الدولة العبيدية الفاطمية

السلام عليكم

الدولة العبيدية الفاطمية .. سلك العبيديون (الفاطميون) مسلك العباسيين عند تأسيس دولتهم، فمهدوا لدولتهم بالدعوة إلى الفكرة الشيعية في مصر والمغرب واليمن، وأصبح لها أنصارًا بكل من هذه البلاد، حتى استطاع عبيد الله المهدي تأسيس الدولة، كما استطاعوا إخماد الثورات، حتى كان عهد المعز الذي نجح في إقامة الدعوة للعبيديين (للفاطميين) على جميع منابر المغرب

نشأة الدولة العبيدية (الفاطمية)

الفكر والدعوة
سلك العبيديون الفاطميون مسلك العباسيين عند تأسيس دولتهم فمهدوا لدولتهم بالدعوة إلى الفكرة الشيعية في مصر والمغرب واليمن، وأصبح لها أتباع وأنصار بكل من هذه البلاد، بل استطاعوا أن يستميلوا وزراء العهد الأخير للأغالبة، وكان داعي دعاتها في المرحلة الأخيرة قبل قيام دولتهم أبو عبد الله علي بن حوشب الشيعي، فعمل على نشر الدعوة للعبيديين الفاطميين في بلاد المغرب منذ سنة 280 هـ ثم شمال إفريقية سنة 289 هـ.

15000_image002.jpg
استطاع أبو عبد الله أن يحشد جيشًا من أتباعه ويواجه دولة الأغالبة في حروب امتدت حوالي خمس سنوات حتى سنة 296، والتي استطاع فيها أن يقضي تمامًا على دولة الأغالبة

وامتد نفوذ العبيديين الفاطميين في ذلك الوقت إلى أكثر أجزاء بلاد المغرب حتى أصبحوا أصحاب السلطان المطلق في جميع الجهات الواقعة غرب مدينة القيروان.

عبيد الله المهدي والنشأة
أثناء هذه الحروب أرسل أبو عبد الله إلى عبيد الله[1]يدعوه للقدوم إلى بلاد المغرب، وبالفعل عزم عبيد الله على الرحيل إلى المغرب، ولكنه احتاط واستخفي ومر في طريقه بمصر فرحب به أتباعه ودعاته بمصر، وصادف بعد ذلك بعض المتاعب، حتى وصل إلى سجلماسة بالمغرب الأقصى وكان يعيش بها آمنًا بسبب إغداقه المال على واليها اليسع ابن مدرار، غير أن معاملة الوالي تبدلت بعد انتصار أبى عبد الله الشيعي على الأغالبة سنة 296، فقبض على عبيد الله وزجه وأتباعه في السجن، فلما امتد نفوذ أبي عبد الله ووصل إلى سجلماسة فر واليها، فأطلق سراح عبيد الله من سجنه في سجلماسة وأُخذت لعبيد الله البيعة ثم سار في جيش كبير من الجند حتى وصل رقادة (عاصمة الأغالبة سابقًا) فتلقاه أهلها بالترحاب واتخذها عاصمة له، وأمر بذكر اسمه في الخطبة على منابر البلاد وتلقب بالمهدي أمير المؤمنين، وبذلك قامت الخلافة العبيدية الفاطمية في شمال إفريقية.

معاناة العبيديين( الفاطميين) من القلاقل والاضطرابات المتتالية ببلاد المغرب

مقتل أبي عبد الله الشيعي
ولأن أبا عبد الله الشيعي هو صاحب الفضل الأول في التمكين لعبيد الله فقد علت مكانته بين أهالي بلاد المغرب وقبيلة كتامة (إحدى القبائل البربرية التي ساعدت عبيد الله مساعدة عظيمة). ومن ثم حنق عليه عبيد الله وخشي أن يضعف نفوذه، فأمر بقتل كل من أبى عبد الله وأخيه العباس فى جمادى الآخرة سنة 298، فثار أهالي المغرب عليه خاصة الكتاميون ولكنه استطاع أن يخمد هذه الثورة.

القضاء على الأدارسة
ازدادت طموحات عبيد الله في إخضاع المغرب كله له واستطاع القضاء على نفوذ الأدارسة سنة 312 هـ على يد موسى بن أبى العافية، الذي بدوره أخذ نفوذه في الازدياد حتى خلع طاعة الفاطميين، ودخل في طاعة عبد الرحمن الناصر الأموي بالأندلس، فأرسل عبيد الله ابنه وولي عهده أبا القاسم القائم سنة 315 إلى موسى، واستطاع أن يعيد للعبيديين (الفاطميين) نفوذهم..

وأقام عبيد الله مدينة المهدية واتخذها عاصمة لدولته، وكان البحر يحيط بها من ثلاث جهات وبني بها دارا للصناعة تسع أكثر من مائتي مركب ثم بنى بجوارها مدينة زويلة.

ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد
وفى سنة 316 ثار أبو يزيد مخلد بن كيداد، وامتدت ثورته إلى زمن القائم الذى تولى بعد وفاة أبيه عبيد الله، وأبو يزيد هذا نشأ في مدينة تورز وتعلم القرآن واعتنق فكر الخوارج الصفرية، وعادي الشيعة واجتمع إليه سائر الخوارج، وبعض قبائل البربر وبايعوه سنة 331 هـ على قتال الشيعة، وكان البربر يرون أنهم فتحوا الأندلس وبذلوا جهدهم لتولية العبيديين (الفاطميين) الخلافة دون أن ينالوا شيئًا، لذلك تزعم أبو يزيد ثورة هؤلاء البربر ليستعيد سلطانهم..

كان أبو القاسم القائم شرًا من أبيه، زنديقًا ملعونًا، أظهر سب الأنبياء، وكان مناديه ينادي: العنوا الغار وما حوي، وقتل خلقًا من العلماء، ومات عام 334 هـ.

أرهق أبو يزيد العبيديين (الفاطميين) حتى قضوا على ثورته سنة 336 هـ ولكن نفوذ العبيديين (الفاطميين) تضاءل في بلاد المغرب وساءت حال البلاد في شمال إفريقية من جراء تلك الثورات.
15000_image003.jpg

إخضاع المغرب للسيطرة العبيدية (الفاطمية)
وتولى أمر الخلافة العبيدية (الفاطمية) بعد القائم إسماعيل أبو طاهر المنصور سنة 334هـ، وفي سنة 337هـ أسس المنصور مدينة المنصورية واتخذها حاضرة له ولها خمسة أبواب الباب القبلي والباب الشرقي وباب زويلة وباب كتامة وباب الفتوح. وكانت جيوش العبيدين (الفاطميين) تخرج من باب الفتوح. وازدهرت بها التجارة..

ثم جاء المعز بن المنصور فعمل على توطيد نفوذه في بلاد المغرب فعهد إلى جوهر الصقلي بإخضاع الأمراء الثائرين في نواحي البلاد ونجح في إقامة الدعوة للعبيديين (الفاطميين) على جميع منابر المغرب عدا سبتة وطنجة.

[1] عبيد الله مؤسس الدولة الفاطمية، اختلف العلماء في نسبه فمن قائل: إنه من نسل على بن أبى طالب، والجمهور على أنه دعي يهودي الأصل، والبعض ينسبه إلى القرامطة وهى فرقة باطنية شكلت خطرًاً على الأمة الإسلامية فترة من الزمان.والذين ينسبونه إلى آل البيت يذكرون نسبه كالتالي: عبيد الله بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن على بن الحسن بن على بن أبى طالب.
 
السلام عليكم

الدولة العبيدية الفاطمية في مصر

محاولات العبيديين الفاطميين لفتح مصر

15001_image002.jpg
الحقيقة أنه رغم الجهد الكبير الذي بذله خلفاء الدولة العبيدية الفاطمية لتحقيق الاستقرار لهم في بلاد المغرب إلا أنهم لم يفلحوا في ذلك فكلما أخمدت ثورة ظهرت أخرى.

ولذا كانت عيون العبيديين ( الفاطميين ) على مصر وقد حاول فتحها عبيد الله المهدي مرارًا منذ سنة 301هـ حيث وجه إليها جيشًا بقيادته، وحال النيل دون تقدمه شرقًا والوصول إلى الفسطاط، فعاد إلى الإسكندرية ولكن الجيش انهزم على يد جيش الخليفة العباسي المقتدر بعد معارك دارت بينهم في برقة، وعاد الجيش إلى المغرب.

وفى سنة 306 وجه عبيد الله جيشا بقيادة ابنه أبى القاسم فاستولى على الإسكندرية ثم سار إلى الجيزة، وتوغل العبيديون (الفاطميون) في بلاد الوجه القبلي لكن مؤنس الخادم استطاع أن يقهر هذه الحملة وأحرق سفن العبيديين (الفاطميين)..

وفى سنة 321 أرسل جيشًا بقيادة جيش حبش بن أحمد المغربي ولكن هزم في سنة 322 على يد محمد بن طغج الإخشيدي كانت هاتان الحملتان بالتنسيق مع ابن طاهر الجنابي أمير القرامطة ببلاد البحرين.

وفى سنة 323 أرسل أبو القاسم الخليفة الثاني العبيدي (الفاطمي) جيوشه إلى مصر فدخلت الإسكندرية بسهولة ووجدت مناصرة من بعض زعماء المصريين مما يدل على انتشار الدعوة العبيدية الشيعية (الفاطمية) بمصر، ولكن العبيديين (الفاطميين) هُزِموا على يد الإخشيديين. وبقيت العلاقات بعد ذلك بين حكام مصر والعبيديين (الفاطميين) يشوبها التربص والحيل.

في سنة 334 هـ حرص كافور الذي كان وقتذاك يحكم مصر (وكان يقوم بالوصاية على أنوجور بن الإخشيد) على تحسين العلاقة مع الخليفة العباسي وكذلك مع الخليفة العبيدي ( الفاطمي)، فكان يهادي صاحب المغرب ويظهر ميله إليه، وكذا يذعن بالطاعة لبني العباس، ويداري ويخدع هؤلاء وهؤلاء، وفي هذه الآونة وجه الخليفة العبيدي ( الفاطمي) المعز اهتمامه لتوسيع دائرة الدعوة العبيدية (الفاطمية) في مصر، حتى استطاعوا أن يأخذوا البيعة للمعز من رجال بلاد كافور وكبار موظفي دولته، كما أنه عمل على إنشاء الطرق وحفر الآبار في الطريق إلى مصر سنة 356 هـ.
 
السلام عليكم

قيام الدولة العبيدية (الفاطمية) في مصر
وفى سنة 357 مات كافور فاضطربت الأحوال بمصر وتردت الحالة الاقتصادية بها، وحل الوباء والقحط بالبلاد من جراء انخفاض النيل، وعجزت الحكومة عن دفع رواتب الجند، مما حمل كثيرًا من أولي الرأي بمصر على الكتابة إلى المعز لدين الله يطلبون منه القدوم إلى مصر..

وفى 14من ربيع ثاني سنة 358 هـ سار جوهر الصقلي على رأس جيش للعبيديين (الفاطميين) قوامه مائة ألف فارس، فدخل الإسكندرية بغير مقاومة ولما وردت إلى الفسطاط أخبار وصول جوهر إلى الإسكندرية، رأي الوزير المصري جعفر بن الفرات ومن معه أن يفاوضوا جوهر على شروط التسليم وطلب الأمان على أرواح المصريين، فالتقوا به عند تروجة (إحدى قري مركز أبي المطامير بمحافظة البحيرة) في 18من رجب سنة 358 فأمّنهم جوهر على أموالهم وأنه ما جاء إلا للإصلاح كما نص في كتاب الأمان، على أن يظل المصريون على مذهبهم السني ولا يلزمون بالتحول إلى المذهب الشيعي..

بيد أن طائفة كبيرة من الجند المصريين رفضوا هذا العقد، ودخلوا في معركة حربية مع جوهر الصقلي ولكنهم استسلموا في النهاية وطلبوا إعادة الأمان.

بناء القاهرة والجامع الأزهر
15001_image003.jpg
وبدأ عهد جديد لمصر في ظل الحكم العبيدي (الفاطمي) ووضع الأساس لبناء مدينة المنصورية (القاهرة) في 17 شعبان سنة 358 شمالي الفسطاط وأسس القصر الذي سينزل به المعز وعرف باسم القصر الشرقي الكبير.

ظلت القاهرة تعرف بالمنصورية أربع سنوات، ثم سماها المعز القاهرة تفاؤلا بأنها ستقهر الدولة العباسية، وجعل جوهر بسور القاهرة أربعة أبواب؛ باب النصر، باب الفتوح، باب زويلة، وباب القوس، ثم بدأ بناء الجامع الأزهر سنة 359 وتم بناؤه في سنتين، وذلك ليكون خاصا بشعائر المذهب العبيدي الفاطمي، خشية إثارة المصريين إذا ظهرت هذه الشعائر في مساجدهم.. وأقيمت الصلاة في الجامع الأزهر لأول مرة 7من رمضان سنة 361هـ، وتحولت الدعوة على المنابر إلى الخليفة المعز، وضرب السكة باسم الخليفة العبيدي الشيعي ( الفاطمي) بدلاً من اسم الخليفة العباسي، كذلك منع جوهر الناس من لبس السواد شعار العباسيين، وزيد في الخطبة على عادة الشيعة.. (اللهم صل على محمد النبي المصطفى، وعلى على المرتضى، وعلى فاطمة البتول، وعلى الحسن والحسين سبطي الرسول الذين أذهبت عنهم الرجس وطهرتهم تطهيرًا، اللهم صل على الأئمة الراشدين، آباء أمير المؤمنين الهادين المهديين).
 
السلام عليكم

سياسة العبيديين الشيعة في مصر


محاولة نشر المذهب الشيعي

15002_image002.jpg
لم يف العبيدييون (الفاطميون) بتعهداتهم بعدم إجبار المصريين على تغيير مذهبهم السني إلى مذهب الشيعة

فأسندت المناصب العليا وخاصة القضاء إلى الشيعيين.

واتخذت المساجد الكبيرة مركز دعاية للمذهب الشيعي.

وتم إضافة منصب جديد يقوم على تعيين أحد كبار المتفقهين في مذهب الشيعة للقيام بنشر دعوتهم، وكان يعرف بداعي الدعاة، وكانت منزلته تلي قاضي القضاة ويعاونه اثنا عشر نقيبًا، ونواب في سائر البلاد، وكثيرًا ما تقلد رجل واحد منصبي قاضي القضاة والدعوة.

وحولوا الشعائر إلى المذهب الشيعي واحتفلوا بعيد الغدير ويوم مقتل الحسين وتضرر المصريون من ذلك كثيرًا.

وفي سنة 395 أمر الحاكم بأمر الله بنقش سب الصحابة على الجدران وفي الأسواق. ثم تراجع عن ذلك سنة 398.

وظهر الاحتفال بمولد النبي –صلى الله عليه وسلم- ومولد ابنته السيدة فاطمة وعليّ بن أبي طالب.

وأذن في جميع المساجد بـ (حي على العمل) فمهد بذلك جوهر للخليفة المعز المجيء إلى مصر، فدخل المعز مصر في شعبان سنة 362 هـ.

ولما دخل قصره الذي أعد له خر لله ساجدا.. وقدمت إليه الهدايا العظيمة الثمينة واتخذت القاهرة عاصمة للدولة العبيدية (الفاطمية).

15002_image003.jpg
أضعف ذلك نفوذ الفاطميين في بلاد المغرب، واستقلت بلاد عن نفوذ العبيديين (الفاطميين) بالمغرب..

وقد استأثر المعز بالنفوذ والسلطان في مصر ولم يشأ أن يترك لجوهر من السلطة شيئًا لئلا ينازعه ملكه وبالتدريج فقد جوهر ما كان يتمتع به من نفوذ..

اليهود والنصارى في عهد الدولة العبيدي (الفاطمية)
من الأمور البارزة في عهد العبيديين ( الفاطميين ) أنهم قربوا إليهم أهل الكتاب من النصارى واليهود!!

ففي زمن المعز استعان بكثير من الأطباء اليهود، وترقي بعضهم في المناصب، حتى صار أحدهم وهو يعقوب بن كلس وزيرًا للعزيز بن المعز، وإليه يرجع الفضل في وضع قواعد الدولة ونظمها.

وتزوج العزيز من مسيحية، أصبح لها نفوذ عظيم على العزيز، فقد حملته على العطف على بني ملتها فاحتفل بأعيادهم ومواسمهم الدينية. وأصبح بدواوين الدولة عدد كبير من كتابهم، واستأثروا بمعظم السلطات..

عين العزيز منشا بن إبراهيم الفرار اليهودي واليًا على بلاد الشام.

في سنة 393 أمر الحاكم بأمر الله أن يرتدي أهل الذمة أزياء خاصة، وبعدها بثلاث سنوات أمر بهدم بعض الكنائس في القاهرة، ومن العجيب أنه في ذات الوقت قلد الوزارة منصور بن عبدون النصراني، الذي أشار على الخليفة العبيدي (الفاطمي) الحاكم بهدم كنيسة القيامة أو القبر المقدس، فأصدر مرسومًا بهدمها. وكان لهدم هذه الكنيسة الأثر الأكبر في إثارة حمية الصليبيين للاستيلاء على بيت المقدس.

واستمر هذا الاضطهاد حتى اضطر كثير من كتاب النصارى أن يدخلوا في الإسلام، وهاجر بعضهم إلى بلاد الدولة الرومانية الشرقية والحبشة والنوبة.

وفى سنة 411 قرر الحاكم أن يرفع عنهم هذا الاضطهاد، ثم جاء الظاهر فعطف على أهل الذمة..

وفي أوائل عهد المستنصر بالله العبيدي (الفاطمي) ارتفع شأن أبي سعد إبراهيم ابن سهل التستري اليهودي، لأن والدة ذلك الخليفة كانت من قَبْل أَمَة في بيته، فلما ولي ابنها المستنصر الخلافة قربت التستري وولته ديوانها، وتحيز التستري لليهود، فتقلدوا في أيامه كثيرًا من مناصب الدولة ولكنه قتل سنة 439 هـ.
 
السلام عليكم

ظهور فرقة الدرزية
في عهد الحاكم وفي سنوات حكمه الأخيرة جاء إلى مصر بعض الفرس، والذين راقتهم الدعوة الإسماعيلية فاعتنقوها، وزادوا فيها فكرة تأليه الحاكم، ودعوا إليها فسخط عليهم أهل السنة وطاردوهم وكان أشهرهم والمقرب إلى الحاكم بأمر الله محمد بن إسماعيل الدرزى، وقد هرب إلى بعض قري بانياس (بلدة صغيرة غربي دمشق) حيث أخذ ينشر دعوة تأليه الحاكم، فاستمال إليه كثيرًا من الأنصار الذي أصبحوا يعرفون باسم الدرزية.

وجد الخليفة الحاكم بأمر الله في هذه الدعوة فرصة ليحيط نفسه بسياج من التقديس رغبة منه في جعل رعاياه طوع إرادته..

ثم جاء الخليفة الظاهر لإعزاز دين الله بعد مضي ثلاث سنوات على وفاة الحاكم، ليعلن براءته من دعوى الألوهية التي قيلت في أبيه.

عهد المستنصر العبيدي (الفاطمي)
في عهد المستنصر (427 - 487) وقعت اضطرابات عظيمة في البلاد:

فالجند السودانيون يثيرون الاضطرابات في الوجه القبلي.

ونحوًا من أربعين ألف فارس من قبيلة لواتة والأعراب، تحت زعامة ناصر الدولة الحسين بن حمدان التغلبي (المتمرد على الخلافة العبيدية الفاطمية)، يغيرون على الوجه البحري وينهبون بلاده ويحطمون الجسور والقنوات، مما ترتب عليه انقطاع المئونة عن القاهرة والفسطاط.

وفى سنة 462 بعث ناصر الدولة إلى ألب أرسلان سلطان السلاجقة بالعراق رسولاً من قبله يسأله أن يرسل إليه عسكرًا ليقيم الدعوة العباسية بمصر على أن تؤول إليه السيادة على مصر، فرحب أرسلان بذلك ولكنه انشغل بمحاربة الروم عن مصر.

وفى سنة 464 قطع ابن حمدان اسم المستنصر من الخطبة في الوجه البحري، وبعث إلى الخليفة القائم العباسي ببغداد يلتمس الخلع، ثم قدم إلى الفسطاط وتولي الحكم في القاهرة، وأطلق للخليفة مائة دينار كل شهر وخشي الأتراك على أنفسهم من جراء استبداد ناصر الدولة بالأمور في القاهرة، فدبروا لقتله فقتل وتتبعوا كل أفراد أسرته بمصر وتخلصوا منهم.

ثم تسلطت الأتراك واستبدوا بالأمور دون المستنصر سنة 466، فبعث إلى بدر الجمالي والي عكا يطلب منه القدوم ليتولى تدبير شئون الدولة، فاشترط أن يحضر معه من يختاره من عسكر الشام (أرمن)، ليستعيض بهم عن الجند الأتراك والمغاربة والسودانيين الموجودين بمصر.

وبدر الجمالي كان مملوكًا أرمينيًا للأمير جمال الدولة بن عمار، ثم أخذ يترقي في المناصب لما أظهره من كفاية في الحروب التي قامت ببلاد الشام، حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر سنة 456 وحارب الأتراك في تلك البلاد ثم تقلد نيابة عكا سنة 460 هـ.

15002_image004.jpg
بدأ الجمالي بقتل رءوس الأتراك فاستتب له الأمن، وكان من جنده من احتفظ بمسيحيته، واستطاع الجمالي أن يعيد نفوذ الخليفة على جميع بلاد الوجه القبلي حتى أسوان وكذلك الوجه البحري، وبني جامع العطارين وأعاد الرخاء فزاد خراج مصر في سنة (457 –464) من 2.000.000 دينار إلى 3.100.000 دينار، وتوفي الجمالي سنة 487 وعهد لابنه الأفضل شاهنشاه.

وظل المستنصر في عهد وزرائه كالمحجور عليه إلى أن توفي في 17من ذي الحجة سنة 487 هـ، ومع وفاة المستنصر بدأ العصر العبيدي (الفاطمي) الثاني حيث زادت سلطة الوزراء.


 
السلام عليكم

العبيديون الفاطميون في بلاد المغرب

azhar.gif

حقيقة نسب العبيديين الفاطميين:
يذهب المؤرخون الذين اهتموا بتتبع أطوار نشأة الدولة العبيدية الفاطمية إلى القول بأن أصلهم يرجع إلى نَسب أبناء الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه زوج السيدةفاطمة بنت النبي محمد صلى الله عليه وسلم، يقول عبد العزيز المجدوب: "يرجع -أصل الفاطميين- إلى إسماعيل بن الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وإمامهم هو عبد الله الذي تلقب بالمهدي على أنه المهدي المنتظر الذي دعا دولته بالدولة الفاطمية".

ويضيف: "وقد تمكن عبيد الله من إقامة أول دولة شيعية في أرض إفريقية بفضل داعيته الداهية المحنك أبي عبد الله الصنعاني المشهور بالشيعي الذي قدم إفريقية وجاس خلال قبائل البربر وداخل نفوسهم وعقولهم فاستجابوا لدعوته والتأمت صفوفهم حوله، ولم يمر وقت طويل حتى صار له جيش غفير أطاح بدول سجلماسة وتاهرت وبني الأغلب".

إلا أن البعض الآخر يشكك في هذا النَّسب، يقول ابن حماد في أخباره عن ملوك بني عبيد: "اختلف الناس في نَسبِه إلى الحسين بن علي عليهما السلام: فمن مسلِّمين ما ادَّعاه ومُقِرِّين بما حكاه، ومن دافعين ومانعين ما انتحله، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم الله، فالذي ادَّعاه هو أنه عبيد الله بن محمد بن الحسين بن محمد بن إسماعيل بن جعفر بن محمد بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم".

وذهب محمد سهيل طقوش في تاريخه إلى القول بأن: "لقب الفاطميين الذي عرف به خلفاء عبيد الله المهدي يدل للوهلة الأولى على أنهم من أولاد علي بن أبي طالب وفاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم ..، على أن قضية نسب الأسرة الفاطمية كان ولا يزال موضوعا لم يتفق المؤرخون لا في الماضي ولا في الحاضر على رأي واحد فيه، وذلك بفعل واقعين:
الأول:
التباين السياسي والمذهبي الذي ساد بين المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
الثاني:
متناع الفاطميين مدة من الزمن عن إعلان أنسابهم، بالإضافة إلى تعمدهم إخفاء أسماء أئمتهم من محمد بن إسماعيل حتى عبيد الله المهدي في المدة التي اتخذوا فيها مبدأ ستر الإمام. وذهب كل مصدر مذهبا خاصا في تحديد اسم ونسب عبيد الله المهدي قبل أن يكون مهديا، وبعد أن صار كذلك. فبعض المصادر تنفي عنه النسب العلوي وتعزوه إلى الفرس أو المجوس وتصفه أحيانا بأنه ابن يهودي وترجع نسبه إلى ميمون القداح الفارسي الأصل. وفي المقابل تؤكد مصادر أخرى معظمها شيعية صحة نسب عبيد الله المهدي وترجعه إلى محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق".

أطوار نشأة الدولة العبيدية:
وفي تحليل الأطوار التي مرت منها نشأة الدولة العبيدية يقول سعد رستم: "يعد الفاطميون -منذ نشأة دولتهم- نهاية دور الستر، وبدء دور الظهور، ويعزى نجاح دولتهم إلى الداعي الحسين بن أحمد أبي عبد الله الشيعي الصنعاني (ت298هـ)، الذي بعث به الإمام الحسين التقي إلى بلاد اليمن سنة (2788هـ) ليتدرب على يد ابن حوشب، ثم توجه من هناك إلى المغرب، واستطاع -بمهارته وحذقه- أن يجمع إليه قبائل كتامة، ويرسخ دعائم دولة إسماعيلية جديدة في إفريقيا تزعمها الإمام عبيد الله المهدي الذي قدم إليها سنة (296هـ)، وتسلم مقاليد الحكم فيها. وقد عرفت هذه الدولة -التي بدأت في المغرب الأوسط ثم استقرت في مصر (359هـ / 970م)، وسيطرت على الشام زمنا - باسم الدولة العبيدية أوالفاطمية- وبقيت قائمة حتى وفاة الخليفة الفاطمي العاضد وانفراد صلاح الدين الأيوبي بحكم مصر وإلغائه الخلافة الفاطمية فيها سنة (567هـ / 1170م)".

أصل دعوتهم واعتقاداتهم:
أما بخصوص ما تداوله المؤرخون حول أصل دعوة الفاطميين والاتهامات التي ألصقت بهم نتيجة تسلطهم وتطرفهم، فيقول أحمد الخطيب في معرض حديثه عن الفرق الباطنية وما تفرع عنها من فرق أخرى: "وفي المغرب أظهر عبيد الله نفسه وخرج من ستره وأعلن إمامته ودعوته بعد أن كانتا في ستر وخفاء، وبذلك دخل تاريخ الإسماعيلية في دور جديد عرف بدور الظهور، بعدما أعلن عبيد الله قيام الدولة العبيدية سنة (2977هـ)، وقد حاول عبيد الله وبمساعدة دعاته أن يحل في قلوب الناس أسمى مكانة، فأخذوا يذيعون بين الناس عنه كثيرا من الصفات التي تحوطه بالتقديس. وبقي عبيد الله مستوليا على زمام الأمور في دولته حتى مات سنة (322هـ)، فأسند الحكم إلى القائم بأمر الله ثم إلى المنصور بالله سنة (334هـ)، وبعد ذلك إلى المعز لدين الله سنة (341هـ) الذي استطاع أن يفتح مصر سنة (358هـ) ويجعلها عاصمة لملكه".
 
السلام عليكم

مغالاتهم واضطهادهم لأهل السنة:
ومهما قيل في شأن تنزيه الفاطميين من التطرف وفي كونهم معتدلين وليسوا من غلاة الشيعة، فإن ما أظهروا من معتقدات وما سنُّوا من تعاليم أجبروا الناس على اعتناقها واتِّباعها يثبت أنهم غلاة مبتدعون، وهذا هو السبب الأساسي للصراع الذي نشب بينهم وبين السنيين من المالكية من أهل إفريقية، وهناك مجموعة من النصوص التاريخية في ذلك منها:

كلام ابن عذارى الذي ذكر: "أن عبيد الله بمجرد وصوله من سجلماسة إلى القيروان حتى أظهر تشيعه القبيح، فسب أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه، وحكم بكفرهم وارتدادهم عن الإسلام بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يستثن منهم إلا عليا وبعضا قليلا ممن أيدوه وناصروه، ومنع المروزي الفقهاء أن يفتي أحدهم إلا بمذهب زعم أنه مذهب جعفر بن محمد".

وقد عمل هذا الداعي منذ أن استولى على أن يكون هو السيد المطلق للدولة الناشئة، فتلقب بالمهدي وراح يعلن عن تعاليم مذهبه بنفسه وبواسطة دعاته الذين بثهم في كل الأنحاء ليعلنوا أن المهدي رسول ونبي، كما أمر أن يذكر اسمه في الخطبة بالبلاد، وأحضر دعاته الناس بالعنف والشدة ودعوهم إلى اعتناق مذهبهم، فمن أجاب أحسن إليه، ومن أبى حبس، وقتل المهدي كثيرا ممن رفضوا الدخول في مذهبه من بينهم مجموعة من العلماء وهذا ما أوغر صدور الناس عليه. وقد كانت لهم جرأة كبيرة على التنكيل بمخالفيهم بأفظع الوسائل، كما أنهم كانوا من أجرأ الناس وبأقبح الأساليب على سب صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فضلا عن قدرتهم على انتحال البدع التي لا صلة لها بالإسلام، وإلزام الناس بها وكأنها من شرع الله.

وقد عرض ابن عذارى ألوانا من تصرفاتهم وأفعال أتباعهم، وهي إلى الكفر أقرب منها إلى أي شيء آخر، يقول: "وفي هذه السنة (308هـ) أظهر بعض الناس ممن تشرقوا معاصي خطيرة، منها أنهم أحلوا ما يحرم وأكلوا الخنزير وشربوا الخمر في رمضان".

ويقول سهيل طقوش في تاريخه: "وأظهر عبيد الله المهدي التشيع الغالي حين سب الصحابة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وزعم أن أصحاب النبي ارتدوا من بعده، ثم وضع لنظامه المذهبي تعاليم تميزه عن تعاليم مذهب أهل السنة.. وأخذ عبيد الله المهدي ينشر مذهبه عن طريق العنف، ولا سيما مع زعماء المالكية، وأسس في عام (298هـ) إدارة تعرف بـ"ديوان الكشف" للتحري عن المخالفين لمذهب الدولة من الفقهاء والمفتين والقضاة والمؤذنين".

و قد جاء في قول المؤرخ القيرواني الدباغ ذكر بعض الأفكار والمبادئ التي كانوا يعتقدونها، حيث قال: "ومن مبادئ الفاطميين اعتقادهم أن أبا بكر وعمر وعثمان ومعاوية خلفاء جائرون اغتصبوا الخلافة اغتصابا من أهلها وهم علي وأبناؤه وأحفاده، فهم لذلك كفرة أعداء لهم في الدين".

ويضيف: "لما كان في رجب (سنة331هـ) قام الصبي المكوكب يقذف الصحابة ويطعن على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلقت رؤوس أكباش وحمير وغيرها على أبواب الحوانيت والدروب، فإذا عليها قراطيس معلقة فيها أسماء يعنون بها رؤوس الصحابة رضوان الله عليهم".

وأضاف عبد العزيز المجدوب إلى ذلك قوله: "ومن تعاليمهم تحريم صلاة التراويح وهي من النوافل الموروثة، تحريم نافلة أخرى هي صلاة الضحى، ولم يكن أحد في مدة بني عبيد يصليها إلا مستخفيا، فإن ظهروا عليه قتلوه. ولعل من مميزات بدعهم واستخفافهم بقواعد الدين موقفهم من رمضان، فمنهم من لا يتورع من شرب الخمر في هذا الشهر المبارك، ومنهم من لا يصومه".

ويضيف ابن حماد في تاريخه: "وكان مما أحدث عبيد الله أن قطع صلاة التراويح في شهر رمضان، وأمر بصيام يومين قبله، وقنت في صلاة الجمعة قبل الركوع، وجهر بالبسملة في الصلاة المكتوبة، وأسقط من آذان صلاة الصبح: الصلاة خير من النوم، وزاد حي على خير العمل .. محمد وعلي خير البشر، ونص الآذان طول مدة بني عبيد بعد التكبير والتشهدين: حي على الصلاة، وحي على الفلاح (مرتين)، حي على خير العمل .. محمد وعلي خير البشر (مرتين مرتين)".

أبو حنيفة النعمان فقيه العبيديين:
وقد أرجع بعض الذين اهتموا بتاريخ الدولة العبيدية مبادئ مذهبهم الفقهي إلى أحد فقهائهم المدعو "أبا حنيفة النعمان"، يقول عبد العزيز المجدوب: "وأنبغ فقيه عندهم برز في التشريع الفاطمي بكثرة تآليفه إمام من أهل إفريقية، نقله المعز معه إلى مصر فأضحى للدولة الفاطمية حجة المذهب عقيدة وشريعة. هو القاضي أبو حنيفة النعمان المغربي ويسميه الإسماعيلية سيدنا القاضي النعمان، تمييزا عن أبي حنيفة النعمان صاحب المذهب الحنفي.

وكان النعمان مالكي المذهب كسائر أفراد أسرته، ثم انتحل المذهب الإسماعيلي فأخلص له، وتفرغ في أيام المهدي والقائم والمنصور للجمع والحفظ ونشر الكتب الخاصة بالمذهب، واستقضاه القائم على طرابلس، ثم راح يرتقي في مراتب الدعوة الفاطمية إلى أن بلغ رتبة الحجة في أيام المعز بمصر. له من التآليف في المذهب ما يربو عن الأربعين، من أهمها: "دعائم الإسلام في ذكر الحلال والحرام والقضايا والأحكام"، ويعتز به كثير من أهل اليمن والهند إلى اليوم، وهو من أهم المراجع في فقه الإسماعيلية. وقواعد الإسلام في هذا الكتاب ليست خمسا كما هو معروف؛ بل هي سبع بزيادة الولاية والطهارة. وكتاب "المجالس والمسايرات"؛ ويعتبر أهم المصادر التي تناولت تاريخ الفاطميين في الدور المغربي وأهم كتب الدعوة الإسماعيلية الفاطمية لأن مؤلفه النعمان استمد مادته من الإمام المعز لدين الله نفسه، وقد عده أنصار المذهب الإسماعيلي من أهم مراجعهم الدينية".

موقف علماء الغرب الإسلامي من الدولة العبيدية الفاطمية:
يجمع المؤرخون على أن الدولة العبيدية الفاطمية قد واجهت موقفا متصلبا من طرف علماء الغرب الإسلامي، وخاصة المالكيون بالقيروان، وقد واجه عبيد الله المهدي صعوبات كبيرة في بسط نفوذه المذهبي على المجتمع الإفريقي السني، حيث جابهه أهل إفريقية وعلماؤها المالكية؛ بالمقاطعة السلبية والإنكار أولا، ثم بالقوة ثانيا. ويذكر أن المذهب المالكي استقر في القيروان وغيرها من مدن إفريقية، وأنكر أتباعه المذهب الإسماعيلي، وعارضوا فرضه على أهل السنة، كما أنكروا مظهر القداسة الذي أراد عبيد الله المهدي أن يحيط نفسه به، وساءهم ما أمر به خطباءَه من سب الصحابة على المنابر".

ويقول محمد أمحزون كذلك: "ومن بين العلماء المحققين الذين ردوا على دعوات هؤلاء القاضي أبو يعلى في كتابيه: "المعتمد" و"الرد على الباطنية" أورد فيه كلاما طويلا في شرح زندقتهم وكفرهم، وكذا أبو حامد الغزالي في كتابه: "فضائح الباطنية"، وحكى القاضي عياض عن أبي يوسف الرعيني قوله: (أجمع العلماء بالقيروان أن حال بني عبيد حال المرتدين والزنادقة)، وقال فيهم الحافظ الذهبي: (وأما العبيديون الباطنية فأعداء الله ورسوله)، وقال فيهم أيضا: (قلبوا الإسلام، وأعلنوا بالرفض، وأبطنوا مذهب الإسماعيلية).

وعلى العموم، كان العلماء الثقات الأثبات من أهل السنة يظهرون الشناعة على العبيديين وعلى أفعالهم المشينة، كما كشفوا عن كفرهم وزندقتهم وردتهم عن الإسلام من الناحية الاعتقادية، وعن بدعهم الكثيرة من الناحية العملية، على أن مواقفهم من الدين وأهله عبر التاريخ الإسلامي شاهدة على زيغهم وضلالهم وسوء اعتقادهم. وقد كان لثباتهم -أي علماء القيروان- وصمودهم وتحملهم للأذى والسجن والقتل أثر كبير في تثبيت عوام المسلمين على عقيدة أهل السنة، ولم يفلح العبيديون في إخلاء الساحة من العلماء بأساليب الترهيب والترغيب التي انتهجوها بهدف احتواء العامة بعد سقوط العلماء".
 
السلام عليكم

ويضيف محمد أمحزون أيضا بيانا للحالة التي كان عليها علماء القيروان أيام العبيديين من القهر والشدة فقال: "كان أهل السنة بالقيروان أيام بني عبيد في حالة شديدة من الاهتضام والتستر كأنهم ذمة، تجري عليهم في كثير من الأيام محن شديدة.

وإزاء مواقف الدولة العبيدية المتسمة بالزيغ والضلال من ناحية، والغطرسة والظلم من ناحية ثانية، لم يكن علماء القيروان ينظرون إلى هذه الدولة كدولة إسلامية؛ بل كانوا يعتبرونها دولة كفر تريد إحلال عقائد وأحكام المذهب الإسماعيلي الباطني محل عقائد الإسلام وأحكامه. فلم تكن المسألة عندهم مسألة ثانوية لها علاقة بالخلاف المذهبي في الفروع، وإنما كانت مسألة لها علاقة بأصول الدين والعقيدة تتعلق بدولة كافرة تسعى لإحلال الإباحية ونشر الزندقة في المجتمع الإسلامي. والدليل على ذلك قال القاضي عياض: (وقال أبو يوسف بن عبد الله الرعيني في كتابه: أجمع علماء القيروان أبو محمد وأبو الحسن القابسي وأبو القاسم بن شبلون وأبو علي بن خلدون وأبو بكر الطبني وأبو بكر بن عذرة: إن حال بني عبيد حال المرتدين الزنادقة؛ بما أظهروه من خلاف الشريعة فلا يورثون بالإجماع وحال الزنادقة بما أخفوه من التعطيل فيقتلون بالزندقة".

"فعلى امتداد ستة عقود (298هـ -361هـ) حكموها في المغرب، ولأكثر من قرنين حكموها في مصر، فقد نشروا من الخرافات والبدع ما لا أصل له لا في كتاب ولا سنة، ولجأوا -هم ودعاتهم- إلى ضروب من الحيل والدجل لإقناع الناس بهم وبدعواهم. وهي ضروب لا يمكن أن تصدر عن ناس ينتسبون إلى أهل البيت، وإنما هم -كما ذكر علي بن الفضل أكبر دعاة الشيعة في اليمن مثله تماما: (مفترسون لشاة الدنيا طلبوها من غير طريق).

وإن من يتصفح حياة داعيهم الكبير ومؤسس دولتهم أبو عبد الله الشيعي، يجد عشرات الحيل التي خدع بها كتامة وما تظاهر به من علم الغيب ليستبعد استبعادا كاملا أن يكون من أهل البيت. وإنما أغلب الظن أنهم مشعوذون ركبوا دعوى آل البيت للوصول إلى الحكم، وهذه الدعوى كانت طريقا شرعيا من طرق الوصول إلى الحكم في تلك العصور، حتى ولو كان ممثلوها غير مؤهلين -لا بأفكارهم ولا بسلوكهم- لقيادة الأمة".

المصادروالمراجع:
- البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذارى المراكشي، تحقيق ومراجعة: ج.س.كولان وإ.ليفي بروفنسال، دار الثقافة – بيروت، الطبعة الثالثة/1983م.
- أخبار ملوك بني عبيد وسيرتهم لأبي عبد الله محمد بن علي بن حماد، تحقيق: دكتور التهامي نقرة ودكتور عبد الحليم عويس، دار الصحوة – القاهرة، د.ت.
- الصراع المذهبي بإفريقية إلى قيام الدولة الزيرية، عبد العزيز المجدوب، دار سحنون - تونس ودار ابن حزم – بيروت، الطبعة الأولى/2008م.
- تاريخ الفاطميين في شمالي إفريقية ومصر وبلاد الشام، الدكتور محمد سهيل طقوش، دار النفائس – بيروت، الطبعة الثانية/2007م.
- الفرق والمذاهب الإسلامية منذ البدايات،سعد رستم، أنوار للنشر والتوزيع - الدار البيضاء، الطبعة الأولى/2008م.
- الحركات الباطنية في العالم الإسلامي (عقائدها وحكم الإسلام فيها)، الدكتور محمد أحمد الخطيب، مكتبة الأقصى – الأردن، الطبعة الثانية/1986م.
- معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، أبو زيد الدباغ، أكمله وعلق عليه:أبو الفضل التنوخي، تصحيح وتعليق: إبراهيم شبوح، مكتبة الخانجي - مصر-الطبعة الثانية/1986م.
- الفرق الباطنية: التاريخ والمنهاج، محمد أمحزون، كلية آداب مكناس، الطبعة الأولى/2010م.
- ترتيب المدراك، القاضي عياض، تحقيق: محمد بنشريفة وسعيد أعراب، طبعة وزارة الأوقاف المغربية/1982م.
- سياسة الفاطميين الخارجية، محمد جمال الدين سرور، طبعة مصر.
 
السلام عليكم

المستنصر بالله والشدة المستنصرية
المستنصر بالله هو الخليفة الخامس من خلفاء الدولة العبيدية الفاطمية في مصر والثامن منذ نشاتها بالمغرب، وأشهر أحداث عصره الشدة المستنصرية أو ما يعرف في كتب المؤرخين بـ "الشدة العظمى"، وهي مصطلح يطلق على المجاعة والخراب الذى حل بمصر لمدة سبع سنوات عجاف (457هـ - 464هـ / 1065م - 1071م).


الخليفة المستنصر بالله العبيدي
هو المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر لإعزاز دين الله بن الحاكم بن العزيز بن المعز لدين الله العبيدي الفاطمي، تولى الخلافة العبيدية الفاطمية خلفًا لوالده وهو ابن سبع سنين في النصف من شعبان سنة 427هـ / 1036م، وأقام بها ستين سنة إلى 487هـ / 1094م.

وقد بلغت الخلافة العبيدية الفاطمية في عهد من القوة والاتساع والازدهار ما لم يبلغه أحد قبله، حيث امتد سلطان الخلافة ليشمل بلاد الشام وفلسطين والحجاز وصقلية وشمال إفريقيا، وتردد اسمه على المنابر في هذه البلاد، وخُطب له في بغداد لمدة عام وذلك في سنة (450هـ / 1058م).

ودام ذلك حتى تغلبت أمه على الدولة، فكانت تصطنع الوزراء وتوليهم، ومن استوحشت منه أوعزت بقتله فيقتل، مما أثار الفتن وعمت الفوضى والاضطرابات، ومنه حل الخراب على الدولة كلها إلى أن سقطت بنفو الوزراء وضياع هيبة الخليفة. وقد كان سب الصحابة فاشيا في أياما لمستنصر، والسنة غريبة مكتومة، حتى إنهم منعوا الحافظ أبا إسحاق الحبال من رواية الحديث، وهددوه فامتنع.

قال ابن خلكان رحمه الله: "جرى على أيامه ما لم يجر على أيام أحد من أهل بيته ممن تقدمه ولا تأخره"، منها: حادثة البساسيري الذي قطع الخطبة للخليفة القائم بأمر الله وخطب للمستنصر ببغداد سنة 450هـ، ومنها أنه أقام في الأمر ستين سنة، وهذا أمر لم يبلغه أحد من أهل بيته ولا من خلفاء الإسلام، ومنها أنه حدث في أيام خلافته في مصر الغلاء العظيم الذي ما عهد مثله منذ زمان يوسف عليه السلام، وهو ما يعرف بالشدة المستنصرية أو الشدة العظمى.

أحداث خلافة المستنصر
شهد أواخر عهد المستنصر (427هـ - 487هـ) عدة اضطرابات عظيمة في البلاد، منها:

1- أن الجند السودانيون يثيرون الاضطرابات في الوجه القبلي.
2- ونحوًا من أربعين ألف فارس من قبيلة لواتة والأعراب، تحت زعامة ناصر الدولة الحسين بن حمدان التغلبي (المتمرد على الخلافة العبيدية الفاطمية)، يغيرون على الوجه البحري وينهبون بلاده ويحطمون الجسور والقنوات، مما ترتب عليه انقطاع المئونة عن القاهرة والفسطاط.
3- وفى سنة 462هـ بعث ناصر الدولة إلى ألب أرسلان سلطان السلاجقة بالعراق رسولًا من قبله يسأله أن يرسل إليه عسكرًا ليقيم الدعوة العباسية بمصر على أن تؤول إليه السيادة على مصر، فرحب أرسلان بذلك، ولكنه انشغل بمحاربة الروم عن مصر.
4- وفى سنة 464هـ قطع ابن حمدان اسم المستنصر من الخطبة في الوجه البحري، وبعث إلى الخليفة القائم العباسي ببغداد يلتمس الخلع، ثم قدم إلى الفسطاط وتولي الحكم في القاهرة، وأطلق للخليفة مائة دينار كل شهر وخشي الأتراك على أنفسهم من جراء استبداد ناصر الدولة بالأمور في القاهرة، فدبروا لقتله فقتل وتتبعوا كل أفراد أسرته بمصر وتخلصوا منهم.
5- ثم تسلطت الأتراك، واستبدوا بالأمور دون المستنصر سنة 466هـ.

الشدة المستنصرية
شاءت الأقدار أن لا تقتصر معاناة البلاد على اختلال الإدارة والفوضى السياسية، فجاء نقصان منسوب مياه النيل ليضيف إلى البلاد أزمة عاتية. وتكرر هذا النقصان ليصيب البلاد بكارثة كبرى ومجاعة داهية امتدت لسبع سنوات متصلة (457هـ - 464هـ / 1065م - 1071م) [*]، وسببها ضعف الخلافة واختلال أحوال المملكة واستيلاء الأمراء على الدولة، واتصال الفتن بين العربان وقصور النيل، فزادات الغلاء وأعقبه الوباء، حتى تعطلت الأرض عن الزراعة، شمل الخوف وخيفت السبل برًا وبحرًا.

وقد تخلل تلك المجاعة أعمال السلب والنهب وعمت الفوضى، واشتدت تلك المجاعة حتى لم يجد فيها الناس شيئا يأكلوه فأكلوا الميتة والبغال والحمير، وبيع رغيف الخبز الواحد بخمسين دينارًا.

وذكر ابن إياس من العجائب التي لا يصدقها عقل زمن تلك المجاعة، ومنها: أن الناس أكلوا الكلاب والقطط، وكان ثمن الكلب الواحد خمسة دنانير والقط ثلاثة، وقيل كان الكلب يدخل البيت فيأكل الطفل الصغير وأبواه ينظران إليه فلا يستطيعان النهوض لدفعه عن ولدهما من شدة الجوع والضعف، ثم اشتد الأمر حتى صار الرجل يأخذ ابن جاره ويذبحه ويأكله ولا ينكر ذلك عليه أحد من الناس، وصار الناس في الطرقات إذا قوى القوى على الضعيف يذبحه ويأكله.
 
السلام عليكم

وذكر كذلك أن طائفة من الناس جلسوا فوق أسقف البيوت وصنعوا الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح، فإذا صار عندهم ذبحوه في الحال وأكلوه بعظامه.

ويروي إياس أن وزير البلاد لم يكن يمتلك سوى بغل واحد يركبه، فعهد بالبغل إلى غلام ليحرسه، إلا أن الغلام من شدة جوعه كان ضعيفًا فلم يستطع أن يواجه اللصوص الذين سرقوا البغل، وعندما علم الوزير بسرقة بغله غضب غضبا شديدا، وتمكن من القبض على اللصوص، وقام بشنقهم على شجرة، وعندما استيقظ الصباح وجد عظام اللصوص فقط؛ لأن الناس من شدة جوعهم أكلوا لحومهم.

وقيل: إنه كان بمصر حارة تعرف بحارة الطبق، وهي معروفة بمدينة الفسطاط، كان فيها عشرون دارا، كل دار تساوي ألف دينار، فأبيعت كلها بطبق خبز، كل دار برغيف، فسميت من يومئذ بحارة الطبق.

وذكر ابن الأثير أنه اشتد الغلاء، حتى حكي أن امرأة أكلت رغيفا بألف دينار، وباعت عروضا تساوي ألف دينار بثلاث مائة دينار، فاشترت بها شوالًا من القمح، فانتهبه الناس، فنهبت هي منه، فحصل لها ما خبز رغيفًا.

وذكر سبط ابن الجوزي في مرآة الزمان أن امرأة خرجت ومعها قدر ربع جوهر من اللؤلؤ، فقالت من يأخذ مني هذا الجوهر ويعطيني عوضه قمحًا؟! فلم تجد من يأخذه منها. فقالت: إذا لم تنفعني وقت الضائقة فلا حاجة لي بك، وألقته على الأرض وانصرفت. فالعجب ان ظل اللؤلؤ مرميًا على الأرض ثلاثة أيام ولميوجد من يلتقطه!!

ويروي المقريزي أن سيدة غنية من نساء القاهرة ألمها صياح أطفالها الصغار وهم يبكون من الجوع فلجأت إلى شكمجية حليها وأخذت تقلب ما فيها من مجوهرات ومصوغات ثم تتحسر لأنها تمتلك ثروة طائلة ولا تستطيع شراء رغيف واحد. فاختارت عقداً ثميناً من اللؤلؤ تزيد قيمته على ألف دينار، وخرجت تطوف أسواق القاهرة والفسطاط فلا تجد من يشتريه.

وأخيرًا استطاعت أن تقنع أحد التجار بشرائه مقابل كيس من الدقيق, واستأجرت بعض الحمالين لنقل الكيس إلى بيتها، ولكن لم تكد تخطو بضع خطوات حتى هاجمته جحافل الجياع، فاغتصبوا الدقيق، وعندئذ لم تجد مفرًا من أن تزاحمهم حتى اختطفت لنفسها حفنة من الدقيق وحزنت لما حدث من الجماهير الجائعة، فعكفت على عجن حفنة الدقيق وصنعت منها أقراصاً صغيرة وخبزتها ثم أخفتها فى طيات ثوبها، وانطلقت إلى الشارع صائحة: الجوع الجوع. الخبز الخبز. وألتفت حولها الرجال والنساء والأطفال وسارت معهم إلى قصر الخليفة المستنصر، ووقفت على مصطبة ثم أخرجت قرصاً من طيات ثوبها ولوحت به وهي تصيح: "أيها الناس، فلتعلموا أن هذه القرصة كلفتني ألف دينار، فادعوا معي لمولاي المستنصر الذي أسعد الله الناس بأيامه، وأعاد عليهم بركات حسن نظره، حتى تقومت عليَّ هذه القرصة بألف دينار!!".

وقُبض على رجل كان يقتل النساء والصبيان ويبيع لحومهم ويدفن رءوسهم وأطرافهم، فقُتل. واشتد الغلاء والوباء حتى أن أهل البيت كانوا يموتون في ليلة واحدة، وكان يموت كل يوم على الأقل ألف نفس، ثم أرتفع العدد إلى عشرة آلاف وفي يوم مات ثماني عشرة ألفًا.

وحكى أن المستنصر أخرج جميع ما في الذخائر فباعها، ويقال إنه باع في هذا الغلاء ثمانين ألف قطعة من أنواع الجوهر المثمنة وخمسة وسبعين ألف قطعة من أنواع الديباج المذهب وعشرين ألف سيف وأحد عشر ألف دار، وافتقر الخليفة المستنصر حتى لم يبق له إلا سجادة تحته وقبقاب في رجله.

وكان المستنصر في هذه الشدة يركب وحده، وكل من معه من الخواص مترجلون ليس لهم دواب يركبونها، وكانوا إذا مشوا تساقطوا في الطرقات من الجوع، وكان المستنصر يستعير من ابن هبة صاحب ديوان الإنشاء بغلته ليركبها صاحب مظلته، وآخر الأمر توجهت أم المستنصر وبناته إلى بغداد من فرط الجوع، وذلك في سنة 462هـ، وتفرق أهل مصر في البلاد وتشتتوا.

وكان المستنصر يتحمل نفقات تكفين عشرين ألفًا على حسابه، حتى فنى ثلث أهل مصر، وقيل إنه مات مليون وستمائة ألف نفس، ونزل الجند لزراعة الأرض بعد أن هلك الفلاحون.

وقال ابن دحية في كتاب النبراس: "وخرّبت القطائع التى لأحمد بن طولون في الشدة العظمى زمن الخليفة المستنصر العبيدى أيام القحط والغلاء المفرط الذي كان بالديار المصرية، وهلك من كان فيها من السكان، وكانت نيفا على مائة ألف دار". وخربت كذلك مدينة الفسطاط حتى كانت خرابًا.

وكان من نتيجة هذه الأزمة العاتية أن أخذت دولة المستنصر بالله في التداعي والسقوط، وخرجت كثير من البلاد عن سلطانه، فقُتل البساسيري في العراق سنة (451هـ / 1059م). وعادت بغداد إلى الخلافة العباسية، وقُطعت الخطبة للمستنصر في مكة والمدينة . وخُطب للخليفة العباسي في سنة (462هـ / 1070م)، ودخل النورمان صقلية واستولوا عليها . فخرجت عن حكم العبيديين سنة (463هـ / 1071م) بعد أن ظلت جزءًا من أملاكهم منذ أن قامت دولتهم.

وتداعى حكم المستنصر في بلاد الشام، فاستقل قاضي صور بمدينته سنة (462هـ / 1070م) وخرجت طرابلس من سلطان الفاطميين، وتتابع ضياع المدن والقلاع من أيديهم، فاستقلت حلب وبيت المقدس والرملة عن سلطانهم في سنة (463هـ / 1071م) ثم تبعتهم دمشق في العام التالي.

بدر الدين الجمالي والخروج من الأزمة
لم يكن أمام الخليفة المستنصر بالله للخروج من هذه الأزمة العاتية سوى الاستعانة بقوة عسكرية قادرة على فرض النظام، وإعادة الهدوء والاستقرار إلى الدولة التي مزقتها الفتن وثورات الجند، وإنهاء حالة الفوضى التي عمت البلاد، فاتصل ببدر الجمالي واليه على عكا سنة 466هـ، وطلب منه القدوم لإصلاح حال البلاد، فأجابه إلى ذلك، واشترط عليه أن لا يأتي إلا ومعه رجاله، ومن يختاره من عسكر الشام (أرمن)، ليستعيض بهم عن الجند الأتراك والمغاربة والسودانيين الموجودين بمصر.

وبدر الجمالي كان مملوكًا أرمينيًا للأمير جمال الدولة بن عمار، ثم أخذ يترقي في المناصب لما أظهره من كفاية في الحروب التي قامت ببلاد الشام، حتى ولي إمارة دمشق من قبل المستنصر سنة 456هـ، وحارب الأتراك في تلك البلاد ثم تقلد نيابة عكا سنة 460هـ.

وما إن حل بدر الجمالي بمدينة القاهرة حتى تخلص من قادة الفتنة ودعاة الثورة، وبدأ في إعادة النظام إلى القاهرة وفرض الأمن والسكينة في ربوعها، وامتدت يده إلى بقية أقاليم مصر فأعاد إليها الهدوء والاستقرار، وضرب على يد العابثين والخارجين، وبسط نفوذ الخليفة في جميع أرجاء البلاد.

وفي الوقت نفسه عمل على تنظيم شئون الدولة وإنعاش اقتصادها، فشجع الفلاحين على الزراعة برفع جميع الأعباء المالية عنهم، وأصلح لهم الترع والجسور، وأدى انتظام النظام الزراعي إلى كثرة الحبوب، وتراجع الأسعار، وكان لاستتباب الأمن دور في تنشيط حركة التجارة في مصر، وتوافد التجار عليها من كل مكان.

واتجه بدر الجمالي إلى تعمير القاهرة وإصلاح ما تهدم منها، فأعاد بناء أسوار القاهرة وبنى بها ثلاثة أبواب تعد من أروع آثار العبيديين الفاطميين الباقية إلى الآن وهي: باب الفتوح وباب النصر وباب زويلة، وشيد مساجد كثيرة فبنى في القاهرة مسجده المعروف بمسجد الجيوش على قمة جبل المقطم، وبنى جامع العطارين بالإسكندرية.

واستطاع الجمالي أن يعيد نفوذ الخليفة على جميع بلاد الوجه القبلي حتى أسوان، وكذلك الوجه البحري، وبني جامع العطارين وأعاد الرخاء فزاد خراج مصر في سنة (457 –464) من 2.000.000 دينار إلى 3.100.000 دينار، وتوفي الجمالي سنة 487هـ وعهد لابنه الأفضل شاهنشاه.

ولم يكن للوزير بدر الجمالي أن يقوم بهذه الإصلاحات المالية والإدارية دون أن يكون مطلق اليد، مفوضا من الخليفة المستنصر، وقد استبد بدر الجمالي بالأمر دون الخليفة، وأصبحت الأمور كلها في قبضة الوزير القوي، الذي بدأ عصرا جديدا في تاريخ الدولة الفاطمية في مصر، تحكم فيه الوزراء أرباب السيوف.

وفاة المستنصر بالله
وظل المستنصر في عهد وزرائه كالمحجور عليه، وآلت به شدائد عظيمة، وفقد القوت فلم يقدر عليه، حتى كانت امرأة من الأشراف تتصدق عليه في كل يوم بقعب فيه فتيت، فلا يأكل سواه مرة في كل يوم، وظل كذلك إلى أن توفي في 18من ذي الحجة سنة 487هـ، ومع وفاة المستنصر بدأ العصر العبيدي (الفاطمي) الثاني حيث زادت سلطة الوزراء، وهو ما اصطلح عليه بعصر نفوذ الوزراء.

[*] يوجد اختلاف بين المؤرخين على تحددي سنة بداية الشدة المسنصرية، وإن كانوا يتفقون على أنها استمرت سبع سنوات، فابن إياس يذكر بدايتها سنة 451هـ، وابن أيبك يذكر أنه كانت سنة 448هـ، ويذكر السيوطي أنها كانت سينة 460هـ، وأما المقريزي فيحددها بسنة 457هـ ونهايتها سنة 464هـ، وربما كان سبب هذا الاختلاف تعدد الروايات وتوالي الأزمات الاقتصادية في هذه الفترة التي تطرق إليها المؤرخون.

المصادر:
- المقريزي: المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار، الناشر: دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1418هـ.
- المقريزي: إغاثة الأمة بكشف الغمة، تحقيق: كرم حلمي فرحات، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، مصر، ط 1، 1427هـ - 2007م.
- ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، الناشر: وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر.
- ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر – بيروت، الطبعة الأولى للجزء الخامس 1994م.
- الذهبي: سير أعلام النبلاء، تحقيق : مجموعة من المحققين بإشراف الشيخ شعيب الأرناؤوط، الناشر: مؤسسة الرسالة، الطبعة : الثالثة 1405هـ / 1985م.
- ابن إياس: المختار من بدائع الزهور في وقائع الدهور، كتاب الشعب، مطبعة الشعب 1960م.
- ابن الأثير: الكامل في التاريخ، تحقيق: عمر عبد السلام تدمري، الناشر: دار الكتاب العربي، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1417هـ / 1997م.
 
السلام عليكم

عصر نفوذ الوزراء وإلغاء الخلافة العبيدية
15003_image002.jpg

العصر العبيدي ( الفاطمي ) الثاني

ظهور طائفة الإسماعيلية النزارية
ابتدأ هذا العصر بالنزاع بين أبناء المستنصر نزار الابن الأكبر وولي العهد من قبل أبيه، وأحمد أبو القاسم صغير السن الذي فرضه الأفضل بدر الجمالي ليكون الخليفة رغم أنف نزار..

وكان في هذه الآونة بمصر الحسن بن الصباح القائم على الدعوة الإسماعيلية بأصبهان، جاء يتعمق في دراسة المذهب الإسماعيلي.. فلما رأي هذه الأحداث، وكان الحسن يري أن تولية نزار الإمامة بعد أبيه تتفق مع تعاليم الإسماعيلية، التي تشترط أن يكون الإمام أكبر أبناء أبيه، وأظهر الحسن رأيه بمصر، وهدد نفوذ بدر الجمالي، فكاد له بدر وزجه بالسجن ونفاه إلى بلاد المغرب، غير أن الريح قذفت بالسفينة التي أبحر عليها سنة 472 هـ إلى سواحل الشام، فنزل بثغر عكا ثم عاد إلى بلاده حيث أخذ ينادي بإمامة المستنصر وابنه نزار، من بعده ولذلك سميت هذه الطائفة الإسماعيلية النزارية.

عصر نفوذ الوزراء
سيطر الوزراء في هذا الطور على مقاليد الحكم، وبلغ من نفوذ الأفضل أنه بعد وفاة المستعلي سنة 495هـ أتى بأبي على بن المستعلي، وأقامه على الخلافة وعمره خمس سنوات، ولقبه بالآمر فلما شب هذا الخليفة الصغير ضاق ذرعًا بنفوذ وزيره فدبر لقتله فقتله سنة 515 هـ.

وفى سنة 524هـ قُتِل الخليفة وتولي أخوه عبد المجيد أبو الميمون الحافظ الخلافة من بعده، ولكن الجند ثاروا عليه وولوا أبا على أحمد بن الأفضل الوزارة، فاستأثر بالسلطة والنفوذ وسجن الحافظ- وكان إماميًا لا إسماعيليًا- فعمل على الانتصار لهم وعلى إضعاف المذهب الإسماعيلي بأن عين أربعة قضاه؛ أحدهما إمامي والآخر إسماعيلي والثالث شافعي والرابع مالكي، وأعطي كلاً منهم السلطة في إصدار أحكامه وفق مذهبه (ولم يسمع بمثل هذا في الملة الإسلامية قبل ذلك).

ومكث على ذلك حتى اغتالته الإسماعيلية سنة 526هـ وأخرجوا الحافظ من سجنه وعاد خليفة من جديد.

وفي سنة 529هـ طمع بهرام الأرمني والي الغربية في الوزارة، فقدم إلى القاهرة وحاصرها يومًا فاضطر الحافظ إلى توليته الوزارة على الرغم من عدم دخوله الإسلام، وعاني المصريون فترة من سيطرة الأرمن وتحيز بهرام لبني جنسه، حتى أنهم أكثروا من بناء الكنائس والأديرة حتى صار لكل رئيس منهم كنيسة بجوار داره.. حتى استطاع رضوان بن ولخشي والي الغربية أن يطرد بهرام وأصبح وزيرًا سنة 530 هـ، ولكنه أراد أن يعزل الحافظ ودار بينهما صراع انتهي بمقتل رضوان سنة 452هـ.

وهكذا ظل النزاع والتنافس على الوزارة بين الوزراء والخلفاء جيلاً بعد جيل، وتدخل الوزراء في تولية الخلفاء، ولم يراعوا في توليتهم تعاليم الإسماعيلية.

حملات نور الدين محمود إلى مصر
تطور التنافس على الوزارة في مصر في نهاية العصر العبيدي (الفاطمي) إلى استعانة بعض الطامعين فيها بأمراء الدول المجاورة، فلقد لجأ شاور وزير الدولة المخلوع على يد أحد قواد الجيش ضرغام سنة 558 إلى الالتجاء لنور الدين محمود، صاحب دمشق، ليمده بقوة يستعين بها على استعادة نفوذه، على أن يتنازل له عن ثلث خراج مصر فأعانه نور الدين بحملة بقيادة أسد الدين شيركوه فتغلب على ضرغام وأعيد شاور إلى منصبه سنة 559 هـ، ولم يف شاور بما عاهد عليه حليفه نور الدين، وطلب من شيركوه أن يرجع إلى الشام وأرسل شاور إلى ملك الفرنجة ببيت المقدس يستمده ويخوفه من نور الدين إن ملك الديار المصرية، فسارع الملك إلى نجدته ونجح في إخراج شيركوه إلى بلاد الشام

وفى سنة 562 أنفذ نور الدين حملة إلى مصر بقيادة شيركوه، لما ثبت له غدر شاور به، وكان صلاح الدين يوسف بننجم الدين أيوب من بين الذين اشتركوا في هذه الحملة.

استنجد شاور ثانية بالفرنجة فأجابوه والتقى جند شيركوه وجند الفرنجة وحلفاؤهم في مكان يعرف بالبابين (على مقربة من المنيا)، وكان النصر من نصيب شيركوه ولم يجد نفسه قادرًا على السير إلى القاهره فوطد سلطانه بالصعيد وجبى الخراج، ثم سار إلى الإسكندرية عبر الصحراء وعين ابن أخيه صلاح الدين واليًا عليها، ولكن قوات الفرنجة والمصريين عادت إلى محاصرة الإسكندرية برًا وبحرا فأسرع شيركوه إلى نصرة صلاح الدين. فطلب المصريون والفرنجة الصلح فأجابهم على ألا يقيم الفرنجة بالبلاد المصرية، ثم عاد شيركوه إلى دمشق والحقيقة أن قوات الفرنجة لم تغادر مصر تنفيذًا لهذا الصلح، بل عقدت مع شاور معاهدة كان من أهم شروطها.. (أن يكون لهم بالقاهرة شحنة صليبية، وتكون أبوابها بيد فرسانهم ليمتنع نور الدين عن إنفاذ عسكره إليهم).

كما اتفق الطرفان على أن يكون للصليبين مائة ألف دينار سنويا من دخل مصر..

أطمع الحال التي وصلت إليها مصر الفرنجة في أن يقدموا بحملة سنة 564هـ لغزوها بقيادة ملك بيت المقدس، ولم يجد شاور أمامه سوى استعمال الحيلة، فأحرق الفسطاط حتى لا يأوي إليها الصليبيون، فظلت النار مشتعلة بها أربعة وخمسين يومًا.. ثم أرسل إلى ملك الفرنجة أنه يخشى إن دخلتم مصر أن يقدم نور الدين ليحتل مصر، وأشار عليه بالصلح على أن يؤدي إليه ألف ألف دينار..

على أن شاور ما لبث أن خدع الفرنجة، فأرسل إلى نور الدين يطلب النجدة، وتعهد أن ينزل له عن ثلث بلاد مصر،وأن يأذن لأسد الدين شيركوه بالإقامة عنده مع جنده، وأن يكون إقطاع هؤلاء الجند خارجًا عن ثلث البلاد الذي أفرده لنور الدين.
 
السلام عليكم

سارع نور الدين إلى تجهيز قوة كبيرة بقيادة شيركوه توجهت نحو مصر، فلما وصلت الأخبار إلى الصليبيين قرروا الرحيل إلى فلسطين بغير قتال، ثم دخل أسد الدين شيركوه القاهرة في ربيع الآخر سنة 564 فرحب به أهلها، واستقبله الخليفة العاضد وخلع عليه، وأصبح أسد الدين شيركوه وزيرًا للعاضد، واستطاع في فترة وزارته القصيرة أن يقبض على زمام الأمر بالدولة.

وحاول شاور أن يدبر مؤامرة للقبض على شيركوه ومن معه من الأمراء، ولكن نهاه ابنه الكامل وقال: «والله لئن عزمت على هذا الأمر لأعرفن أسد الدين».

فقال شاور: «والله لئن لم نفعل هذا لنقتلن جميعًا».

قال ابنه: «صدقت، ولأن نقتل ونحن مسلمون والبلاد بيد المسلمين خير من أن نقتل وقد ملكتها الإفرنج».

فعدل عن عزمه ثم تخلص منه أسد الدين بعد ذلك وقتله.

صلاح الدين وإلغاء الخلافة العبيدية الفاطمية

15003_image003.jpg
توفي أسد الدين بعد ثلاثة أشهر من دخوله القاهرة، واختار العاضد صلاح الدين يوسف بن أيوب وزيرًا له، فبذل الأموال للرعية فأحبوه، وأمر بذكر نور الدين في الخطبة بعد الخليفة العبيدي ( الفاطمي )، وأقطع أصحابه البلاد، وأسند إليهم بعض المناصب، فهدد بذلك صلاح الدين أصحاب المصالح في بقاء الدولة الفاطمية، فعملوا على المكر، به واتفق رأيهم على أن يكاتبوا الفرنجة ودعوتهم إلى مصر، فإذا ما خرج صلاح الدين إلى لقائهم، قبضوا على من بقي من أصحابه بالقاهرة وانضموا إلى الفرنجة في محاربته.

ولكن صلاح الدين الأيوبي كان يقظًا واستطاع أن يقضي بقوة على خطط هؤلاء، فدبر لقتل جوهر مؤتمن الخلافة، فثار الجند السودانيون، وكانوا يزيدون على خمسين ألفًا ودار بينهم وبين قوات صلاح الدين قتال عنيف، فتتبعهم صلاح الدين حتى وصلوا الصعيد حتى قضي على نفوذهم نهائيًا سنة 572..

كانت الفرنجة تتربص بنور الدين وتوسعاته في مصر، ويرون فيه خطرًا يهدد كيانهم، ولذلك هيأوا لحملة جديدة على مصر، استعانوا فيها بإمبراطور الدولة البيزنطية، فتوجهوا إلى دمياط يعاونهم أسطول بيزنطي مزود بالمؤن والعتاد، فوصلوا إليها في صفر سنة 565 فلم يخرج إليهم صلاح الدين بنفسه خوفًا من مؤامرات العبيديين الفاطميين، بل أرسل جيشًا بقيادة أخيه تقي الدين عمر، وخالد شهاب الدين محمود لمواجهة الفرنجة وبعث يطلب المدد من نور الدين فأرسل إليه مددًا، وكان الخليفة العاضد كذلك حريصًا على إعانة صلاح الدين بالمال طوال مدة حصار الفرنجة لدمياط؛ لذلك يقول صلاح الدين.. (ما رأيت أكرم من العاضد أرسل إليّ مدة مقام الفرنج على دمياط ألف ألف دينار سوى ما أرسله إلى من الثياب وغيرها).

وقد فترت حماسة الصليبيين فرجعوا من حيث أتوا في ربيع الأول سنة 565.

لما أيقن صلاح الدين أن سلطانه قد أستقر، وجه اهتمامه إلى القضاء على المذهب الشيعي في مصر، فأنشأ سنة 566 هـ مدرسة لتدريس المذهب الشافعي، وأخري لتدريس المذهب المالكي،وعزل قضاة الشيعة، وعين صدر الدين عبد الملك بن درباس قاضيًا للقضاة في جميع أنحاء البلاد المصرية، فاستعاد بذلك المذهب السني قوته.

ثم أرسل نور الدين إلى صلاح الدين أن يجعل الخطبة باسم الخليفة العباسي محل الخليفة العبيدي الفاطمي، فتردد متخوفًا من سخط المصريين، لكن نور الدين أصر فتحولت الخطبة للخليفة العباسي المستضيء بنور الله... وكان العاضد إذ ذاك مريضًا ولم يعلم أهله بذلك ثم توفي في 10 من محرم سنة 567، وهكذا انتهت الدولة العبيدية (الفاطمية) الشيعية بمصر.
 
شكرا على المعلومات التاريخية الجد القيمة
مفيدة جدا
شكرا لك
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top