي بن عبد الملك الدبيقي بعكا وحضر درس الفقيه نصر وثقة به ناب عن أبيه في القضاء ثم استقل به، وكان نزيها عفيفا صليبا في الحكم، قال عنه السمعاني أنه كان محمودا حسن السيرة شفوقا وقورا حسن المنظر مترددا، روى عنه ابن أخته أبو القاسم بن عساكر. وأما خاله الآخر سلطان بن يحيى زين القضاة أبو المكارم القرشي الدمشقي فقد روى عن أبي القاسم بن أبي العلاء ناب في القضاء عن أبيه ووعظ وأفتى.

بدأ ابن عساكر بتلقي علومه ودروسه باكرا وهو في سن صغيرة، فقد سمعه أخوه الصائن سنة 505هـ / 1111م، فقد كان في السادسة من عمره يومذاك فأخذ يسمع باعتناء أبيه وأخيه الصائن فسمع أبا القاسم النسيب وقوام بن زيد وسبيع بن قيراط وأبا طاهر الحنائي وأبا الحسن بن الموازيني، وراح يتردد إلى مجالسهم ويحضر حلقات تدريسهم.

يقول د. المنجد في مقدمة المجلدة الأولى: "فبيئة هذا شأنها فقد وجد فيها الحافظ ما ساعده على تفتح ذكائه وإقباله على ما رغب فيه حتى غدا مؤرخ الشام وحافظ العصر".

في الجامع الأموي والمدرسة الأمينية:
تدرّج في طلب العلم، فأخذه عن علماء جامعة الجامع الأموي بدمشق الذي كان أعظم مركز للعلم، تعقد فيه حلقات الإقراء والتدريس والحديث والوعظ.

كما تفقه ابن عساكر في حداثته بدمشق على الفقيه أبي الحسن علي بن المسلم بن محمد بن علي السلمي، عمدة أهل الشام ومفتيهم، وكان قد لازم الغزالي مدة مقامه بدمشق، وقد نقل ابن عساكر عن الغزالي قوله في أبي الحسن السلمي: "خلفت بالشام شابا إن عاش كان له شأن" فكان كما تفرس فيه ودرس بحلقة الغزالي مدة ثم ولي التدريس في المدرسة الأمينية في سنة 504هـ وهي أول مدرسة للشافعية بنيت في دمشق، وكان السلمي ثقة ثبتا عالما بالمذاهب والفرائض، وكان ابن عساكر يتردد عليه ويحضر دروسه في المدرسة الأمينية ويستمع عليه.
 
السلام عليكم

رحلة ابن عساكر في طلب العلم:

رحلته الأولى.. إلى بغداد:
وفي سنة 520هـ / 1126م وكان قد بلغ الحادية والعشرين من عمره، وكان قد استوفى قسطا مهما من العلم على شيوخه بدمشق، وتنوعت معارفه واتجه نحو رواية الحديث حيث جمع من معرفة المتون والأسانيد وحفظ فأتقن وقرأ فتثبت وتعب في ملاحقة المحدثين والعلماء ولم يعد يقنعه ما حصل عليه في حلقات دمشق ومساجدها ومدارسها وعلمائها، عزم على طلب المزيد والوقوف على آراء مشاهير العلماء والفقهاء فقرر أن يرحل عن دمشق رغبة في طلب الحديث.

يقول د. المنجد في مقدمة المجلدة الأولى: وكانت الرحلة في طلب الحديث والاستماع إلى الشيوخ أثرا ذا شأن، ولم يتخلف محدث كبير عن الرحلة ليتم علمه ويتلقى الأسانيد العالية. وكانت مراكز العلم منتشرة في طول العالم الإسلامي وعرضه والعلماء والفقهاء منتشرون في كافة الأصقاع، ولكن الإشعاع كان ينتشر من مراكز استطاعت أن تستقطب أهل العلم والحديث والرواية واشتهرت فيها حلقات التدريس والنقاش في مراكزها العامة كالمدارس والمساجد وفي مراكزها الخاصة كمقرات إقامة الفقهاء والعلماء والمحدثين.

وكانت بغداد جنة الأرض ومدينة السلام وقبة الإسلام ومجمع الرافدين وغرة البلاد وعين العراق ودار الخلافة ومجمع المحاسن والطيبات ومعدن الظرائف واللطائف وبها أرباب الغايات في كل فن وآحاد الدهر في كل نوع. ورغم تدني نفوذها السياسي إلى مستوى كبير فقد حافظت على دورها الاستقطابي والمحوري حيث بقيت المركز الأساس الذي يجذب طلبة الحديث والفقه والعلوم ولم تستطع أي من المراكز الأخرى في مصر ومكة والمدينة وخراسان ونيسابور وأصبهان ومرو وهراة وسرخس وطوس أن تنال من أهمية بغداد ودورها، وقد عُرف عن أهل بغداد أنهم أرغب الناس في طلب الحديث وأشدهم حرصا عليه وأكثرهم كتبا له، ويقول الخطيب البغدادي: "وأهل بغداد موصوفون بحسن المعرفة والتثبت في أخذ الحديث وآدابه وشدة الورع في روايته اشتهر ذلك عنهم وعرفوا به".

وفي سنة 521هـ ذهب أبو القاسم بن عساكر من بغداد إلى الحج فسمع بمكة ومنى والمدينة، وممن سمع بمكة: عبد الله بن محمد المصري الملقب بالغزال بمكة وعبد الخلاق بن عبد الواسع الهروي بمكة، وحدث بمكة ومنها قفل عائدًا إلى بغداد.

ولما دخل بغداد أعجب به العراقيون وقالوا: "ما رأينا مثله"، وقال شيخه أبو الفتح المختار بن عبد الحميد: قدم علينا هذا فلم نر مثله. وأقام ببغداد خمسة أعوام يحصل العلم فسمع من هبة الله بن الحصين وعلي بن عبد الواحد الدينوري وقراتكين بن أسعد وأبي غالب بن البناء وهبة الله بن أحمد بن الطبر وأبي الحسن البارع وأحمد بن ملوك الوراق والقاضي أبي بكر. وسمع بالكوفة الشريف أبا البركات عمر بن إبراهيم الزيدي. وطوف وجاب العراق ولقي المشايخ ثم عاد إلى بغداد فأقام بها يسمع الحديث ولزم به التفقه وسماع الدرس بالنظامية وقرأ الخلاف والنحو. وكان ببغداد يسمى شعلة نار من توقده وذكائه وحسن إدراكه لم يجتمع في شيوخه ما اجتمع فيه.

وعلى هذا النحو لازم ابن عساكر بغداد متتبعا العلماء والفقهاء وكبار المحدثين مستمعا إليهم قارئا عليهم مكثرا في ملازمتهم حتى سنة 525هـ / 1131م، وقد استنفذ ما عند الشيوخ من أحاديث بالغ في طلبها منهم فأتقن حفظها وتلقى متونها وأسانيدها فقرر العودة إلى دمشق، وفعلا عاد إلى دمشق سنة 525هـ ليسمع على شيوخها.

رحلته الثانية..إلى بلاد العجم:
وبقي أبو القاسم بن عساكر في دمشق مدة ملازما علمائها وفقهائها وكبار محدثيها مكثفا الطلب منهم متعشقا لرواية الحديث عليهم حتى غدا حافظا فهما متقنا بصيرا بهذا الشأن، لا يلحق شأوه ولا يشق غباره ولا كان له نظير في زمانه، وهو بعد شاب في مقتبل العمر، وبقي إلى سنة 529هـ حيث عزم على التوجه إلى مراكز ازدهر فيها علم الحديث وانتشر فيها الفقهاء والعلماء والمحدثون فكانت رحلته نحو الشرق نحو بلاد العجم.

فارتحل إليها وطاف في مراكزها ومدنها وبالغ في طلب الحديث فيها على كبار شيوخها ومحدثيها، فسمع بأصبهان ونيسابور ومرو وتبريز وميهنة وبيهق وخسروجرد وبسطام ودامغان والري وزنجان وهمذان وأسداباذ وجي وهراة وبون وبغ وبوشنج وسرخس ونوقان وسمنان وأبهر ومرند وخوي وجرباذقان ومشكان وروذراور وحلوان وأرجيش.

وكان توجهه إلى بلاد خراسان على طريق أذربيجان والتقى بنيسابور بالسمعاني وفيه يقول: أبو القاسم كثير العلم غزير الفضل حافظ متقن دين خير حسن السمت جمع بين معرفة المتون والأسانيد صحيح القراءة متثبت محتاط ..، إلى أن قال: جمع ما لم يجمعه غيره وأربى على أقرانه، دخل نيسابور قبلي بشهر، سمعت منه وسمع مني، وكان قد شرع في التاريخ الكبير لدمشق، ثم كانت كتبه تصل إلىَّ وأنفد جوابها.

وسمع بنيسابور أبا عبد الله الفراوي ولازمه فترة، وفي ذلك يقول الفراوي: قدم ابن عساكر فقرأ عليَّ ثلاثة فأكثر وأضجرني وآليت على نفسي أن أغلق بابي، فلما أصبحنا قدم عليَّ شخص فقال: أنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. قلت: مرحبا بك. فقال: قال لي في النوم: امض إلى الفراوي وقل له: قدم بلدكم رجل شامي أسمر اللون يطلب حديثي فلا تمل منه. قال القزويني: فوالله ما كان الفراوي يقوم حتى يقوم الحافظ. ولم تقتصر رحلته وطوافه في بلاد خراسان على الدرس والتلقي والسماع إنما حدث في أصبهان ونيسابور وسمع منه جماعة من الحفاظ ممن هو أسن منه.

ودامت رحلته في بلاد العجم أربع سنوات، قضاها في ملازمة العلماء والفقهاء والمحدثين متتبعا الحديث معتنيا بطرقه ورواته ورواياته وأسانيده، فتعب في جمعه وبالغ في طلبه حتى أنه جمع ما لم يجمعه أحد، وعاد إلى بغداد ومنها قفل إلى دمشق.

هاتان الرحلتان إلى بلاد العجم وخراسان ومراكزها العلمية الكبيرة وإلى العراق وبلاد الحجاز سمحتا له بلقاء كبار الشيوخ وأعيان العلماء والفقهاء والمحدثين حيث سعى في التحصيل عليهم والإفادة منهم، فحفظ وكتب الكثير، وقد التقى بأكثر من 1300 شيخ ومن النساء بضع وثمانين امرأة. يقول الذهبي في سير الأعلام: "وعدد شيوخه في معجمه ألف وثلاثمائة شيخ بالسماع وستة وأربعون شيخا أنشدوه وعن مئتين وتسعين شيخا بالإجازة الكل في معجمه وبضع وثمانون امرأة لهن معجم صغير سمعناه".
 
السلام عليكم

عودته إلى دمشق..مرحلة جديدة:
كان ابن عساكر ابن أربع وثلاثين سنة لما عاد إلى دمشق وقرر الاستقرار فيها، وذلك بعد أن حقق قدرا عاليا من بناء شخصيته العلمية والفقهية، وبعد أن ذاع صيته وانتشرت أخباره وتناقل العلماء أخبار فطنته وسعة حفظه وإتقانه وتردد اسمه في مختلف الآفاق، قال أبو المواهب: لم أر مثله ولا من اجتمع فيه ما اجتمع فيه من لزوم طريقة واحدة مدة أربعين سنة من لزوم الصلوات في الصف الأول إلا من عذر، والاعتكاف في شهر رمضان وعشر ذي الحجة وعدم التطلع إلى تحصيل الأملاك وبناء الدور، قد أسقط ذلك عن نفسه وأعرض عن طلب المناصب من الإمامة والخطابة وأباها بعد أن عرضت عليه، وأخذ نفسه بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا تأخذه في الله لومة لائم. قال لي: لما عزمت على التحديث -والله المطلع- أني ما حملني على ذلك حب الرياسة والتقدم، بل قلت: متى أروي كل ما سمعت؟ وأي فائدة من كوني أخلفه صحائف؟ فاستخرت الله واستأذنت أعيان شيوخي ورؤساء البلد وطفت عليهم فكلهم قالوا: من أحق بهذا منك؟ فشرعت منذ 533هـ / 1138م.

هذه المرحلة في حياة ابن عساكر هي الأكثر سعة ورحابة وقد امتدت على مدى عمره، وفيها انتهت إليه رياسة المذهب وبات -كما يقول عنه ابن النجار: "إمام المحدثين في وقته ومن انتهت إليه الرياسة في الحفظ والإتقان والمعرفة التامة بعلم الحديث والثقة والنبل وحسن التصنيف والتجويد، وأخذ بعدما ملاته الثقة والاعتزاز بما حمله وحفظه أخذ يملي ويحدث ويصنف، حيث كان بارعا في معرفة الحديث ومعرفة رجاله وهذا ما جعله ينصرف بكليته الى الالتزام بما قرره من التحديث والرواية".

يقول ولده بهاء الدين الحافظ أبو محمد القاسم: قال لي أبي: لما حملت بي أمي رأت في منامها قائلا يقول لها: تلدين غلاما يكون له شأن، فإن الله تعالى يبارك لك والمسلمين فيه. وصدقت اليقظة منامها ونبهه السعد، فأسهره الليالي في طلب العلم وغيره سهرها في الشهوات أو نامها وكان له الشأن العظيم والشأو الذي يجل عن التعظيم.

مؤلفات ابن عساكر:
ثم انصرف الحافظ ابن عساكر إلى الجمع والتصنيف والرواية والتأليف وهذا يتطلب إلى جانب التزامه بالقيام بواجباته العبادية تخليا عن العمل لتحصيل الأملاك والمنافع وبناء الدور إلى المواظبة على طاعة الله وعدم التطلع إلى أسباب الدنيا وإعراضه عن المناصب الدينية كالإمامة والخطابة بعد أن عرضتا عليه، وانكب على التصنيف فصنف التصانيف المفيدة وخرج التخاريج، وكان حسن الكلام على الأحاديث محظوظا في الجمع والتأليف.

ويتضمن ثبت الكتب التي نقلها المؤرخون لحياته عنه ما يزيد على الستين كتابًا. وإذا استثني تاريخ دمشق، فإن معظم مؤلفاته في الحديث وبعضها في الفضائل. ومنها:

تاريخ دمشق - الاجتهاد في إقامة فرض الجهاد وهو أربعون حديثا - أربعون البلدان - أربعون حديثا من أربعين شيخا من أربعين مدينة - أربعون المصافحات - الأحاديث الخماسيات وأخبار ابن أبي الدنيا - الاحاديث المتخيرة في فضائل العشرة في جزءين - أمالي في الحديث - تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى أبي الحسن الأشعري - ثواب الصبر على المصاب بالولد - الزهادة في بذل الشهادة في مجلد - سباعيات في الحديث - غرائب مالك عشرة أجزاء - فضل أصحاب الحديث - كتاب فضل مكة - كتاب فضل المدينة - كتاب فضل قريش والأنصار والأشعريين وذم الرافضة - كتاب ذم قرناء السوء - كتاب ذم من لا يعمل بعلمه - كتاب في الصفات - كتاب طرق قبض العلم - كتاب فضائل الصديق - كتاب العزلة - كتاب كشف المغطى في فضل الموطا - كتاب ذكر البيان في فضائل كتابة القرآن - كتاب دفع التثريب على من فسر معنى التثريب - كتاب حلول المحنة بحصول الابنة - - كتاب الجواهر واللآلئ في الأبدال العوالي - معجم الصحابة - ترتيب الصحابة في مسند أحمد - معجم النسوان (كتاب من سمع منه من النسوان) – وغيرها الكثير.

فهذا الجهد أمضى أبو القاسم طيلة حياته في بذله، حيث اشتهر اسمه في الأرض، ولم يكن له نظير في زمانه من حيث سعة علمه ودأبه على العمل. ولم يزل طول عمره مواظبا على صلاة الجماعة ملازما لقراءة القران مكثرا من النوافل والأذكار والتسبيح أناء الليل وأطراف النهار وكان يختم كل جمعة، ولم ير إلا في اشتغال يحاسب نفسه على ساعة تذهب في غير طاعة.
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top