هل ابا العتاهية كان زاهدا حقا؟؟؟؟؟؟؟؟؟

سلفي والحمد لله

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
7 أوت 2010
المشاركات
2,302
نقاط التفاعل
427
النقاط
83
بسم الله الرحمن الرحيم
إنَّ شعر أبي العتاهية الذي أخذ يجادل بين الحُبِّ والتزهد في الحياة، لا يزال بحثاً مجدّاً في الأدب العربي حتي يومنا هذا، لانه أخذ يعبر عن أفكار وعقائد هذا الشاعر طوال حياته فنري خلال أبياته الشعرية ونظرياته تزاحماً كثيراً من المجون والخلاعة والجشع وحبّ المال الذي كان يبعث به حيناً والتزهد والعفاف وفساد العقيدة والزندقة من جهة اخري، وقد وصفه احد معاصريه بانه مخلوقٌ سماوي.(1)
ولقّب من احد الباحثين المعاصرين بالشاعر المتورّع والمتعبّد.(2)
فاذا كان هناك توافق تام بين الأدباء علي أنَّ ابا العتاهية كان في بدو حياته مولعاً بالحب والطمع والجشع والحرص والملذّات والاقبال علي جمع متع الحياة، وقد أبتعد عن التزهّد والعبادة، لانه كان مولعاً ساعياً علي كسب مغانم الحياة في قصر الأمراء والخلفاء والابتعاد المتواصل عن الموت كما قال أحد الشعراء في وصفه والتشكيك في صدق زهده:
ما اقبح التزهيد في واعظ
يزهِّدُ الناس ولا يزهدُ
لو كان في تزهيده صادقاً
أضحي واسمي بيته المسجد(3)
فاذا امعنّا النظر في اختلاف النظريات حول ابي العتاهية وزهده فلابدّ لنا من ان نبحث عن سيرته واشعاره ومنبته حتي نتعرف اكثر واكثر حوله والظروف التي عاش فيها.

ولادته :

ولد ابو العتاهية من أبٍ حجّام(4) والذي كان يعمل في بدو حياته بصنع الجرار ولذلك لقب بالجرّار(5) وكان اسمه اسماعيل بن القاسم ولكنه كُنّي بأبي العتاهية لحبّه المجون والخلاعة(6) أو يُحتمل أن تكون كنيته بهذا اللقب لقبحه ودمامته ونفور النساء منه(7).


سيرته :

اذا أردنا ان نبحث حول سيرته سنلاحظ أنّه كان يُعاني بعدم التوازن والاستقرار في افكاره وعقائده وكان سريع التأثر مما يسمع ويري وسريع التحوّل عما يتأثر به ولم يكن علي موقف فكري واعتقادي واحد ووجود هذا التناقض في حياته وسلوكه قد دفع بعض دارسيه الي الشك في صحّة زهده ونقاء عقيدته. فان ابا الفرج الاصفهاني يصفه في الاغاني بانه كان مضطرب المذهب، يعتقد بشيء ما فاذا سمع طاعناً في ذلك، ترك اعتقاده وأخذ غيره.(8) من جهة اخري قد وصفه ابن المعتز، بانه كان خبيث الدين، فاسد العقيدة، متهم بالجبرية ويعتقد بالثنوية ويفكّر بالبعث، ويؤمن بخلق القرآن، وهو ناسك الظاهر(9).
وحول ما قيل بأنه كان يؤمن بخلق القرآن، لقد سأله ابو شعيب عن خلق القرآن، فأجاب: هل سألتني عن اللّه أم غير اللّه ، فقال عن غير اللّه ، فسكت ولم يُجب ولما قال له ما لك لا تجيبني؟ قال: اجبتُك ولكنك حمار(10).
واشار ابن قتيبة الدينوري في كتابه (الشعر والشعراء)، وأبو الفرج الاصفهاني في الافغاني الي أنّه كان زنديقاً وسأله الرشيد مرة: الناس يزعمون أنك زنديق، فما رأيك؟ فاجاب: كيف اكون زنديقاً وانا المنشد:
ألا إننا كلنا بائدُ
وأيُّ بني آدم خالدُ
وبدؤهم كان من ربهم
وكلّ الي ربّه عائد
فياعجباً كيف يعصي الأله
أم كيف يجحده الجاحد
وللّه في كلِّ تحريكةٍ
وفي كلّ تسكينةٍ شاهد
وفي كل شيء له آيةٌ
تدلّ علي أنَّهُ الواحد(11)
ولما سمع أبو نؤاس ذلك قال لودّدته بكل شعري. وقد اتهمه المنصور بن عمار مرةً بالزندقة، فسمع الخبر وكتب اليه منشداً:
ان يوم الحساب يومٌ عسيرُ
ليس للظالمين فيه نصير
فاتخذ عدة لمطلع القبر
وهول الصراط يا منصور
فندم المنصور علي ذلك واعترف له بالزهد لاعتراف أبي العتاهية بالموت والبعث.(12)


التشكيك في مذهبه وعقائده :

مما يوجهنا في كثرة التشكيك حول صدق عقيدته وتزهّد عواطفه، وحبّه الفادح تجاه من عشقهن وتغزّل بهنّ. فنري قصته مع عُتبة جارية المهدي حين قال: كُنا شباباً ادباء وفتيان وليس لنا ما نجلس عنده في پغداد الا في غرفة، وحينما كان جالسين عند الجسر، مرّت علينا امرأةٌ، فسألتُ من هي فقالوا: عتبة، فقال لقد احببتها، ثم ذهب الي شخص هناك ولبس البسة راهب، ثم قال: أريدُ ان أسلِم علي يد هذه المرأة وهي عتبة، فأتوا به الي عتبة، ثم قال: اشهد انَّ لا اله اللّه وأنَّ محمداً صلي الله عليه و آله وسلم عبده ورسوله، ثم قطع الزنّار وقبّل يدها فرفعت البُرنس من وجهها ثم قالت: نحّوه، لعنه اللّه ، والحاضرون شرعوا يعلّمونه الحمد والصلاة(13) فأنّنا ان صدّقنا ما يقال عنه، فالقصة تحكي روح الدعابة والبعث والأستهتار في حين أننا مطمئنين علي أنّ ابا العتاهية كان يتشبّب بعتبة ويظهر عشقه لها وهي جاريةٌ لزوجة المهدي ولمّا سمع المهدي في كثرة وصفه لها، غضب عليه وضربه بالسياط وغُشي عليه، وحينما آفاق، أنشد هكذا:
بخٍّ بخٍّ يا عُتبُ من مثلُكُم
قد قتل المهدي فيكم قتيلُ
فرّق له المهدي ووعده بعتبة، ولكنها رفضت، وفي الابيات الاخري نري اظهار حبّه لها وكثرة تعشّقه لها منشداً:
أعلمت عُتبة أنني منها
علي شرفٍ مُطلٌّ وشكوت
ما ألقي اليها والمدامع تستهلُّ
حتي اذا برمتُ
بما أشكو كما يشكو الاقلُّ
قالت: فأي الناس يع
لمُ ما تقولُ؟ فقلت، كلُّ
ومن قوله في الحبّ منشداً:
ولقد صبوتُ اليك حتي صار
من فرط التصابي يجد الجليس
، اذا دنا ريح التصابي في ثيابي(14)
فنحن لا نريد ان نصدّق حبه او تكسّبه بشعره وتحريك مخيلته الشعرية بل نريد ان نُبرهن علي أنه كان عاشقاً صادقاً، ونودّ ان نقول علي انه كان يُعاني من ازدواجية حادة بين الفعل والقول وان ما يمارسه أبو العتاهية في حياته سواءً بينه وبين الأدباء الآخرين، لان الزهد والحب وسيلتان لكسب الشهرة والمال والتعاطف والوصول الي بلاط الخليفة، فاذا أردنا ان نعود عما قيل حوله من الزندقة وفساد العقيدة فيجب ان نمعن النظر في أشعاره علي الاخص في شعره الأخير الذي انشده في الايام الاخيرة من عمره وقد أقلع عن المجون واللهو وشرب الخمر وتوجّه نحو التزهّد والتفكير في الموت(15).


التزهّد في اشعار أبي العتاهية وأسبابه :

ان الذي يؤدّي الي صدق زهده في اشعاره هو قبول العامة واسترضائهم بأشعاره الزهدية، لان زهدياته كان لها صديً عظيم في نفوسهم ولم تكن تعرف لها ترفاً ولا نعيماً، بل كانت غارقة في الكدح وشظف العيش.(16)
وكان المستشرق المشهور البروفسور كارل يعتقد بان التزهّد في شعر أبي العتاهية كان سبباً في اتهامه بالزندقة، وان هذا الاتهام دليلٌ علي اقتصاره بذكر الموت دون تعرّض لذكر البعث ولهذا لا يمكن الاعتماد علي صحة قوله بل وان شعره هذا كان متأثراً من وعّاظ النصاري(17).
فالاعتقاد الصحيح هو ان ابا العتاهية قد عاش في عصر كان مفتوحاً امام الثقافات والحضارات المتنوعة من الأفكار والعقائد، ولذلك كان كغيره من الشعراء، ينتقل من موقع فكري الي آخر وهي حالة تصيب الكثيرين.

براءته :

انَّ ظن الاكثرية علي زندقته لا يمكن ان يكون صحيحاً لان الاتهام ربما كان من قبل خصومه وتراجع البعض كالمنصور بعد اتهامه بالزندقة فضلاً عن ان شعره لا يرشح بما يؤكد هذا الاتهام بل كان اكثر شعره يدل علي الايمان والتوحيد.

فغضب الرشيد عليه واتهمه بالزندقة كما قلنا يحتمل ان يكون ذلك دليلاً علي انصرافه من شعر الغزل والوصف الذي كان يعشه الحكام ويطربون لسماعه، ومن ناحية اخري كان ابو العتاهية مستاءً في نفسه لكثرة الشعر علي أغراض الموت والقبر واهوالهما وهو أمرٌ سلبي علي المجتمع العباسي الناهض حينذاك.

التناقض في قوله وفعله :

حينما ننظر الي اشعاره وسلوكه نري تضاداً حاداً واضطراباً شديداً بين اقواله وافعاله كما قلنا حتي صحّ أن نقول ان اللّه تعالي قد وصف الشعراء بأنّهم (يقولون ما لا يفعلون)(18).
فمن جهة نشاهد انه شاعر راغب في الحياة ومقبل عليها وليس منقبضاً عنها او معرضاً عن لذاتها ومحباً لجمع المال وملحاً في تكسبه وشديد البخل وكارهاً للناس وبرِماً منهم وهذه الصفات ليس في بداية حياته بل في طول عمره.

فيُروي عنه، انه كان من شدة البخل يأخذ القطعة من الخبز ويغمسها في اللبن، فقيل له لم نر احداً مثلك تأدَّم بلا شيء، في حين كان مجاوراً لشيخ فقير ولا يتصدق عليه طول الحياة، وكان يدعو عليه بقوله (يا الهي أعِنه علي هذا السبيل) فبقي هكذا الي ان مات، حتي سُئِلَ عن عدم التصديق له أو دفع الصدقة، فقال: أخشي ان يعتاد الصدقة والصدقةُ آخر كسب العباد وانَّ في الدعاء لخيرٌ كثيرٌ(19) وان صحَّ هذا فهو رجل قولٍ لا رجل فعلٍ كما أنه قد سئل ايضاً هل تدفع زكاة مالك؟ فقال: نعم أنفقها علي عيالي لأني لا اجدُ أفقر منهم(20).
فالبخل والطمع الشديد الذي نشاهده في اشعاره يمكننا القول انه كان لا يأكل مما يجمع ولا يشرب ولا يدفع للآخرين شيئاً من ماله ولكنه يحضُّ الآخرين علي التحرر من متاع الدنيا طلباً لثواب الآخرة ومن الجهة الاخري كان يعظ نفسه كما يطالب به الناس وقد أنشد الي ثمامة بن أشرس في قوله:
اذا المرء لم يُعتق من المال نفسه
تملّكه المال الذي هو مالكه
اذا كنت ذا مال فبادر به الذي
يحقّ والا استهلكته المهالكُ
ألا إنَّما مالي الذي أنا مُنفقُ
وليس لي المالُ الذي أنا تاركه
وقيل له لماذا لا تصرف مما جمعته؟ فأجاب اني أخافُ الفقر في الغد واحتياجي الي الناس، في حين انه كان يملك سبعاً وعشرين بدرة، وقبل أن يسمع ثمامة كلامه أمسك عنه لانه لم يكن من الذين شرح اللّه صدره للاسلام(21).


تحريض الناس علي الانفاق :

ومن قوله في تحريض الناس علي الانفاق والتحرر من متاع الدنيا طلباً في ثواب الآخرة منشداً:
ما زال حرصُ الحريصُ يطعمه
في دركه الشيء دونه العطبُ
ما طاب عيش الحريص قطُّ
ولا فارق التعسُ منه والنصب
من لم يكن بالكفاف مقتنعاً
لم تكفِه الأرض كلها ذهبُ(22)
وأنشد قائلاً في ذم الحرص:
الحرصُ لؤمٌ ومثله الطمعُ
ما اجتمع الحرصُ قط والورعُ
لو قنع الناس بالكفاف اذاً
لا تسعوا في الذي به قَنَعوا(23)
وفي أبياتٍ أخري لقد ذمّ الحرص قائلاً:
كم من عزيز قد رأيت الحرص
صيّره ذليلاً
فلرب شهوة ساعةٍ
قد أورثت حزناً طويلاً(24)
فأننا نشاهده في كل ابياته منكراً لحبّ المال والحرص والطمع ولكنه كان في عمله مخالفاً لقوله لانه كان بخيلاً أشد البخل وحريصاً ملحاحاً في تكسبه ويدعو الناس الي التعفف والقناعة ونظن بان البخلاء لا يسمّون البخل بخلاً وليس عندهم عاراً بل ما يسمونه بحكمة الحرص ويجدون الاحتياط في الحياة المادية تعقلاً لهم لمواجهة تقلبات الأيام. وله في القناعة والتعفف ابياتاً انشدها قائلاً:
طلبتُ الغني في كل وجه
فلم أجد سبيل الغني الا سبيل التعفف
اذا كنت لا ترضي بشيء تناله
وكنت علي ما فات جمَّ التلهف
فلست من الهم العريض بخارج
ولست من الغيظ الطويل بمشتف(25)
وله أيضاً في القناعة وذم الحرص:
شدةُ الحرص ما علمت وضاعةٌ
وعناءٌ وفاقةٌ وضراعة
انما الراحة المريحة في اليأ
سِ من الناس والغني في القناعة(26)
وفي أبيات اخري يدعو الناس الي اليأس والأدبار عن الدنيا قائلاً:
ان استتمَّ من الدنيا لك اليأسُ
لن يغُمك لا موتٌ ولا ناسُ
اللّه ُ أصدقُ والآمالُ كاذبةٌ
وكلُّ هذي المني في القلب وسواس(27)
وبه أبيات أخري تحكي عن تضاد عقيدته معرضاً عن الدنيا ومحبّاً لها:
يبلي الشباب ويفني الشيبُ نظرته
كما تساقط عن عيدانهاالورقُ
مالي اراك وما تنفكِ من طمع
يمتدّ منك اليها الطرف والعنقُ
تذمّ دنياك ذماً ما تبوحُ به
الا وانتَ لها في ذاك معتنقُ(28)
هذه كلها ما انشده حول القناعة وذم البخل والحرص وحبه للمال، اما اذا بحثنا أكثر وأكثر عن حياته وسيرته، نري أنه كان يقترب من الخلفاء لاخذ المال منهم وكسب صلاتهم ومن ثم الحرص علي جمعه، ولهذا نتوجه في بعض القصص التي تحكي عنه بانه كان يحج كل سنة فاذا قدم من الحج، كان يهدي الي المأمون بُرداً ومطرفاً(29) ونعلاً اسود ومساويك أراك وكان المأمون يبعث اليه حينئذ عشرين الف درهم، فأهدي له مرةً كما كانت عادته ولكن المأمون لم يتنبه ونسي الأمر، فكتب اليه ابو العتاهية يرجوه بالصلة منشداً:
خبّروني أنَّ من ضرب السنة
جدداُ بيضاً وحُمراً حسنه
لم اكُن اعهدها فيما مضي
مثل ما كنتُ أري كلَّ سنة
فأمر المأمون بحمل العشرين الف درهم اليه وقال: أغفلناه حتي ذكرنا(30) ونحن نري في شعره وعمله وهداياه المتواترة عليه، كيف كان يجلبها لنفسه ولجمعه وتكسّبه واقباله علي الدنيا والرغبة في متاعها.

وقد انشد للهادي، فقال له:
يا أمين اللّه مالي
لستُ أدري اليوم مالي
لم أنل منك الذي
قد نال غيري من نوالِ
تبذلُ الحق وتُعطي
مِنْ يمينٍ وشمال
وانا اليائسُ لا تن
ظر في رقةِ حالي
فامر الخازن أن يعطيه عشرة آلاف درهم(31).
وفي مثال آخر نفتش في سيرته ونري حبه للدنيا والزهد المتعارض علي انه قد أرسل الي الفضل بن معن بن زائدة كتاباً وطلب منه النجدة فقال: انني توسلت اليك في طلب نائلك باسباب الأمل وذرائع الحمد فراراً من الفقر ورجاءً للغني، وقد قسمتُ اللائمة بيني وبينك لاني اخطأتُ في سؤالك واخطأتَ في منعي من الدراهم وانشد يقول:
فررتُ من الفقر الذي هو مدركي
الي بخلِ محظورِ النوالِ منُوع
فأعطني الحرمان غِب مطامعي
كذلك من يلقاه غير قَنُوع(32)
فهذه النماذج من أشعاره تدلُّ علي ان زهده كان غير صادق لاننا شاهدنا في أبياته التي تحكي عن طمعه وحرصه للمال والدنيا وأبياته التي تُبيّن مدي تعلقه بالمال وفي نظرية أخري نري انه يكشف امام علي بن يقطين رغبته في الدنيا لا في الدين ويُنشد هكذا:
حتي متي ليت شعري يا بن يقطين
أنني عليك بما لا منك تُوليني
انَّ السلام وانَّ البشر من رجُلٍ
في مثل ما أنت فيه ليس يكفيني
هذا زمانٌ الحّ الناس فيه علي
تيه الملوك وأخلاق المساكين
أما علمت جزاك اللّه صالحةً
وزادك اللّه فضلاً يابن يقطين
انّي أريدك للدنيا وعاجلها
ولا أريدك يوم الدين للدين(33)
فاذا كان للشعر وظيفة اخلاقيةٌ في حياة الانسان والارتقاء الي الحس الانساني والاخلاقي فان الشعر عند أبي العتاهية كان الأصل للتكسّب وصيد المغانم وأما التزهّد والتعفف لديه ليس الا من وسائل الربح والوصول الي المغانم.

ويقال عنه أيضاً انه حين أنشد أبياتاً امام مسلم بن الوليد أجابه مسلم: ان الذي ينشد هكذا لا تفوته الدنيا، وأجاب أبو العتاهية: ان الشعر من مصايد الدنيا(34).


التشكيك حول تزهده :

مما يقال حول أبي العتاهية والتشكيك الكثير في صدق تزهده أنه كان مُعرضاً عن الناس وكان يكرههم، فاذا كان زاهداً وعابداً وتاركاً للدنيا، فلماذا الحقد والكراهية وهي ليست من صفات الزهّاد بل من صفات الراغبين في الدنيا الذين يتنافسون في مغانم الحياة وهذه الصفة من كراهيته اللناس وحقده عليهم ومن مضمون ما قاله في بعض أبياته.
برمتُ من الناس وأخلاقهم
فصرتُ أستأنسُ بالوحدة
ما أكثر الناس لعمري
وما اقلّهم في حاصل العِدّة(35)

هجو أبي العتاهية :

اننا نظن أنَّ هجوه كان هجواً لاذعاً مقصوراً علي الذين يبخلون في عطائهم اياه ويحرمونه من الهبة ومن ذلك هجوه في يزيد بن معن الذي بخل عليه فانشد يقول:
بني معنُ ويهدمُهُ يزيد
كذاك اللّه ُ يفعلُ ما يريدُ
فمعنٌ كان للحسّاد غماً
وهذا قد يُسّرُ به الحسودُ يزيدُ
، يزيدُ في منعٍ وبُخلٍ
وينقصُ في النوالِ ولا يزيدُ(36)
فالمهجو منع أبا العتاهية من العطاء والجود وقد هجا آخر لنفس السبب المذكور لأنه اعتاد علي الهجو هكذا:
أصبحت لا تعرف الجميل
ولا تفرّق بين القبيح والحسن
ان الذي يرتجي نداك كمن
يجلبُ تيساً من شهوة اللبن(37)
فهجاء أبي العتاهية لم يقتصر علي من منعه من العطاء والهبة بل كان يهجو الناس جميعاً ويتعدي ذلك الي الشتم والكلام المُنسف المبتذل(38) واحتقاره للناس وكُرهه لهم، وهذه خصال لا تركنُ في قلوب الزهاد كما تعلم بل تشتعل في قلوب الجهال والسفهاء، وفي نموذج آخر يقال انه قد هجا امرأةً هجواً مقذعاً لانه كان يهواها ولكنها كانت تُحبّ مولاها عبداللّه بن معن ورفضت علي ان تحبه وقد هجا مولاها ايضاً هجواً لاذعاً منشداً هكذا:
جلدتني بكفّها
بنتُ معن بن زائده
وتراها مع الخصيّ
بأبي تلك جالده
تتكّني كُني الر
جال بعمد مكايده
جلدتني وبالغت
مائةً غير واحدة
اجلديني وأجلدي
انما انتِ والده(39)
اذن لم يكن أبو العتاهية في هجائه وضيعاً بل كان كلامه صريحاً وخالياً من التعفف والاحتشام، غير أنَّ كثيراً من الشعراء الآخرين المتكسبين أخذوا يستعملون الترميز والتلميح في اشعارهم ويبتعدون عن التحقير حتي في هجوهم خلافاً لأبي العتاهية فاذا كان زاهداً ومتواضعاً، فلا يفهم الاتضاع والتصاغر في شعره وليست الصفات المستعملة من قبله هي صفات الزهد لان الزاهد غني بزهده عن الهبات والعطايا وهي مأمنٌ من الخوف بفضل تعففه واكتفائه بالقليل فهو من جهة يكف الناس عن الدنيا ويحذّرهم عنها بقوله:
أراك لدنياك مستوطناً
ألم تدرِ أنّك فيها غريبُ
أغرك منها نهارٌ يُضيء
وليلٌ يجنُّ وشمسُ تغيبُ
فلا تحسب الدار دار الغرور
فيصفو لساكنها أو تطيبُ(40)
ويصف الدنيا بأنها جيفةٌ ولا يقترب الناس اليها وان يكفّوا التصارع علي متاعها كما يستأثر أبو العلاء المعرّي من شعره ويصف الدنيا هكذا:
أصاحِ هي الدنيا تشابه جيفةً
ونحنُ حواليها الكلابُ النوابحُ(41)
وقوله في نظم آخر:
إنّما الدنيا علي ما جبلت جيفةٌ
نحن عليها نصطرع
فسد الناسُ وصار أن رأوا
صالحاً في الدين قالوا مُبتدع(42)
ويدعونا أبو العتاهية الي النحيب والنواح علي أنفسنا والانشغال عن الحياة بقوله:
نُحْ علي نفسك يا مسكينُ
ان كنت تنوح
لتموتُنَّ وان عمَّرتَ
ما عمَّر نوح(43)
فالتناقض في شعره من التزهد والطمع والحرص والأقبال علي الدنيا يُجبرنا علي التفكير في اشعاره وافكاره هذه من مجافاة الدنيا والتفكير المتواصل بالموت وفزعه وحب المال والطمع للحصول علي هبات الملوك وعطاياهم ومن جهة اخري اننا نظن علي ان توجهه الجديد وانقلابه من العبث واللهو الي الزهد كانت وسيلةً من وسائل الشهوة وتحقيق الشعبية الشعرية له ولربما كان التستر بالزهد غطاءً يحمي به نفسه ويتستر به خوفاً من الحكام الذين كانوا في ذلك الحين يقطعون رؤوس الزنادقة او المتهمين بالزندقة او المعارضين ولما كان ابو العتاهية متهماً بالزندقة والجبرية وخلق القرآن والثنوية، فأخذ يتزهّد خوفاً من الحكام وكل هذه العوامل أدَّت الي زهده(44).
وفي النهاية نري انه كان في اواخر حياته يبكي علي شبابه متحسراً له بقوله:
لهفي علي ورق الشباب
وغصونه الخضر الرطابِ
ذهب الشباب وبان عني
غير منتظر الأياب
فلأبكيَّنَ علي الشبا
ب وطيب أيّام التصابِ(45)
فتحسّره علي أيامه الفائتة تحكي علي حبه لشبابه، وان كان صادق الزهد، تحسّر علي ايامه وشبابه وايام التصابي وهذه ايضاً ازدواجية أخري متضادة كما بيناه في المقال وللتأكيد علي ما وضحناه نري انه في أواخر عمره اخذ يُنشد ملتمساً التوبة من اللّه علي ما ارتكبه في ايام شبابه قائلاً:
الهي لا تُعذّبني فاني مُقرُّ
بالذي قد كان منّي
أجُنُّ بزهرةٍ الدنيا جنوناً
وأقطع طول عُمري بالتمنّي
ولو أني صدقتُ الزهد عنها
قلبتُ لأهلها ظهر المجنّ
يَظُنّ الناس بي خيراً واني
لشرُّ الخلق ان لم تعفُ عني(46)
فهل أرضانا علي ما أنشده من شعر الزهد والغزل توأماً علي ان نحكم بأنه كان متزهداً عفيفاً ام عاشقاً لدنياه وحريصاً علي حصول الصلات، فالتناقض علي اية حال مشهود في شعره وعقائده ولا نعتقد بانه كان زاهداً عفيفاً تاركاً لدنياه والسلام.

الهوامش :




1. تاريخ بغداد البغدادي مطبعة السعادة ج 6 ص251.​

2. دراسات في الادب العربي غرو بناوم مكتبة الحياة ص 148.​


3. الأغاني ابو الفرج الاصفهاني دار الكتب المصرية ج 4 ص 76.
4. المرجع السابق ج 4 ص 1.​


5. وفيات الاعيان ابن خلكان دار صادر ص 219.​

6. تاريخ الأدب العربي شوقي ضيف العصر العباسي دار المعارف ص 237.​

7. الاغاني ج 4 ص 6.​

8. طبقات الشعراء ابن المعتز دار المعارف ص 231.​

9. الاغاني ج 4 ص 7.​

10. تاريخ بغداد ج 6 ص 253.​


11. المرجع السابق ص 253.
12. المرجع السابق ج 6 ص 254.​


13. وفيات الاعيان ص 223.​


14. تاريخ الادب العربي شوقي ضيف العصر العباسي ص 249.
15. المرجع السابق ص 251.​


16. تاريخ الادب العربي بروكلمان دار المعارف ص 34.​

17. الاغاني ج 4 ص 17.​

18. القرآن الكريم سورة الشعراء الآية 226.​

19. المرجع السابق ج4 ص19.​

20. الاغاني دار الشعب ج4 ص1230.​

21. ديوان ابي العتاهية ص24.​


22. المرجع السابق ص 213. 23. المرجع السابق ص 312. 24. ديوان ابي العتاهية ص 240. 25. المرجع السابق ص 233. 26. المرجع السابق ص 193. 27. المرجع السابق ص 249. 28. الاغاني ج4 دار الكتاب ص 53.
29. المطرف - اللباس الذي يصنع من الحرير.​


30. المرجع السابق ص 54.​

31. العقد الفريد - ابن عبد ربه الكتب العلمية ج2 ص 219.​


32. الاغاني دار الكتاب ج4 ص5. 33. الاغاني دار الشعب ج4 ص 1256.
34. الاغاني دار الكتب ج4 ص38.​



35. ديوان ابي العتاهية ص 522. 36. المرجع السابق ص 656. 37. الاغاني دار الكتب ج4 ص38.
38. المرجع السابق ص 25.​



39. ديوان ابي العتاهية ص37. 40. اللزوميات ابو العلاء المعري مطبعة المحروسة ص224. 41. ديوان ابي العتاهية ص221. 42. المرجع السابق ص99. 43. الاغاني دار الشعب ج4 ص 1221.
44. الاغاني دار الكتب ج 4 ص 46.​



45. الاغاني دار الكتب ج4 ص 109. 46.
* عضو الهيئة العلمية في الجامعة الحرة فرع جيرفت​
 
آخر تعديل:
أبو العتاهية كان مريض كي القذافي الله يرحمو ...
 
صحيت سفيان
بصح راهو تاب مسكين مع لخر شوف وش قالهم في اخر حياته
الهي لا تُعذّبني فاني مُقرُّ
بالذي قد كان منّي

أجُنُّ بزهرةٍ الدنيا جنوناً
وأقطع طول عُمري بالتمنّي
ولو أني صدقتُ الزهد عنها
قلبتُ لأهلها ظهر المجنّ
يَظُنّ الناس بي خيراً واني
لشرُّ الخلق ان لم تعفُ عني
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top