مقالات تاريخية-متجدد

angegardienretour

:: عضو بارز ::
أحباب اللمة
إنضم
23 أكتوبر 2016
المشاركات
1,505
نقاط التفاعل
1,027
النقاط
71
محل الإقامة
الجزائر العاصمة
الجنس
أنثى
مجموعة من المقالات التاريخية التي تركز على التاريخ بوجه عام والتاريخ الإسلامي بوجه خاص؛ لينفتح الباب واسعا أمام الكثير من الأقلام المتميزة والمبدعة في الكتابات التاريخية، والتي تحلل وتدرس الكثير من الأحداث والظواهر التاريخية.

قصة تحرير الرها من الصليبيين

أولاً: الصليبيون في المشرق الإسلامي
تعرّضت الأمة الإسلامية في أواخر القرن الخامس الهجري/ أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، لأول عدوان عسكري خارجي يغزوها في عقر دارها، ويهدد وجودها ومصيرها؛ ألا وهو عدوان الفرنجة الصليبيين.. وهم جماعات بشرية عدوانية خرجت من دول مختلفة في غرب أوروبا، خاصة فرنسا، للاستيلاء على بلاد الشاموالجزيرة، والاستيطان فيها، بتحريض من البابا أوربان الثاني والكنيسة الكاثوليكية، بذريعة تخليص الضريح المقدس في «أرض المسيح» من أيدي المسلمين (الكفار)، وتأمين وصول الحُجاج المسيحيين إلى الأراضي المقدسة في فلسطين.
وهكذا اندفعت الجحافل الجرارة لهؤلاء الغزاة تحت راية الصليب، مخترقين شرقي أوروبا، وقطعوا آلاف الأميال حتى وصلوا إلى الأناضول، حيث نجحوا في إحراز النصر على الأتراك السلاجقة، أكبر القوى الإسلامية في المشرق الإسلامي إذ ذاك، وذلك في العام 1097، الأمر الذي فتح أمامهم طريق آسيا الصغرى، ومنها إلى الجزيرة والشام أو «أرض اللبن والعسل»، بناء على ما هو مدون في كتابهم المقدس.
وقد ردد رجال الدين الكاثوليك هذا الوصف كثيراً على مسامع عامة النصارى في مدن فرنسا وإيطاليا وألمانيا، أثناء فترة الدعوة والتحضير لهذه الحملات الغاشمة؛ وذلك لحشد أكبر عدد ممكن من المقاتلين من مختلف الطبقات والفئات، مع منحهم صكوك الغفران التي يدخلون بها الجنة - بزعمهم - إن هم قتلوا المسلمين، فكان ذلك حافزاً لكثير من المغامرين والمرتزقة والمهمّشين واللقطاء واللصوص وغيرهم، للانخراط في هذه الحملات العدوانية لأجل إشباع رغباتهم وتحقيق أطماعهم الدنيوية في تلك الأرض «الموعودة»، على حساب أهلها المسلمين، وذلك بجانب العامل الديني الذي ألمحنا إليه سابقًا.
وقد رسم لنا المؤرخون صورًا مرعبة للمذابح التي ارتكبها الصليبيون بحق المسلمين، وما قاموا به من سلب ونهب وتخريب وتدمير للمدن الإسلامية التي احتلوها، أو مروا بها، وصولاً إلى المذبحة الكبرى التي ارتكبوها غداة اقتحامهم مدينة القدس في 23 شعبان 492هـ الموافق 15 يوليو 1099م، التي راح ضحيتها جل سكان المدينة من المسلمين والمسيحيين واليهود.
وخلال عدد قليل من السنوات استطاع الصليبيون أن يستولوا على أجزاء واسعة من مدن وموانئ وأقاليم بلاد الشام والجزيرة، وأكدوا وجودهم الاستيطاني بإنشاء عديد من الإمارات الصليبية في أخصب بقاعها وأغناها، مثل: الرها، وأنطاكية، وطرابلس، وبيروت، وعكَّا، وصيدا، فضلاً عن مستعمرتهم الأساسية في فلسطين (مملكة بيت المقدس).. وقد ضموا إلى كل مستعمرة أو إمارة ما يحيط بها من مدن وأقاليم زراعية خصبة، وعملوا على تأمين كل منها بسلسلة من القلاع والحصون القوية التي نظموا فيها الحاميات، وشحنوها بالمؤن والسلاح، وبكل ما يمكنها من الصمود لمدة طويلة في وجه أي حصار قد يقوم به المسلمون لها.
وبعد أن استتب وجودهم في تلك الإمارات والمستعمرات، شرعوا في تطوير أعمالهم العدوانية ضد المدن والبلدات الإسلامية التي لم تخضع لهم، فاستحلوا دماء أهلها وأموالهم، وقطعوا طرقهم، ونهبوا قوافلهم وخيراتهم، وأذاقوهم لباس الذل والخوف.
ثانياً: حال المسلمين وواقعهم السياسي
جاء احتلال الصليبيين للقدس وبلاد الشام والجزيرة في وقت كان يسود فيه التفكك والتشرذم والشقاق بين المسلمين، وكانت تتقاسم أقاليم المشرق الإسلامي - إذ ذاك - خلافتان متناقضتان ومتصارعتان، وهما الخلافة العباسية في بغداد، والخلافة الفاطمية في القاهرة، وكانت كل منهما في قمة الضعف.
فأما الخلافة العباسية (السنية) في بغداد، وهي الأقدم والأعرق؛ فكانت قد تحولت إلى رمز ديني معنوي، وكان الخلفاء العباسيون يمارسون دوراً شكلياً فقط، ولم يكن تحت أيديهم أي قوة عسكرية، ومن ثم لم يكن لهم أي تأثير يُذكر على مجرى الأحداث خارج مدينة بغداد، وكانت الهيمنة الفعلية للأتراك السلاجقة منذ سنة 447هـ/1055م، وهو العام الذي دخل فيه زعيمهم طغرل بك بغداد وخلص الخلافة العباسية من سيطرة البويهيين الشيعة.
وأما الخلافة الفاطمية (الإسماعيلية الشيعية) في القاهرة، فكانت هي الأخرى منهكة وضعيفة نتيجة الفتن الداخلية التي عصفت بها، من جهة، والحروب المتواصلة والمكلفة بينها وبين السلاجقة في الشام لأسباب مذهبية وسياسية، من جهة أخرى. وكانت الهيمنة الفعلية عليها للجماليين، نسبة إلى بدر الدين الجمالي الأرمني، أحد كبار القادة الفاطميين. ولم يكن للفاطميين أو الجماليين شأن يذكر في مقاومة الصليبيين، خاصة بعد هزيمتهم البحرية وتدمير الصليبيين أسطولهم في معركة عسقلان سنة 517هـ/ 1123م. ومنذ ذلك الحين انشغلت الخلافة الفاطمية بانقساماتها، وفقدت السيطرة على الأحداث التي حولها، حتى جاء صلاح الدين الأيوبي فكنسها إلى مزبلة التاريخ.
كما أن الدولة السلجوقية، التي كانت وصية على الخلافة العباسية، كانت هي نفسها مفككة ومقسمة إلى إقطاعيات عسكرية منتشرة في الأناضول وفارس والشام والجزيرة، وكانت هذه الإقطاعيات قد فقدت أواصر الارتباط فيما بينها بعد وفاة آخر سلاطينهم الكبار، وهو ملكشاه بن ألب أرسلان سنة 485هـ/1092م.
ومن تلك الإقطاعيات العسكرية التي كانت لها خطوط مواجهة مباشرة مع الصليبيين: أتابكية دمشق وأتابكية الموصل، وكان بينهما وحولهما عدد من الإمارات الصغيرة والأسر المستقلة، وكان العداء هو الطابع المميز للعلاقة فيما بين هذه الإمارات والأسر، ولم يكن أمراؤها يتفقون على أي خطة مشتركة لمواجهة الصليبيين الغزاة، بل إن منهم من مال لمهادنتهم وعقد الاتفاقيات معهم؛ اتقاء لشرهم، أو تسليماً بالأمر الواقع، أو خوفاً من بعضهم البعض، كما فعل حكّام دمشق، على سبيل المثال.
وفي تلك الفترة حالكة السواد، ظهرت خيانات الخائنين، وانكشف تخاذل المتخاذلين، وانتشرت الجماعات الباطنية في أجزاء كثيرة من إيران، وشغلت حيزاً لا بأس به في سواحل الشام، حيث تمركزت في قلاع قوية في القمم القبلية، وذلك بجوار الإمارات والقلاع الصليبية، وكانت شوكة مؤذية في خاصرة المسلمين.
في حين تُرك العبء الأكبر من الجهاد على عاتق القوى المحلية، التي كان يقودها العلماء العاملون، وغالباً ما كان يحدث ذلك أثناء حصار الصليبيين للمدن. وأما من كان يقاتل من أمراء المسلمين، فكان يقاتل دفاعاً عن نفسه، وعما تحت يده من بلاد، ولاتقاء لعنة التاريخ التي لا ترحم ولا تحابي أحداً.
ثالثاً: عماد الدين زنكي ينهض
وقد استمر الوضع كذلك إلى أن ظهر الأتابك (الأمير) عماد الدين زنكي بن مودود بن آق سنقر التركماني، وهو من قادة السلاجقة، والذي تسلم أتابكية (إمارة) الموصل سنة 521هـ/1127م بأمر من الخليفة العباسي المسترشد بالله، وبترشيح من السلطان محمود السلجوقي، الذي كان عماد الدين يحظى بثقته وتقديره، لما علم من شهامته وكفايته؛ فكان عماد الدين زنكي هو الذي رفع راية الجهاد ضد الصليبيين بصورة منظمة.
بيد أن طريق الجهاد لم يكن مفروشاً بالورود أمام هذا القائد المسلم، فهو عندما تولى أتابكية الموصل كانت الإمارات الصليبية قد صارت تشغل الساحل الشامي بطوله، ابتداء من طرسوس في أقصى الشمال حتى جنوب سهل فلسطين الساحلي في غزة وعسقلان، إضافة إلى مستعمرتهم الرئيسية (مملكة بيت المقدس) التي كانت تشغل معظم أراضي فلسطين الحالية، بل كان ملوكها قد توغلوا في أعماق البلاد فبسطوا نفوذهم على الكرك في شرقي نهر الأردن، وعلى الشوبك والبتراء ووادي عربة في جنوب البحر الميت، وامتدت سيطرتهم لتصل إلى ميناء إيلات على خليج العقبة. وقد شكل احتلالهم هذه المناطق تهديداً مستمراً لمواكب الحجاج ولقوافل التجار المسلمين إلى الحجاز والأراضي المقدسة، وأيضاً القوافل المتجهة إلى مصر (التي أصبح هذا الطريق هو الممر الوحيد إليها من الشام بعد قطع الصليبيين الطريق الساحلي الذي يربط بين الشام ومصر).
وهذا فضلاً عن توغل الصليبيين في أعماق بلاد الجزيرة من خلال إمارة الرها الصليبية، التي راح خطرها يزداد ويتعاظم يوماً بعد يوم – كما سنوضح ذلك لاحقاً -.
ويمكن القول إنه غداة ظهور عماد الدين زنكي على الساحة الإسلامية، كان الصليبيون قد سيطروا على معظم بلاد الشام والجزيرة، ولم يكن يخرج عن سيطرتهم سوى قواعد الشام الأربع: دمشق وحلب وحمص وحماه.. لكن ومع استقلال هذه المدن، إلا أنها كانت عرضة للغارات الصليبية المتواصلة.. كل ذلك من جهة.
ومن جهة أخرى، فقد كان عماد الدين زنكي محكوماً في حركته بمصالح السلطان السلجوقي والخليفة العباسي ومراكز القوى الأخرى حوله، ثم إنه كان لزاماً عليه أن يهتم أولاً بشؤونه الداخلية وبناء قوته الذاتية، وقد استغرق منه ذلك عدداً من السنوات، اضطر خلالها إلى أن يخوض معركة حربية مع الخليفة العباسي المستظهر بالله سنة 526هـ/1132م، وهي المعركة التي انتهت بهزيمته وانسحابه إلى تكريت، والتي نزل فيها ضيفاً على القائدين الكرديين نجم الدين أيوب وأخيه أسد الدين شيركوه، واللذين ضمهما - فيما بعد - إلى خدمته، وأدخلهما إلى قلب الأحداث والتاريخ.
لكن ومع كل العقبات التي وقفت في وجه عماد الدين زنكي، فقد تمكن بفضل خبرته العسكرية وكفاءته الإدارية، من توطيد سلطته في مدينة الموصل وما حولها، وأصبح سيد الجزيرة غير منازع، كما رسخ نفوذه في مدينة حلب، ثم في مدينة حماه، وبذلك وحّد بين شمال العراق وشمال الشام، وخطا الخطوة الأولى على طريق وحدة الصف.
وبالتزامن مع ذلك عمد عماد الدين إلى مناجزة الصليبيين، فانتصر عليهم في عديد من المعارك غير الحاسمة، كما انتزع منهم كثيراً من الحصون والقلاع، من أهمها: حصن الأثارب بين حلب وإنطاكية سنة 524هـ، وقلعة بعرين القريبة من حماه سنة 531هـ، وذلك بعد معركة قاسية انتصر فيها على الصليبيين، وأسر خلالها ريموند قائد جيش طرابلس. وكان في سنة 529هـ قد فتح معرة النعمان وكفر طاب. كما استطاع أن يرد جحافل الروم البيزنطيين عن شيزر سنة 533هـ، وأن يلحق بهم أفدح الخسائر. وقد توج عماد الدين انتصاراته الظافرة بتحرير مدينة الرها سنة 539هـ/1144م، وهو ما سنسلط عليه الضوء في الفقرات اللاحقة.
رابعاً: الرها وأسباب تحريرها
الرّها مدينة قديمة مشهورة من أمهات مدن إقليم الجزيرة الواقعة بين نهري دجلة والفرات. وهي تقع بين الموصل والشام إلى الشمال من مدينة حلب، واسمها بالرومية أديسا، «وسكانها تنوّعت أصولهم ما بين عناصر سامية قديمة وغالبية سريانية منتمية إلى الآراميين، وقد اعتنقوا المسيحية. وتعتبر مدينة الرها أهم أمكنتهم الدينية والتاريخية». وكان الذي فتحها هو الصحابي عياض بن غنم سنة 17هـ. وكان فتحها صلحاً «ودخل أهل سائر الجزيرة فيما دخل فيه أهل الرهاء من الصلح». وهي اليوم تحت سيادة الدولة التركية وتُدعى (أورفا).
وقد وصفها الحميري في الروض المعطار فقال: الرهاء - بضم الراء والمد - مدينة من أرض الجزيرة متصلة بحران، وإليها ينسب الورق الجيد من ورق المصاحف، وهي مدينة ذات عيون كثيرة عجيبة تجري منها الأنهار، وبينها وبين حران ستة فراسخ. والرهاء مدينة رومية عليها سور حجارة تدخل منها أنهار وتخرج عنها، وهي سهلية جبلية كثيرة البساتين والخيرات، مسندة إلى جبل مشرفة على بساط من الأرض ممتد إلى حران.. وليس في جميع بلاد الجزيرة أحسن منها منتزهات ولا أكثر منها فواكه، وعنابها على قدر التفاح، وقد ذكر أنه لم يوجد بناء خشب أحسن من بناء كنيستها، لأنها مبنية بخشب العناب... إلخ».
وقد احتل الصليبيون الرها سنة 1097م، ونظراً لأهميتها الاستراتيجية والاقتصادية والدينية، فقد أنشؤوا فيها إمارة صليبية كانت هي أولى إماراتهم في الشرق. «ولم يكد يمرّ عامان على تأسيس الرها، حتى أصبح أميرها ومؤسسها (بلدوين) ملكاً على مملكة بيت المقدس، فتولى أمرها بلدوين دي بورغ حتى سنة 512هـ/1118م، ثم تبعه جوسلين الأول، فجوسلين الثاني حتى سنة 539هـ/1144م»، وهو تاريخ تحريرها من قبل عماد الدين زنكي.
وكانت إمارة الرها هذه أكبر وأخطر مستعمرة صليبية في المشرق بعد مملكة بيت المقدس، وكان خطرها يرجع إلى كونها أقيمت في عمق بلاد المسلمين وليس على الساحل، كبقية الإمارات الصليبية، وكان وجودها في داخل بلاد المسلمين قد جعلها تشكل حداً فاصلاً بين الأتراك السلاجقة في كل من إيران والأناضول، من جهة، وبين العراق والشام من جهة أخرى.. هذا من ناحية.
ومن ناحية ثانية، فإن هذه الإمارة الصليبية كانت تشكل خطراً كبيراً على مدينة الموصل وما يتبعها، مثل: نصيبين، ورأس العين، وماردين، وحران، والرقة، وكذلك بالنسبة لديار بكر وما يتبعها في أعالي دجلة، وكانت في نفس الوقت تشكل تهديداً لمدينة حلب ولشمال الشام كله، لا سيما مع وجود إمارة إنطاكية بإزاء مدينة حلب على الساحل الشامي، هذا فضلاً عما يمثلهُ قربها من العراق من تهديد للخلافة الإسلامية، التي تعد رمز الوحدة بين المسلمين.
كما كانت هذه الإمارة، من جهة ثالثة، مصدر خطر كبير على الطريق البري الممتد من مدينة الموصل إلى مدينة حلب، وكان جوسلين (كونت الرها) يطلق قواته للإغارة على بلاد المسلمين القريبة من الرها، وقطع الطرق، وممارسة أعمال السلب والنهب، بصورة مستمرة. كما أنه كان قد استغل انشغال عماد الدين زنكي بقتال الصليبيين في جنوب الشام، فقام بتوسيع حدود إمارته، فبسط سيطرته على مناطق كثيرة في غربي الفرات.
ولم يكن عماد الدين زنكي غافلاً عما كان يقوم به جوسلين كونت الرها وقواته من تحرشات واستفزازات للمسلمين، لكنه ظل يترقب الفرصة المناسبة لتوجيه ضربة قاضية لهذه الإمارة الصليبية المعادية، وقد كان هذا الخيار أشدّ إلحاحاً بعد تزايد خطر الكونت جوسلين واطراد أعماله العدوانية ضد المسلمين وممتلكاتهم، وكثرة شكاوى المسلمين منه إلى عماد الدين زنكي. مع كون هذه الإمارة الصليبية كانت شوكة في خاصرته، وكانت تشكل تهديداً مباشراً لإمارته، وتقف حجر عثرة في طريقه تحول بينه وبين التوجه لقتال الصليبيين في جنوب بلاد الشام، حيث تتركز قواتهم الرئيسية.. فماذا فعل عماد الدين يا ترى؟
خامساً: خطة تحرير مدينة الرها
وهكذا وضع عماد الدين زنكي مسألة تحرير مدينة الرها نصب عينيه، وأعدّ لذلك خطة محكمة أحاطها بالسرية التامة، كما أنه لم يُظهر أي سوء نية تجاه أميرها (جوسلين)، وذلك لضمان نجاح الخطة وعدم فشلها؛ ذلك أن الكونت جوسلين إلى جانب شهرته بالغدر والقسوة والأطماع الواسعة، كان معروفاً بالدهاء والشجاعة والفروسية، ومتميزاً بالكفاءة القيادية والإدارية، ولو أنه علم، أو حتى شك، بما يدبره له عماد الدين لاستعد له، ولاستنفر قوى الصليبيين التي من حوله، وحشدها إلى جانبه، ولظل متأهباً على الدوام لصد أي هجوم على إمارته قد يقوم به ضده.
وحينئذ كان سيتعذر على جيش عماد الدين مواجهة قوى الصليبيين مجتمعة، بطبيعة الحال، كما يتعذر عليه اقتحام قلعة المدينة المعروفة بحصانتها الشديدة، والتي قد يلجأ الكونت جوسلين للتحصن بداخلها، بعد أن يشحنها بالمؤن والأطعمة والعتاد، وبصورة تؤدي إلى صموده لفترة طويلة، الأمر الذي لم يكن في صالح عماد الدين؛ لأن أجزاء أخرى من بلاده ستكون أثناء ذلك عرضة للغزو من قبل جيوش الإمارات الصليبية الأخرى، أو حتى من قبل جيوش حكام المسلمين الذين يناصبونه العداء.
ولذلك، فقد قضت تلك الخطة بمباغتة المدينة على حين غرة، وفي وقت لم يحسب له الكونت جوسلين حساباً، مع استخدام وسائل الضغط كافة على المدينة وإرغامها على الاستسلام قبل تدخّل القوى الفرنجية.. وهذا ما حدث بالضبط.
ففي نوفمبر 1144م خرج عماد الدين زنكي بقواته من مدينة الموصل متظاهراً بغزو ديار بكر الواقعة في أعالي دجلة، بعد أن كان قد حيل بينه وبينها في العام السابق. ويبدو أنه كان يتابع بصورة سرية تحركات الكونت جوسلين. وقد يكون سبب اختياره لهذا التوقيت بالذات هو علمه بأنه موعد مغادرته إلى قاعدة إمارته، إلى إمارة إنطاكية، لحضور احتفالات عيد الميلاد التي تُقام فيها سنوياً حسب العادة - بما يتخلل هذه المناسبة عند النصارى من ضروب اللهو والعربدة والصخب، والتي كان يميل إليها الكونت جوسلين.
وفعلاً، فمع خروج عماد الدين زنكي على رأس جيشه من مدينة الموصل، غادر الكونت جوسلين مدينة الرها متوجهاً إلى إنطاكية وهو في تمام الاطمئنان على مدينته، نظراً لتصوره أن عماد الدين زنكي منشغل عنه، ولما علم عماد الدين بأمر مغادرته، أرسل مباشرة إلى أمير حماه يطلب منه توجيه قواته إلى مدينة الرها على وجه السرعة، وما لبث هو نفسه حتى انحرف بقواته غرباً، فأطبق الجيشان (جيش حماه وجيش الموصل) على مدينة الرها في وقتٍ واحد، وذلك في 28 نوفمبر 1144م، وأحكما الحصار حولها، وباشر النقابون في العمل لفتح ثغرات في سور المدينة تحت غطاء الهجمات التي كانت تشنها القوات الإسلامية على حامية المدينة.
وقد استمر الحصار أربعة أسابيع كان الكونت جوسلين قد علم خلالها بما تتعرض له قاعدة إمارته، فعاد أدراجه إليها، لكنه لم يجرؤ على الاقتراب منها، ولجأ إلى قرية مجاورة على الضفة الغربية للفرات تدعى «تل باشر»، ومكث فيها منتظراً وصول المدد من إمارة إنطاكية ومن مملكة بيت المقدس، اللتين كان قد بعث إليهما يستنفرهما لنجدته، إلا أن الجيوش الصليبية وصلت بعد أن كانت الجيوش الإسلامية قد اقتحمت المدينة ودخلتها عنوة، بما في ذلك اقتحام قلعتها الحصينة. وقد كان للمباغتة دورها الحاسم في سرعة سقوط قلعة المدينة العصية بأيدي قوات عماد الدين التي داهمتها في وقت لم تكن فيه حاميتها مستعدة للصمود لحصار طويل.
وهكذا دخل عماد الدين مدينة الرها، وأمر جنوده برد كل ما أخذوه من أهلها دون وجه حق، وسار فيهم بالعدل والسيرة الحسنة، ومنع من التعرض لكنائسهم وعبادتهم، وكان نموذجاً رائعاً للقائد المسلم الفاتح في سماحته وتواضعه وعفته. وعاد الأذان يصدح من جديد في هذه المدينة بعد أن توقف نحو خمسين عاماً بسبب الاحتلال الصليبي، ولم يترك عماد الدين المدينة إلا بعد أن عادت الطمأنينة إلى أهلها، وأعاد ترميم أسوارها وتحصينها، ونظم حامية للدفاع عنها، وزودها بما تحتاج إليه من مؤن وعتاد ووسائل دفاع.
سادساً: نتائج تحرير مدينة الرها
استطاع عماد الدين زنكي بعد تحرير هذه المدينة المهمة تصفية الوجود الصليبي في شرقي الفرات، فاستولى على ما كان للصليبيين من حصون ومعاقل هناك، كما تمكن من تحرير مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت تابعة لإمارة الرها في غرب الفرات، كما تم تأمين الطريق الرئيسية الممتدة من الموصل إلى حلب والطرق المتفرعة عنها من غارات الصليبيين، فأمن المسلمون على أموالهم وممتلكاتهم وأعراضهم في تلك الأنحاء بعد طول قلقٍ ومعاناة.
وقد كان تحرير مدينة الرها أعظم انتصار حققه المسلمون على الصليبيين منذ أن جاؤوا إلى المشرق الإسلامي، فانتعشت بهذا الانتصار آمال المسلمين، وارتفعت معنوياتهم، وعلت صيحتهم الداعية للجهاد والتعاون والتضامن لطرد الغزاة الصليبيين من ديار المسلمين، لا سيما أن هذا الانتصار برهن على قوة المسلمين وما يتوافر لديهم من إمكانيات تتيح لهم إلحاق الهزائم بالصليبيين والنيل منهم.
كما أن هذا الانتصار عزز من سمعة ومكانة الأتابك عماد الدين زنكي، وأعلى من شأنه بين أمراء المسلمين، ودعم موقفه في جهاده ضد الصليبيين في بلاد الشام. فهذا الخليفة العباسي يبتهج بهذا الانتصار فيرسل وفداً إلى عماد الدين محملاً بالهدايا الثمينة ويمنحه لقب (الملك الغازي)، تشريفاً له وإيذاناً بإطلاق يده في مواجهة الصليبيين.
ومن جهة أخرى، فقد هزّ تحرير الرها جبهة الفرنج في الصميم، وأثار ذلك قلقاً شديداً لدى البابوية والغرب الأوروبي، وأشعل نيران الحملة الصليبية الثانية التي كانت إنطاكية العنوان الرئيسي لها، نتيجة كونها أصبحت مكشوفة أمام المسلمين، باعتبار أن مدينة الرها المحررة كانت خطها الدفاعي الحصين. وقد عد بعض المؤرخين الأوروبيين تحرير الرها بداية النهاية لمملكة بيت المقدس الصليبية.
بيد أنه لم يكتب للأتابك عماد الدين زنكي مواصلة مشواره الجهادي والتصدي لهذه الحملة، فقد لقي حتفه غيلة في 6 ربيع الآخر 540هـ الموافق 15 سبتمبر 1146م، على يد كبير حراسه، وكان فيما قيل من الباطنية، وذلك أثناء حصاره قلعة «جعبر»، على نهر الفرات، بعد مرور عام وبضعة أشهر على تحريره مدينة الرها.
وبعد استشهاده حاول الصليبيون استعادة الرها من جديد، إلا أن ابنه الملك الصالح نور الدين محمود، الذي خلفه على إمارة حلب، تصدى لهم بكل جسارة، وكان نور الدين هذا من خيرة حكام المسلمين وأصلحهم وأتقاهم، بعد عمر بن عبد العزيز، كما قال ابن كثير وغيره، وكان يفوق والده عزماً وحماسة وهمة للجهاد في سبيل الله، ولطرد الصليبيين الجاثمين في بلاد المسلمين، وكان له شرف التصدي للحملة الصليبية الثانية. وفي عهده تغيّر الموقف تغيّراً حاسماً لصالح المسلمين، وخاب أمل المرجفين الذين راهنوا على انقسام مُلك عماد الدين زنكي وتوقف عجلة الجهاد بعد وفاته.
________________________________________
المصدر: مجلة البيان العدد 327 ذو القعدة 1435هـ، سبتمبر 2014م.

:regards01::regards01::regards01:
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

مختصر الجبرتي.. تقريب التاريخ وتوعية الجيل

التاريخ كالشمس الساطعة، تنير الطريق لأجيال تتلوها أجيال، وقد يمتد أثره إلى يوم قيام الساعة، والمتعمق في التاريخ يقرأ بيسر ما يحدث على وجه الأرض من أمور، ولا يُخدع بسهولة، مهما تفاقمت المؤامرات، ومهما تعددت وسائل المكر والمكيدة.. فهو وكأنه فعلاً يرى المستقبل!!.
فالأحداث السابقة تتكرَّر دائمًا، وبصورة تكاد تكون متطابقة، والتاريخ ثروة مدفونة تحتاج إلى بذل مجهود، وتفريغ وقت، وحشد طاقات لاستخراجها نقية زهية.
تقريب التاريخ خطوة على الطريق:
لعل طريقنا طويل يبدأ من إبراز التاريخ ونفض غبار الزمان عنه، ثم توثيق التاريخ نفسه واستخراج الحق من ركامات الباطل، وتقريبه بلغة سهلة وعرض شائق، وتحليل أحداثه واستخراج الفوائد والعبر ومعالجة الأخطاء.
ودراسة التاريخ بهذه الطريقة تجعل التاريخ حيًّا ينبض.. أنت تقرأ لتتفاعل، لا لمجرَّد التسلية أو الدراسة الأكاديمية البحتة!
وتقريب التاريخ من أولويات هذا العصر، الذي امتاز بارتفاع مستوى المعيشة، وتعقد المدنية، وكثرة مطالب الحياة وتكاليفها، مع ما اتسم به هذا العصر من حب الاختصار، والاقتصار على الضروري المفيد، والشعور البالغ إلى حد الحساسية الزائدة بقيمة الوقت وسرعة مضيه، والزهد في كل شيء طويل معقد، وما يجهد النفس ويستنفد طاقتها من التأمل والمطالعة، بل ما يشق على النفس في الفهم والإدراك، مضافًا إلى كل ذلك ما اتسم به هذا الجيل من قصور الهمة، وضعف الإرادة، بل وضعف القوى.
كل ذلك استلزم قراءة تاريخية جديدة، وإن شئت فقل كتابة للتاريخ من جديد، بأسلوب مبتكر، بعيدًا عن الطلاسم واللوغريتمات وبلغة العصر وحداثته، مع مراعاة التدرج المعرفي والتسلسل الفكري للمادة العلمية.
مختصر الجبرتي.. إحياء بعد موات:
تاريخ الجبرتي المسمى "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" أشبه بالتلال الأثرية، لا تكاد تحفر فيها حتى تجد تحفة أثرية نادرة، وكلما ازددت في الحفر عثرت على اللؤلؤ والجواهر. ومع ذلك، فإن هذا الحفر يحتاج إلى صبر ومثابرة وأناة حتى يمكن استخراج هذه النفائس من الأتربة العالقة بها.
ولقد عزم على الحفر والتنقيب في هذه التلال واستخراج لؤلؤها الباحث أيمن حسن الدمنهوري فقدم مختصرًا وافيًا لهذا الكتاب خرج عام 2007 قام على لب مقصود المؤلف في عبارة موجزة مع الإبقاء على جل معناه، فقدمه للجيل الجديد في مجلد واحد بعد أن كان أصله في أربعة مجلدات أو يزيد.
أهمية تاريخ الجبرتي:
كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" يعد من التواريخ المهمة في حياة الأمة الإسلامية والعربية ومصر والتاريخ المعاصر، إذ يرصد مؤلفه حقبة من أشد الحِقب التي كانت لها أبعد الأثر سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا.
ويستمد كتاب الجبرتي أهميته من أنه أرَّخ لحقبة شهدت أحداثًا ضخمة في قطر كبير من أقطار العالم الإسلامي. فقد شهدت انحلال النظام العثماني الذي قام في مصر منذ فتحها السلطان سليم الأول عام 1517م. ثم شهدت الحملة الفرنسية وحكم الفرنسيين لها نحو ثلاث سنوات (1798-1801م)، ثم شهدت محاولة النظام العثماني العودة إلى مصر من جديد، ثم الإجهاز عليه تمامًا على يد محمد علي، وكان هذا الإجهاز تمهيداً لبناء النظام الجديد .
وقارئ التاريخ اليوم لا يجد كتابًا يتحدث عن هذه الحقبة المضطربة غير كتاب الجبرتي. ويعدُّ الجبرتي في هذه الحقبة الحافلة بالأحداث شاهد عيان، يرى ويسمع فيحلل ويكتب.
فقد عاش الجبرتي بين عامي (1754-1825م) وعامي (1176-1240ه)ـ. فشهد بذلك النصف الثاني من القرن الثامن عشر والربع الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. وفي هذه الحقبة كانت مصر على مفترق الطرق في اتجاهها السياسي، وهو انتقالها من العصور الوسطى إلى العصر الحديث.
ويزيد من أهمية الكتاب أنه لم يكن كتاب تاريخ فحسب، بل كان كتابًا في تراجم الرجال أيضًا، فقد ترجم للآلاف من العلماء والشيوخ والأمراء والحكام والخطباء والشعراء والكتاب والأعيان والتجار، بل إن كتابه يشمل أخباراً طريفة كذلك عن أبناء الطبقات الدنيا من المجتمع المصري، حيث يورد أسماء كثيرين من الباعة وأهل البدع وبعض أصحاب الطرق والمجذوبين وغيرهم ممن يكثرون أيام الاحتفالات الدينية والمواسم، ويمكن القول: إن الجبرتي يقدم صورة كاملة للمجتمع المصري خلال العصر العثماني.
خاصة وأن الجبرتي ذكر الحقائق التاريخية دون محاباة أو مجاملة لحاكم أو لغيره، وعالج مشاكل الحياة والمجتمع المصري معالجة البصير بالأمور وحكم عليها حكمًا مقبولًا.
منهج الاختصار:
وعن منهج الذي اتبعه الأستاذ أيمن في الاختصار يحدثنا فيقول:
أبقيت على الجانب السياسي الذي تناوله الكتاب، وأضفت إليه كل الحوادث التي توضح ملمحًا دينيًا أو ثقفيًا أو اجتماعيًا أو اقتصاديًا.
احتفظت بعبارة شيخنا الجبرتي -ما أمكن ذلك- ولم أتصرف في لفظه إلا في النذر اليسير دعتني الضرورة إليه.
وأخيرًا..
للباحث منا جزيل الشكر على ما قدم، وتاريخنا يحتاج إلى المزيد من الجهد وبذل العقل والقلب والجوارح والروح، في التقريب والاختصار والتحقيق، والله الموفق والهادي إلى الصراط المستقيم.

:regards01::regards01::regards01:
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

العامريون في بلنسية

من هم الفتيان العامريون؟
الفتيان العامريون هم الفتيان الصقالبة من موالي الحاجب المنصور محمد بن أبي عامر. برز من هؤلاء عدد كان لهم شأن ونفوذ كبيرين في عهد المنصور وخلفائه، وبعد سقوط الخلافة الأموية في الأندلسوالدولة العامرية بقرطبة لوحق الفتيان العامريون في كل مكان وجدوا فيه، فمنهم من قُتِلَ أو سُبِيَ، ومنهم من اختفى مترقبًا ما يجود به الدهر عليه، وانفرد منهم عدد استولوا على بعض المعاقل أو القلاع واعتصموا بها. وقد تميزت دول الطوائف التي قامت في شرقي الأندلس بغلبة العنصر الصقلبي ودوره في تكييف أحداثها. وكانت هذه العناصر الصقلبية التي ألفت في شرقي الأندلس، ميدانًا لنشاطها وأطماعها، هي نفس العناصر التي ظهرت بادىء ذي بدء في ميدان الفتنة القرطبية، وساهمت في أحداثها.

المبارك والمظفر العامريان الصقلبيان:
وكانت بلنسية أعظم قواعد الشرق الأندلسي ومركز تجاذب السلطة، وكان الصراع على النفوذ فيها متواضعًا في أول الأمر، ولم يلبث أن شمل شرقي الأندلس كله، فلما اضطرمت الفتنة في قرطبة وانهارت الدولة العامرية أوائل سنة 399هـ / 1009م، وانتزع محمد بن عبد الجبار المهدي الخلافة من هشام المؤيد، كان على بلنسية أحد الفتيان العامريين هو مجاهد العامري، فثار عليه عبدان من عبيد العامريين، هما المبارك والمظفر الصقلبيان اللذان كانا موكلين بشؤون الري في منطقة بلنسية، فاستقلا بها وحكماها شراكة، ونزلا في قصر الإمارة مختلطَين تجمعهما في أغلب الأحيان مائدة واحدة، ولا يميز أحدهما من الآخر في كسوة أو حلية أو مركوب.
وكان لمبارك التقدم في المخاطبة لصرامته ودماثة المظفر وانصياعه لزميله في سائر الأمور. وبلغت جباية بلنسية وشاطبة في عهدهما مائة وعشرين ألف دينار في الشهر. غير أنهما لم يقصرا في تحصين بلنسية فقويت شوكتها، ووفد الناس عليها بأموالهم، وابتنوا المنازل والقصور الفخمة فيها، والرياض الزاهرة، وكان مبارك ومظفر قدوة في ذلك، فأنشآ القصور الفخمة، واقتنيا نفيس المتاع والرياش والآلات. وكان موكبهما إلى المسجد الجامع ببلنسية، يذكر الناس بفخامته وأناقته، وفاخر ما يرتديانه من اللباس، بمواكب مولاهما عبد الملك المظفر ابن المنصور نفسه.
كما وفد إلى بلنسية كثير من الموالي والصقالبة من الفرنجة والبشكنس وغيرهم من العبيد الآبقين من أنحاء الأندلس، وكان من هؤلاء الصقالبة، الوافدين المشردين، كثير من الفرسان الشجعان، وانتسب معظمهم إلى ولاء بني عامر، واكتسبوا بذلك نفوذًا. ووفد على المدينة أيضًا كثير من أرباب المهن والحرف، وكان لذلك كله أثره في تقدم العمران والرخاء بالمدينة.
وكان من أهم أعمال مبارك العسكرية محاربته لمنذر بن يحيى التجيبي صاحب سرقسطة. وذلك أن الفتى لبيبًا العامري كان يحكم طرطوشة من أعمال الثغر الأعلى، فثابت لمنذر رغبة في الاستيلاء عليها، وهاجمها، ففر عنها لبيب وسار إلى بلنسية واستغاث بمبارك، فخرج معه في خمسمائة من خيرة فرسانه، ولقيهم منذر فغلبوا عليه وهزموه هزيمة شنيعة. وعاد مبارك إلى بلنسية ظافرًا، واستفحل أمره، ودانت له جماعة الموالي.
واستمر مبارك ومظفر في حكم بلنسية بضعة أعوام، من سنة 401هـ إلى وفاة المظفر سنة 409ه، واستمر مبارك من بعده، فترة يسيرة. وفي ذات يوم خرج للنزهة فحدث حين عبوره فوق قنطرة النهر، أن عثرت به فرسه، فسقط منها، واصطدم ببعض أخشاب خرجت من القنطرة فشج وجهه وبطنه ومات لساعته.
ومن الغريب أن مباركًا ومظفرًا بالرغم من جهلهما، وبعدهما عن ميدان التفكير والأدب، كانا يستخدمان في بلاطهما طائفة من كتاب العصر النابهين مثل ابن التاكرني، وابن مهلب، وابن طالوت، وكانا يرتبان هؤلاء الكتاب في دولتهم على نسق مشيخة الوزراء في قرطبة، ويرجعان إلى رأيهم ومشورتهم في معظم الأمور، وكانا يعملان في حكم بلنسية مستقلين تمام الاستقلال، لا يعترفان في ذلك برياسة قرطبة أو غيرها.
ومما هو جدير بالذكر أيضًا أن مباركًا ومظفرًا كان لهما نصيب من مديح الشعر المعاصر، وقد مدحهما شاعر العصر، أبو عمر بن درّاج القسطلي بقصيدة رائعة هذا مطلعها:
ورياك أم عرف المجــــامر أشعلت *** بعـود الكباء والألوَّة ناركِ
ومبسمك الوضاح أم ضوء بــــــارق *** حداه دعائي أن يجود دياركِ
وطرة صبح أم جبينك سافـــــــــــــــرًا *** أعرت الصباح نوره أم أعاركِ
حكم لبيب ومجاهد العامريَّيْن:
حكم بلنسية بعد وفاة الشريكين الفتى لبيب العامري صاحب طرطوشة مدة سنتين، وهو فتى صقلبي آخر من العامريين، وشاركه في حكمها مجاهد صاحب دانية، وكانت الخطبة تصدر باسميهما، ثم دب الخلاف بينهما ففر لبيب إلى طرطوشة واستأنف رياسته بها، وانفرد مجاهد بحكم بلنسية مع حكمه لدانية في نفس الوقت.
ولاية عبد العزيز المنصور بن عبد الرحمن شنجول العامري:
ولم يلبث أن ثار على مجاهد العامري بقية الفتيان العامريين، وبايعوا أحد أحفاد المنصور هو أبو الحسن المنصور عبد العزيز بن الناصر عبد الرحمن سنشول العامري (ت452هـ)، وذلك في سنة 411هـ / 1021 م، الذي يعدّ أول سلاطين الدولة العامرية في بلنسية.
نشأ بقرطبة وكان أبوه قد منحه لقب الحاجب وهو طفل ونعته بسيف الدولة، فلما نُكِبَ أبوه وقتل نحو سنة 380هـ استقر بسرقسطة في كنف صاحبها منذر بن يحيى التُّجيبي، ولما خلت بلنسية من أميرها كاتبه أهلها وولوه أمرهم سنة411هـ، وتوطد سلطانه من غير منازع، وجمع شمل المشردين من أهل بيته فآواهم، وأغدق عليهم، واستخدم في ديوانه أربعة من أشهر كتاب عصره، كانوا يعرفون بالطبائع الأربع، وهم ابن طالوت، وابن عباس، وابن عبد العزيز، وابن التاكرني كاتب رسائله. ولما أعلن القاضي ابن عباد صاحب إشبيلية في سنة 426هـ / 1035م ظهور هشام المؤيد ودعا لخلافته، كان عبد العزيز المنصور في مقدمة الأمراء الذين بايعوه، واعترفوا بخلافته.
وكان على علاقات طيبة مع ملوك الإسبان النصارى، ولاسيما فرناندو الأول ملك قشتالة لقرابته منه عن طريق جدته. وتمكن بحنكته وإصراره من ضم كثير من البلاد إلى مملكته، فكانت له بلنسية وشاطبة ومرسية وألمرية وجزيرة شُقر. واستطالت إمارة عبد العزيز المنصور لبلنسية زهاء أربعين عامًا. ثم توفي في شهر ذي الحجة سنة 452هـ / يناير 1061م.
إمارة عبد الملك بن عبد العزيز المنصور:
وقام بالأمر من بعده ولده عبد الملك (ت نحو 458هـ) بإجماع أهل الدولة، وبويع في بلنسية وشاطبة، واستقر في بلنسية، ولقب بنظام الدولة، وبالمظفر. وكان حدثًا يافعًا، فتولى تدبير الدولة، وزير أبيه أبو عبد الله محمد بن مروان بن عبد العزيز القرطبي المشهور بابن رويش، وكان رجلا وافر العلم والحنكة، فأحسن تدبير الأمور، واستقر على يديه النظام والأمن، بالرغم مما كانت تعانيه بلنسية من نقص في المواد والرجال، وفساد في الأعمال. وكان يمالئ المأمون يحيى بن ذي النون صاحب طليطلة، الذي كان والد زوجة عبد الملك، ويتعاطف معه ويدعمه.
بلنسية تحت حكم المأمون بن ذي النون بطليطلة:
ثم طمع المأمون بن ذي النون في مملكته بعد أن ساءت سيرته، حيث كان عبد الملك حسبما يخبرنا ابن حيان: "منهمكًا في الشراب، غاربًا عن الخصال المحمودة مع رقة الديانة ونقص المروءة، وكثرة الاستمهال، والانحطاط في مهاوي اللذات"، كما وبالغ في إهانة ابنة المأمون، فقبض عليه وأخرجه مع ابنه إلى حصن إقليش سنة 457هـ فأقام به مدة قصيرة إلى أن مات، وضُمَّت بلنسية إلى مملكة بني ذي النون في طليطلة، وكان ذلك في ْشهر ذي الحجة سنة 457هـ / نوفمبر سنة 1065م، واستخلف المأمون عليها الوزير أبا بكر بن عبد العزيز (ابن رويش)، وكان أبو بكر مثل أبيه عالمًا حازمًا. فضبط بلنسية، وسار في حكمها سيرة حسنة، واتبع الرفق والعدل، وأجزل العطاء للعمال والجند.
بلنسية تحت حكم القادر بن ذي النون:
وبعد وفاة المأمون سنة 467هـ قام بالأمر من بعده حفبده القادر يحيى بن ذي النون، فظهر عجزه عن تصريف الأمور، وبدأت بلنسية تستقل بنفسها شيئًا فشيئًا، واستعان القادر بألفونسو (الإذفنش) السادس ملك قشتالة كي يسترد سلطته على المدينة، فلم يتردد في مساندته مقابل تسليمه طليطلة، وانتهى الأمر به إلى تسليم عاصمته إلى الإسبان سنة 478هـ، وقامت دولة ذي النون الثانية في بلنسية تحت حراب الإسبان وتسلُّطهم حتى سنة 495هـ حين استردَّها المرابطون.
________________________________________
المراجع:
- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: جـ2، ط4، 1417هـ - 1997م.
- محمد وليد الجلاد: العامريون في بلنسية، الموسوعة العربية العالمية.

:regards01::regards01::regards01:
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

الصقالبة في الأندلس

قصة الإسلام
الصقالبة .. الاشتقاق والمعنى:
يطلق مصطلح الصقالبة (السٌّلاف) على أمة مرجعها أصل واحد، وقد أكثر من ذكرها مؤرخو اليونان والرومان والعرب، ولكن أكثر أقوالهم مبهمة لا تدل دلالة صريحة على أصل مرجعها، وتوزعها فى بلاد أوروبا وآسيا، ومن مؤرخى العرب من جعلها فئة قليلة، ومنهم من توسع فنسب إليها بلادا وأمما لم تكن منها.
وتسمية الصقالبة Slaves أطلقها الجغرافيون العرب على عدد من الشعوب المتحدرة من أصول شتى، كانت تنزل الأراضي المجاورة لبلاد الخزر بين القسطنطينية وأرض البلغار، ومنهم من سكن شمالي القارة الأوربية وعلى ضفاف نهر الفولغا. ومفرد صقالبة: صقلب أو صقلبي أو صقلابي، وكذلك يمكن أن يبدأ الاسم بالسين بدلًا من الصاد، واسم الصقالبة بالإفرنجية سلاف Slaves، ويقال لهم سلافيون أيضًا، وهي مأخوذة من كلمة سلافا باللسان الصقلبي؛ و معناها المجد، أو من كلمة سلوفو؛ ومعناها الكلام، وكانت تلفظ عندهم سكلاف، فعرَّبها العرب إلى "صقلب"، وأصبح هذا اللفظ عندهم يستخدم للرقيق الأبيض على الإجمال، حيث كان النخاسون يحملونهم من شمالي أوربا، و يتاجرون ببيعهم في أنحاء العالم، وكان الاتجار بهم رائجًا.
و كان لفظ الصقالبة يطلق في الأصل على الأسرى الذين تأسرهم الشعوب الجرمانية في حروبها ضد الشعوب الصقلبية، ثم يبيعونهم إلى مسلمي الأندلس، ولكن ما لبث هذا الاسم أن انسحب على أناس من أجناس أخرى حتى شمل جميع الأجانب الذين كانوا يستخدمونهم في الجيش أو لحراسة الحريم أيًا كان أصلهم.
أصل الصقالبة ولغاتهم ودياناتهم:
ويذكر المؤرخ المسعودي أن أصل الصقالبة من ولد مار بن يافث بن نوح، وإليه يرجع سائر أجناس الصقالبة وبه تلتحق أنسابهم، في حين يذكر النسَّابة ابن الكلبي أن الصقالبة هم أخوة الأرمن واليونان والفرنجة، وأنهم تحدروا من صلب يونان بن يافث، ويذكر ابن خلدون أنهم أخوة الخزر والترك من ولد ريفات بن كومر بن يافث، وجعل المسعودي جنس الترك أحسن الصقالبة.
ومن الممكن أن تُستخلص أقسام الصقابة من أقوال العلماء والمؤرخين في فروع ثلاثة رئيسة:
الأول:
صقالبة الغرب: ويشملون البولنديين، والتشيكيين والسلوفاكيين، وعناصر أخرى صغيرة فى شرقى ألمانيا.
الثاني:
صقالبة الشرق: وهم (الروس الكبار)، والأوكرانيون (الروس الصغار)، والبلورسيون (الروس البيض).
الثالث:
صقالبة الجنوب: ويضمون الصربيين والكرواتيين والسلوفينيين والمقدونيين والبلغاريين.
وينقسم الصقالبة ثقافيًّا إلى مجموعتين رئيسيتين: الأولى ترتبط بالكنيسة الأرثوذكسية الشرقية، والأخرى بكنيسة الروم الكاثوليكية.
وتنتمي لغاتهم إلى أصل واحد يتفرع عنه فروع كثيرة، وأقدم هذه الفروع اللغة المعروفة بالسلافية الكنسية، وهي اللغة التي تُرجمت إليها الأناجيل في القرن التاسع الميلادي، ولغات الصقالبة بالجملة لغات سهلة التعبير قوية المعاني.
وكانت ديانتهم القديمة وثنية، ولهم معبودان أحدهما المعبود الأبيض أو إله الخير، والآخر المعبود الأسود أو إله الشر. وفي القرن التاسع الميلادي دخل الكثير منهم في المسيحية، وبقي آخرون على وثنيتهم إلى أوائل القرن الخامس عشر الميلادي، وفيما بعد دخل الكثير منهم في الدين الإسلامي.
الصقالبة في الأندلس:
كانت كلمة "الصقالبة" تطلق في الأندلس على الأسرى والخصيان من الأجناس الصقلبية (السلافية) الحقيقية، وكان لفظ الصقلبي ينسحب في عصر الرحالة ابن حوقل في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي على الرقيق الذين من أصل أجنبي، سواء في ذلك من كانوا من بلاد أوروبا او من أسبانيا ذاتها، وكان أولئك الصقالبة مزيجًا من الجليقيين (النصارى الإسبان) والألمان والفرنسيين واللونبارد والإيطاليين، وكان معظمهم يؤتى بهم أطفالا بواسطة قراصنة البحر، وكانوا ينخرطون في سلك الجندية أو يتخذون لخدمة الحرم في القصور فقد كانوا يخصونهم، وكان لتجار اليهود على خد تعبير المستشرق دوزي معامل للخصى أهمها معمل فردن في فرنسا. وكان الصقالبة يختارون من الجنسين، ويربون منذ الحداثة تربية عربية حسنة، ويلقنون مبادىء الإسلام، وقد نبغ بعضهم في النثر والنظم وصنفوا الكتب والقصائد. وقد سما شأنهم فيما بعد، وتولوا مناصب الرياسة والقيادة.
وكان الصقالبة فى الأندلس لهم دور بارز فى السياسة يتناسب وازدياد عددهم، حتى أنهم كونوا طبقة اجتماعية تشبه إلى حد ما طبقة المماليك الأتراك فى المشرق الإسلامى.
الصقالبة في عهد الحكم بن هشام:
ويعد الأمير الحكم بن هشام الأموي أول من أظهر فخامة الملك بالأندلس، والواقع أنه أول من أنشأ بالأندلس بلاطًا إسلاميًا ملوكيًا بكل معاني الكلمة، ورتب نظمه ورسومه، وأقام له بطانة ملوكية فخمة، فاستكثر من الموالي والحشم، وأنشأ الحرس الخاص، وفي عهده ظهر الصقالبة لأول مرة في البلاط بكثرة، وكان جده عبد الرحمن الداخل أول من وضع سياسة اصطفاء الموالي لاسترابته بالعرب، وتوسع حفيده الحكم في تطبيق هذه السياسة، فاستكثر من الموالي والصقالبة، وعهد إليهم بمعظم شئون القصر والخاص. وبلغ عددهم في عهد الحكم زهاء خمسة آلاف.
الصقالبة في عهد عبد الرحمن الناصر:
ومنذ عهد عبد الرحمن الناصر يشتد نفوذ الصقالبة في شئون الإدارة والحكم، فضلا عن القصر والخاص، ويعهد إليهم بالمناصب الكبرى في القصر والإدارة والجيش. وما لبث أن سما شأنهم وتوطد سلطانهم، وأحرزوا الضياع والأموال الوفيرة، وفاق عددهم في عهد الناصر أى عهد آخر، حتى قدر بعض المؤرخين عددهم يومئذ في القصر والبطانة، 13750، وبلغوا في رواية أخرى 7080، ويقول لنا ابن الخطيب إن عدد الفتيان الصقالبة بمدينة الزهراء كان عند وفاة الناصر 3750، وعدد النساء بالقصر 6750، تجري عليهم جميعًا رواتب الطعام بسائر صنوفه. ولم تكن هذه الزيادة مجرد زيادة في العدد، فقد أسهم الصقالبة في حياة المجتمع عامة وفي الحياة السياسية خاصة، فكانوا يتولون المناصب المرموقة على الرغم من أنهم كانوا من الأرقاء، و قد اغتنى بعضهم و امتلك الضياع الواسعة، وكان لبعضهم العبيد الخاصون بهم، وأسهموا في أمور السياسة بنصيب وافر يتناسب و ازدياد عددهم، وتولوا المناصب الرفيعة في الدولة.
وعلى أي حال فقد كان من أولئك الصقالبة الحرس الخليفي، ورجال الخاص والحشم، وكان الناصر يمد لهم في السلطان والنفوذ، ويرغم أشراف العرب وزعماء القبائل على الخضوع لهم، ليذل بذلك أنوفهم ويسحق هيبتهم. بل كان منهم في عهد الناصر قائد الجيش الأعلى نجدة، ومعظم أكابر القادة والضباط، وكان منهم أفلح صاحب الخيل، ودرِّي صاحب الشرطة، ومنهم ياسر وتمام صاحبا النظر على الخاص. ومما يذكر أن الناصر قد عهد إلى نجدة الصقلبي عام 327هـ / 939م بقيادة الحملة التي سيرها إلى ملك ليون، على الرغم من معارضة رجال قصره.
وكان لهذه السياسة غير بعيد، أسوأ الأثر في انحلال الجيش وفتور قواه المعنوية، لما جاشت به صدور الضباط والجند العرب، من الحفيظة والسخط على هذه السياسة المهينة، وكانت هزيمة الناصر في موقعة الخندق الشهيرة (ألانديجا) سنة 327هـ / 939م، ترجع من وجوه كثيرة إلى هذا الانحلال المعنوي، الذي سرى إلى الجيش من جراء الأحقاد القومية والطائفية.
الصقالبة في عهد الحكم المستنصر:
بلغ الفتيان الصقالبة أيام الحكم المستنصر، ذروة القوة والنفوذ والثراء، مثلما كانوا أيام أبيه الناصر. ويكفي أن نذكر هنا دليلا على ضخامة ثراء هؤلاء القوم، أن أحدهم وهو الفتى الكبير درّي الخازن، قام بإهداء مولاه الخليفة الحكم، منيته الغراء بوادي الرمان من ضواحي قرطبة، وكان قد أنشأها مغني ومتنزهًا، وأفاض عليها أروع صنوف البذخ والبهاء، وجعلها برياضها ومنشآتها جنة حقة. وقد قبل الحكم هدية فتاه، وقام بزيارة هذه المنية مع ولي عهده هشام وحاشيته، وأنفق فيها يوم استجمام ومسرة. وقد أجمع الخليفة ومرافقوه على أنهم "لم يشاهدوا في المتنزهات السلطانية أكمل ولا أعذب ولا أعم من صنيع درّي هذا".
الصقالبة في عهد هشام المؤيد:
لم يكن الدور الذي مارسه الصقالبة في عهد الحكم الثاني المستنصر يقل شأنًا عن الدور الذي سمح به عبد الرحمن الناصر، حتى إن الصقالبة أحسوا عند وفاته بأنهم سادة الموقف، إذ كان عددهم ضخمًا في بلاط أمراء قرطبة وجيوشهم، وكان في قرطبة فرقة من الحرس الصقالبة رهن مشيئة رجلين صقلبيين من أكابر أعيان الدولة، وهما فائق النظامي صاحب البرد والطرز، وجؤذر صاحب الصاغة، حتى إنهم حاولوا إخفاء نبأ وفاة المستنصر للحول دون اختيار وريث للعرش خارج عن رغبتهم، ودبروا مؤامرة لتنحية هشام المؤيد وتولية الأمير المغيرة بن عبد الرحمن الناصر أخي الحكم المستنصر. ومع كشف أول خيوط هذه المؤامرة بدأ الحاجب جعفر المصحفي يتحوط من غدرهم، فوضع زعمائهم تحت المراقبة الشديدة وسرح أعدادًا كبيرة من الخدمة وألحقهم بخدمة محمد بن أبي عامر، وأمر الباقين بالدخول والخروج من القصر من باب عامة الناس، بعد أن أغلق الباب المخصص لدخول الصقالبة وخروجهم. وتمت تصفية بعض العناصر الخطرة، ونفي آخرون إلى مناطق خارج العاصمة قرطبة.
الصقالبة في الدولة العامرية:
كان أول خطوة من خطوات المنصور بن أبي عامر باتجاه السيطرة على السلطة هو القضاء على الصقالبة، فهو الذي أغرى المصحفي بنكبتهم، إلا أنه قام باستمالتهم مرة أخرى واتخذ له حرسًا خاصمًا من الصقالبة والبربر. وكان عبد الملك المظفر جريًا على سنة أبيه المنصور، قد مضى في الاستظهار بالفتيان الصقالبة والبربر، وبلغ الفتيان في عهده نحو ألفي غلام. وفي عهده سما شأن الفتيان الصقالبة، وغلبوا على من عداهم من الكبراء وأصحاب المناصب، ولاسيما زعيمهم طرفة، خادم عبد الملك الأكبر. ومرض عبد الملك في أوائل سنة 396هـ، واستبد طرفة بالأمر، وأمضى كثيرًا من الأمور دون علم الحاجب أو موافقته، وانتهى الأمر بأن تغلب طرفة على الوزير، وحل محله في تدبير الأمور، واجتمعت السلطة في يده شيئًا فشيئًا، حتى غدا كل شىء في القصر وفي الدولة، فلما عوفي الحاجب من مرضه، كانت نفسه قد تغيرت على طرفة، ولما خرج إلى الغزو في شهر رمضان 396هـ وعاد منتصرا وما كاد يدخل طرفة إلى عبد الملك في قصره، حتى قُبض عليه، وصُفد بالأغلال، وحمل إلى إحدى جزر الشاطىء، واعتقل، ثم أمر بقتله.
مؤامرات الصقالبة في قرطبة:
على أن الصقالبة كانوا شؤما على الخلافة الأموية القرطبية كما كان البربر، فقد خاضوا غمار الفتن، وكان لهم يد في جميع المؤامرات التي دبرت في قرطبة وفي سائر بقاع الأندلس، ينضمون حينًا إلى الجانب الفائز وحينًا إلى الجانب الخاسر. و قد عرفوا بروح الإقدام و الطمع و الاستبداد، ومنهم الخصي خيران الذي كان في مستهل القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي زعيمًا لحزب الصقالبة في عاصمة البلاد.
وكانوا يبلغون أقصى قوتهم إذا كان الحاكم شديد الضعف، كما هي الحال إزاء هشام الثاني، فقد تطلع أحد الصقالبة في عهده و اسمه واضح الصقلبي إلى حكم البلاد، ولكنه لم يكن يمتلك الكفاءة والأهلية و المقدرة اللازمة لذلك.
وحينما انهارت الخلافة الأموية في الأندلس فر الصقالبة إلي شرق الأندلس، حيث قامت الدويلات الصقلبية، ومن أبرز الحكام الصقالبة: مجاهد العامري الذي تولي حكم ولاية دانية، والذى استطاع بقوة أسطوله أن يضم جزر البليار إلى ملكه فى 405هـ / 014 1م ومن ثم اتخذها قاعدة انطلق منها أسطوله لغزو جزر البحر المتوسط، ومنهم لبيب الصقلبي الذي حكم ولاية طرطوشة، وحكم بلنسية الفتيان مبارك ومظفر، وحكم المرية الفتيان خيران وزهير.
تأثر الصقالبة بالحضارة الإسلامية:
لاشك أن هؤلاء الصقالبة قد تركوا أثرا حضاريا فى الأندلس لا يمكن إغفاله، فهم وإن كانوا قد فقدوا كل صلة ببلادهم الأصلية، واعتنقوا الإسلام، وأتقنوا اللغة العربية، فإنهم برغم ذلك قد جلبوا معهم بعض العادات الاجتماعية، والتقاليد الثقافية، والفنون الشعبية، والمفردات اللغوية التى تعلموها فى صغرهم.
والظاهر أن الصقالبة لم يذوبوا في المجتمع الأندلسي، بل كان لهم كيانهم الخاص، الذي جعل فريقا منهم يتعلقون بالشعوبية ويدعون لها، ويمثلهم في تلك النزعة ابن غرسية الذي نشأ في ظل دولة مجاهد العامري بدانية، حيث كتب رسالته الشهيرة في تفضيل العجم على العرب. ويرى المستشرق الأسباني خليان ربيرا أن الصقالبة يمثلون العنصر الأوروبي في المجتمع الأندلسي، ومن طريقهم انتقلت بعض الصور الشعرية التي شاعت في الأندلس إلى البيئات الاوروبية وأثرت فيها .
ولاشك أن هؤلاء الصقالبة قد لعبوا دورا سياسيا وثقافيا فى تاريخ إسبانيا الإسلامية، وتأثروا بالحضارة العربية الإسلامية في الأندلس بفضل اتصالهم بها، و تثقف الكثير منهم، فكان منهم علماء ومفكرون وشعراء. وقد كان بعض الفتيان الصقالبة من بطانة المنصور، يأخذ بقسط حسن من الشعر والأدب، ويغشى مجالس المنصورالأدبية ويشترك في المطارحات الشعرية، وكان من أشهرهم الفتى فاتن، الذي كان من أبرع العارفين منهم باللغة والأدب وأوحد لا نظير له في علم كلام العرب. وقد كان للفتيان الصقالبة في الواقع تراث من الشعر والأدب، واشتهروا بذلك أيام المنصور خاصة، وفي رواية أن أحدهم وهو "حبيب الصقلبي" صنف كتابًا أشاد فيه بفضائل أدباء الصقالبة من الأندلس، ودرس فيه أشعارهم و رحلاتهم ونوادرهم، وكان عنوان الكتاب: "كتاب الاستظهار و المغالبة على من أنكر فضائل الصقالبة".
________________________________________
المصادر والمراجع:
- محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، الناشر: مكتبة الخانجي، القاهرة، الطبعة: جـ 1، 2، 5/ الرابعة، 1417هـ - 1997م، جـ3، 4/ الثانية، 1411هـ - 1990م.
- عزة الصاوي: الصقالبة في الحضارة الإسلامية، موقع الفن الإسلامي.
- إبراهيم زعرور: الصقالبة، الموسوعة العربية العالمية.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

دروس من حياة المعتمد بن عباد

قصر المبارك الذي كان مقرَّ حكم المعتمد بن عبَّاد طوال عهده.
قَدْ كَانَ دَهْرُكَ إِنْ تَأْمُرهُ مُمْتَثِلاً
فَرَدَّكَ الدَّهْرُ مَنْهِيًّا وَمَأْمُـورَا [1]
بِهذا البيتِ يخاطب المعتمد بن عباد نفسَه، فيلخص سيرتَه الذاتية أيامَ ملكِه وجبروتِه بالأندلس، وأيام ذلِّه وهوانه بـ"أغمات" بضاحية "مراكش"، وذلك في قصيدتِه الرَّائية المشهورة، التي تغنَّيْنا بها صغارًا، ورثينا لحال ناظمها؛ لأنَّه ما ترك سبيلاً لاستدرار الدَّمع من عين قارئ أبياته إلا سلكَه.
ونحن إذْ كنَّا نحزن لأحزانِ الرجل، ونألم لآلامه التي بثَّها في كلِّ لفظ من ألفاظِه، ونستحضر أمامَنا صورَ بناتِه الأميرات اللواتي تبدَّل بهنَّ الحالُ، فصرْنَ يغزِلْنَ للنَّاس بالأجرة. لم يكن يخطر ببالنا إلا هذا الجانب الأوحد من الصُّورةِ التاريخية المركبة، وكان يكفينا أنْ نختزلَ حياةَ المعتمد في قصةِ ملكٍ أديب شاعر، غدر به ملكٌ همجي ظالم، فساقه من حياة الرَّفاهيةِ والمجد إلى عيش الفقر والهوان، ولم نكن نحسب أنَّ من وراء ذلك جوانبَ أخرى تحتاج إلى تأمُّل، قد يفضي إلى صورةٍ أخرى غير التي توحي بها ظواهرُ كتب الأدب.
ملخص مواقف المعتمد بن عباد في الخير والشر:
والحقُّ أنَّ المعتمدَ بن عباد قد اجتمع فيه -في كفتي الخير والشَّر- متناقضاتٌ عجيبة، ترفعُ الرجلَ في بعض إشراقاتِه إلى أعلى مدارج العظمة، وتنحطُّ به في بعضِ مواقفِه إلى أخسِّ دركات البشرية المغرقة في اتصالِها الأرضي، المنبتَّة عن وحي السَّماء.
أمَّا في كفةِ الخير؛ فقد كان المعتمدُ بن عباد ملكًا شجاعًا، وفارسًا مغوارًا، عرفته ميادينُ الكفاح، وألفته ساحاتُ الجهاد، وقد أظهر في معركةِ الزلاقة من البلاءِ الحسن، وصدقِ العزيمة في الحرب، وشدة الصَّبرِ على مكاره الهيجاء ما حفظه له التاريخُ، وأثنى به عليه رواتُه الصَّادقون.
وله في كفةِ الخير أيضًا موقفٌ ناصعٌ، لا يتأتَّى مثلُه إلا لأهل التدين الصَّادقِ، والحمية الإسلامية الرَّاسخة؛ وذلك أنَّ ملوك الطوائف حين تهدَّدهم طاغيةُ الإفرنج، وأوشك على قصد بلادِهم لاستئصال شأفتِهم، أرسل المعتمدُ إلى أمير "العدوة" المغربية يوسف بن تاشفين، يستنصره ويتقوَّى به، وحين عذله بعضُ المفتونين، وخوَّفوه ضياعَ ملكِه، وذهاب سلطانه، قال كلمته السائرة التي بقيت تتحدَّى النسيان، وتطاول الإهمال، يتناقلها أهلُ التواريخ، وينشأ على حلاوتِها شُداة الأدب الخالد: "رعيُ الجمالِ خيرٌ من رعي الخنازير" [2].
وله بعد ذلك كلِّه، وقبل ذلك أيضًا شيءٌ يشفع له عند أهل الأدب خصوصًا، وعند كلِّ ذي ذوقٍ فني، يحب الظرف، ويعشق الخيال، ويحسن تقدير المعنى النَّبيل، واللفظ الجميل، نعم، كان المعتمدُ شاعرًا فحلاً، أندلسيَّ الطَّبع، رقيقَ الدِّيباجة، سريع البديهة، ظريفًا محببًا، وكثيرٌ من النَّاس يهوون الأدبَ -وإن لم يكونوا في أنفسِهم أدباء- ويحترمون أهلَ الأدب وينظرون بعينِ الصَّفح إلى نقائصِهم، ويقبلون من عيوبِ أهل الفصاحةِ واللسن، ما لا يقبلون مِعْشارَه من أهل الفهاهة والعيِّ.
أما في كفةِ الشر؛ فقد اجتمع على المعتمدِ مواقفُ مظلمة، تنزلُ بالرجل إلى حضيضٍ يجامعُه فيه أهلُ الاستبداد والترف، والمتشبِّعون بالفكرِ السِّياسي المكيافيلي.
فمن تلك المواقف ما وقعَ له مع ابنِ جهور، وملَّخصُ القصةِ كما في كتاب "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة(2/610)": أنَّ أميرَ قرطبة عبد الملك بن جهور احتاجَ إلى الاستعانةِ بالمعتمد بن عباد ليدفعَ عنها مَنْ أغارَ عليها، فجاءتْ جيوشُ المعتمد ورابطَتْ بظاهر قرطبة، "وأقاموا بها أيامًا يحمون حماها، وأعينهم تزدحم عليه، ويذبُّون عن جناها، وأفواههم تتحلبُ إليه"، كما يقولُ الشنتريني، لما انصرفَ العدوُّ عن قرطبة، لم يرع ابن جهور إلا عساكر المعتمد تغدرُ به، بعد أن كانت حليفةً له، مظهرةً ودَّه، فاحتلُّوا بلادَه، وقبضوا عليه وعلى إخوتِه وأهلِ بيته، أذلاء منتهكي الحرمة.
وحفظ التاريخُ أنَّ ابن جهور لما وصل إلى وسطِ قنطرة قرطبة خارجًا منها، رفع يديه إلى السَّماءِ وقال: "اللهمَّ كما أجبتَ الدُّعاءَ علينا فأجبْه لنا"، فمضى الزَّمانُ، ودارت على المعتمدِ وأهلِه الدوائرُ، وإذا به يلقى من الذُّلِّ في سجنِ ابن تاشفين، نظير الذي لقيه ابن جهور في سجنِه.
ومن ذلك أيضًا ما حدث له مع وزيرِه أبي بكر محمد بن عمار المهري، الذي كان صفيَّه وخليلَه، ثم وقع منه ما وقع، فسجنَه ولم يرق لاستعطافِه، ثم ذبحه صبرًا فيما ينقل المؤرِّخون [3]، وما أشبَه هذا بأساليبِ عتاةِ المستبدِّين من الملوك والسَّلاطين، وما أبعدَه عن صورةِ الأديب الذي ينضحُ شعرُه بالظرفِ، ويكاد يسيل من الرِّقة!
ومن ذلك أيضًا قصتُه مع الرميكية:
والرميكية هذه جاريةٌ شغف بها المعتمدُ، فهتك من أجلِها أستارَ محاسنِ الأخلاق التي يتحلَّى بها أهلُ الحزم من الملوك، وأرباب العزائم من الرِّجالِ. يقول المقري في النفح [4]: "وقد رُوي أنَّها رأت ذات يوم بإشبيلية نساءَ البادية يبعنَ اللبنَ في القِرَب، وهنَّ رافعات عن سوقهنَّ في الطِّين، فقالت له: أشتهي أن أفعلَ أنا وجواريَّ مثل هؤلاء النِّساء، فأمر المعتمدُ بالعنبرِ والمسك والكافور وماء الورد، وصير الجميعُ طينًا في القصرِ، وجعل لها قِرَبًا وحبالاً من إبريسم، وخرجت هي وجواريها تخوضُ في ذلك الطين، فيقال إنَّه لما خُلِع وكانت تتكلَّمُ معه مرةً فجرى بينهما ما يجري بين الزَّوجين فقالت له: واللهِ ما رأيتُ منك خيرًا [5]، فقال لها: ولا يوم الطِّين؟! تذكيرًا لها بهذا اليومِ الذي أباد فيه من الأموالِ ما لا يعلمُه إلا اللهُ تعالى فاستحْيَت وسكتت".
ومن ذلك -وهو أخطرُ هذه المواقف وأحلكها، لما له من التعلُّقِ بالتَّوحيد- أنَّ المعتمدَ لم يتردَّدْ في الاستغاثةِ بالفنش طاغيةِ الفرنجة، ليردَّ حصار ابن تاشفين عن مدينتِه، يقول ابن خلدون [6]: "واستنجد الطَّاغية فعمدَ إلى استنقاذِه من هذا الحصارِ فلم يغنِ عنه شيئًا، وكان دفاع لمتونة مما فتَّ في عضدِه، واقتحم المرابطون إشبيليةَ عليه عنوةً سنة أربع وثمانين، وتقبض على المعتمد وقاده أسيرًا إلى مراكش".
ولذلك فقد استفتى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين الفقهاءَ في هذه الواقعة، فأفتى أكثرُهم بأنَّها ردة، لكنَّ قاضيه -وبعضَ الفقهاء- لم يرها ردةً ولم يبحْ دمَه [7]. وما أعظم البَوْن بين الحادثةِ الأولى التي استنكف فيها المعتمدُ أن يستعينَ بالإفرنج، وفضَّلَ على ذلك الارتماءَ في أحضان المرابطين المسلمين، وبين ما آل إليه أمرُه في هذه الحادثة المحزنة!
دروس من حياة المعتمد بن عباد:
وبعدُ فما لنا وللمعتمد بن عباد؟ وفي أيِّ شيء يهمنا المعتمد وما فعله المعتمد، وقد أفضى الرَّجلُ إلى ما قدَّم منذ قرون عديدة؟ وإلى متى نبقى ندوك في سيرتِه وهو الآن بين يدي ربٍّ حكيم عادل، يحاسبُ بالقسط، ولا يُظلمُ عنده أحد؟
الحقُّ أنه لا يهمنا المعتمد، ولا سيرة المعتمد، إلا بمقدارِ ما نستخلصُ من ذلك دروسًا تكون حاديًا لقارئها في سلوكِه الحثيث إلى الله، وعبرًا تكون زادًا لمتدبرها في سعيه إلى معالي الأمور، وبعده عن سفسافها.
وقد تأملتُ فيما سبق بيانُه من المواقف، فاستخلصتُ بعضَ الدُّروس، ولستُ أزعم الحصرَ ولا الاستقصاء، ولكن هذا الذي ظهرَ لي بادي الرَّأي، ولن تعدم حياةُ هذا الرَّجلِ المضطربة بالأحداثِ الجسام، والمتموجة بالفتن العِظام، مَنْ يستخرجُ منها غيرَ هذه العبر.
الدرس الأول:
مرتعُ الظلم وخيم، وعاقبتُه أشدُّ مرارة من الصاب والعلقم، وبينما الظَّالِمُ في غفلتِه مسرورًا بما اقترفتْ يداه، مطمئنًّا إلى دنياه المليئة بالمسراتِ والأفراح، إذا بعادياتِ الأيام تنتزعُه من أوهامه، وتفسدُ عليه زينةَ أيامه، وإذا بالسُّرورِ ينقلبُ حزنًا وكآبة، والسعادةُ شقاءً، والرِّفعةُ ضعةً وذلاًّ، وضياءُ الشَّمسِ حندسًا رهيبًا.
ومن لم يرَ عاقبةَ ظلمِه في الدُّنيا، فإنَّه يراها في الآخرةِ أعظمَ وأنكى؛ فيتمنَّى من هولِ ما يرى هناك أنْ لو عُجِّلتْ له العقوبةُ في هذه الدُّنيا الفانية؛ يفنى نعيمُها كما يفنى عذابُها.
فليحذرِ الظَّلمةُ وأعوانُهم، ومن يرقِّعُ ما انفَتَقَ من سِيَرِهم، ويصلحُ ما تهلهلَ من مواقفِهم؛ بالبيانِ الإعلامي تارة، وبالفتوى الفاجرة تارةً أخرى. فليحذروا أجمعين، فإنَّ حالَ المعتمد لم يدُم له على خير ما كان يتمنَّاه، وإنَّ نظراءَ المعتمد -بل الذين فاقوه عتوًّا واستكبارًا، وكثرةَ أنصارٍ وأعوان- لم يلبثوا أنْ وجدوا -في يومٍ من أيام الدَّهرِ الجارفة- قصورَ الوهمِ تتساقطُ من حولهم، فكأنها ما كانت، وكأنهم ما كانوا.
الدرس الثاني:
إنَّ التاريخ حافظٌ أمين؛ يحفظُ مواقفَ الخير، وتصرفات الشر، لكنَّه يكتبُ لأهل المواقف الطيبة الناضحةِ بالشجاعة والنبل، الخلودَ في ذاكرةِ الزمن، والبقاءَ في مخيلاتِ النَّاس، ويرمي أهلَ المواقف السيئة في مزابلِ النسيان، وفيافي الإهمال، وليس يبقى ذكرُ أحدٍ من هؤلاء إلا إنِ اقترن بذكرِ أهلِ الخير (كما بقي ذكرُ ابنِ أبي دؤاد لأجلِ اقترانه بمحنةِ أحمد بن حنبل رحمه الله ورضي عنه)، أو اقتضتْ حكمةُ الله أن يبقى ليكونَ عبرةً للمعتبرين، وعظةً للمتدبرين.
ولذلك حفظ النَّاسُ قديمًا وحديثًا قولة المعتمد: "رعي الجمال خير من رعي الخنازير"، وحفظوا معها أنَّ المعتمدَ أبت له شهامتُه أن يذلَّ لأعداء الدِّين، وفضَّل التضحيةَ بالعرش -إن كان ولا بد- على التضحيةِ بالدِّين، وجهل أكثرُ النَّاس الواقعةَ الأخرى، أو تجاهلوها.
إنَّ النَّاسَ في كلِّ زمانٍ مغرمون بالبطولة، متيَّمون بالشَّجاعة؛ تهفو قلوبُهم إلى الكلماتِ المفعمة بسمو العزائم، والأفعال التي تشي بنبلِ الأخلاق، والتعلق بأسبابِ المجد.
وإنهم في كلِّ زمان أيضًا يبغضون الذُّلَّ، ويكرهون المهانة، ويعافون الخلودَ إلى الأرض، وإذا وقع من أحدِهم شيءٌ من ذلك، لم يسره أن يظهرَ أمام النَّاسِ، بل هو يخفيه كما تُستر السوءات، التي يُستحيى من بروزِها.
لا جرم أنَّهم يذكرون ما يحبُّون، وينسون أو يتناسَوْن ما يكرهون.
ويتأكَّدُ هذا الأمرُ في عصور الهزيمة، وحِقب الانحطاط، حين يعوز النَّاسُ أن يمارسوا البطولة، أو يروها ماثلةً أمام أعينِهم؛ فيلجؤون إلى تمثلِها في التاريخ، وتصورِها في أزمنة الماضي.
فهل يفهمُ أشراف المسلمين وأهلُ الفضلِ منهم هذا المعنى الخطير، فيبادرون إلى تدوينِ أسمائهم في سجلاتِ الفخار، بالمدادِ الذي لا يُمحى؟
الدرس الثالث:
قد يجتمعُ في الشَّخصِ الواحد خيرٌ وشرٌّ، ويمتزجُ في سيرته حقٌّ وباطل، وتتجاورُ في أقوالِه وأفعاله الحسناتُ والسَّيئات، فالسعيدُ من غلب خيرُه شرَّه، وغمر حقُّه باطلَه، وفاقتْ حسناتُه سيئاتِه.
والمتطلب في بني البشر -حاشا من عصمَهُ الله من الأنبياء والمرسلين- خيرًا محضًا لم تداخلْه شبهةُ شرٍّ، وحقًّا صرفًا لم تخالطْه شائبةُ باطلٍ، كالذي يتطلبُ جذوةَ النَّار المتَّقدة في حضنِ الماء.
فَلَسْتَ بِمُسْتَبْقٍ أَخًا لاَ تَلُمُّهُ *** عَلَى شَعَثٍ أَيُّ الرِّجَالِ الْمُهَذَّبُ
الدرس الرابع:
قراءةُ التاريخِ ينبغي أن تكونَ بنظرةٍ شاملة، لا تجتزئ ببعضَ المواقف والأحداث وتبني عليها حُكْمًا عامًّا، فالاستنادُ إلى بعض مواقفِ المعتمد دون بعضِها الآخر، أفضى ببعضِ النَّاسِ إلى فَهْم مغشوشٍ لشخصيةِ الرَّجل.
ولا يزالُ كثيرٌ من الذين يكتبون في التاريخ -من المعاصرين خصوصًا- ينظرون إلى الدول السَّابقةِ، وأعلام التاريخ نظرةً سطحية، تنطلقُ من فكرةٍ مسبقة جاهزة، ثم تعممها على الشخصِ المحكوم عليه، أو الدولة المراد تقويمها، بطريقةِ التجزيء والاقتطاع.
فإذا أرادوا إظهارَ صورةِ شخصٍ صالح يستحقُّ الثناء، ضخَّموا كلَّ مواقفِه الحسنة، وأغفلوا كلَّ مثالبِه -قلَّتْ أو كثرتْ- والعكس بالعكس.
والحقيقةُ التاريخية في غالبِ الأحيان أعقدُ من ذلك بكثير، وأغلبُ النَّاسِ يجتمع فيهم خيرٌ وشر، وحقٌّ وباطل، فالمنهجُ العلمي يقتضي إبراز كلِّ ما ثبتَ من الحقائق التاريخية، ولا يعملُ منهجَ الموازنات إلا عند إرادةِ إصدار الحكمِ النهائي على الشخص، فحينئذٍ يوازنُ بين الحسناتِ والسيئات، ويحكم بالغالب.
الدرس الخامس:
إنَّ الحكم على الأشخاص -قدماء أو محدثين- ينبغي أن يكونَ معتمدًا على ضوابطَ شرعيةٍ واضحة، ومن أعظمِ الخطل أن تُتركَ هذه الضوابطُ لغيرِ حملة الشريعة؛ من الأدباء أو الإعلاميين أو كلِّ مَنْ بضاعتُه التقميش السَّاذج في كتب التواريخ.
إنَّ للأدباء -على الخصوص- طرائقُ عجيبةٌ في تزيين القبيح، وتشويه الحسن، وهذه القدرةُ تحسب لهم في مقاماتِ الأدب، ومراتب الفنِّ، ولكنَّها لا يمكنُ أن تغيرَ الحقائق الثابتة، فالحسنُ حسنٌ والقبيحُ قبيحٌ.
ويحضرني في هذا البابِ ما نقله الجاحظ عن مالكِ بن دينار أنَّه قال: "ربَّما سمعت الحجاجَ يخطبُ؛ يذكرُ ما صنع به أهلُ العراقِ وما صنع بهم، فيقع في نفسي أنَّهم يظلمونه وأنَّه صادقٌ لبيانِه وحسنِ تخلُّصِه بالحجج" [8].
ويحضرني أيضًا هجاءُ المتنبي لكافور الإخشيدي في تلك الدالية السائرة، التي ما أنشدها طالبُ أدبٍ إلا ظهرَ له المهجوُّ في أقبحِ صورة؛ حسًّا ومعنًى، مع أنَّ التاريخَ يشهدُ لكافور بحسناتٍ ومقامات عالية في العدلِ وسياسة الدولة [9].
وهذه فتوحُ "سيف الدولة" خلَّدها المتنبي بشعرِه، مع أنَّها إذا قِيست ببعضِ المعارك الكبرى التي انتصف فيها المسلمون من أهلِ الشِّرك؛ كحطين وعين جالوت، لم تكن شيئًا مذكورًا، ولكنَّه سحرُ البيان!
الدرس السادس:
اشتهر المالكيةُ في القديمِ بالشِّدة في الحقِّ، والصَّرامة في قطع دابرِ الباطل، خاصةً في مسائل الاعتقاد، كما تراه جليًّا في فتواهم التي نقلنا آنفًا، واشتُهِر في المشرقِ إحالة قضايا الزنادقة والمرتدين على القاضي المالكي دون غيرِه، لِمَا عُرِف عن المالكيةِ من تشددٍ في هذا الباب [10].
أمَّا في هذا العصر، فقد ابتُلي المذهبُ المالكي بقومٍ ينتسبون إليه زورًا، ما تركوا بابًا من أبوابِ التمييع إلا طرقوه، ولا سبيلاً من سبلِ التَّساهلِ المذموم إلا سلكوه، حتَّى صار المذهبُ المالكي في أذهانِ كثيرٍ من عوام النَّاس مرادفًا للتساهل وموافقة الهوى.
ومن هنا تعظمُ الحاجةُ إلى تصحيحِ هذه الصورة المغلوطة، دونَ إفراطٍ ولا تفريط، وتقعُ مسؤوليةُ ذلك على كبارِ فقهاء المالكية في عصرِنا.
الدرس السابع:
قد يقعُ لبعضِ المؤرِّخين أو الأدباء شيءٌ من التحامُلِ غير المقصود -في الغالب- على البربر، أهلِ المغرب الأصليين، ومثاله ما وقع لجرجي زيدان في روايتِه "شارل وعبدالرحمن"، وللشيخِ الأديب العلاَّمةِ علي الطنطاوي رحمه الله في قصتِه "عشية وضحاها" ضمن "قصص من التاريخ"، ولغيرهما.
وفي هاتين القصَّتَين يظهرُ البربرُ بمظهرِ الهمج الرِّعاع، الذين لا يعرفون معروفًا، ولا ينكرون منكرًا، ولا يمتون إلى أسباب الحضارةِ بصلة.
والحقُّ أنَّ البربر كغيرِهم من أمم الأرض، فيهم الخيرُ والشرُّ معًا، ولا تتمحض نسبتهم إلى أحدِهما.
نعم، ذكر المؤرِّخون أنَّ انتشارَ الإسلام فيهم مرَّ بكثير من العراقيل، حتَّى إنَّ كثيرًا من قبائلهم ارتدت عن الإسلام نحوًا من اثنتي عشرة مرة [11]، ولكنَّهم بعد أنْ عرفوا الإسلام حقَّ المعرفة، وخالطتْ بشاشته قلوبهم، تمسَّكوا به أشدَّ ما يكون التمسك، ونافحوا عنه أمامَ أعدائِه، وانطلقوا برايتِه يحملونها ما بين البرانس شمالاً وأقاصي إفريقيا جنوبًا، ولا يزالون -في الغالب- على هذه الحماسةِ الدِّينية إلى يومِ النَّاس هذا.
إنَّ بعضَ الكتاباتِ قد تكون نيةُ أصحابِها حسنةً، ولكنَّها قد تتخذُ مطيةً لبعض دعاة العصبية، وسدنة العنصرية العرقية، فليحذرِ الأدباءُ من إرسالِ أعنَّةِ أقلامِهم في بعض المراتع الوخيمة.
________________________________________
[1] نفح الطيب؛ للمقري (4/274).
[2] نفح الطيب؛ للمقري (4/359)، وتاريخ الإسلام؛ للذهبي (32/25)،
[3] سير النبلاء (18/583)، وفي المعجب للمراكشي (دار الفرجاني - ص 115): "فخرج المعتمد حنقًا وبيدِه الطبرزين حتى صعد الغرفةَ التي فيها ابنُ عمار، فلمَّا رآه علم أنه قاتله فجعل ابن عمار يزحف - وقيوده تثقله - حتى انكبَّ على قدمي المعتمدِ يقبلهما والمعتمدُ لا يثنيه شيء فعلاه بالطبرزين الذي في يده ولم يزل يضربه به حتى برَد"!
[4] نفح الطيب (1/440).
[5] صدق الحبيبُ - صلَّى الله عليه وسلَّم - حين قال في الحديث الصَّحيح: ((يكفرْنَ العشيرَ ويكفرنَ الإحسان: لو أحسنتَ إلى إحداهنَّ الدَّهرَ، ثم رأت منك شيئًا قالت: ما رأيتُ منك خيرًا قط)).
[6] تاريخ ابن خلدون (6/187).
[7] الدواهي المدهية لجعفر بن إدريس الكتاني (111)، ينقله عن نوازل البرزلي.
[8] البيان والتبيين (1/311)، دار الهلال، ت: علي أبو ملحم.
[9] قال الذَّهبي في ترجمته من سير النبلاء: "وكان مهيبًا، سائسًا، حليمًا، جوادًا، وقورًا .."، وقال أيضًا: "وكان ملازمًا لمصالحِ الرعية، وكان يتعبَّدُ ويتهجَّدُ ..".
[10] وقد يكون الأصل في ذلك مذهب مالك في عدم استتابة الزنديق، قال ابنُ رشد في (البيان والتحصيل) 16/391): "هذا أمرٌ متفق عليه في المذهبِ أنَّ المرتدَّ المظهرَ الكفر يُستتاب، وأنَّ الزنديق والذي يسر اليهودية أو النصرانية أو ملة من الملل سوى ملة الإسلام يقتل ولا يستتاب، والشَّافعي يرى أنَّهما يستتابان جميعًا...".
[11]اشتهر قول ابن خلدون في مقدمته؛ مؤسسة الرسالة، ت: مصطفى شيخ مصطفى، (ص: 173)، قال ابن أبي زيد: ارتدت البرابرةُ بالمغربِ اثنتي عشرة مرة، ولم تستقر كلمةُ الإسلام فيهم إلا لعهدِ ولاية موسى بن نصير فما بعده.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

الفقه والسياسة في عصر المرابطين

قامت دولة المرابطين على أسس دينية تدعمها صفوة عسكرية، وكانت تتسم بصفات البداءة والخشونة، وكانت تميل إلى حياة الزهد الصوفي، مما خلع عليها روح التزمت التي دفعتها إلى عدم العناية بالحياة الفكرية والثقافية العقلية بل عن الحياة الدينية الخالصة.
وأما ما ظهر في بعض جوانبها من ازدهار في الحياة الفكرية الأدبية فيعزوه البعض إلى تلك الحركة الفكرية التي ازدهرت في عصر الطوائف، والتي أسبغ عليها ملوك الطوائف كل تشجيع ورعاية، وذلك كان منها ليس للازدهار الفكري ذاته، وإنما لكي يستكمل البلاط المرابطي ما ينقصه من أسباب الهيئة والبهاء.
موقف دولة المرابطين من كتاب الإحياء للغزالي:
ففي ظل دولة المرابطين أُحرق كتاب إحياء علوم الدين للغزالي سنة 503هـ / 1109م، وذلك على عهد علي بن يوسف بن تاشفين، ثم صدر مرسوم من تاشفين بتعقبه وتعقب كل مذهب غير مذهب الإمام مالك.
وقد حدثت واقعة الحرق لكتاب الإحياء قبيل عبور علي بن يوسف إلى الأندلس بأسابيع قلائل، وكان يوسف بن تاشفينعلى صلة طيبة بالغزالي، ولكن الأمور تغيرت في عهد ولده علي، وكان يميل إلى إيثار الفقهاء ولا يقطع أمرًا صغيرًا كان أو كبيرًا إلا برأيهم، وهكذا علت مكانتهم واشتد نفوذهم، حتى سيطروا فيما بعد على الدولة، وكان من أشدهم نفوذًا لدى علي قاضي قرطبة أبو عبد الله محمد بن حمدين، وكان الفقهاء عندئذ يؤثرون علم الفروع بعيانتهم، وهو علم العبادات والمعاملات، ويهملون علم الأصول، وكان لا يحظى لدى أمير المسلمين، إلا من برع في علم الفروع.
فلما وصلت كتب الإمام الغزالي إلى المغرب والأندلس وذاع ما فيها، سخط الفقهاء المرابطون، وأنكروا كثيرًا من المسائل التي وردت في كتاب الإحياء، وزعموا أنها مخالفة للدين، وكان ابن حمدين من أشد الفقهاء مبالغة في ذلك حتى أنه قال بتكفير من قرأ كتاب الإحياء، ورفع ابن حمدين ومعه فقهاء قرطبة الأمر إلى علي بن يوسف، وأجمعوا على وجوب مطاردة كتاب الإحياء، وإحراقه فأخذ علي برأيهم وجمع نسخ الكتاب واحتفل بإحراقها في رحبة المسجد الجامع بقرطبة أمام الباب الغربي بعد أن أشبعت جلودها بالزيت، ونفذت كتب أمير المسلمين إلى سائر أنحاء المغرب، وشدد في ذلك حتى أنه أنذر بعقوبة الإعدام ومصادرة المال لكل من وجد عنده، واستمرت المطاردة للإحياء وباقي كتب الغزالي طوال أيام المرابطين، وجدد المرسوم بذلك في أواخر عهد تاشفين بن علي بن يوسف سنة 358هـ.
ورأى البعض أن حملة الفقهاء على كتاب إحياء علوم الدين لم تكن راجعة لأمور تتعلق بالعقيدة أو لأنه يخالف الدين في شيء، بل ترجع قبل كل شيء إلى ما ورد فيه من حملة لاذعة على علماء الفروع، والتنويه بجهلهم، وسخف مجادلتهم السطحية، وكونهم يجهلون علم الأصول.
نفوذ الفقهاء في دولة المرابطين:
قامت الدولة المرابطية على أساس من العقيدة الدينية، وكان منشِئُها الروحي فقيه متشدد هو عبد الله بن ياسينالجزولي، واحتفظت بهذا الطابع الديني معظم حياتها، وكان يتخذ من البداية صورته العلمية، في سيطرة الفقهاء على شئون الدولة وتوجيهاتها، وفي اتجاه الجيوش المرابطية في المراحل الأولى من حياة الدولة إلى أعمال الجهاد سواء في المغرب أو الأندلس، وكان نفوذ الفقهاء في تسيير الدولة المرابطية، يتخذ أيام يوسف بن تاشفين صورة الشورى، فكان العاهل المغربي يستفتيهم في الأمور الخطِرَة، لا استفتاء المستسلم الخانع، ولكن استفتاء الحذر المستنير، والذي يحاول أن يطمئن على سلامة تصرفاته وأن يلتمس لها السند الشرعي، ولكن هذا النفوذ لم يلبث أن غدا في عهد ولده علي نوعًا من الديكتاتورية الدينية (الثيوقراطية)، ولم يكن لعلي بن يوسف بالرغم من ذكائه وجميل صفاته، وبالرغم من ورعه وتقواه من العزم والحزم ما يكفي لمغالبة هذا النفوذ الجارف، وهذا ما يصوره لنا المراكشي عند حديثه عن علي بن يوسف في تلك الفترة التي تبرز لنا روح الحكم المرابطي على حقيقتها.
واتسم العصر بالحَجر على حرية الفكر، ومنها الرسالة التي وجهها أمير المسلمين تاشفين بن علي إلى فقهاء بلنسية وأعيانها وأهلها في جمادى الأولى سنة 538هـ إلى جانب ما تحض عليه من وجوب الرفق بالرعية، حث على مطاردة كتب البدعة وتتبع أثرها ويقطع بالحرق المتتابع خبرها.
نفوذ القضاة الأندلسيين عصر المرابطين:
كان القضاة الأندلسيون يتمتعون لدى العاهل المرابطي بكثير من النفوذ، وكانت لهم كلمة مسموعة في كثير من الشئون الهامة، وكانوا في نفس الوقت رسله لتدعيم هيبته ونفوذه لدى الشعب الأندلسي، وكان من أبرز نماذج أولئك القضاة رجال مثل: أبي الوليد بن رشد، فقد استطاع أن يقنع علي بن يوسف بتغريب النصارى المعاهدين سنة 520هـ. ثم كان أولئك القضاة فيما بعد، حينما اضطربت شئون الدولة المرابطية، هم قادة الثورة ضد المرابطين في مختلف القواعد، وهم الذين تولوا حكم المدن الثائرة حتى مقدم الموحدين، وكان زعماء الثورة تقريبًا كلهم من القضاة. ففي قرطبة كان زعيم الثورة قاضيها أبا جعفر بن حمدين، وفي غرناطة كان زعيمها القاضي أبا الحسن على بن أضحى، وفي مقالة كان قاضيها ابن حسون، وفي بلنسية كان قاضيها مروان بن عبد العزيز، وفي مرسية كان قاضيها أبا جعفر الخشني، وكان خلفه في الرياسة بعد مصرعه قطب من أقطاب الكتاب والشعر، هو أبو جعفر عبد الرحمن بن طاهر، وهذه ظاهرة تدعو إلى التأمل، ويمكن أن ترجع إلى أن بعض المرابطين استطاعوا خلال حكمهم بالأندلس أن يقضوا على معظم الزعامات الملوكية العسكرية القديمة، ولكنهم لم يستطيعوا أن يقضوا على الزعامات الفكرية، ولم يستطيعوا بالأخص أن يقضوا على نفوذ الفقهاء بالأندلس، وكان نفوذهم المستمر من خواص الحكم المرابطي ذاته.
ومما يروى في ذلك أن الإمام الغزالي كان يعجب بورع يوسف بن تاشفين وجميع صفاته وميله إلى أهل العلم، حتى أنه اعتزم الرحلة إلى المغرب وزيارة الأمير الأمثل. لكنه لما وصل إلى الإسكندرية للسفر إليه ورد إليه خبر وفاته؛ فارتد عن عزمه وعاد من حيث أتى.
المطاردات الفكرية في ظلال الحكم المرابطي:
ورأى البعض أن الحكم المرابطي قد جنى بأساليبه الرجعية على سير الحركة الفكرية الأندلسية، وعاقها عن التقدم والازدهار. وكل ما يمكن أن يقال في ذلك هو ما اتخذه المرابطون من إجراءات للحجر على الدراسات الكلامية والشرعية والفلسفية، وتوجيهها إلى وجهاتهم الخاصة، ومطاردة كتب الأصول، قد يكون له أثره في سير هذه الدراسات، وإن كان لا يحق أن نبالغ في تقدير هذا الأثر.
عمومًا كان الحجر على الفكر من أسوأ صور الحكم المرابطي المطلق. وقد عمد علي بن يوسف، بتحريض من فقهائه، إلى مطاردة كتب الأصول، وفي مقدمتها كتب الإمام الغزالي، ولا سيما كتاب إحياء علوم الدين سنة 503هـ. وقد لبثت هذه المطاردة طوال العهد المرابطي.
هناك رسالة وجهها تاشفين بن علي بن يوسف إلى فقهاء بلنسية وأعيانها وأهلها، في جمادى الأولى سنة 358هـ، إلى جانب ما تحض عليه من وجوب الرفق بالرعية، وإجراء العدل، وتحقيق المساواة بين الناس، والأخذ بمذهب الإمام مالكدون غيره، في الفتيا وسائر الأحكام، حثًا على مطاردة كتب البدعة، وخاصة كتب أبي حامد الغزالي، وأنه يجب أن يتتبع أثرها، ويقطع بالحرف المتتابع خبرها، ويبحث عنها، وتغليظ الإيمان على من يتهم بكتمانها.
ومن الواضح أن المطاردة الفكرية لم تكن تقف عند كتب الأصول وكتب الغزالي، ولكنها كانت تشمل سائر المصنفات الكلامية والفلسفية التي تنكرها التعاليم المرابطية وغيرها مما يوصف بكتب البدعة. وكان من ضحايا هذه المطاردة عدة من المفكرين الأندلسيين، ومنهم العلامة الصوفي أبو العباس أحمد بن محمد الصنهاجي الأندلسي المعروف بابن العريف، حيث نفاه أمير المؤمنين من بلدة المرية إلى مراكش.
دور الفقهاء في دولة المرابطين:
وكان مما سهل سقوط ابن الأفطس بطليوس في مواجهة يوسف الدور الذي قام به الفقيه ابن إحسان الذي ولاه ابن الأفطس على شؤن الدولة والذي رغم كونه مخلصًا له بصفته يعمل على الإطاحة بحكمه في الخفاء.
وكان من أبرز مظاهر تمسك يوسف بأخذ آراء الفقهاء، موقفه من الضرائب والمغارم التي يسوغ للأمير فرضها على رعيته، فهو قد ألغى الضرائب والمكوس، التي لم يجز الدين فرضها، واكتفى بفرض ما يجيزه الشرع من ذلك، مثل الزكاة وأخماس الغنائم، وجزية أهل الذمة.
ولولا سيطرة الفقهاء على عقول العامة وعلى ولاة الأمر، وتملق الفقهاء لهم وتملق ولاة الأمر لفقهائهم، وضيق أفقهم الثقافي، والتعصب المحكم من العامة والفقهاء والولاة لمذهب مالك دون غيره من المذاهب الإسلامية المتفق عليها من الجماعة الإسلامية، لأخذت تنداح الدائرة الثقافية: فكرية وعقلية وإسلامية، دائرة إثر دائرة، ولشهدنا نهضة في الأندلس أزهى مما كانت عليه في المشرق العربي خلا العلوم العقلية.
وقد شارك الفقيه يعلى المصمودي في موقعة الزلاقة واستشهد فيها، كما استشهد الفقيه فضل بن علي بن أحمد بن سعيد بن حزم، ومنهم من شارك في المعركة ولم يستشهد مثل الفقيه الكاتب أبي بكر محمد بن سليمان المعروف بابن القصيرة.
وقام القاضي ابن سهل بإخبار ابن تاشفين بانقسام جيش إمارة غرناطة وانهيار معنوياته، وترحيب سكان الإمارة بابن تاشفين لتخليصهم من حاكمها، كما أن الفقيه أبا جعفر بن القليعي قام بتحريض ابن تاشفين للقضاء على ملوك الطوائف، وقد كان أبو بكر بن مُسكن أكثر العلماء تحريضًا لابن تاشفين للقضاء على ملوك الطوائف عامة.
كما أفتى فقهاء إشبيلية ابن تاشفين قائلين: "هؤلاء الرؤساء لا تحل طاعتهم ولا تجوز إمارتهم، إنهم فساق فجرة، فاخلعهم عنا، ونحن بين يدي الله محاسبون فإن أذنبنا فنحن لا أنت المعاقبون، فإنك إن تركتهم وأنت قادر عليهم، أعادوا بقية بلاد المسلمين إلى الروم، وكنت أنت المحاسب بين يدي الله تعالى". كما أفتى أبو بكر الطرطوشي (451 -520هـ) بجواز تنحية ملوك الطوائف عن حكمهم.
ثراء الفقهاء في عصر المرابطين وعلو منزلتهم:
هذه المكانة الرفيعة التي تبوأها الفقهاء في الدولة المرابطية أدت إلى يسر في حالتهم المعيشية، إذ يذكر صاحب المعجب أنه في عهد علي بن يوسف "عظم الفقهاء، وانصرفت وجوه الناس إليهم فكثرت لذلك أموالهم، واتسعت مكاسبهم"، ويقول ابن الأثير عنه: ".. ازداد في إكرام العلماء والوقوف عند إشارتهم، وكان إذا وعظه أحدهم وقف عند استماع الموعظة"، كما ذكر الناصري في الاستقصا ووصف دارا بناها أحد الفقهاء تدل على ذلك الثراء المفرط.
فعلى سبيل المثال بلغت ثروات بعض الفقهاء ما جعلهم "يبنون المساجد ويوقفون الديار عليها"، وقد تبرع أحد الفقهاء من أمواله الخاصة "لبناء سور إشبيلية"، كما حازوا على ثروات عقارية ومادية هائلة حتى أن ابن السقاط عجز عن إحصاء الضياع والعقارات المملوكة لقاضي غرناطة، ومحمد بن الحسن بن كامل (ت 539هـ) "لم يكن ببلده نظيره في سعة الحال وكثرة المال"، وكان أحمد بن جعفر بن سفيان المخزومي (ت 566هـ) "من أهل الثروة واليسار"، وعرف إبراهيم بن ميمون الحضرمي بأنه "ذو نباهة وثروة"، وكان أبو عمران الكندي "من أعيان العدوة"؛ أما أبو بكر بن خلف الأنصاري "نال دنيا عريضة، واعتقل أموالًا جليلة"،كما نال حجاج بن يوسف "دنيا عريضة وأورث عَقِبِه نباهة"، والفقيه ابن الجد "نال دنيا عريضة واستفاد ثروة عظيمة وإليه كانت رياسة بلده والانفراد بها"، ونال الفقيه عبد الله بن محمد المهمذاني "بخدمة السلطان دنيا عريضة"، أما قاضي الجماعة أبو عبد الله بن حَمْدِين (ت 508هـ / 1114م) فقد كان مقربًا للمرابطين "وحاز في المكانة لديهم ما لم يحزه غيره من السلف".
كما احتكر الفقهاء معظم المناصب العليا في ذلك العصر خصوصًا خطط القضاء والفتيا والحسبة، ويخلص المقري إلى أن "خطة القضاء هي أعظم الخطط عند الخاصة والعامة"، وحققوا مكانة اجتماعية رفيعة حتى أن بعضهم كان يدخل المدن دخولًا رسميًا يشبه دخول الأمراء. ويصف الكاتب ابن القصيرة دخول القاضي عياض غرناطة قائلًا: "لما ورد علينا القاضي عياض، خرج الناس للقائه، وبرزوا تبريزًا ما رأيت لأمير مؤَّمر مثله، وحرزت أعيان البلد الذين خرجوا إليه ركابًا نيفًا على مائتي راكب ومن سواد العامة ما لا يحصى كثرة".
ولذلك وجدنا الباجي يقول في وصيته لولديه: "هل تريان أحدًا أرفع حالًا من العلماء، وأفضل منزلة من الفقهاء، يحتاج إليهم الرئيس والمرؤوس، ويقتدي به الوضيع والنفيس"، ولذلك كان الفقه بصفة عامة من أكثر التخصصات الموضوعية التي حظيت بالتأليف في الأندلس، فقد بلغ 136 مؤلفًا بنسبة 16,7% من مجموع المؤلفين في جميع التخصصات الموضوعية العربية، وتلاه الأدب بعدد 127 وبنسبة 15,54%، كما كان إقبال الطلاب في الأندلس على دراسته، أكثر من إقبالهم على بقية المواد الأخرى بعامة، لأنه يتيح لهم الفرصة لكي يتولوا الوظائف العامة، دينية أو مدنية، وكان طلاب الفقه يملأون المساجد، على أمل أن يحصلوا من مواطنيهم، عقب انتهاء دراستهم على لقب "فقيه" وكان ساميًا ورفيعًا، وموضع الإجلال، حتى أنه كان يطلق على بعض الملوك تشريفًا لهم.
منزلة الفقهاء لدى يوسف بن تاشفين:
قامت الدولة المرابطية على سيوف صنهاجة، ولكن أيضًا على هيئة الفقهاء الذين عملوا على توجيهها في كل شيء، ولاسيما فقهاء الأندلس من أمثال الفقيه "أبي جعفر بن القليعي" قاضي قرطبة، الذي عبر إلى المغرب وأخبر يوسف بن تاشفين ببعض الأمور التي تتعلق بملوك الطوائف، وكذلك هناك أبي بكر المرادي، وأبي بكر الطرطوشي الذي كتب إلى يوسف بن تاشفين من الإِسكندرية مذكرة توجيهية، وممّن ناصر المرابطين أيضًا الفقيه أبو مطرف عبد الرحمن الشعبي، فقيه مالقة الكبير (ت 497هـ)، حيث كان من الساعين لاستقدامهم، والفقيه المحدث أبو القاسم الحسن بن عمر الهوزني الإشبيلي (435 - 512هـ)، فقد ذكر المقري أنّه حرض يوسف بن تاشفين على المعتمد بن عباد حتى أزال ملكه.
كما كان يوسف بن تاشفين يتلقى التشجيع من العلماء والفقهاء لمواصلة نشاطه في الميدان العسكري بدءًا من دعم حروبه ضد زناته وضد برغواطة بفتاوى فقهية إلى مسائل الحسم في قضايا مصيرية مثل ضم سبته إلى حكمه. واحتل الفقهاء مكانتهم ضمن طبقة الخاصة، وأغلبهم تحالف مع السلطة المرابطية، وقد عُرِف يوسف بن تاشفين بتعلقه بالفقهاء وكانت لدلمال طول أيامه"، ويذكر ابن عذاري أن يوسف بن تاشفين كان "يفضل الفقهاءيه هيئة استشارية تشترك فيها طائفة منهم ؛ لذلك "أجرى عليهم الأرزاق من بيت ا، ويعظم العلماء، ويصرف الأمور إليهم، ويأخذ فيها برأيهم، ويقضي على نفسه بفتياهم".
وكانت السلطة السياسية تستفتي فقهاؤها عن كل شئ ؛ من توسيع مسجد أو بناء سور، وكيفية التعامل مع المعاهدين من أهل الذمة والسند الشرعي في اللجوء الى بناء سور مدينة مراكش، أو التساؤل عن قضايا فكرية مثل الموقف من الأشعرية أو علم الكلام، وصفات الزندقة والموقف من كرامات الصوفية، فعندما أراد يوسف بن تاشفين هدم كنيسة ألبيرة سنة 492هـ / 1098م استفتى الفقهاء في ذلك.
منزلة الفقهاء لدى علي بن يوسف بن تاشفين:
كما كان علي بن يوسف بن تاشفين ( 500 - 537هـ / 1106 – 1143م) شديد الإجلال للفقهاء "يقربهم ويكرمهم"، وقد "بسط حمايته لهم"، وكان "لا يقطع في جميع مملكته دون مشاورتهم"، وأكد ابن خلدون تلك المقولة بقوله "فكان لحملة العلم بدولتهم مكان من الوجاهة"، بل إن علي بن يوسف غضب غضبًا شديدًا يومًا لما علم أن أحد ولاته لم يعتن بالقاضي ابن أسود، ولم يقابله بما يستحق من الحفاوة والتكريم، فبعث له برسالة تفيض باللوم والعتاب.
كما ساعده الفقهاء على ضم سرقسطة فقال ابن سعيد: "ونشأت نشأة من الفقهاء والمرابطين امتدت أيديهم وآمالهم، وزينوا لعلي بن يوسف أخذ بلاد الثغر من عماد الدولة"، وقالوا له عن بلاد ابن هود: "الشرع يدعوك أن تسعى في أخذ تلك البلاد منهم، لكونهم مسالمين للروم". وقد تقرب إليه العديد من الفقهاء من أمثال أبو بكر بن الجد وابن القبطرنه وابن عبدون وابن أبي الخصال.
وفي عصر المرابطين أيضًا ظهر نفوذ الفقهاء في قصور الأمراء، فنفوا من الأندلس أكثر المشتغلين بالفلسفة، فرحل الفلاسفة والعلماء والشعراء، كما رحل أيضا المسيحيون واليهود إلى الممالك المجاورة، كما حظوا بهبات وانعامات ولذا أكد المقري على أن "سمة الفقيه عندهم جليلة".
ويرى بعض المؤرخين أن التعصب الأعمى عند فقهاء المرابطين فى زمن الأمير على بن يوسف كان السبب الأول فى سقوط دولة المرابطين، فقد أسهم فقهاء المالكية فى دولة المرابطين بقسط وافر فى تذمر الرعايا، وإضعاف شأن الإمارة، واستغل بعض الفقهاء نفوذهم من أجل جمع المال، وامتلاك الأرض، وعاشوا حياة البذخ والرفاهية المفرطة.
وقد أدرك المرابطون أهمية الاستناد الى الفقهاء، فاستقدموا فقهاء الأندلس للعمل في حواضر المغرب (في مراكش وفاس وسبتة)، وعلى الرغم من أن هؤلاء الفقهاء القادمين من الأندلس قد عرفوا في موطنهم الأصلي جدلًا وحوارًا فكريًا حول علم الأصول وضرورته، لكن الفقهاء لما أطلق المرابطون أيديهم في مؤسسات الدولة ووجدوا في سياسة المرابطين ما يغنيهم عن عناء التجديد، وحققوا نوازعهم القديمة في إغلاق الحوار وباب الاجتهاد، وشكلوا من جديد في المغرب وفي الأندلس في عهد المرابطين آلية الدولة الجديدة كماكانت حالهم في الأندلس أيام الأمويين وملوك الطوائف.
الفقهاء آلة الدولة المرابطية:
وبلغت سطوتهم أوجها في الدولة المرابطية في عهد الأمير تاشفين بن علي بن يوسف بن تاشفين، فملكوا كل السلطات السياسية والقضائية والتشريعية، ونقرأ في رسالة تاشفين الموجهة إلى أهل بلنسية وهي من تدبيج الفقهاء "اعلموا أن مدار الفتيا ومجرى الأحكام والشورى في الحضر والبدا، على ما اتفق عليه السلف الصالح من الاقتصار على مذهب إمام دار الهجرة، فلا عدول لقاض، ولا مفت عن مذهبه، ولا يؤخذ في تحليل أو تحريم إلا به".
ولكي يحافظ بعض الفقهاء على امتيازاتهم المادية والمعنوية جعلوا أنفسهم أداة طيعة في يد الدولة، فهم عينها الساهرة على مصالحها، ويدها التي تضرب من يناوئها، وفكرها الذي ينظر لها، وباختصار شكلوا آلية الدولة التي تستحيل عليها السير بدونهم، وحاربوا بلا هوادة كل من يعارضهم الرأي من أصحاب الفكر أو المذاهب الإسلامية الأخرى، حتى صار "لايعرف في الأندلس إلا مذهب مالك ..، ويقولون لا نعرف إلا كتاب الله وموطأ مالك، فإن ظهروا على حنفي أو شافعي، ربما نفوه، وإن عثروا على معتزلي أو شيعي، ربما قتلوه".
وكانت لفتوى الفقهاء عند قادة المرابطين مكانة عظيمة يضعونها فوق كل اعتبار، كما كانوا يرسمون السمات العامة للنمط الثقافي الفكري للدولة المغربية، كما حارب أمراء المرابطين ذوي الاتجاه الصوفي وقاوموهم أخذا باستشارة العلماء في ذلك، فقد روى الناصري في الاستقصا عن أبي الحكم عبد السلام بن عبد الرحمن بن برجان -وكان معروفا بنزعة تصوفية- أنه لما أشخص "من قرطبة إلى حضرة مراكش وكان فقهاء العصر وانتقدوا عليه مسائل، وقال أبو الحكم: والله لا عشت ولا عاش الذي أشخصني بعد موتي، يعني أمير المسلمين علي بن يوسف، فمات أبو الحكم، فأمر أمير المسلمين أن يطرح على المزبلة ولا يصلى عليه، وقلد فيه من تكلم فيه من الفقهاء".
بل إن الفقهاء كانوا يستشارون أيضا في أمور الإدارة والحرب والسياسة الخارجية للدولة، فابن رشد ومعاصريه أفتوا عليًّا بن يوسف في بناء سور مراكش، إلى آخر تدخلاتهم، وفي سنة 515هـ / 1121م، وعندما أراد علي بن يوسف مراجعة الملكيات العامة التي آلت إلى ملكيات خاصة منذ أيام بني عامر، استفتى الفقهاء في ذلك.
ويذكر المراكشي: "ولم يزل الفقهاء على ذلك وأمور المسلمين راجعة إليهم، وأحكامهم صغيرها وكبيرها موقوفة عليهم طول مدته (أي علي بن يوسف) فعظم أمر الفقهاء".
دعم فقهاء المرابطين للخلافة العباسية:
ورأى المرابطون أن مبايعة الخليفة العبَّاسى واجبة، ولذلك أعطوا بيعتهمله لكونهم مالكيين سنيين، فاعترفوا بالخلافة العباسية واتخذوا السواد شعارًا لهم، ونقشوا اسم الخليفة العبَّاسى على نقودهم منذ منتصف القرن الخامس الهجري، وبعد بسط الأمير يوسف بن تاشفين سيادته على الأندلس طلب منه الفقهاء أن تكون ولايته من الخليفة لتجب طاعته على الكافة، ونزولًا عند رغبتهم اتصل بالخليفة العبَّاسى أحمد المستظهر بالله (487 - 512هـ / 1094 - 1118م)، وأرسل إليه بعثة من عبد الله بن مُحَمَّد بن العربى الإمام المعروف (والد الإمام أبي بكر بن العربي)، وزوَّدها بهدية ثمينة, وبكتاب يذكر فيه ما فتح الله على يده من البلاد فى المغرب والأندلس، وما أحرزه من نصر للمسلمين، وعزٍّ للإسلام، ويطلب فى النهاية تقليدًا بولاية البلاد التى بسط نفوذه عليها، وأدَّت البعثة مهمتها بنجاح؛ فتلطَّفت فى القول, وأحسنت الإبلاغ وعادت إلى المغرب بتقليد الخليفة وعهده للأمير يوسف بن تاشفين الذى سُرَّ بذلك سرورًا عظيمًا.
وبالتالي أصبح يوسف في نظر أهل الأندلس الداعي الأكبر للخلافة العباسية في الغرب الإسلامي الذي ينبغي الانتظام في طاعته، والانضواء تحت لوائه.
الفقهاء الثوار:
شكل الفقهاء شريحة اجتماعية لها وزنها وخطورتها، ولم تعد لهم تلك الصبغة الروحية، بل حلت محلها صبغة مادية سلطوية. ولذلك أصبحوا يتطلعون إلى الاستقلال عن الحكم وتأسيس إمارات خاصة، وهي مسألة لا يمكن اعتبارها "ظاهرة عجيبة"، بل هي نتيجة تطور طبيعي لفئة تكدست لديها الثروات، وحازت على الأراضي، وتكونت لديها قاعدة مادية أهلتها للمطالبة بالاستقلال والحكم، وهو ما يسميه ابن خلدون "بالملك الأصغر" الذي يعد نتيجة لما يحدث في الملك الأعظم من عوارض الجدة والهرم، مستلهما مقولته هذه من دولة المرابطين نفسها، ناهيك عن استشراء نفوذ الفقهاء في ظل دولة المرابطين، كما كان لسوء الأحوال وتردي الأوضاع أكبر الأثر في نشوب تلك الثورات، وحينذاك توافرت "دواعي الشتات واستهدفوا الخلع"، و"كادت الأندلس تعود إلى سيرتها الأولى بعد انقطاع دولة بني أمية".
وتزخر مصادر تلك الفترة بأخبار الفقهاء الذين وثبوا على الحكم وثاروا عليه، وأسسوا كيانات مستقلة، ومن أمثلة هؤلاء الثوار: الفقيه القاضي ابن حمدين (ت 508هـ / 1114م) حيث "صارت إليه الرياسة عند اختلال أمر الملثمين"، وقد "جاهر بعصيانه عقب قيام عامة قرطبة بخلع الطاعة المرابطية".
وفي مالقة انتزى (أي ثار وعصى) الفقيه أبو الحكم ابن حسون الكلبي، و"دعا لنفسه واستبد بحكم المدينة"، واستقل الفقيه محمد بن عبد الرحمن القيسي بمدينة مرسية، ووصل الأمر إلى حد أن منهم من اتخذ ألقاب الخلفاء مثل ابن حمدين تلقب "بالمنصور بالله"، ولقب الشعراء ابن سعيد أمير شرق الأندلس بالملك، كما دعا أحمد بن ملحان المستقل بوادي آش نفسه بالمتأيد بالله، وأصبخ اسمه يذكر على المنابر.
الدور الاجتماعي والثقافي للفقهاء:
كما كان للفقهاء دور ثقافي غاية في الأهمية، وكانوا متقنين لفنون علمهم لأنهم يسعون إليها مختارين غير مدفوعين بهدف غير التعلم، وكان الرجل ينفق ما عنده من مال حتى يتعلم، ومتى عُرف بالعلم أصبح في مقام التكريم والإجلال ويشير الناس إليه بالبنان.
كما كان لظهور عدد كبير من النوازل في عصر المرابطين يدل على حركة الفقه ورواجه في ذلك العصر الذي كان عصر الفقهاء أو عصر "قال مالك" كما عبر الشاعر الأعمى التطيلي في كافيته التي يشكو فيها من كساد بضاعة الشعر ونفاق سوق الفقه.
وكان الفقيه حريصًا على أن يسجل كثير من دقائق التقاليد والعادات التي درج عليها المجتمع الأندلسي، فهو إذ يتحدث عن حكم شرعي يحلو له أن يستعرض مجالات أخرى مثل الظواهر التاريخية والقضايا الاجتماعية والسياسية والحضارية، وهو في ذلك متأثرا بالبيئة الإقليمية وكان ينزل إلى الأسواق ويسائل الصناع والحرفيين ليمدوه بأقضيتهم، ويعرضوا عليه مشاكلهم التي تواجههم في حياتهم اليومية.
وكثيرا ما كان الفقيه يرجع في تسجيل آرائه واجتهاداته إلى من يسمون بأرباب المعرفة والنظر، يسأله عن عاداتهم في التعامل، فيأخذ برأيهم فيما يرجع إلى الاحتكام إلى العادات التي تجري وفق معاملاتهم، فانطبع هذا الوسط في مصنفاته، وكذلك هو الفقه، ينبغي أن يسجل الواقع الاجتماعي للأمة وليس الفقه إلا مادة اجتماعية تتأثر بما يتأثر به المجتمع، فهو يحي بالمجتمع، يعيش مع الناس في السوق، والمسجد والحقل والمصنع وفي سائر مرافق الحياة.
وكان الفقهاء يشكلون هيئة لها رسوخ في المجتمع، ولها سلطة معنوية كبيرة، ونفوذ واسع في تسيير الحياة اليومية، واستعملت المصادر عبارات التعظيم والإجلال لهم فنعتت البعض "بعلو الرتبة" و"سمو الرياسة" و"الحظوة والعزة والرفعة"، كما خوطبوا في المراسلات بأفخم العبارات التي تنم عن الهيبة والجلال.
________________________________________
أهم المصادر والمراجع:
- المراكشي: المعجب، تحقيق: محمد سعيد العريان، المجلس الأعلى للشئون الإسلامية.
- ابن خلكان: وفيات الأعيان، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر - بيروت.
- ابن بشكوال: الصلة في تاريخ أئمة الأندلس، عني بنشره وصححه وراجع أصله: السيد عزت العطار الحسيني، الناشر: مكتبة الخانجي، الطبعة: الثانية، 1374هـ / 1955م.
- ابن عبد الملك المراكشي: الذيل والتكملة، السفر الأول، القسم الثاني، تحقيق: محمد بن شريفة، بيروت.
- ابن بلقين : التبيان، نشر وتحقيق: ليفي بروفنسال، دار المعارف، القاهرة 1955م.
- ابن الكردبوس: تاريخ الأندلس، تحقيق: أحمد مختار العبادي، صحيفة معهد الدراسات الإسلامية، مدريد، مجلد 13.
- ابن خلدون: العبر، ج6،، تحقيق : خليل شحادة، دار الفكر، بيروت 1981م.
- ابن خلدون: المقدمة، تحقيق حامد أحمد الطاهر، ط1، دار الفجر، القاهرة 2004م.
- ابن الأبار: الحلة السيراء، تحقيق: الدكتور حسين مؤنس، الناشر: دار المعارف – القاهرة، الطبعة: الثانية، 1985م.
- ابن الأبار: التكملة لكتاب الصلة، تحقيق: عبد السلام الهراس، الناشر: دار الفكر للطباعة - لبنان
سنة النشر: 1415هـ / 1995م.
- الذهبي : تذكرة الحفاظ، طبعة حيدر آباد، ج4.
- ابن خاقان: قلائد العقيان.
- ابن خاقان: مطمح الأنفس، تحقيق: محمد علي شوابكة، الناشر: دار عمار - مؤسسة الرسالة
الطبعة: الأولى، 1403هـ / 1983م.
- السلفي: معجم السفر، تحقيق: عبد الله عمر البارودي، الناشر: المكتبة التجارية - مكة المكرمة.
- ابن القطان: نظم الجمان، تحقيق: محمود علي مكي، ط1، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1990م.
- المقري: نفح الطيب، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر- بيروت – لبنان.
- المقري: أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، تحقيق: مصطفى السقا- إبراهيم الإبياري - عبد العظيم شلبي، الناشر: مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر – القاهرة، 1358هـ / 1939م.
- النباهي : المرقبة العليا فيمن يستحق القضاء والفتيا، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي في دار الآفاق الجديدة، الناشر: دار الآفاق الجديدة - بيروت، الطبعة: الخامسة، 1403هـ / 1983م.
- الباجي: وصية الشيخ الفقيه أبي الوليد الباجب لولديه، نشر : جودة عبد الرحمن هلال، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية، مدريد، 1955 م، عدد 3، مجلد 1.
- ابن أبي زرع: الأنيس المطرب بروض القرطاس في أخبار ملوك المغرب وتاريخ مدينة فاس، الرباط دار المنصور، 1973 م.
- ابن الخطيب: أعمال الأعلام، نشر، ليفي بروفنسال، دار المكشوف، بيروت 1956، ق 2.
-ابن الخطيب: الإحاطة في أخبار غرناطة، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة: الأولى، 1424هـ.
- ابن العماد: شذرات الذهب في أخبار من ذهب، تحقيق: محمود الأرناءوط، خرج أحاديثه: عبد القادر الأرناؤوط، الناشر: دار ابن كثير، دمشق – بيروت، الطبعة: الأولى، 1406هـ / 1986م.
- العيني: تاريخ العيني، ج 20، ق 4.
- المقدسي: أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم.
- النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب، الناشر: دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، الطبعة: الأولى، 1423هـ.
- ابن العربي: شواهد الجلة والأعيان في مشاهد الإسلام والبلدان، تحقيق محمد يعلى، مدريد الوكالة الاسبانية للتعاون الدولي 1996م، ضمن ثلاثة نصوص عربية عن البربر في العصور الوسطى.
- الناصري: الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، تحقيق: جعفر الناصري - محمد الناصري، الناشر: دار الكتاب - الدار البيضاء.
- الضبي: بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس، الناشر: دار الكاتب العربي – القاهرة، عام النشر: 1967م.
- محمد ابراهيم الفيومي: تاريخ الفلسفة الإسلامية، دار الجيل، بيروت ط1، 1997 م.
- بنعبود: جوانب من الواقع الأندلسي في القرن الخامس الهجري، المعهد الجامعي للبحث العلمي، تطوان 1987م.
- كمال السيد أبو مصطفى: صور من المجتمع الأندلسي، المجلة التاريخية المصرية، مجلد 37، القاهرة 1990م.
- بوتشيش: مباحث في التاريخ الاجتماعي للمغرب والأندلس خلال عصر المرابطين، دار الطليعة، بيروت، 1998م.
- شرين السيد عبده: الاتصال الوثائقي في الأندلس، رسالة ماجستير غير منشورة، كلية الآداب، جامعة الإسكندرية، قسم المكتبات والمعلومات.
- خوليان ريبيرا: التربية الاسلامية في الأندلس، ط2، ترجمة الطاهر مكي، 1994م.
- عمر بنميرة: الثقافة والفقه والمجتمع، جذور للنشر، ط1، الرباط، 2006 م.
- محمود علي مكي: وثائق تاريخية جديدة عن دولة المرابطين، مجلة المعهد المصري للدراسات الإسلامية المجلد (7-8) مدريد 1959م.
- محمد عبد الحميد عيسى: تاريخ التعليم في الأندلس.
- زكي النقاش: العلاقات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية بين العرب والإفرنج خلال الحروب الصليبية، دار الكتاب اللبناني، بيروت 1946م.
- حسين مؤنس: نصوص سياسية جديدة عن فترة الانتقال من المرابطين إلى الموحدين، مجلة معهد الدراسات الإسلامية، مدريد مج1، عدد 3،1955 م.
- عبد الله العروي، مجمل تاريخ المغرب ج2.
- أحمد مختار العبادي: دراسات في تاريخ المغرب والأندلس، مؤسسة شباب الجامعة، 1982م.
- إبراهيم حركات: النظام السياسي والحربي في عهد المرابطين، مكتبة الوحدة العربية، الدار البيضاء.
- أحمد عز الدين موسى، النشاط الاقتصادي في المغرب الإسلامي، دار الشروق، ط1، 1983م.
- مصطفى صادق الرافعي: تاريخ آداب العرب، ج3، مطبعة الاستقامة، ط1، 1940م.
- الشكعة: الأدب الأندلسي.
- عمر عبد الكريم الجيدي: الأندلسيون واستحداث مصدر تشريعي جديد، ندوة الأندلس، قرون من التقلبات والعطاءات، القسم الخامس، العلوم الشرعية.
- محمد زنبير: الخلفية الاجتماعية الثقافية لحركة المهدي بن تومرت، مجلة المناهل، عدد 24، المغرب 1982م.
-المصدر: مركز عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

سلاطين بني عثمان .. قلوب احترقت في حب الرسول

لقد حملت الدولة العثمانية منذ أن بزغ فجرها في القرن الثالث عشر الميلادي (السابع الهجري)، هموم الأمة الإسلامية بكل فخر واعتزاز، وسَعَت بكل ما أوتيت من قوة إلى رعاية هذه الأمة وتأمين أمنها وراحتها وسلامتها في كل نواحي الحياة. كما حرصت كل الحرص على نصرة الإسلام ونشر مبادئه وقيمه في أرجاء المعمورة، ثم رفعِ رايته خفاقة على جميع الأقاليم والبلدان. وما إن نتجول بين صفحات التاريخ ونتفحص المعلومات عن حياة سلاطين آل عثمان، حتى نجد معظمهم دائمًا في مقدمة الصفوف يمتطون أحصنتهم ويقاتلون في ميادين الحرب ببسالة منقطعة النظير. وعندما لم يقدروا على المشاركة في حرب ما، عدّوا أنفسهم عديمي الحظ وفاضت عيونهم بالدموع وامتلأت قلوبهم بالحزن والأسى.
إنهم نذروا أنفسهم للإسلام، واعتبروا الدفاع عن الإسلام وقيمه مسؤولية عظمى لابد أن تؤدى، فساروا قدمًا أمام الأمة بصدق وإخلاص مقتدين بنهج رسولهم صلى الله عليه وسلم ومتبعين سنته أفضل اتباع.
ومما يجدر ذكره أن السلاطين العثمانيين تربوا وترعرعوا منذ نعومة أظفارهم على حب الرسول صلى الله عليه وسلم والتأسي بسنته الطاهرة. نقشوا اسمه صلى الله عليه وسلم على قلوبهم، وأمضوا معظم حياتهم على ظهور الخيول من أجل أن تبسط الرسالة المحمدية أجنحتها وتحلق في سماء البشرية، ولكي يشع نوره صلى الله عليه وسلم في العالم كافة. هذا الحب الذي جرى في أرواحهم وتغلغل في أعماقهم، حوّلهم إلى أناس يحترمون كل شيء يخص الرسول صلى الله عليه وسلم. ونتيجة لهذا الحب نشأ عندهم مظهر من مظاهر الجهاد الروحي، فسعوا جاهدين إلى فتح القلوب أولًا ثم إلى فتح القلاع والأراضي، بغية أن ينثروا -كما أمرهم دينهم الحنيف- بذور القيم والمبادئ التي تنبثق منها الحضارة الإنسانية وينبت منها منهج الحياة والأخلاق المبنية على الحب والتسامح والكرامة.
احتل الرسول صلى الله عليه وسلم في أفئدة هؤلاء الناس الطيبين مكانا رفيعًا خاصًا، فأصبح اسمه صلى الله عليه وسلم يتردد على ألسنتهم في كل لحظة؛ في حياتهم اليومية، وأشعارهم المدحية، وأذكارهم الشخصية.. كما أن هذه المدائح الشريفة التي نقشوها على صفحات التاريخ بأقلامهم النيرة لا زالت لسان عشاق الرسول صلى الله عليه وسلم وترجمان مشاعرهم حتى يومنا هذا. ونورد فيما يلي بعض الأمثلة الواقعية عن أولئك الأفذاذ وعن حياتهم المثالية التي عاشوها.
السلطان مراد الثاني:
ظلال حزن، وسكون كئيب قد خيم على جنبات الغرفة .. رجال القصر ملتفون حول سرير السلطان وهو يرقد على فراش الموت .. الكل من حوله يترقب حركة شفتيه .. فتح السلطان مراد الثاني عينيه ليلمح وزيره، قال بصوت خافت:
- اقرأ يا إسحاق، اقرأ وصيتنا!
فبدأ إسحاق باشا يقرأ الوصية بصوت عال:
"بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. توكلت على الله رب العرش العظيم. كل نفس ذائقة الموت. فلا تغرنّكم الحياة الدنيا ولا يغرنّكم بالله الغَرور .. أما بعد؛ أوصيكم بأن توزعوا ثلث أملاكي في ولاية "صاروهان"؛ على أن يكون 3500 قطعة ذهبية منها إلى فقراء مكة المكرمة، و3500 قطعة ذهبية إلى فقراء المدينة المنورة. ووزعوا 500 قطعة أخرى على الذين يكثرون من تلاوة القرآن الكريم من أهالي مكة المكرمة في حرم بيت الله ثم يرددون كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" 70 ألف مرة ويهدون ثوابها للموصي، وأوصيكم أن توزعوا 2500 قطعة ذهبية من أملاكي هذه، على الذين يكثرون من تلاوة القرآن الكريم ثم يرددون كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" 70 ألف مرة في قبة الصخرة بساحة المسجد الأقصى".
وإذا ما أمعنا النظر في هذه الوصية نرى بوضوح حب السلطان مراد الثاني لله سبحانه وتعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم. لأن أراضي الحجاز (مكة المكرمة - المدينة المنورة) والقدس (المسجد الأقصى) في تلك الآونة لم تكن في حوزة الدولة العثمانية بعدُ. وما هذا إلا تعبير عن الحب الذي سكن بين ثناياه وأترع قلبه. فهو لحرمة الأقدام المباركة التي لمست تربة تلك الأراضي، ولحرمة أهالي تلك المنطقة، أبدى هذا السخاء وجاء بهذا العطاء.
السلطان محمد الفاتح:
العام 1453م .. القائد فتىً في ريعان شبابه يقود جيشه في ملحمة فتح إسطنبول ونشر الإسلام .. وهو صاحب بشارة الرسول صلى الله عليه وسلم .. نصب خباءه أمام أسوار إسطنبول ليفتحها بإذن ربه في فجر يوم الجمعة .. يخرج القائد العظيم في إحدى الليالي إلى شيخه "أقْ شمس الدين" ويبدي رغبته في العثور على قبر الصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه الذي قام باستضافة الرسول صلى الله عليه وسلم في بيته عقب الهجرة النبوية. وكان أبو أيوب الأنصاري قد خرج مع جيش المسلمين لفتح إسطنبول في عهد الأمويين واستشهد تحت أسوارها. فيخرج "أقْ شمس الدين" برفقة السلطان من الخيمة. ويصلا إلى ساحل القرن الذهبـي، وهناك يشير الشيخ إلى مكان قريب من الأسوار ويقول: "ها هنا القبر يا جلالة السلطان". فيأمر السلطان محمد الفاتح بإنشاء جامع وضريح في هذا المكان على الفور. وبعد الفتح يبنى الجامع والضريح.
نصل من هذه القصة إلى نتيجة أن السلاطين العثمانيين أبدوا حبا جمًا ليس للرسول صلى الله عليه وسلم فحسب، بل لأصحابه الذين حملوا رائحته العطرة ورائحة بلدته الطاهرة أيضًا.
السلطان بيازيد الثاني:
ولقد ورّث السلطان محمد الفاتح هذه المحبة لابنه السلطان بيازيد الثاني أيضًا. يقوم السلطان بيازيد خان بزيارة صديقه الذي يحبه في الله "بابا يوسف" لتوديعه قبل ذهابه إلى الحج، يسلّمه كمية من الذهب ويقول: "هذا ما رزقني الله به من عرق جبيني. ولقد ادخرته من أجل صيانة قناديل الروضة المطهرة. عندما تقف في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم أريد منك أن تقول: يا رسول الله، خادمك الفقير "بيازيد" يقرئك السلام ويقول لك: إنه قد أرسل هذه القطع من الذهب لشراء زيت قناديل الروضة، فاقبلها منه.".
السلطان سليم الأول:
وفي عهد السلطان سليم الأول نرى أن هذا الحب النبوي يكتسب بُعدًا آخر؛ حيث تنضم أراضي الحجاز في عهده إلى الدولة العثمانية ويتوحد العالم الإسلامي تحت راية واحدة.
وسرعان ما يذيع صيت السلطان سليم في العالم الإسلامي، ويبدأ الخطباء في المساجد يقرأون الخطب باسمه مستخدمين لقب "حاكم الحرمين". إلا أن السلطان سليم لم يكن راضيًا عن هذا اللقب أبدًا. وفي يوم من الأيام وهو يصلي صلاة الجمعة في الجامع الكبير بحلب، يسمع هذه اللفظة من خطبيب الجامع، فيهب مسرعا ويقول: "لا لا، لستُ حاكمًا للحرمين، بل خادمًا لهما"، فيعدّل الخطيب كلامه كما أشار به السلطان. وبعد الصلاة يقوم السلطان بتقديم قفطانه هدية إلى الخطيب وشكرًا له. فبهذا يشهد له التاريخ مرة أخرى احترامه وحبه العميق تجاه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السلطان سليمان القانوني:
والجدير بالذكر أنه كان من بين سلاطين آل عثمان مَن رأى الرسول صلى الله عليه وسلم في المنام، وبالأوامر والإشارات التي تلقّاها منه صلى الله عليه وسلم تمكّن من فتح بلاد عديدة بإذن الله سبحانه وتعالى. والدليل على ذلك رؤية السلطان سليمان القانوني، إذ رأى الرسول صلى الله عليه وسلم يقول له: "إذا ما فتحت قلاع بلغراد ورودوس وبغداد، فقم بإعمار مدينتي". فسرعان ما يأمر السلطان بإعمار أراضي الحرمين ووضع مشاريع الإسكان لها. حتى إنه ترك وصية يطلب فيها أن يُنشأ من ثروته الخاصة وقفٌ خيري يلبي حاجة المياه لحجاج بيت الله الحرام. وبعد وفاته قامت ابنته "مهرماه سلطان" بتحقيق وصيته وأمرت بجلب مياه عين زبيدة من عرفات إلى مكة المكرمة.
وقد نرى هذا القائد العظيم الذي وقف العالم كله إجلالا واحتراما له، يتوجه في إسطنبول نحو القبلة، ويناجي بلسان الحب رسول الله صلى الله عليه وسلم منشدًا:
يا حبيب الله يا ضياء العالمين
ببابك العالي وقف العاشقون
فإن داء لساني بذكرك يشفى
فؤادي المكروب بك يفرح
وقلبـي المجروح أنت ضماده
السلطان أحمد الأول:
ولم تُنقِص الأيام من بحر عشقهم للرسول صلى الله عليه وسلم مثقال ذرة، بل تضاعف وتضاعف حتى تحول إلى محيط لا حد له ولا قرار. السلطان أحمد الأول، يصعد العرش في وقت حرج، حيث تسود الاضطرابات وتنتشر الفوضى في معظم الأراضي العثمانية. إلا أن هذا السلطان الشاب المهموم كان مفعما بالروح المعنوية العالية. فراح يبحث عن الدواء في عصره الذي يعيش فيه ولكن دون جدوى، فيقرر في نهاية المطاف أن يرجع إلى الماضي ويبحث عن غرضه هناك. فيخرج في إحدى الليالي خفية إلى جناح الأمانات المقدسة بقصر طوب قابي، يمسك نعل الرسول صلى الله عليه وسلم ويضمه إلى صدره ثم يقول بحرقة قلب:
ليتني أحمل نعلك الشريف دائمًا على رأسي كالتاج
يا صاحب النعل الكريم، يا وردة حديقة الأنبياء
ليتني أمسح وجهي دائمًا على أثر قدمك يا وردة الورود
ومنذ ذلك الوقت أخذ السلطان أحمد الأول يحمل صورة لأثر القدم النبوي الشريف داخل قفطانه. ونراه في موضع آخر، يحترق بلهيب العشق النبوي هذا ويقول:
فما عاد الفؤاد يتحمل فراقك
وما عاد اللسان يتحرك بسواك
غدا حبـي عشقًا
فأبكاني أنا الفقير، حتى نفدت دموع قلبـي
وما بقيت فيه دمعة، كمثل يعقوب عليه السلام
السلطان عبد العزيز:
وكان السلطان عبد العزيز أيضًا من عشاق النبي صلى الله عليه وسلم. ففي إحدى الأيام وصلت رسالة إلى القصر من المدينة المنورة، وكان السلطان في تلك اللحظة مصابًا بمرض شديد أقعده في الفراش. فتردد رجال الدولة بادئ الأمر في تقديم الرسالة إلى السلطان عبد العزيز بسبب مرضه هذا، ولكنهم كانوا يعرفون في الوقت نفسه، مدى حساسيته تجاه المدينة المنورة وحبه لها، فاضطروا إلى تقديمها له في نهاية الأمر. وعندما اقترب الوزيز منه وأخبره أن رسالة وصلت من المدينة المنورة، لمعت عينا السلطان وطلب من الوزير ألا يبدأ بالقراءة حتى يأمره بذلك، ثم قال لمن حوله: "ارفعوني .. فلا يمكن أن أسمع رسالة وصلت من الأراضي المقدسة وأنا نائم".
واستمع إلى ما في الرسالة واقفا على رجليه رغم وطأة المرض. ومما يجدر ذكره هنا، أن السلطان عبد العزيز كان لا يتناول أي ملف أو أوراق قادمة من المدينة المنورة دون أن يجدد الوضوء. لأن هذه الأوراق بالنسبة له تحمل غبار بلدة الرسول صلى الله عليه وسلم ورائحته العطرة. لذا كان يقبلها أولًا ثم يضعها على جبينه ثم يشمها بحرارة ثم يفتحها ليقرأها.
السلطان عبد الحميد الثاني:
تولى السلطان عبد الحميد الثاني الخلافة في وقت كانت فيه الدولة العثمانية في منتهى السوء والاضطراب، سواء في الأوضاع الداخلية أو الخارجية.. وفي وسط هذه التيارات والأمواج المتلاطمة تقلد السلطان عبد الحميد الحكم، وبدأ في العمل بكل ما أوتي من قوة ليوحد المسلمين من جديد تحت راية الإسلام. فقام في عهده بتنفيذ مشاريع مهمة غاية الأهمية، منها إنشاء خط حديد الحجاز الذي امتد من إسطنبول إلى المدينة المنورة. وكانت الغاية العظيمة في ذلك، الدفاع عن الأراضي المقدسة من هجمات العدو ثم تأمين راحة الحجاج خلال رحلتهم إلى الحرمين الشريفين.
ومما نريد لفت الأنظار إليه في هذا الصدد أنه، قد جرى إنشاء الخط الواقع بين مدائن صالح والمدينة المنورة كله بأيدي المهندسين والعمال المسلمين فقط، لأن هذا الجزء كان داخل حدود منطقة الحرم. وعندما وصل الخط إلى المدينة المنورة في 31 أغسطس من عام 1908م، أمر السلطان عبد الحميد الثاني بأن يُمَدّ اللباد على الخط في آخر ثلاثين كيلومترًا منه؛ كما أن مقطورة القطار كانت عند وصولها إلى المدينة المنورة تخفض من سرعتها وتقترب من رصيف المحطة ببطء حتى لا تزعج الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم ينـزل الركاب من القطار ماشين على أطراف أقدامهم بتأدب واحترام. أما اللباد الممدود على سكة الحديد فيتم غسله بماء الورد خلال كل يوم في ساعات معينة. وذلك احترامًا لتلك الأراضي المباركة وتقديسًا لها.
لقد حمل سلاطين بني عثمان من أولهم إلى آخرهم، مشاعر عذبة وحبًا فياضًا ولهفة شديدة إلى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وإلى القرب منه. ولعل أهم ميراث تركوه لنا هو هذا الحب النقي الصافي.
________________________________________
الترجمة عن التركية: نور الدين صواش.
مجلة حراء - العدد 18، السنة الخامسة / (يناير-مارس) 2010م.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

بارك الله فيك اختي
مشكورة
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

العبيديون الفاطميون في صقلية

كان فتح جزيرة صقلية ابتداء من سنة 212هـ / 827م أيام الأمير الأغلبي زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب ثالث أمراء دولة الأغالبة، وتم فحها كاملة في أيام إبراهيم بن أحمد الثاني 261هـ / 875م، وهو الذي عبر إلى قلورية وغزا جنوب إيطاليا حتى كسنته، فضلا عن فتح جزيرة مالطة سنة 256هـ / 870م في عهد الأمير محمد بن أحمد بن الأغلب الملقب بأبي الغرانيق. وتمكن الأغالبة من نشر الكثير من مظاهر الحضارة في تقدمهم إلى جنوب إيطاليا وفتح مدينة مسيني وباري وطارنت، وهددوا روما مرتين في سنة 229هـ وسنة 256هـ، ووصلوا حتى مصب نهر البو في شمال شرق إيطاليا. واستمرت دولة الأغالبة تحكم في أفريقيا و صقلية ومالطة إلى أن قضت عليها الدولة العبيدية الفاطمية سنة 296هـ / 909م، وورثت أسطولها وممتلكاتها في حوض البحر المتوسط.

سيطرة العبيديين على صقلية
طال عهد الشقاق والفتنة بصقلية عند تغير الحكومة في أفريقية بزوال دولة الأغالبة وقيام العبيديين، وربما كانت تلك الفتن المتكررة (300 - 327هـ) تعبيرًا عن محاولات للاستقلال، وشعورًا داخليًا من شيوخ الجزيرة بكرههم للتبعية لأفريقية، ولكنها لم تكن كذلك في كل مظاهر العصيان، بل كانت أحيانًا أخرى مسببة عن كره بعض الولاة للحكومة الشيعية الجديدة وميلهم بعواطفهم إلى الخلافة العباسية.

ومنذ هذا الحين نجد صقلية أولًا، وشمالي أفريقية ثانيًا، مسرحًا للتنافس بين الخلافتين العباسية والفاطمية، وكانت الفتن في أحيان أخرى نتيجة ظلم الولاة واعتبارهم صقلية كنزًا يغترفون منه ما يملأ جيوبهم وخزانة دولتهم بالمال. وضرب الصقليون في هذه الفترة أمثلة كثيرة في التقلب وعدم الثبات على حال، وفي فزعهم إلى العدو الخارجي يستغيثون به، كأنما كانت تسيرهم المصلحة العاجلة وحدها دون بعد في النظر، وسيظل هذا هو الداء العضال الذي تشكوه صقلية، بحكم موقعها، وسيكون هذا الداء سببًا في القضاء على السيادة الإسلامية في أرجائها.

ونستطيع أن نتصور التبعية المطلقة التي كانت تدين بها صقلية لأفريقية أيام الأغالبة، إذا عرفنا أن عبيد الله المهدي، حال تسليمه المقاليد، أرسل إليها بوال وقاض من قبله، ولا نعرف أنه حاول عندئذ أن يرى رأى صقلية في المسألة، ولا أنه حسب لامتناعها عليه حسابًا، فأعد لإخضاعها أسطولًا إن هي حاولت أن تقف موقف المعاند الجريء.

ولاية ابن قرهب على صقلية
ولم يثر الصقليون على أول ولاة المهدي، إلا حين أساء السيرة فيهم، واعتذروا إلى المهدي مما فعلوه فقبل عذرهم، وولى عليهم واليًا آخر، فلما آنسوا منه لينًا وضعفًا، عزلوه وولوا عليهم أحمد بن قرهب. والحقائق التي نستطيع جمعها عن هذا الوالي الجديد تصوره رجلا بعيد الطموح، ولكن يشك في بعد نظره، كان يفهم طبيعة الصقليين فهمًا تامًا، ويعرف أن العنصر الصقلي قد قوي إلى حد لا يستطاع إخضاعه أو قهره بالعسكر الصقلي نفسه، إذ كان من السهل أن يتفاهم الشعب والجيش على خصومه الوالي الأجنبي عنهم. وكان يعلم أن أهل بلرم خاذلوه دون اكتراث كثير لأيمان أو عهود، ومع ذلك فقد قام بعدة محاولات فيها ما يناقض هذا الفهم، فأسرع بنفسه إلى الهاوية ووقع فريسة لتقلب الصقليين.

حاول ابن قرهب أن يغير العاصمة فأرسل ابنه إلى طبرمين ليفتحها ويجعلها حصنًا يأوى إليه هو وأبناؤه وعبيده وأمواله، ونسى أن طبرمين امتنعت على كل قائد من قبله، وغفل كذلك عن أن طبرمين في منطقة مسيحية لا تتجاوب معه في العواطف، وأنها لا تصلح حتى أن تكون ميناء يهرب منه إلى المشرق. وعند أسوار طبرمين ثبت لابن قرهب فعلا أن الجند الصقلي كان قد أصبح أداة فاسدة، إذ اختلفوا على ابنه أثناء الحصار وكرهوا طول الإقامة، واحرقوا خيمته، وكادوا يفتكون به، لولا أن حماه العرب. وحماية العرب له تدل على أن ابن قرهب كان قد انحاز إلى الفئة القليلة ولم يكن ذلك يرضى الصقليين.

ثورة ابن قرهب على العبيديين بصقلية
والظاهر أن ابن قرهب لم يكن في بادئ الأمر يفكر في الخروج على المهدي، وشاهد ذلك أنه كتب إليه القول: "إن أهل صقلية يكثرون الشغب على أمرائهم ولا يطيعونهم، وينهبون أموالهم، ولا يزول ذلك إلا بعسكر يقهرهم ويزيل الرياسة عن رؤسائهم". فمثل هذا القول يدل على إخلاصه النصح للخليفة العبيدي، ولا ندري ما الذي غيره عن هذه الطريقة فإذا به يستميل أهل صقلية، ويقنعهم بالثورة على المهدي والدعوة لبني العباس، وإذا هو يطمئن إلى الصقليين وينسى سرعة تقلبهم. وإجابة الناس إلى طاعة المقتدر فخطب له بصقلية وقطع خطبة المهدي. وكتب إلى المقتدر ببغداد أن يكون داعيًا له وقائمًا بأمره بجزيرة صقلية، فأنفذ المقتدر ذلك له، وبعث إليه بألوية سود وخلع سود وطوق ذهب، ولما وصل إليه ذلك سُر به، وأظهر الحزم والجد في أمره.

وبدأ بالمقاومة العملية، فأحرق أسطول المهدي بمرسى لمطة وقتل قائده وأسر من أصحابه نحو ستمائة رجل، وبلغ الأمر عبيد الله فأرسل جيشًا يدافع عن الأسطول، ظنًّا منه أنه لا يزال يمكن إنقاذه، فظفر ابن هرقب بأصحابه وغنم ما معهم. ثم اتسعت خطة ابن هرقب فأراد أن يغزو المهدي في عقر داره فبعث بأسطول إلى أفريقية، ولكن أسطول المهدي انقض عليه، وأخذ مراكبه، وطارت أحلام ابن قرهب في لحظة.

واستيقظ أهل صقلية من سحر ابن قرهب، ورأوا أن الوقت حان لإعلان العصيان، وكان البادئ بذلك أهل جرجنت فكتبوا إلى المهدي، وتبعهم في ذلك أهل البلاد الأخرى، وثارت صقلية كلها على ابن قرهب ودعوته العباسية، ولم تنفعه خلع المقتدر وألويته. وحاول مداراة أهل البلد وملاينتهم فلم تثمر محاولته، ثم فكر في النجاة إلى الأندلس واكترى مراكب وشحنها متاعًا، فحال أهل صقلية بينه وبين ما أراد، وانتهبوا ما كان له، وأسروه هو وابنه وقاضيه ابن الخامي. وبعثوا بهم إلى المهدي فقتلهم وصلبهم، وانتهت بذلك هذه الحركة الخطيرة.

ولاية سالم بن أبي راشد
ولم يكن أهل صقلية جادين في تحولهم نحو العبيديين، كانوا يريدون الخلاص من ابن قرهب فتم لهم ذلك، ثم أرادوا أن تكون الحكومة في أيديهم وأن لا يكون المهدي إلا اسم، فأرسلوا يطلبون منه واليا وقاضيًا، ويظهرون عدم احتياجهم إلى رجال أو مدد، ويشترطون شروطًا خاصة، وكانوا ينوون من ذلك أن تظل المبادرة في أيديهم، وأن يتحكموا في الوالي كيفما طاب لهم، ولكن ابن قرهب لم يمت قبل أن يفضي للمهدي بسر حالهم، وعرف المهدي كيف يؤدبهم، فجهز إليهم جيشًا من الكتاميين أنصاره الخلص، وأخرجهم في أسطول فأظهرت بلرم الامتناع، فحاصرها القائد بجيشه وقتل جملة من أهلها، وأحال كتامة على من ألفى في أرباض المدينة من النساء والذرية فعبثوا بهم وافترع الجواري الأبكار. وعندئذ طلب أهل صقلية الأمان ودفعوا للقائد العبيدي المحرضين على الفتنة، فآمنهم وهدم سور مدينتهم وأخذ سلاحهم وخيلهم وضرب عليهم مغرمًا، وبعث بمن أخذ منهم إلى عبيد الله في مراكب فانكفأت بهم في البحر. وأتاه كتاب من المهدي يأمره بالعفو عن العامة.

وولي صقلية سالم بن أبي راشد وجعل له حراسًا من كتامة. وكان سالم مثال الوالي الظالم العسوف، فعهد بحكم المدن إلى ولاة غلاظ قساة، وحاق بالناس ظلم أخرجهم عن طورهم وأدى بهم إلى الاستماتة في مقاومة ذلك العسف، فثارت جرجنت واقتدت بها بلرم، فأرسل سالم إلى الخليفة القائم يعرفه أن أهل صقلية خرجوا عن طاعته وخالفوا عليه.

ولاية خليل بن إسحاق
فأمده بجيش على رأسه خليل بن إسحاق. واستقبل الناس خليلًا بالشكوى، وخرج إليه النساء والصبيان يبكون ويشكون، حتى رق الناس لهم وبكوا لبكائهم. وتذمروا من سالم وسياسته، وظنوا أن الخلاص سيكون على يدي خليل، ولكن سرعان ما كذبتهم الظنون، فإن سالم بن أبي راشد خلا بهم وأفهمهم أن خليلًا جاء لينتقم منهم بمن قتلوا من عسكره، وتحقق لديهم صدقه حينما أخذ خليل يهدم أسوار بلرم، ويبني عند المرسي مدينة ويحصنها، وهي التي سماها "الخالصة"، وأرهق الناس في أعمال البناء، فخاف أهل جرجنت، وحصنوا مدينتهم واستعدوا للحرب، فسار إليهم خليل سنة 326هـ / 936م وحاصرهم ثمانية أشهر ولم يخل يوم واحد فيه من القتال، ولما حل الشتاء رحل عنهم إلى الخالصة.

وسعى أهل جرجنت فألبوا عليه المدن الأخرى، وفي السنة التالية ثارت جميع القلاع وأهل مازر. وكاتب الجرجنتيون ملك القسطنطينية يستنجدونه فأمدهم بالمراكب فيها الرجال والطعام. وفزع خليل ورأى أن صقلية تؤول إلى الانفلات من قبضة العبيديين فاستنجد بالقائم فأمده بجيش كبير، فأخذ يحاصر القلاع، حتى انقضت سنة 327هـ وضيَّق على جرجنت، وظل يحاصرها حتى سنة 329هـ، فسار كثير من أهلها إلى بلاد الروم، وتنصر أكثرهم، وطلب الباقون الأمان فأمنهم على أن ينزلوا من القلعة، فلما نزلوا غدر بهم وحملهم إلى المدينة، ولما سقطت زعيمة الثورة أذعنت سائر القلاع، وهدأت صقلية بعد أربعة أعوام قضاها خليل في حروب وحصار. ولما عاد إلى إفريقية أخذ معه وجوه أهل جرجنت وفي عرض البحر خرق بهم السفينة فغرقوا.

وذات يوم كان خليل في أحد المجالس وحوله جماعة من وجوه الناس، والحديث بينهم ينتظم ويفرق، ولما بلغ القوم الحديث عن صقلية قال خليل مفتخرًا: "إني قتلت ألف ألف بقول المكثر، والمقلل يقول: مائة ألف في تلك السفرة"، ثم قال: "لا والله إلا أكثر"؛ فرد عليه واحد من الجماعة بقوله: "يا أبا العباس لك في قتل نفس واحدة ما يكفيك".

فترة الفتن ثم ولاية الكلبيين على صقلية
بعد أن رحل خليل بن إسحاق ولي على صقلية محمد بن الأشعث وعطاف الأزدي، فى سنة 330هـ. فمات محمد بن الأشعث فى سنة 334هـ، واستقل عطاف الأزدي بالأمر إلى سنة 336هـ، فكتب إلى المنصور العبيدي الفاطمي يخبره بتحامل أهل صقلية وأن أمرهم يؤول إلى فساد، تمثل ذلك في بروز ظاهرة الرؤساء المحليين أصحاب المطامع، وفي مقدمتهم آل الطبري ومحمد بن عبدون ومحمد بن جنا زعماء المقاومة والشغب في بلرم، نتج عن ذلك دخول صقلية في فترة من الفتن والخلافات الداخلية، وقد استفاد البيزنطيون من ذلك فاحتلوا الطرف الشرقي من الجزيرة ولعدة سنوات.

وأمام ذلك استعمل المنصور العبيدي الفاطمي الحسن بن على بن أبى الحسين الكلبى سنة 336هـ / 947م، وكان مكينًا عند المنصور لمحبته ونصحه وتقدم خدمة سلفه لآبائه، فاستطاع الحسن بدهائه أن يقمع الشغب، فهابه الناس وخشي الروم في شبه الجزيرة الإيطالية سطوته فأدوا له الجزية. ومن هنا بدأت دولة الكلبيين المستقلة في صقلية.

من أهم المصادر والمراجع:
إحسان عباس: العرب في صقلية .. دراسة في التاريخ والأدب، الناشر: دار الثقافة، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1975م. ابن الأثير: الكامل في التاريخ. ابن خلدون، تاريخ العبر. النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب. ابن عذاري: البيان المغرب. أماري: المكتبة الصقلية.

:regards01::regards01::regards01:
 
آخر تعديل:
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

التاريخ الإسلامي في جزيرة سردانية

الموقع الجغرافي لسردانية:
جزيرة سَرْدانِيَة أو سَرْدِينيَة [1]؛ هي ثانى أكبر جزر البحر الأبيض المتوسط من حيث الحجم بعد جزيرة صقلية، وتُشكل أحد الأقاليم العشرين في إيطاليا، وهي واحدة من خمسة أقاليم منها تتمتع بالحكم الذاتي، وتقع بين إيطاليا، وإسبانيا، وتونس، وجنوب جزيرة كورسيكا.

الغزوات الإسلامية في جزيرة سردانية:
وقد غزاها المسلمون عِدَّة غزوات، وسكنوها على فترات مُتَقَطِّعة؛ حيث لم يَكَد المسلمون يستقرون بها في وقت من الأوقات إلا ويُسْرِع النصارى في استرجاعها.

فقد غزاها ولاة بني أمية على إفريقية المرة بعد المرة، وذكر الذهبي في العبر [2] أنها فُتِحت سنة 87هـ، ونَصَّ ياقوت الحموي على تَمَلُّك المسلمين لها في سنة 92هـ، على يد جيش أرسله موسى بن نصير [3]، وحاول الأغالبة فتحها عقب فتح صقلية [4]؛ حيث غزاها أسد بن الفرات رحمه الله تعالى، وكاد أن يفتحها، فلما كانت سنة 323هـ أخرج إليها المنصور بن القائم العُبَيْدِي، صاحب إفريقية، أسطولًا من المَهْدِيَّة، عُدَّتُه ثلاثون حربيًّا [5]، بقيادة يعقوب بن إسحاق، فمَرُّوا بجَنَوَة، ففتحوا المدينة، ثم أوقعوا بأهل سَرْدانِيَّة، وسَبَوا فيها، وأَحْرَقوا مراكب كثيرة، وأَخْرَبوا جَنَوة، وغَنِموا ما فيها [6].

سردينية في العهد العبيدي الفاطمي:
وكان قد اسْتَقَرَّ بها ولاة من قِبَل العبيديين لبعض الفترات، لكن الظاهر أن سيطرتهم عليها -أو على قواعد مُحَصَّنة فيها- في تلك الفترات كانت مُحْكَمة، حتى أن المُعِزَّ العُبَيْدِي المُلَقَّب بالخلافة قد نزل بها حوالي أربعة أشهر، وذلك في أثناء انتقاله إلى مَقَرِّ الحُكم الجديد للدولة الفاطمية في مصر، عقب توطئة جَوْهَر الصِّقِلِّي الأمور هناك، وبنائه مدينة القاهرة، فانتقل المُعِزُّ إلى سَرْدانِيَة، وأقام بها؛ ليجتمع رجالُه، وأتباعه، ومن يَسْتَصْحِبُه معه، واسْتَخْلَف على إفريقية بلكين ابن زيري بن مناد الصِّنْهاجِي [7].

سردينية في العهد الزيري:
وقد اتخذ حفيد بلكين المذكور: باديس بن المنصور بن بلكين الصِّنْهاجِي، صاحب إفريقية، الذي حكم بعد وفاة أبيه من سنة 386هـ إلى سنة 406هـ من الجزيرة سَكنًا له [8]. وهذا إن دَلَّ على شيء، فإنما يدل على شدة سيطرتهم عليها.

مجاهد العامري فاتح سردينية:
ثم غزا الجزيرة مُجاهِد العامري [9]، صاحب دَانِيَة [10]، وجُزُر البليار، مُنْطَلِقًا من تلك الجزر في سنة ست -أو سبع- وأربعمائة [11]، فغَلَب على أكثرها، وافتتح مَعاقِلها [12]، ثم اختلفت عليه أهواء الجُنْد، وجاءت أَمْداد الروم، وقد عزم مجاهد على الخروج منها؛ طَمَعًا في تَفَرُّق من يُشَغِّب عليه من جُنْده، فعاجَلَته الروم، وغَلَبَت على أكثر مَراكبه؛ إذ عَصَفَت الرِّيْح بها، وكسرتها على جزيرة سُمِّيَت فيما بعد بجزيرة الشهداء، وقتل العدو من المسلمين خلقًا كثيرًا، وأسروا آخرين، منهم: أخو مُجاهِد، وابنه علي [13]، وكان ذلك في نهاية العام الذي غزا مجاهد فيه الجزيرة [14].

وذكر الحِمْيَري في الرَّوْض المِعْطار [15] أن مُجاهدًا العامِري قد دخلها مرة أخرى سنة 409هـ، وافتتح أكثرها، وجَدَّد إحدى مدنها، فأصاب المسلمين فيها جوع ووباء، فخرج عنها بمن معه من المسلمين في سنة 410هـ، فهَدَم الروم بعد ذلك مدينته، قال: فهي اليوم خِرابَة [16].

والمشهور أن سَرْدانِيَة لم تُغْزَ بعد مُجاهِد العامري رحمه الله تعالى، ولكن يحيى بن تميم بن المُعِزِّ بن باديس، الصنهاجي، صاحب إفريقية، الذي اتَّسَم بالعقل، والشجاعة، ومَحَبَّة الفَتْح، كان قد بنى أُسطولًا ضَخْمًا، وغزا به جنوة، وسَرْدانِيَة، وضَرَب على أهليهما الجِزْيَة [17].

ملخص التواجد الإسلامي في سردانية:
ويذهب الدكتور علي المنتصر الكتاني رحمه الله تعالى [18] إلى أن إبراهيم بن الأغلب قد فتحها سنة 193هـ / 809م، وظَلَّت في يد الأغالبة، إلى أن وَرِثها عنهم العُبَيْدِيِّون سنة 296هـ / 909م، فبقيت في أيديهم إلى سنة 393هـ / 1003م حين استولى عليها الأمويون -يقصد من أهل الأندلس- ثم سيطر عليها النصارى، ثم حاول مُجاهِد العامِري استرجاعها سنة 405هـ / 1015م، ولكن محاولته باءت بالفشل، وهُزم جيشُه من الحِلْف النصراني المُكَوَّن من عدة دول [19].

ويرى أرشيبالد لويس [20] أن جزيرة سَرْدانِيَة لم تحتلها قوات إسلامية بالمعنى الصحيح، وأنها التزمت -وفقًا لتعبيره- جانب الحِياد في الصراعات الدائرة للسيطرة على مياه البحر المتوسط آنذاك، ويرى أيضًا أن ما يُقال في شأن سَرْدانِيَة يُقال في شأن جَزيرتي قبرص، وكورسيكا.

وقال الأمير شكيب أرسلان رحمه الله تعالى [21]: قيل لي: إنه يوجد في ولاية غالياري (كالياري) من سَرْدانِيَة قُرى أصل سكانها من العرب.

[1] هكذا ضبطها ياقوت في معجم البلدان (3/209).
[2] العبر (1/76).
[3] قال ياقوت: غزاها المسلمون وملكوها في سنة 92هـ في عسكر موسى بن نصير. انظر: معجم البلدان (3/209). والحقيقة أن تلك الغزوات كانت سريعة، وكانت بقصد الغنائم، والنِّكاية، وليس الاستقرار، ولكن مجاهدًا العامري كان يرمي إلى فتحها تمامًا، وجَعْلها مَوْطِنًا للإسلام. انظر: أطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس (ص295،294) مع التَّحَفُّظ على بعض عباراته.

وقد تحدث أرشيبالد لويس في كتابه القوى البحرية والتجارية في البحر المتوسط (ص166) عن إنشاء شارلمان لأسطول بحري ضخم، بلغ تعداده ألف سفينة، مما أدى إلى ازدهار قوة مملكته في البحر المتوسط، ووفر لقادته من القوات البحرية المتميزة ما جعلها أهلًا لمصارعة القوات البحرية الأندلسية في سبيل السيطرة على المياه الإيطالية -وكان ابنه بيبين نائبًا له على إيطاليا، واستطاع أسطول شارلمان أن يُحْرِز نصرًا كبيرًا تحت قيادة الكونت أمبورياس قرب جزيرة ميورقة عام 813م، ولم يقم الأسطول الأندلسي بعده -وفقا لما ذكره المؤلف المذكور-ـ بغارات على تلك الجزر حتى عام 838م. ولكن إطلاق أرشيبالد للقول بعدم وجود غارات في الفترة المذكورة في تلك المنطقة البحرية يَرُدُّه ما سننقله عن المسيو رينو قريبًا من وجود غارة على سردانية في عام820م.

وذكر رينو أيضًا أن في سنة 820م -وهو العام الذي توفي فيه الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل وتولى ابنه عبد الرحمن الثاني ويوافق في التاريخ الهجري سنة 206هـ- سار أسطول إسلامي من تركونة –بالأندلس- وغزا جزيرة سردانية، فجاء أسطول نصراني لأجل الدفاع عنها، فتغلب الأسطول الإسلامي، وأغرق المسلمون ثمانية مراكب للنصارى، وأحرقوا أيضا مراكب كثيرة. انظر: تاريخ غزوات العرب (ص144ـ146). وذكر أيضًا أن المسلمين غزوا الجزيرة في عهد محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الذي تولى سنة 858م بعد وفاة أبيه. انظر: تاريخ غزوات العرب (ص158).
[4] قال ابن الأثير في الكامل (4/272): وفي سنة خمس وثلاثين ومائة غزاها عبد الرحمن بن حبيب بن أبي عبيدة الفهري، فقتل من بها قتلاً ذريعًا، ثم صالحوه على الجزية، فأُخِذت منهم، وبقيت، ولم يَغْزُها بعده أحد، فعمرها الروم، ثم ذكر ابن الأثير غَزْوَها من قِبَل المنصور إسماعيل العُبَيْدي. وقوله: إنه لم يغزها أحد بعده قبل أن يذكر غَزْو المنصور العبيدي لها يُفيد أنها لم تُغْزَ بين هاتين الغَزْوَتين، وليس هذا بصحيح؛ فقد غزاها الأغالبة في ولاية زيادة الله الأغلبي بقيادة محمد بن عبد الله التميمي سنة ست ومائتين، أي قبل فتح صقلية، وقد ذكر ابن الأثير نفسه ذلك عند الحديث عن ولايته في حوادث سنة إحدى ومائتين (5/432)، وذكره أيضًا في حوادث سنة ست ومائتين (5/467)، ويضاف إلى ذلك: غزوة أسد بن الفرات رحمه الله تعالى لها عقب فتح صقلية، كما في ترجمة أسد من ترتيب المدارك؛ حيث قال بعد ذكره فتح صقلية: وكان أيضًا قد غزا سَرْدانِيَة، فأشرف على فتحها، وحَسَده بعض من كان معه، فانهزم،انتهى. وانظر أيضًا: تاريخ غزوات العرب لشكيب أرسلان (ص297) نقلًا عن عبد العزيز الثعالبي رحمه الله تعالى.
[5] هذا لفظ الذهبي في تاريخ الإسلام، والظاهر أن المراد به ثلاثون سفينة حربية، والله أعلم.
[6] انظر: العبر (2/18)، وتاريخ الإسلام للذهبي (24/30)، وتاريخ ابن الوردي (1/259)، والبداية والنهاية لابن كثير (11/206)، والقوى البحرية والتجارية لأرشيبالد لويس (ص235،234).
[7] انظر: وفيات الأعيان (5/227).
[8] انظر: الكامل في التاريخ (7/485)، وأعلام الزركلي (2/41)، وهو الذي صَرَّح باتخاذ باديس سردانية سَكنًا، والذي في الكامل أنه لما استقر في الأمر سار إلى سردانية، وأتاه الناس من كل ناحية للتعزية، والتهنئة. ولعل العُبَيْدِيِّين قد اتخذوا قواعد مَنيعة في سَرْدانية، دون محاولة السيطرة الكاملة على الجزيرة؛ فقد كانت لهم قواعد في كثير من الجُزُر والموانئ، ومنها: قواعد في سواحل سَرْدانِيَة، وكورسيكا. انظر: أطلس تاريخ الإسلام (ص290ـ292).
[9] هو أبو الجيش، مجاهد بن عبد الله، أو ابن يوسف، العامِري بالولاء، مؤسس الدولة العامرية في دانية، وجزر البليار، كان مولى لعبد الرحمن الناصر رُومي الأصل، ولد ونشأ بقرطبة، ورَبَّاه المنصور بن أبي عامر مع مَواليه، فنُِسب إليه ، وكان من أهل الأدب، والشجاعة، والمحبة للعلوم وأهلها، وكانت له هِمَّة، وجَلادة، وجُرأة، فلما جاءت أيام الفتنة، وتغلبت العساكر على النواحي بذهاب دولة بني أبي عامر، قصد هو فيمن تبعه الجزائر التي في شرق الأندلس، وهي جزائر خصب وسعة، فغلب عليها، وحماها، ولما استولت النصارى على سَرْدانية عاد مجاهد إلى الجزائر الأندلسية التي كانت في طاعته، واختلفت به الأحوال، حتى غلب على دَانِيَة، وما يليها، واستقرت إقامته فيها، وكان من الكرماء على العلماء، باذلًا للرغائب في استمالة الأدباء،وقد أَلَّف في العَروض كتابًا يدل على قوته فيه، ومن أعظم فضائله: تقديمه للوزير الكاتب أبي العباس أحمد بن رشيق، وتعويله عليه، وبسطه يده في العدل، وحُسْن السياسة، وكان موته بدانية في سنة ست وثلاثين وأربع مائة. انظر: جذوة المُقْتَبِس للحُميدي (ص352ـ354)، وبُغْيَة المُلْتَمِس للضبي (ص473،472)، والذَّخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام (5/22ـ24)، ومعجم الأدباء لياقوت (1/81،80)، والأعلام للزركلي (5/278)، وأطلس تاريخ الإسلام لحسين مؤنس (ص295،294).
[10] دانِيَة ميناء هام في شرق الأندلس يقوم في رأس مثلث بارز في البحر، وركناه الآخران هما لقنت، ومرسية، وقد استغل مجاهد العامري رحمه الله تعالى هذا الموقع الجغرافي الحيوي الذي سيطر عليه في جزر شرق الأندلس، فقام بغارات بحرية واسعة على كل شواطئ فرنسا وإيطاليا، مُنْطَلِقًا من جزر البليار، وسردانية إبَّان سيطرته عليها، ونجح في ذلك نجاحًا كبيرًا، حتى ذاع صِيْتُه، وصار اسمه رعبًا لكل بلاد سواحل أوروبا، وصارت له اليد الطُّولى في الحوض الغربي للبحر المتوسط. انظر: معجم البلدان (2/434)، والروض المعطار (1/232)، وأطلس تاريخ الإسلام (ص295،294).
[11] وقع في تاريخ ابن خلدون (1/254) أن ذلك كان في سنة خمس وأربعمائة.
[12] ليس في المصادر التاريخية ذكر لوجود الصنهاجيين في الجزيرة حين دخول مجاهد لها، مع أنه قد مَرَّ معنا أن باديس بن المنصور بن بلكين الصنهاجي، صاحب إفريقية، المتوفى سنة ست وأربعمائة، قد اتخذها قاعدة لحُكْمه، والملاحظ أن عام وفاته هو نفس العام الذي دخل فيه مجاهد الجزيرة، فلعل الروم قد استولوا على الجزيرة عقب وفاته، فجاء مجاهد لانتزاعها منهم، أو أن باديس المذكور كان قد رحل عنها قبيل وفاته، والمعروف في ترجمته أنه قد تُوفي فجأة، ودُفِن بالقيروان، فالله أعلم.
[13] انظر: فتوح مصر والمغرب لابن عبد الحكم (ص226،225)، والكامل لابن الأثير (4/272)، والمغرب في حلى المغرب لابن سعيد المغربي (2/401)، والروض المعطار للحميري (1/315،314)، وأعلام الزركلي (5/278).

[14] استغرق فَتْحُ مُجاهد للجزيرة نحو ثلاثة أشهر، حتى تَمَّ له فَتْح جميع الجزيرة، فأفزع ذلك الجمهوريات الإيطالية، ودعا البابا إلى حملة صليبية لإخراج المسلمين من الجزيرة، وتطوع الكثيرون في الحملة التي انطلقت في سنة ثمان وأربعمائة من الهجرة، وهذا يُفيد -بحسب هذه الرواية التي ذكرها الدكتور حسين مؤنس- أن سيطرة مجاهد على الجزيرة قد دامت ما يزيد على العام. انظر: أطلس تاريخ الإسلام (ص295). والمعروف أن النصارى استرجعوها في نفس العام كما مَرَّ، وعَبَّر عن ذلك ابن خلدون في تاريخه (1/254) بقوله: وارْتَجَعها النصارى لوقتها.
[15] (1/314).
[16] قال الدكتور حسين مؤنس في أطلسه (ص295): يقال: إنه عاد إلى غزو سردانية سنة 410هـ، ولكن ذلك غير ثابت،انتهى. ويذهب أرشيبالد لويس في كتابه القوى البحرية والتجارية في البحر المتوسط (ص314،313) إلى أن أسطول مجاهد العامري هاجم سردانية سنة 1015 م، وحاول احتلالها، وعاد بعد استيلائه على غنائم عظيمة، وأنه سار إلى سواحل إيطاليا، وأغار على مدينة لوني، وما حولها من المناطق الساحلية، وأن أهل جنوة وبيزا تعاونوا ضده، فهزموه قرب سردانية، وأخذوا في العام التالي يعملون على طرده من الجزيرة.
[17] انظر: الأعلام للزركلي (8/139). وليس في المصادر المتوفرة بين أيدينا ما يُعَضِّد كلام الزركلي المذكور أعلاه، ولكن وقع في المُغْرِب لابن عذاري أن يحيى بن تميم جَرَّد في سنة 503هـ من أُسْطوله خمسة عشر غُرابًا للغزو في بلاد الروم، فأُصيب منها ستة، وعادة البَقِيَّة إلى المَهْدِيَّة، وأن أسطول المهدية قد وصل في سنة 507هـ بسَبْي كثير من بلاد الروم، فسُرَّ بذلك يحيى بن تميم، والمسلمون، فالله أعلم.
[18] في كتابه المسلمون في أوروبا وأمريكا (ص155)، وعنه: الأقليات الإسلامية في أوروبا لسيد عبد المجيد بكر (ص105). وقد نقل المصدر الأخير عن الأول أن الحكم الإسلامي في الجزيرة قد دام أكثر من قرنين، وأن الإسلام انتشر خلالها في الجزيرة، وأن في نهاية الحكم الإسلامي لسَرْدانِيَة قد حَكَمَها أمراء مسلمون من أبنائها، ولكن التَّحالُف النَّصْراني المُكَوَّن من دولتي: بيزا وجنوة -والذي سيطر في النهاية على الجزيرة- قد قام باضطهاد المسلمين فيها، وشَنَّ حَرْب إبادة عليهم، فكَثُرت الهجرات الإسلامية منها، وخَلَت الجزيرة من المسلمين، انتهى مضمون المنقول، ولا يوجد في المصدر المنقول عنه بعض ما نَقَل، فلزم التنبيه.
[19] ذكر أرشيبالد لويس في كتابه القوى البحرية والتجارية في البحر المتوسط (ص371) أن تحالف من جنوة، وبيزا قد استولى بتشجيع من البابا لاون التاسع على جزيرة سردينيا سنة 1050م. وكان قد ذكر (ص322) أن أساطيل جنوة والبندقية هي التي أخرجت مجاهدًا من الجزيرة، ولعل هذا سبق قلم، فالمشهور بيزة، لا البندقية.
[20] القوى البحرية والتجارية في البحر المتوسط (ص237).
[21] تاريخ غزوات العرب (هامش ص141).
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

العبيديون الفاطميون في صقلية

كان فتح جزيرة صقلية ابتداء من سنة 212هـ / 827م أيام الأمير الأغلبي زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب ثالث أمراء دولة الأغالبة، وتم فحها كاملة في أيام إبراهيم بن أحمد الثاني 261هـ / 875م، وهو الذي عبر إلى قلورية وغزا جنوب إيطاليا حتى كسنته، فضلا عن فتح جزيرة مالطة سنة 256هـ / 870م في عهد الأمير محمد بن أحمد بن الأغلب الملقب بأبي الغرانيق. وتمكن الأغالبة من نشر الكثير من مظاهر الحضارة في تقدمهم إلى جنوب إيطاليا وفتح مدينة مسيني وباري وطارنت، وهددوا روما مرتين في سنة 229هـ وسنة 256هـ، ووصلوا حتى مصب نهر البو في شمال شرق إيطاليا. واستمرت دولة الأغالبة تحكم في أفريقيا و صقلية ومالطة إلى أن قضت عليها الدولة العبيدية الفاطمية سنة 296هـ / 909م، وورثت أسطولها وممتلكاتها في حوض البحر المتوسط.

سيطرة العبيديين على صقلية
طال عهد الشقاق والفتنة بصقلية عند تغير الحكومة في أفريقية بزوال دولة الأغالبة وقيام العبيديين، وربما كانت تلك الفتن المتكررة (300 - 327هـ) تعبيرًا عن محاولات للاستقلال، وشعورًا داخليًا من شيوخ الجزيرة بكرههم للتبعية لأفريقية، ولكنها لم تكن كذلك في كل مظاهر العصيان، بل كانت أحيانًا أخرى مسببة عن كره بعض الولاة للحكومة الشيعية الجديدة وميلهم بعواطفهم إلى الخلافة العباسية.

ومنذ هذا الحين نجد صقلية أولًا، وشمالي أفريقية ثانيًا، مسرحًا للتنافس بين الخلافتين العباسية والفاطمية، وكانت الفتن في أحيان أخرى نتيجة ظلم الولاة واعتبارهم صقلية كنزًا يغترفون منه ما يملأ جيوبهم وخزانة دولتهم بالمال. وضرب الصقليون في هذه الفترة أمثلة كثيرة في التقلب وعدم الثبات على حال، وفي فزعهم إلى العدو الخارجي يستغيثون به، كأنما كانت تسيرهم المصلحة العاجلة وحدها دون بعد في النظر، وسيظل هذا هو الداء العضال الذي تشكوه صقلية، بحكم موقعها، وسيكون هذا الداء سببًا في القضاء على السيادة الإسلامية في أرجائها.

ونستطيع أن نتصور التبعية المطلقة التي كانت تدين بها صقلية لأفريقية أيام الأغالبة، إذا عرفنا أن عبيد الله المهدي، حال تسليمه المقاليد، أرسل إليها بوال وقاض من قبله، ولا نعرف أنه حاول عندئذ أن يرى رأى صقلية في المسألة، ولا أنه حسب لامتناعها عليه حسابًا، فأعد لإخضاعها أسطولًا إن هي حاولت أن تقف موقف المعاند الجريء.

ولاية ابن قرهب على صقلية
ولم يثر الصقليون على أول ولاة المهدي، إلا حين أساء السيرة فيهم، واعتذروا إلى المهدي مما فعلوه فقبل عذرهم، وولى عليهم واليًا آخر، فلما آنسوا منه لينًا وضعفًا، عزلوه وولوا عليهم أحمد بن قرهب. والحقائق التي نستطيع جمعها عن هذا الوالي الجديد تصوره رجلا بعيد الطموح، ولكن يشك في بعد نظره، كان يفهم طبيعة الصقليين فهمًا تامًا، ويعرف أن العنصر الصقلي قد قوي إلى حد لا يستطاع إخضاعه أو قهره بالعسكر الصقلي نفسه، إذ كان من السهل أن يتفاهم الشعب والجيش على خصومه الوالي الأجنبي عنهم. وكان يعلم أن أهل بلرم خاذلوه دون اكتراث كثير لأيمان أو عهود، ومع ذلك فقد قام بعدة محاولات فيها ما يناقض هذا الفهم، فأسرع بنفسه إلى الهاوية ووقع فريسة لتقلب الصقليين.

حاول ابن قرهب أن يغير العاصمة فأرسل ابنه إلى طبرمين ليفتحها ويجعلها حصنًا يأوى إليه هو وأبناؤه وعبيده وأمواله، ونسى أن طبرمين امتنعت على كل قائد من قبله، وغفل كذلك عن أن طبرمين في منطقة مسيحية لا تتجاوب معه في العواطف، وأنها لا تصلح حتى أن تكون ميناء يهرب منه إلى المشرق. وعند أسوار طبرمين ثبت لابن قرهب فعلا أن الجند الصقلي كان قد أصبح أداة فاسدة، إذ اختلفوا على ابنه أثناء الحصار وكرهوا طول الإقامة، واحرقوا خيمته، وكادوا يفتكون به، لولا أن حماه العرب. وحماية العرب له تدل على أن ابن قرهب كان قد انحاز إلى الفئة القليلة ولم يكن ذلك يرضى الصقليين.

ثورة ابن قرهب على العبيديين بصقلية
والظاهر أن ابن قرهب لم يكن في بادئ الأمر يفكر في الخروج على المهدي، وشاهد ذلك أنه كتب إليه القول: "إن أهل صقلية يكثرون الشغب على أمرائهم ولا يطيعونهم، وينهبون أموالهم، ولا يزول ذلك إلا بعسكر يقهرهم ويزيل الرياسة عن رؤسائهم". فمثل هذا القول يدل على إخلاصه النصح للخليفة العبيدي، ولا ندري ما الذي غيره عن هذه الطريقة فإذا به يستميل أهل صقلية، ويقنعهم بالثورة على المهدي والدعوة لبني العباس، وإذا هو يطمئن إلى الصقليين وينسى سرعة تقلبهم. وإجابة الناس إلى طاعة المقتدر فخطب له بصقلية وقطع خطبة المهدي. وكتب إلى المقتدر ببغداد أن يكون داعيًا له وقائمًا بأمره بجزيرة صقلية، فأنفذ المقتدر ذلك له، وبعث إليه بألوية سود وخلع سود وطوق ذهب، ولما وصل إليه ذلك سُر به، وأظهر الحزم والجد في أمره.

وبدأ بالمقاومة العملية، فأحرق أسطول المهدي بمرسى لمطة وقتل قائده وأسر من أصحابه نحو ستمائة رجل، وبلغ الأمر عبيد الله فأرسل جيشًا يدافع عن الأسطول، ظنًّا منه أنه لا يزال يمكن إنقاذه، فظفر ابن هرقب بأصحابه وغنم ما معهم. ثم اتسعت خطة ابن هرقب فأراد أن يغزو المهدي في عقر داره فبعث بأسطول إلى أفريقية، ولكن أسطول المهدي انقض عليه، وأخذ مراكبه، وطارت أحلام ابن قرهب في لحظة.

واستيقظ أهل صقلية من سحر ابن قرهب، ورأوا أن الوقت حان لإعلان العصيان، وكان البادئ بذلك أهل جرجنت فكتبوا إلى المهدي، وتبعهم في ذلك أهل البلاد الأخرى، وثارت صقلية كلها على ابن قرهب ودعوته العباسية، ولم تنفعه خلع المقتدر وألويته. وحاول مداراة أهل البلد وملاينتهم فلم تثمر محاولته، ثم فكر في النجاة إلى الأندلس واكترى مراكب وشحنها متاعًا، فحال أهل صقلية بينه وبين ما أراد، وانتهبوا ما كان له، وأسروه هو وابنه وقاضيه ابن الخامي. وبعثوا بهم إلى المهدي فقتلهم وصلبهم، وانتهت بذلك هذه الحركة الخطيرة.

ولاية سالم بن أبي راشد
ولم يكن أهل صقلية جادين في تحولهم نحو العبيديين، كانوا يريدون الخلاص من ابن قرهب فتم لهم ذلك، ثم أرادوا أن تكون الحكومة في أيديهم وأن لا يكون المهدي إلا اسم، فأرسلوا يطلبون منه واليا وقاضيًا، ويظهرون عدم احتياجهم إلى رجال أو مدد، ويشترطون شروطًا خاصة، وكانوا ينوون من ذلك أن تظل المبادرة في أيديهم، وأن يتحكموا في الوالي كيفما طاب لهم، ولكن ابن قرهب لم يمت قبل أن يفضي للمهدي بسر حالهم، وعرف المهدي كيف يؤدبهم، فجهز إليهم جيشًا من الكتاميين أنصاره الخلص، وأخرجهم في أسطول فأظهرت بلرم الامتناع، فحاصرها القائد بجيشه وقتل جملة من أهلها، وأحال كتامة على من ألفى في أرباض المدينة من النساء والذرية فعبثوا بهم وافترع الجواري الأبكار. وعندئذ طلب أهل صقلية الأمان ودفعوا للقائد العبيدي المحرضين على الفتنة، فآمنهم وهدم سور مدينتهم وأخذ سلاحهم وخيلهم وضرب عليهم مغرمًا، وبعث بمن أخذ منهم إلى عبيد الله في مراكب فانكفأت بهم في البحر. وأتاه كتاب من المهدي يأمره بالعفو عن العامة.

وولي صقلية سالم بن أبي راشد وجعل له حراسًا من كتامة. وكان سالم مثال الوالي الظالم العسوف، فعهد بحكم المدن إلى ولاة غلاظ قساة، وحاق بالناس ظلم أخرجهم عن طورهم وأدى بهم إلى الاستماتة في مقاومة ذلك العسف، فثارت جرجنت واقتدت بها بلرم، فأرسل سالم إلى الخليفة القائم يعرفه أن أهل صقلية خرجوا عن طاعته وخالفوا عليه.

ولاية خليل بن إسحاق
فأمده بجيش على رأسه خليل بن إسحاق. واستقبل الناس خليلًا بالشكوى، وخرج إليه النساء والصبيان يبكون ويشكون، حتى رق الناس لهم وبكوا لبكائهم. وتذمروا من سالم وسياسته، وظنوا أن الخلاص سيكون على يدي خليل، ولكن سرعان ما كذبتهم الظنون، فإن سالم بن أبي راشد خلا بهم وأفهمهم أن خليلًا جاء لينتقم منهم بمن قتلوا من عسكره، وتحقق لديهم صدقه حينما أخذ خليل يهدم أسوار بلرم، ويبني عند المرسي مدينة ويحصنها، وهي التي سماها "الخالصة"، وأرهق الناس في أعمال البناء، فخاف أهل جرجنت، وحصنوا مدينتهم واستعدوا للحرب، فسار إليهم خليل سنة 326هـ / 936م وحاصرهم ثمانية أشهر ولم يخل يوم واحد فيه من القتال، ولما حل الشتاء رحل عنهم إلى الخالصة.

وسعى أهل جرجنت فألبوا عليه المدن الأخرى، وفي السنة التالية ثارت جميع القلاع وأهل مازر. وكاتب الجرجنتيون ملك القسطنطينية يستنجدونه فأمدهم بالمراكب فيها الرجال والطعام. وفزع خليل ورأى أن صقلية تؤول إلى الانفلات من قبضة العبيديين فاستنجد بالقائم فأمده بجيش كبير، فأخذ يحاصر القلاع، حتى انقضت سنة 327هـ وضيَّق على جرجنت، وظل يحاصرها حتى سنة 329هـ، فسار كثير من أهلها إلى بلاد الروم، وتنصر أكثرهم، وطلب الباقون الأمان فأمنهم على أن ينزلوا من القلعة، فلما نزلوا غدر بهم وحملهم إلى المدينة، ولما سقطت زعيمة الثورة أذعنت سائر القلاع، وهدأت صقلية بعد أربعة أعوام قضاها خليل في حروب وحصار. ولما عاد إلى إفريقية أخذ معه وجوه أهل جرجنت وفي عرض البحر خرق بهم السفينة فغرقوا.

وذات يوم كان خليل في أحد المجالس وحوله جماعة من وجوه الناس، والحديث بينهم ينتظم ويفرق، ولما بلغ القوم الحديث عن صقلية قال خليل مفتخرًا: "إني قتلت ألف ألف بقول المكثر، والمقلل يقول: مائة ألف في تلك السفرة"، ثم قال: "لا والله إلا أكثر"؛ فرد عليه واحد من الجماعة بقوله: "يا أبا العباس لك في قتل نفس واحدة ما يكفيك".

فترة الفتن ثم ولاية الكلبيين على صقلية
بعد أن رحل خليل بن إسحاق ولي على صقلية محمد بن الأشعث وعطاف الأزدي، فى سنة 330هـ. فمات محمد بن الأشعث فى سنة 334هـ، واستقل عطاف الأزدي بالأمر إلى سنة 336هـ، فكتب إلى المنصور العبيدي الفاطمي يخبره بتحامل أهل صقلية وأن أمرهم يؤول إلى فساد، تمثل ذلك في بروز ظاهرة الرؤساء المحليين أصحاب المطامع، وفي مقدمتهم آل الطبري ومحمد بن عبدون ومحمد بن جنا زعماء المقاومة والشغب في بلرم، نتج عن ذلك دخول صقلية في فترة من الفتن والخلافات الداخلية، وقد استفاد البيزنطيون من ذلك فاحتلوا الطرف الشرقي من الجزيرة ولعدة سنوات.

وأمام ذلك استعمل المنصور العبيدي الفاطمي الحسن بن على بن أبى الحسين الكلبى سنة 336هـ / 947م، وكان مكينًا عند المنصور لمحبته ونصحه وتقدم خدمة سلفه لآبائه، فاستطاع الحسن بدهائه أن يقمع الشغب، فهابه الناس وخشي الروم في شبه الجزيرة الإيطالية سطوته فأدوا له الجزية. ومن هنا بدأت دولة الكلبيين المستقلة في صقلية.

من أهم المصادر والمراجع:
إحسان عباس: العرب في صقلية .. دراسة في التاريخ والأدب، الناشر: دار الثقافة، بيروت – لبنان، الطبعة: الأولى، 1975م. ابن الأثير: الكامل في التاريخ. ابن خلدون، تاريخ العبر. النويري: نهاية الأرب في فنون الأدب. ابن عذاري: البيان المغرب. أماري: المكتبة الصقلية.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

التاريخ الحربي لبلاد المغرب العربي

كان المغاربة القدماء في جاهلية جهلاء وعيشة نكراء، لا يعرفون من الحياة الإنسانية إلا ما تطورت إليه عقولهم، أما من الناحية الحربية فإنهم كانوا ميالين إليها كثيرا، باعتقادهم أن الشرف والفخر هو الموت في ساحات الوغى، وقد اتصفوا بنفورهم الشديد من الأجانب، وهذه الخاصية هي التي جعلتهم لا يعرفون من الحياة الإنسانية إلا ما تدركه عقولهم البسيطة، رغم مقام الفينقيين والقرطجنيين والرومانيين بينهم، ولما جاء الله بالعرب الفاتحين صارعوهم في أول الأمر وظنوا أن هؤلاء قصدهم النهب واستعباد السكان، وبعد صراع عنيف دام أكثر من مائة سنة، أذعنوا لهم وتناسوا الردة والوثنية وتم استقرار الإسلام ببلاد المغرب.

الجيش عهد الفتح الإسـلامي للمغرب:
أسلم المغاربة، وتقوت روابط التعارف والإخاء بينهم، كلمة واحدة ألف بين قلوبهم الإسلام، وكان من الضروري أن ينسجم بينهما جيش مسلم عربي لا يفرقه نسب ولا لغة ولا وطن، وكان موسى بن نصير أول من سهل السبيل إلى استخدام تجنيد البربر في صفوف جيوش العرب في غزوه لبلاد أوربا، وكانت هذه هي أول خطة في مشاركة جند البربر العرب في فتوحاتهم عند ما كان المغرب تابعا للخلافة الإسلامية في الشرق العربي، ولما وفد عليه إدريس بن عبد الله الأكبر، استقل عن الخلافة الإسلامية، واستقل جنوده بأمرهم منذ ذلك الحين في ظل العروبة والإسلام.

الجيش في عهد دولة الأشراف الأدارسة:
إذا أردنا أن نعرف الجيش في عهد دولة الأشراف الأدارسة، وما عسى أن يكون قد عرف به إذ ذاك من الأنظمة، فإننا لا نستطيع أن نعثر على شيء من ذلك في هذا العهد، اللهم إلا في العصور المقبلة كما سنرى في عهد دولة الموحدين والمرينيين والسعديين، وبالأخص في عهد العلويين، حيث استطاع الجيش أن يعرف التنظيم الكلي، ولاسيما في عهد الإمبراطور العظيم مولاي إسماعيل، فلم يكن بدولة الأدارسة جند منظم وخصوصا بعدما تفرق أبناء إدريس الثاني. وإنما كانت هناك قبائل متفرقة في أول الأمر تعمل لمصلحتها، وكل واحدة تتزعم ولا ترضى الخضوع لغيرها، فجاء المولى إدريس الأكبر وعمل جهده لتوحيد هذه القبائل، وتم ذلك بعون الله، وظلت هذه القبائل ملتفة مع بعضها إلى أن جاء أيضا المولى إدريس بن إدريس.

وبالإيجاز فإن الجيش وإن لم تكن له في هذا العهد أسس ثابتة، فإن إجاده على الصورة السالفة الذكر لم يكن له من غرض سوى التضحية في سبيل المثل العليا التي كانت حينئذ تنحصر في إعلاء شأن دين الله، وإقامة شريعته، وهذا لا يحتاج إلى تدليل، فالمعروف أن ملوك هذه الدولة كانوا يجندون مواهبهم، وما أتيح لهم من حول وطول لنشر الدعوة الإسلامية وتركيزها في هذه البقاع.

الجيش في عهد المرابطين:
إذا ما انتقلنا إلى عهد المرابطين فنجد أن الجندي المغربي استطاع أن يتوفر على شيء من حسن النظام مما لم يتوفر عليه سلفه في عهد دولة الأدارسة، ذلك أن عبد الله بن ياسين قد عمل جاهدا على تقوية الجيش وإعداده بالأسلحة والمعدات اللازمة بعد أن رفع معنويته، وبث فيهم روح التضحية والتفاني في سبيل العقيدة. ومن هنا نرى أن مهمة تنظيم الجيش كانت تقوم حينئذ على عنصرين هامين:

1- إعداده من الناحية النفسية والمعنوية.

2- إعداده بالسلاح والعتاد اللازم لذلك.

وإذا كان الغرض من تكوين الجيش في هذا العهد هو نشر الدين وإقامة حكم الله في الأرض كما كان الأمر في عهد دولة الأدارسة، فإن أهم ما كان يمتاز به هذا الجيش هو العقيدة الصالحة والإيمان الراسخ والثبات على المبدأ والتضحية الكاملة. هذا ولم يكد عبد الله بن ياسين ينتهي من إعداد الجيش نفسيا وحربيا حتى وجه عنايته إلى الغزو والفتح، فتم له بذلك احتلال قبائل صنهاجة أولا ثم قبائل لمتونة ومسوفة، ولما استقر له الأمر أخذ في اشتراء الأسلحة وتوسيع دائرة الجيش بما أضافه إليه من أبناء هذه القبائل. وهكذا ظل هذا الجيش في سيره ألى أن جاء القائد العظيم يوسف بن تاشفين، حيث قد ظهرت براعته العظيمة في موقعة الزلاقة الشهيرة الذي انتصر فيها انتصارا حاسما.

الجيش في عهد الموحدين:
اطرد تنظيم الجيش بصورة جدية فأصبح في عهد دولة الموحدين مضاهيا لجيوش الدول الراقية إذ ذاك، إن لم نقل أنه كان يفوقها في العدد والعتاد وحسن النظام. فقد رأينا أن المهدي ابن تومرت مؤسس هذه الدولة يظهر المزيد من العناية والنشاط في إحاطة الجيش المغربي بمظاهر القوة والعظمة، فقد جعله ألوية تابعة لعشرة من أركان الحرب، وبعد هؤلاء العشرة قواد آخرون كانوا يسمون بأهل الخمسين، ثم بعدهم قواد أقل رتبة منهم يسمون بأهل السبعين. والباحث في تاريخ الجيش سيقف لا محالة على أنه ضم في هذا العهد فرقا من اللفيف الأجنبي، فقد كانت هذه الفرق مكونة من الزنوج والفرس والأكراد والنصارى، إلى جانب الفرق التي كانت تتكون من أهالي البلاد كقبائل هرغة وتنملال وجرميوت وهنتاته وزناتة، وإلى هذه القببلة ينتسب أعظم حربي عرفه التاريخ في ذلك الوقت وهو عبد المؤمن بن علي الكومي، ويقال إنه لما تولى الخلافة انتهى عدد جيشه إلى 600.000 ألف جندي والأساطيل البحرية تقدر بأربعمائة سفينة حربية.

ثم جاء عهد يعقوب المنصور الذي عرف فيه الجيش الجند المنظم، حيث ضم جميع القبائل التي كانت على عهد عبد المومن إلى جانب الفرس والزنوج والأكراد والنصارى والقبائل التونسية والجزائرية وهي بني حسن والخلط والسويد وشبانة وصبائح ورياح من الهلالية وكانت معاقلهم بضواحي مراكش، وكان أسطول المنصور من أعظم أساطيل العالم، وما موقعة الأرك الكبرى التي التقى الجيشان فيها جيش الإسلام وجيش النصارى إلا برهان ساطع على قوة جيش المغاربة وعظمته. فقد جهزه المنصور في هذه الموقعة أحسن جهاز.

أما في عهد محمد الناصر لدين الله الموحدي فإن الجيش أخذ في تضعضعه بسبب الخيانة التي جرت في بعض قواده، حيث اضطر أخيرا محمد الناصر لدين الله أن يقتل كثيرا من رؤساء الجيش، وخصوصا عندما انهزم في موقعة العقاب.

الجيش في عهد المرنيين:
ولم يكد المغرب يحس بفقدان دولته الموحدية الرشيدة حتى أعلنت دولة بني مرين ودامت أكثر من ثلاثة قرون، كان خلالها الجيش يسير متناسق التنظيم ذات سلطات محددة واضحة الاختصاص، وهذا كله يرجع إلى الجهود المضنية التي بذلها يعقوب بن عبد الحق للجيش، فقد أمكن إجراء كل صور الإصلاح في تجنيد الأفراد وتنظيم إقامتهم. ومما لاشك فيه أن هذه الجهود المبذولة لتنظيم بناء الجيش كان لها صداها ومظهرها الواضح في كل الميادين، ففي فتح سجلماسة والجوازات الأربعة التي قام بها يعقوب إلى غزو المسيحيين في بلاد الأندلس وجه كل عنايته إلى تكوين جيش مدرب بعزم فائق وبدرجة كبيرة في استخدامه.

الجيش في عهد السعديين:
وجاء عصر السعديين، وفي أول عهدهم ظهر الجيش السعدي ضعيفا أمام القوة الأجنبية كقوة إسبانيا والبرتغال وتركيا، ولكنه كان لا يزال يأخذ شكل الجيش المنظم، وبدأ يقوى شيئا فشيئا إلى أن صار عظيما أيام السلطانيين عبد الملك المعتصم وأخيه أحمد المنصور الذهبي. وإذا التمسنا مظاهر التجديد في هذه الدولة نرى أنها كانت من حيث التنظيمات العسكرية بارزة، وهذه التنظيمات كانت مقتبسة من الأعاجم والأتراك، وقد ندرك من هذا التجديد أن في العصور السالفة كانت التنظيمات العسكرية محافظة على نظامها القديم، ولما جاء هذا العصر أصيحت تلك التنظيمات لا محل لها من البقاء؛ لأن اكتشاف عالم جديد ووجود دول غربية يومئذ بمظهر مبنى على الأصوزل العلمية والاختيارات الفنية هي التي عجلت بتغيير النظام القديم.

ومن شواهد ذلك أن السلطان عبد الملك المعتصم جال وساح وأخذ أصول الجندية الجديدة، حيث رتب جيشه بترتيب الدول الأوربية، وألقى نهائيا النظام القديم، ولما جاء أحمد المنصور الذهبي أعاد التنظيم العربي إلى محله حيث ألف ما بين سيرتي العرب والعجم.

الجيش في عهد دولة الأشراف العلويين:
وعاد للمغرب مجده وعظمته ويرجع الفضل في ذلك إلى مولاي إسماعيل الملك العظيم الذي وطد أركان الدولة، وأول عمل قام به في عهده هو تنظيم الجيش باستدعاء أول قبيلة له "مجفرة" العربية وهي بطن من أدابة كانت تسكن بلاد السوس. وقد اعتنى كثيرا بهذا الجيش حيث فرض التجنيد الإجباري وقصره على الجيش النظامي المخزني، وانتهى عدده إلى 000 150 ألف جندي. ولما توفي هذا الملك العظيم عمت الفوضى في جميع أنحاء المغرب وشاهد المغاربة من المصائب والأهوال ما تقشعر منه النفوس، إذ أصبح جيش البواخرة يتصرف في أمور الدولة كيف يشاء، حتى أنه قام بتولية وعزل أربعة عشر سلطانا، تردد خلالها المولى عبد الله على العرش سبع مرات، وهذا كان ملكا قويا لم يرض أن يكون خاضعا للبواخرة ولا لغيرهم فكان بينه وبينهم صراع عنيف، أدى في الآخر إلى تغلبه عليهم وإضعافهم.

وجاء بعده الإمام المجتهد سيدي محمد بن عبد الله الذي استطاع بشدته وقوته أن يمسك زمام القبائل التي كانت على عهد الملك مولاي إسماعيل. أما في عهد مولاي اليزيد بن محمد، ومولاي سليمان بن محمد ومولاي عبد الرحمن بن هشام فقد أخذ المغرب يرجع إلى الوراء وإلى الجهل والتأخر، فلم يكن هؤلاء يهتمون بالجيش ونظام الدولة كما كان أجدادهم الأولون، ويظهر من هنا أن المغرب أخذ يفقد استقلاله التام.

وفي عهد السلطان مولاي الحسن عاد إلى هذا الجيش شبابه ونشاطه وحيويته، فقد اهتم اهتماما كبيرا بتنظيمه زيادة على ما كان في حياة أبيه، فكان يباشر عرضه وترتيبه بنفسه حتى اسطاع بفعاله المجيدة أن يحول المغرب من أمة مهملة إلى أظهر دولة في شمال إفريقيا.

وقبيل الحماية بقليل وفي عهد السلطان مولاي عبد العزيز أخذ الجيش في تضعضعه، وكان وزير الحربية آنذاك المنبهي وهو رجل ذو أهواء لم يستطع التغلب على الثورة التي قام بها (أبوحمارة الجيلالي)؛ لأن يد الخيانة كانت تعمل في جيشه، وعلى أثر ذلك قامت حركة معارضة للسلطان أدت إلى تنازله عن العرش لأخيه مولاي عبد الحفيظ الذي كان فيما قبل خليفته على مدينة مراكش. ولما تولى الملك عرض عليه المغاربة شروطا كثيرة فقبلها كلها، ولكنه وجد نفسه غير قادر على تنفيذ مطالب المغاربة، ولم يستطع أن يعمل شيئا في هذه الظروف الحرجة، فكثرت عليه الاعتراضات من طرف زعماء المغرب، ثم وقعت ثورة الجيش على رؤسائه بفاس وعمت الفوضى في جميع أنحاء المغرب، حيث تحطم الجيش نهائيا ولم يبق له إلا تلك الصفة التي تميز بها بحكم الوراثة، وأصبحت الدولة المغربية لا شأن لها به.

مجلة دعوة الحق، العدد 30، رمضان 1404هـ / أكتوبر 1984م.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

الفتح الإسلامي لبلاد البرتغال(1)

البرتغال قبل الفتح الإسلامي:
كانت البرتغال قبل الفتح الإسلامي تعرف ببلاد (لوزيتانيا)، وقد خضعت للحكم الروماني منذ سنة (137 ق.م)، وطبعت بطابعهم الحضاري والديني واللغوي والمعماري، ووفرت القلاع الرومانية الأمن والنظام لجميع أنحاء البلاد، وأجبروا سكان المرتفعات على أن يستقروا في المناطق المنخفضة، وتجمع السكان خلال تلك الفترة في الولايات البرتغالية اليوم:
EMERITENSIS-BARACARENSIS- LUCENSIS.

وفي بداية القرن الخامس الميلادي، وقعت في قبضة إحدى القبائل الجرمانية (السويف)، الذين صادروا بيوتات وثروات اللوزيتانيين -الرومان (LUSIO-ROMAN)، وسيطروا على الكثير من الحقول الغنية والمزارع في المنطقة (ويخبرنا المؤرخ "OROSIUS" أن السويف قد حولوا سيوفهم إلى محاريث، فزرعوا الأرض حسب شروط واتفاقات جيدة مع الفلاحين اللوزيتانيين - الرومان) [1].

لقد أنشأ السويف دولة قائمة على أسس قومية مستقلة ذات نظام ملكي وراثي، وأثروا تأثيرا حضاريا كبيرا في الشعب اللوزيتاني القديم. وهكذا تأثرت كل من الزراعة والصيد والبحرية والبناء والأسلحة والحرب والسياسة والموسيقى والفولكلور والعادات، وبقية مظاهر الحياة الأخرى بالسويف الذين امتزجوا كليا بسكان البلاد الأصليين. وفي سنة (576م) احتل البيزنطيون جنوبي البرتغال الحالية، وبعض المناطق الأخرى مثل: (ALENTEJO) ومدينة (MYRTILIS) التي كانت أحد المواقع العسكرية المهمة للسويف، وفي سنة (585م) توحدت مملكة السويف مع مملكة القوط الغربيين بعد إجراء عسكري من قبل الملك القوطي (LEOVIGILD) الذي استدعي من طرف إحدى جماعات السويف لغرض تثبيت سيطرتها على بقية الفئات. ومع هذا فقد احتفظت مملكة السويف بسلطاتها ومنظماتها القومية والدينية على الرغم من القوة المركزية لمجالس طليطلة عاصمة القوط الغربيين. وفي سنة (621م) سيطر القوط الغربيون على جنوبي البرتغال الذي كان تحت النفوذ البيزنطي [2].

تاريخ الفتح الإسلامي للبرتغال:
شكلت البرتغال جزءا من تاريخ إسبانيا الإسلامية أو الأندلس الكبرى، فقد كانت ضمن المناطق التي شملها الفتح العربي لشبه الجزيرة الإيبيرية، وذلك بعد حرب عنيفة وجهد متصل (دام أربع سنوات إلا أشهرا (بدأ الفتح في رجب 92هـ وانتهى في أوائل 96هـ). وقد فتح المسلمون خلال تلك السنوات القلائل هذه الجزيرة الضخمة من أقصى الجنوب إلى جبال البرت وشاطئ البحر في الشمال ومن مالقة وطركونة في الشرق إلى قلمرية وأشبونة في الغرب، واستولوا فيها على سهول الجنوب وعلى مرتفعات قشتالة ونواحي الجوف (اكستريمادورا) القاحلة، ولم يغادروا بلدا عظيما أو حصنا مهما إلا رفعوا عليه راية الإسلام، وأدخلوه في حوزة الدولة الإسلامية الكبرى) [3].

وكان المسلمون حينما فتحوا نواحي الغرب سنة (97هـ / 716م) قد قبلوا من أهل قلمرية (صلحهم وأقروا البلد على حاله، وأقام عبد العزيز بن موسى بن نصير عليه حاكما عربيا تسميه وثيقة لاتينية:
ALBOACEM IBN MAHAMAT ALHAMAR IBN TARIF""

وربما كانت صحة الاسم العربي أبا عاصم بن محمد الأحمر بن طريف في سنة (97هـ / 716م). وكانت المدينة إذ ذاك عامرة وبها كنيسة كبيرة فأقام خلفه ابنه (أتانا جيلدو) (ATANAGILDO) وأعقبه ابنه (قيودوس) (THEODUS)، وأقام على الأسقفية قسّاً يسمى (لوربان) (LORBAN). واستمر أمر البلد على هذا الحال من الاستقلال تحت السيادة الإسلامية العليا حتى سقطت في يد النصارى سنة (450هـ / 1058م)، وحول هذا البلد تكونت فيما بعد إمارة البرتغال وحلت محل ولاية لشدانية (لوزيتانيا) الرومانية، وإنما أشرنا إلى ذلك لنضع أيدينا على أوائل فتح المسلمين للبرتغال وحكمهم إياها) [4].

البرتغال في العهد الإسلامي:
وقد عرفت البرتغال في العهد الإسلامي باسم الغرب أو باسم (كور) أو مدن واقعة فيه كأشبونة (لشبونة اليوم) التي كانت جزءا من كورة (باجة) ثم أصبحت كورة مستقلة تتبعها: شنترين، وشنترة، والمعدن [5] وبلمانة، وقصر أبي دانس، وإلى الشمال منها كانت كورة قلمرية (COIMBRA اليوم) حتى نهر دوير، أي أن كل أراضي البرتغال الحالية.

(وكان العرب هم الذين أطلقوا اسم (برتغال) على شمال هذه المنطقة، سموها باسم المدينة الواقعة على مصب نهر دويرو في المحيط الأطلسي، وهو تعريب لاسمها اللاتيني القديم (PORTOCALE)، وقد اختصر الاسم فأصبح (PORTO) (الميناء)، بينما اصطنع البرتغاليون الاسم الذي أطلقه العرب على المنطقة الشمالية فوسعوا دلالته إلى بلادهم كلها بدلا من الاسم القديم (لوزيتانيا)) [6].

ولأبي عبيد البكري نص تفصيلي ومهم للتقسيم الإداري لإسبانيا, وجعلها ستة أجزاء وخص أراضي البرتغال (اليوم) القسم الخامس (قاعدة مدينة ماردة), وأضاف إليها اثنتي عشرة مدينة ذكر منها عشرًا وهي: باجة - أكشونية – يابرة – شنترة – شنترين – الأشبونة – قلمرية - قورية – شلمنتقة = سلامنكا – صمورة [7].

ويذكر محمود علي مكي أن معظم العرب الذين نزلوا بتلك الكور الغربية ينتمون إلى قبائل زهرة وثقيف من العرب العدنانية، وإلى أوس والقبائل الحضرمية من عرب اليمن. كما ساكن هؤلاء عدد من القبائل البربرية من صنهاجة وكتامة ونفزة ومصمودة وهوارة، وقد بقي الكثير من أسماء هؤلاء ماثلا حتى اليوم في أسماء مدن البرتغال وقراها [8].

وقد ذهب (سيزار دوبلر) في بحث قيم عن (منازل البربر في الأندلس) يبحث عن أسماء المواضع الإسبانية التي يمكن ردها إلى أصل بربري، واستنتج من هذه الأسماء أن البربر لا بد أن يكونوا قد سكنوها وأعطوها أسماءهم. واستطاع بذلك اكتشاف الكثير من منازل البربر مما لم يسجله المؤرخون، ونذكر منها ما يتعلق بالبرتغال الحالية وهي [9]:

- نسبة إلى بربر وهران - VILLA NOVA DEOUREM

- نسبة إلى بربر تونس - TUNIS

- نسبة إلى بربر القيروان ALQUERUBIN-

- نسبة إلى بربر أرزيلا وهي أصيلا (المغرب) ARZILA -

- قرب جواردا/ نسبة إلى بني برزال (زناتة) -BARASAL

- نسبة إلى صنهاجة AZINHAGA -

- نسبة إلى كتامة COTIMOS و AL COUTIM-

إضافة إلى قصر أبي دانس الذي ينسب لبني دانس بن عوسجة (وهم بطن من قبيلة مصمودة)، وقد سميت المدينة بعد ذلك (قصر الملح)، واسمها البرتغالي الحالي هو (ALCACERDOSAL) على مقربة من قلمرية [10].

وقد أشار ليفي بروفنسال إلى أنه ربما كان الطابع البربري أظهر وأوضح اليوم في إسبانيا وجنوبي البرتغال من الطابع العربي بالمعنى الدقيق لهذا اللفظ، وذلك في كثير من ظواهر الحياة الريفية والنشاط الزراعي [11].

وعلى العموم فقد انتشر العرب والبربر في نواحي قلمرية وشنترين وإشبونة وباجة ويابرة وشلب ومرتلة وقصر ابن دانس وشنترة التي شكلت البرتغال الحالية، وانصهروا مع أهلها الذين تبنوا عادات وتقاليد الفاتحين إلى حد كبير، وتكاثر عددهم، وشكلوا قوة فاعلة في المجالين السياسي والاقتصادي.

حرب الاسترداد البرتغالية:
على أن امتزاج هذه العناصر لم يتم دائما في سهولة ويسر، ولهذا لم تخل حياة البرتغال الإسلامية خلال القرنين الأولين من ثورات عنيفة مما أتاح الفرصة لبدء ما يسميه النصارى بحرب الاسترداد (RECONQUISTA)، فقام صاحب أشطوريش الفونسو الأول بالسيطرة على شمالي البرتغال الحالية، كما انتهز الفونسو الثاني فرصة انشغال الأمير الحكم بن هشام الربضي بقمع الثورات الداخلية، فاستولى على الأشبونة عام (182هـ / 798م)، وأرسل كتابا بذلك إلى شارلمان في عاصمته (إكس لاشابل).

إلا أن هذا الاستيلاء كان مؤقتا، إذ لم يلبث المسلمون أن استردوها عام (193هـ / 808 - 908م) وانتزى في الأشبونة في العام نفسه مغامر اسمه طومولوس (TUMULUS)، ولكنه هزم في العام نفسه على يد هشام أحد أبناء الأمير الحكم وأعدم في قرطبة، وتمت تهدئة المنطقة كلها ما بين الأشبونة وقلمرية، على أن نهر دويرو لم يصبح حدا فعليا للنصارى قبل عهد الفونسو الثالث الذي استولى على مدينة برتقال (بورتو) عند مصب النهر عام (254هـ / 868م) [12].

[1] انظر دراسة فيلوزو VELOZO عن أثر الحضارة العربية الإسلامية في البرتغال، نشرت بالإنجليزية في مجلة الجمعية التاريخية الباكستانية، عدد 1966,14م، ص53-52، ترجمه إلى العربية عبد الواحد ذنون، نشره في مجلة آفاق عربية، عدد 1, 1980م, ص39.
[2] المرجع نفسه, ص39.
[3] انظر فجر الأندلس، حسين مؤنس, ص 118, الطبعة الأولى, القاهرة 1959م.
[4] المرجع نفسه، ص509-508.
[5] (المعدن) بالاصطلاح الأندلسي والمغربي بمعنى (المنجم) (الدكتور أمين توفيق الطيبي) مجلة الفصول الأربعة الليبية, عدد 19، 1979م، ص130.
[6] انظر مجلة العربي الكويتية, عدد 219, 1977م, ص23 (البرتغال الإسلامية) محمود علي مكي.
[7] نقلا عن فجر الأندلس, حسين مؤنس, مرجع سابق, ص543.
قورية- شلمنتقة- صمورة : CORIA- SALAMANCA- ZAMORA
[8] انظر مجلة العربي, مرجع سابق, ص23.
[9] نقلا عن فجر الأندلس, حسين مؤنس, مرجع سابق, ص382-381.
[10] انظر ما كتبه حسين مؤنس عن قصر أبي دانس في تحقيقه لكتاب الحلة السيراء لابن الأبار, الجزء الثاني, ص272, هامش 1.
[11] انظر تاريخ إسبانيا الإسلامية (بالفرنسية) الجزء الأول, الطبعة الثانية, 1950م, ص88.
[12] انظر عن هذه الأحداث:
- كتاب (دولة الإسلام في الأندلس ... من الفتح إلى بداية عهد الناصر) محمد عبد الله عنان, ص305/304, الطبعة الرابعة, مكتبة الخانجي, القاهرة.
- مجلة الفصول الأربعة, مرجع سابق ص111.
أما عن مدينة برتقال فقد خصص صاحب كتاب (ذكر بلاد الأندلس وفضلها وذكر أصقاعها) مادة لها فقال: "إنها مدينة أزلية من قواعد الأندلس، وكان بها جامع عظيم غَيَّره الروم حين ملكوها، وهي الآن قاعدة الملك الرومي، ولها أسوار عظيمة وأبواب ضيقة وعليها محرث عظيم وأعمال واسعة تحتوي على أكثر من ألفين (كذا) قرية وبها سبعون حصنا وبها الجوز والعنب والتين الكبير. واسم برتقال هو تعريب لفظ PORTUCALE القديم، ولفظ: PORTU/PORTO معناه الميناء. وهذه المدينة الواقعة الآن في شمال البرتغال هي التي تدعى اليوم بالبرتغالية (PORTO) ثاني مدينة في البرتغال بعد لشبونة، وتبعد عنها بنحو 340 كيلومترا. انظر هامش 584 في المقتبس لابن حيان, تحقيق محمود علي مكي, ص635/634 بيروت 1973م".
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

ثورة عبد الرحمن بن مروان بالبرتغال(2)

البرتغال في عهد إمارات الطوائف الأولى:
تولى الخلافة عبد الرحمن (الثالث) (الناصر لدين الله) والأندلس تعيش فترة مضطربة بسبب الخلافات السياسية والصراعات الطائفية التي كانت قائمة بين السلطة المركزية والعناصر المكونة للمجتمع الأندلسي (العرب، البربر، المولدون) التي استغلت ضعف حكومة قرطبة، فقامت بثورات عنيفة في جهات مختلفة قادها في البداية المولدون، فالبربر، ثم العرب، أدت إلى ظهور دويلات مستقلة أطلق عليها: (دويلات الطوائف الأولى). نذكر منها -بالنسبة للمولدين- بني قسي أو بني موسى الذين استقلوا بمنطقة سرقسطة أو الثغر الأعلى. ثم بني مروان الجليقي، وقد استقلوا بولاية بطليوس في غرب إسبانيا (حاليا على الحدود البرتغالية). وبني حفصون الذين استقلوا بالمرتفعات الجنوبية الإسبانية الممتدة بين مدينتي رندة غربا ومالقة شرقا, وكانت قاعدتهم قلعة ببشتر [1].

ثورة عبد الرحمن بن مروان الجليقي:
ثار من المولدين عبد الرحمن بن مروان الجليقي (توفي سنة 276هـ) الذي كان يدعو لعصبية المولدين على العرب بناحية ماردة من الثغر الأدنى بعد هروبه من قرطبة سنة (261هـ/ 875م) على إثر إهانة أنزلها به الوزير هاشم بن عبد العزيز, واعتصم بحصن (الحنش) قرب ماردة، ومن هناك بدأ حركة عصيان واسعة المدى عجزت الدولة القضاء عليها في حينها.

يقول صاحب المقتبس: "فخرج إلى ما خرج إليه من الفساد في الأرض، والسعي للإمارة، فأدرك من ذلك حظا عظيما، جسم له مكاره شديدة، وتجرثم جراثم من جهة ظاهره على أمره لما ظهر رجل من أصحابه من مولدي الغرب الدائبين في المعصية يعرف بسعدون السرنباقي، كان شبهه في الشجاعة والشر. وكان المولدون يغلون فيه ويقولون: إنما هو السرور الباقي، فاجتمعا، وضافرا الشرك، وأحدثا في الإسلام أحداثا عظيمة، وبثا الغارات على المسلمين وصارا في القفر بين الإسلام والشرك. فعظم مقدار الخبيثَيْنِ ابن مروان وسعدون في السر. وبسطا على الرعية، وقطعا السبل، وأفسدا في الأرض، وعَلَوَا علوا كبيرا، ووطئا بغاراتهما كورة إشبيلة ولبلة وباجة وأكشونبة وما يليها، فتوسطا أعمالهما، وملكا بأكشونبة -جبلا منيعا يقال له: (منت شاقر- [SERRA DE MONCHIQUE – [2] وجرت منهما أمور يطول اقتصاصها" [3].

حقا فقد خاض عبد الرحمن الجليقي ومن معه حروبًا كثيرة مع جيوش الإمارة الأندلسية، واتخذوا من بطليوس عاصمة لإمارتهم فحصنوها وأعدوها للدفاع والمقاومة، وعقدوا حلفا مع الفونسو الثالث ملك ليون، وقام عبد الرحمن بدعوة أنصاره إلى مذهب ديني جديد هو خليط من تعاليم الإسلام والنصرانية واستمر على ذلك أعواما، "وهو يسيطر على منطقة بطليوس، ويعيث في أنحائها فسادا، ويخرج منها للإغارة على ناحية الغرب حتى أشبونة، وجنوبا حتى باجة وأطراف أكشونبة (البرتغال)، ولما أعيا الأمير أمره، انتهى أخيرا إلى قبول شروطه في الاستقلال بحكم بطليوس وما جاورها، والإعفاء من المغارم والفروض" [4].

واستمر عبد الرحمن بن مروان الجليقي في إمارة بطليوس التي أورثها من بعده لأبنائه، إلى أن أعادها الخليفة عبد الرحمن الناصر الذي توجه بنفسه لإخماد ثورة أعلنها أحد أبناء الجليقي سنة (317هـ / 929م) يقول صاحب البيان المغرب: "وفي سنة (317هـ) كانت غزاة الناصر إلى مدينة بطليوس لمحاربة أهلها وابن مروان المنتزي عليه فيها، فبرز لغزاته هذه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول (23 أبريل 929م), ومعه ولي عهده الحكم المستنصر بالله وابنه منذرا. وكان احتلاله بالجيوش على مدينة بطليوس يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر، وواضعهم الحشم القتال في أفنيتهم وعلى أبواب دورهم، وتقحموا عليهم داخل أرباضهم، وقتلوا منهم في ثاني احتلالهم عليهم جملة بُعِثَتْ رؤوسهم إلى قرطبة، وقطعت ثمارهم، وأحرق ما أخلوه من ديارهم خارج سورهم، وبقوا محصورين في المدينة. وأقام عليهم الناصر عشرين يوما، ثم أبقى عليهم أحمد بن إسحاق في قطيع من الجند" [5].

وتوجد بالبرتغال اليوم بلدة يطلق عليها اسم (مروان = MARVAO بالبرتغالية) وتقع في شرق البرتغال مقابلة لمدينة شنترين, وهي الآن من أعمال مدينة بورتاليجري = [PORTALEGRE [6].

ثورات أخرى للمولدين:
كما عرفت مناطق البرتغال ثورات أخرى قادها زعماء المولدين أيضا. وكان أخطرها ما قام به بكر بن يحيى بن بكر وعبد الملك بن أبي الجواد, وكانا من أتباع عبد الرحمن بن مروان الجليقي وأنصاره. فقد ثار الأول بشنتمرية الغرب من كورة أكشونبة وحصنها واستقل بها، وبسط سلطانه على ما حولها وتشبه بالأمراء فأنشأ له بلاطا وحكومة، وكان جوادا يأوي أبناء السبيل ويحفظ الطرق، وفي أواخر عهد الأمير عبد الله عاد إلى الطاعة [7].

كما قامت ثورات محلية أخرى في بعض القواعد والحصون ضد حكومة قرطبة، قادها زعماء من البربر والعرب، ولكنها كانت قليلة، في كتاب المقتبس وابن عذارى المراكشي في البيان المغرب [8].

[1] انظر كتاب: (في تاريخ المغرب والأندلس) أحمد مختار العبادي, ص168.
[2] السلسلة الجبلية القريبة من الساحل الجنوبي الغربي لشبة الجزيرة، وهي تمتد في شمال شلب SILVES، وباسم هذا الجبل دعيت مدينة تحمل حتى اليوم اسم MONCHIQUE وتقع شمال شلب منحرفة قليلة إلى الغرب على بعد 28 كيلومتر (انظر هامش
574 في المقتبس, ص627 مرجع سابق).
[3] المقتبس لابن حيان القرطبي, تحقيق محمود علي مكي, ص344/345 بيروت 1973م.
[4] انظر كتاب (دولة الإسلام في الأندلس من الفتح إلى بداية عهد الناصر) محمد عبد الله عنان, ص306/307, مرجع سابق.
[5] ابن عذارى المراكشي, الجزء الثاني, ص199-200, دار الثقافة, بيروت 1980م.
[6] انظر مجلة العربي الكويتية, عدد 219, 1977م, ص23, (البرتغال الإسلامية) محمود علي مكي. والمقتبش ص345.
- من الأبحاث المهمة المنجزة عن المروانيين، بحث فرانسيسكو كوديرا تحت عنوان (بنو مروان أصحاب ماردة وبطليوس) في مجموعة (دراسات نقدية حول التاريخ الأندلسي). المجلد التاسع, مدريد سنة 1917م, ص1 إلى 74.
FRANCISCO CODERA: LOS BENIMERUAN DE MERIDA Y BADAJOZ, EN ESTUDIOS CRITICOS DE HISTORIA ARABE ESPANOLA- MADRID 1917/ VOL .IX.pp 1-74.
[7] انظر كتاب دولة الإسلام في الأندلس من الفتح إلى بداية عهد الناصر, محمد عبد الله عنان, مرجع سابق ص330.
[8] المقتبس, تحقيق إسماعيل العربي, دار الآفاق الجديدة, المغرب, 1990م, ص41 إلى 53.
البيان المغرب, الجزء الثاني, ص133 إلى 138.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

البرتغال الإسلامية في عهد المرابطين(3)

البرتغال في عهد ملوك الطوائف:
في سنة (422هـ/1031م) سقطت الدولة الأموية في الأندلس، وأعلن الوزير أبو الحزم بن جهور انتهاء رسم الخلافة جملة لعدم وجود من يستحقها، وأصبح الأمر شورى بأيدي الوزراء وكبار العلماء وصفوة الزعماء.

وأعقب ذلك فترة من الاضطرابات والتناحر بين أهل الأندلس أدت إلى ظهور دويلات صغيرة متنازعة، فقد استقل كل أمير بناحيته وأعلن نفسه ملكا عليها، فدخلت البلاد بذلك في عصر جديد هو عصر ملوك الطوائف أو عصر الفرق كما يسميه ابن الكردبوس [1], ومن أهمها: إمارة بني جهور في قرطبة، وبني عباد في إشبيلية, وبنو الأفطس في بطليوس، وبني هود في سرقسطة, وبني صمادح في المرية, وبني برزال في قرمونة، وغيرها.

المرابطون ونهاية ملوك الطوائف:
وبعد مرور أربعة قرون على الفتح الإسلامي، ظهر المرابطون على أرض المغرب (448هـ - 541هـ/ 1056 - 1147م) الذين عملوا على تركيز الإسلام ونشره بين القبائل البربرية، والقيام بإصلاحات سياسية واقتصادية واجتماعية. ويعتبر يوسف بن تاشفين مفخرة هذه الدولة، فقد قام بتنظيم الجيش تنظيما محكما، واستكثر من القواد الأكفاء، وقضى على الفتن الداخلية، واستطاع مواجهة جميع الصعاب التي واجهته في أثناء حرب الوحدة والتحرير.

كما هب لإنقاذ الإسلام من الخطر الداهم الذي أصاب بلاد الأندلس، حيث تمكن ملك قشتالة الفونسو السادس من الاستيلاء على طليطلة سنة (478هـ/1085م)، وفرض الجزية على كبار ملوك الطوائف، أمثال المعتمد بن عباد في إشبيليا والمتوكل بن الأفطس في بطليوس، وغيرهما، وحينئذ لم ير هؤلاء بدا من الاستنجاد بيوسف بن تاشفين الذي لبى النداء، فعبر البحر بجيوشه إلى الأندلس فنزل في الجزيرة الخضراء وقام بتحصينها وما يتبعها من قواعد عسكرية أخرى على المضيق مثل جبل طارق وطريفة.

ثم زحفت الجيوش نحو إشبيلية ثم بطليوس بغية لقاء العدو الذي أسرع هو الآخر بجيوشه نحو تجمعات المسلمين من المغاربة والأندلسيين، فالتقى بهم في الشمال من بطليوس عند فحص الزلاقة الذي يعرف اليوم باسم (SAGRAJAS)، وهناك دارت المعركة الفاصلة بين الفريقين في منتصف رجب سنة (479هـ / 23 أكتوبر 1086م) حيث انتصر المسلمون انتصارا باهرا.

وتعتبر هذه المعركة من المعارك الحاسمة التي جرت بين المسلمين والأسبان في بلاد الأندلس, ومهدت السبيل لسيطرة المرابطين عليها فأصبحت تابعة لهم بعد القضاء على ملوك الطوائف. وكان يوسف بن تاشفين يقول في كل مجلس من مجالسه: "إنما كان غرضنا في ملك هذه الجزيرة أن نستنقذها من أيدي الروم، لما رأينا استيلاءهم على أكثرها، وغفلة ملوكهم وإعمالهم للغزو وتواكلهم وتخاذلهم وإيثارهم الراحة، وإنما همة أحدهم كأسٌ يشربها، وقنيةٌ تُسْمِعُه، ولَهْوٌ يقطع به أيامه، ولئن عشت لأعيدن جميع البلاد التي ملكها الروم في طول هذه الفتنة إلى المسلمين، ولأملأنها عليهم -يعني الروم- خيلا ورجالا لا عهد لهم بالدعة، ولا علم عندهم برخاء العيش، وإنما هَمُّ أحدِهم فرس يروضه ويسترفهه, أو سلاح يستجيده، أو صريخ يلبي دعوته" [2].

فعلا، فقد بذل يوسف بن تاشفين مجهودا عظيما في استصلاح أحوال الأندلس، وذلك انطلاقا لما كان يمليه الموقف لاستمرار السيادة الإسلامية على هذه البلاد وتفادي وقوعها العاجل في يد العدو. ويذكر صاحب الحلل الموشية: "أقامت بلاد الأندلس في مدته سعيدة حميدة في رفاهية عيش وعلى أحسن حال، لم تزل موفورة محفوظة إلى حين وفاته رحمه الله، وترك الثغور المواجهة لبلاد العدو في حكم الأندلسيين لكونهم أخبر بأحوالها، وأدرى بلقاء العدو وشن الغارات مع الإحسان إليهم، فلما قربت وفاته أوصى ابنه ولي العهد بعده أبا الحسن على ثلاث وصايا أحدها: أن يقبل من محسنِ أهلِ الأندلس ويتجاوز عن مسيئهم" [3].

البرتغال في عهد المرابطين:
واصل المرابطون الجهاد ضد النصارى في غرب الأندلس بعدما سيطروا على مملكة بطليوس التي كانت تضم مساحة شاسعة في البرتغال الحالية. فسيطروا على شلب ويابرة ولشبونة وشنترة وشنترين وتعتبر هذه الأخيرة "من أحصن المعاقل للمشركين، وأثبت المعاقل على المسلمين، أرحب المدن أمدا للعيون، وأخصبها بلدا في السنين، ولا يَرِيمها الخصب ولا يتخطاها، ولا يرومها الجذب ولا يتعاطاها، فروعها فوق الثريا شامخة وعروقها تحت الثرى راسخة، تباهي بأزهارها نجوم السماء، وتناجي بأسرارها أذن الجوزاء، مواقع القطار في سواها مغبرة مربدة، وهي زاهرة ترف أنداؤها، ومطالع الأنوار في حشاها مقشعرة مسودة، وهي ناضرة تشف أضواؤها، وكانت في الزمن الغابر أعيت على عظيم القياصر فنازلها بأكثر من القطر عددا، وحاولها بأوفر من البحر مددا، فأبت على طاعته كل الإباء، واستعصت على استطاعته أشد الاستعصاء. فأمكننا الله تعالى من ذروتها, وأنزل ركابها لنا عن صهوتها" [4].

أما قلمرية فقد حاصرها الأمير علي بن يوسف بن تاشفين سنة (511هـ/1117م) حسب صاحب البيان المغرب عشرين يوما وضيق بها ثم انصرف عنها إلى إشبيلية، ومشى عبد الله بن فاطمة والمنصور بن الأفطس فقابلا أرواما في بلاد الروم ثم وردا إلى إشبيلية واستاقا غنيمة عظيمة وأسرى كثيرة وانصرف الناس إلى بلادهم [5]. ولكن صاحب الحلل الموشية يذكر أن عليَّ بن يوسف افتتح هذه المدينة ودوخ بلاد الشرك بجيوش لا تحصى، وكان أثره بها عظيما [6].

استمر جهاد المرابطين في الأندلس رغم مواجهتهم لخطر الموحدين بالمغرب، فما أكثر ما دارت المعارك والحروب بينهم وبين العدو الذي اشتد بأسه، ولا سيما في غرب الأندلس الذي تكاثرت عليه ضربات القشتاليين، ولكن انشغالهم في حروب مستمرة مع الموحدين على أرض المغرب، أدى إلى ضعف قوتهم، إضافة إلى قيام ثورات وفتن عديدة، لعل أخطرها ثورة المريدين التي قادها ابن قسي في ميرتلة (MERTOLA) بالبرتغال، وثورات أخرى في يابرة وشلب وباجة وغيرها من مدن الأندلس، فانهارت دولة المرابطين، وأفل نجمها، لتبدأ مرحلة جديدة في تاريخ المغرب والأندلس مع قيام دولة الموحدين.

[1] انظر كتاب في تاريخ المغرب والأندلس, أحمد مختار العبادي, ص275, مؤسسة الثقافة الجامعية.
[2] انظر المعجب, عبد الواحد المراكشي, ص241/242, تحقيق محمد سعيد العريان ومحمد العربي العلمي.
[3] تحقيق سهيل زكار والأستاذ عبد القادر زمامة, ص82/83, دار الرشاد الحديثة, الطبعة الأولى 1979م.
[4] انظر الرسالة التي كتبها الوزير ابن عبدون إلى الخليفة علي بن يوسف بن تاشفين يخبر فيها بفتح المدينة بقيادة يسير بن أبي بكر سنة 1111م, المعجب, ص246 إلى 249.
[5] الجزء الرابع, ص64.
[6] الحلل الموشية, ص86.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

البرتغال الإسلامية في عهد الموحدين(4)

دخول الموحدون بلاد الأندلس:
ظهر الموحدون في المغرب كقوة سياسية منظمة بمختلف الوسائل على قلب الحكم المرابطي، فأقاموا دولة قوية مترامية الأطراف تمتد (من طرابلس الغرب إلى سوس الأقصى من بلاد المصامدة وأكثر جزيرة الأندلس" [1].

وبلغت ذروة مجدها على عهد عبد المؤمن بن علي وابنه يوسف وحفيده يعقوب المنصور الموحدي. وكانت الأندلس أيامهم تعيش حالة تمزق بين ثلاثة اتجاهات: (اتجاه يتمسك بالمرابطين ويمثله يحيى بن غانية القائد العام لقوات المرابطين بالأندلس وأخوه محمد. واتجاه ثان يدعو إلى تحرير الأندلس كلها من حكم البرابرة، ويسعى إلى إعادة وحدتها الوطنية التي كانت عليها أيام الخلافة الأموية, ونتلمس ذلك الاتجاه في تلك الثورات والانتفاضات التي انبثقت هنا وهناك في أرجاء البلاد، وقد تزعم هذا التيار أخيرا سعد بن مردنيش في شرقي الأندلس. أما الاتجاه الثالث، فهو الذي دعا إلى الاستعانة بالموحدين لتخليص البلاد من المرابطين من جهة ومن خطر النصارى من جهة ثانية" [2].

هكذا ورث الموحدون ما بقي للإسلام في الأندلس، وعليهم أن يجتهدوا كأسلافهم في الدفاع عن هذه البلاد.

كانت أول خطوة سلكها الخليفة عبد المؤمن اتجاه الأندلس هي الإسراع بإرسال الجيوش إليها والقضاء على الثوار الذين أرادوا بالأندلس الرجوع إلى عهد ملوك الطوائف، ثم قمع الأطماع النصرانية في الاستيلاء على المناطق الإسلامية.

ثورة ابن قسيِّ .. ثورة المريدين في البرتغال:
كان أول الثائرين بالجنوب الغربي للأندلس (البرتغال الحالية) هو أبو القاسم أحمد بن الحسين بن قسي (وهو رومي الأصل من بادية شلب، نشأ مشتغلا بالأعمال المخزنية، ثم تزهد -بزعمه- وباع ماله وتصدق بثمنه، وساح في البلاد، ولقي أبا العباس بن العريف في المرية قبل إشخاصه إلى مراكش، ثم انصرف إلى قريته. وأقبل على قراءة كتب أبي حامد الغزالي في الظاهر، وهو يستجلب أهل هذا الشأن محرضا على الفتنة وداعيا إلى الثورة في الباطن. ثم ادعى المهدوية منحرفة وتمويها على العامة وتسمى بالإمام) [3].

وسمى أتباعه (المريدين)، اتخذ شعار (التصوف) ستارا أخفى من ورائه طموحه السياسي، فتبعه كثير من زعماء غربي الأندلس، مثل ابن القابلة الذي كان أوفرهم ذكاء وأعظمهم حيلة فآثره ابن قسي وألقى إليه بأسراره وآماله وأطلعه على خططه. ثم الفقيه محمد بن عمر بن المنذر زعيم شلب، وسيد راي بن وزير رائد المريدين بمدينة يابرة وزعيم ثورتها ضد المرابطين. وفي سنة (539هـ / 1144م) سيطر كما يذكر صاحب البيان المغرب "فأول من قام بدعوتهم فيها -الأندلس أهل ميرتلة" [4].

وإن كان الخليفة عبد المؤمن قد أنكر على ابن قسي إدعاؤه الإمامة والمهدوية التي من شأنها معارضة مهدوية ابن تومرت. ويأبى هذا الأخير إلا أن يعبر البحر إلى المغرب ليتصل بالخليفة الموحدي في مدينة "سلا متبرئا من دعاويه وتائبا من مساويه في ربيع الآخر سنة 540هـ. ثم انصرف في المحرم سنة 541هـ صحبة الجيش الذي افتتح جزيرة طريف والجزيرة الخضراء، ولما فتحت شلب ترك ابن قسي عليها واليا" [5]. ولكن روح التوثب والانتهازية لم تكن لتفارقه. فما كاد يسمع بثورة ابن هود الماسي في المغرب حتى خلع طاعة الموحدين وأصبح مستظهرا بأمير مرابطي، فوجد نفسه في عزلة ويأس وافتضح أمره، فارتمى في أحضان النصارى مستنجدا مستغيثا.

"وداخل الطاغية ابن الريق صاحب قلمرية في إعانته وإمداده، فأظهر إجابته إلى مراده، وبعث إليه بفرس وسلاح، فأنكر ذلك أهل شلب، وفتكوا به، ونصبوا مكانه ابن المنذر الأعمى، معلنين بدعوة الموحدين، وذلك في جمادى الأولى من سنة 546هـ" [6]. وبذلك طويت صفحة من أخطر الصفحات في تاريخ البرتغال الإسلامية.

قيام إمارة البرتغال بقيادة ابن الريق:
تمكن الموحدون من السيطرة على جزء من أراضي البرتغال، بينما كانت المنطقة الواقعة حول حوض نهر الدويره إلى حدود جليقية والتي تضم مدن قلمرية وبازو وبراغة تؤلف ولاية صغيرة تابعة لمملكة قشتالة. وكان الفونسو السادس قد زوج ابنته غير الشرعية تيريسا (TERESA) من أحد نبلاء مقاطعة برجندية الفرنسية واسمه هنري (HENRIQUES) وقدم لهما مهرا هذه المقاطعة، ولكن على شرط تبعيتها هي وزوجها لعرش قشتالة.

إلا أن تيرسا وزوجها استغلا اضطراب الأحول بعد وفاة ألفونسو بغير وريث ذكر، فعملا على الاستقلال بالإمارة الجديدة التي أطلق عليها اسم عاصمتها القديمة برتقال (PORTUGAL)، ثم قام ابنهما ألفونسو إنريكي (ALFONSO HENRIQUES) -ابن الريق / الريك في المصادر الأندلسية/ 532هـ - 581/1138- 1185م)- بإعلان الاستقلال الذاتي أولا حاملا لقب صاحب قلمرية (COIMBRA).

ثم لم يلبث أن استقل تماما بعد انتصاراته على المسلمين واستيلائه على شنترين ثم على لشبونة في سنة 542هـ/1147م وتزايد طموحه بعد ذلك فواصل حملاته على مدن المسلمين الواقعة في حوض وادي آنه (GUADIANA)، كما انتزع منهم قلعة يابرة (EVORA ) سنة (561هـ/ 1166م). وأعلن نفسه ملكا على البرتغال، "وحكم مملكته من ذلك الحين آمنا لا يزعجه أحد من جيرانه النصارى، منتصرا في محاربة المسلمين".

وأخيرا صدر القرار البابوي المتعلق باستقلال مملكة البرتغال عن قشتالة وليون، بعد أن طال عليه الأمد، وأصدر البابا إسكندر الثالث بمقتضى مرسوم بابوي في سنة (574هـ / 1179م)، وفيه يمنح الفونسو أنريكي لقب الملك، وتوضع مملكة البرتغال الحرة من كل عهود الجزية تحت حماية الكرسي الرسولي.

إن الفونسو إنريكي ليستحق من جميع الوجوه أن يلقب بمؤسس المملكة البرتغالية. عرف كيف يذكي الحماسة الدينية في نفوس الشعب البرتغالي، وأن يغنم تأييده بإصدار دستور يحقق الحرية والعدالة لكل الطبقات، ويحيط وراثة العرش بضمانات تحول دون نشوب الحرب الأهلية، ويوطد دعائم القومية البرتغالية [7].

إذا كانت السنوات الأخيرة من حكم الخليفة عبد المؤمن (توفي 558هـ/ 1163م) قد شهدت ولادة الدولة البرتغالية وظهورها على مسرح التاريخ، فإن ابنه يوسف بن عبد المؤمن الخليفة الثاني لم يقف مكتوف اليدين أمام هذا الاستفزاز الذي أبداه الملك البرتغالي ابن الريق. فجهز حملة عسكرية بقيادة أخيه أبي حفص عمر وذلك سنة (565هـ/1170م) نحو أراضي البرتغال وليون واستعاد كل ما خسره المسلمون جنوبي وادي التاجة (RIOTAJO).

وفي سنة (567هـ/1171م) حاصر الموحدون مدينة شنترين (وهي من أمنع المدائن) [8] بجيش ضخم ولكن دون جدوى، فقد أرغموا على رفع الحصار بعد هزيمة فادحة، وكانت "البرتغال من بين الممالك النصرانية أشدها وطأة في غزو أراضي الموحدين، ولذا اعتزم أبو يعقوب يوسف، أن يسحق أخطر أعدائه بتفوق قواته بادئ ذي بدء، حتى إذا عم الرعب من جراء انتصاره استطاع أن يخضع الممالك الأخرى بسهولة. وكانت خطته تقضي أولا بمهاجمة مملكة البرتغال من البر والبحر، حتى ضفاف نهر دويرة، ثم الزحف من على ضفاف التاجة ودويرة إلى قلب مملكتي قشتالة وليون. وحشد لهذه الغاية قوات عظيمة، واجتمعت إليه فضلا عن الجيوش المغربية الجرارة، قوى مسلمي الأندلس. إذ بلغ عدد جنوده أكثر من ثمانية وسبعين ألف مقاتل، وكذلك اجتمع للمسلمين أسطول عظيم من سفن القتال وسفن النقل، مشحونة بالسلاح وآلات الحصار والمؤن، عند مصبي نهري الوادي الكبير ووادي آنة على أهبة لأن يؤيد البحر جهود الجيش البري ضد البرتغال" [9].

لقد توجه يوسف بن عبد المؤمن على رأس هذه الحملة إلى مدينة شنترين، فضرب الحصار عليها، وكانت خطته أن يسترجعها ثم يسترد لشبونة، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهيه السفن، فقد فشلت خطته بارتباك الجيش وسوء فهم خطته، ولازم سوء الحظ المسلمين، وأصيب الخليفة بطعنة توفي بعدها كما جاء في بعض المصادر. ويذكر صاحب المعجب أن الخليفة يوسف بن عبد المؤمن قد خرج في جيش وضايق المدينة -شنترين- وأخذ في قطع ثمارها وإفساد زروعها وشن الغارات على نواحيها. إلا أن العدو كان واثقا من حصانتها وشدة منعتها، فلأها أقواتا وسلاحا، وجلل اسوارها مقاتلة معهم الدرق والقسي والحراب.

فخاف المسلمون هجوم البرد وفيضان النهر فيصعب عليهم عبوره وينقطع عنهم المدد. فأشاروا على الخليفة بالرجوع إلى إشبيليا، على أن يعودوا إليها مرة أخرى. ووافقهم على ذلك. ولم ينتشر هذا القول كل الانتشار. فكان أول من قوض خباءه وأظهر الأخذ في أهبة الرحيل أبو الحسن المالقي ويدعى -خطيب الخلافة- فعبر في تلك العشية أكثر العسكر النهر، ولم يبق إلا من كان بقرب خباء أمير المؤمنين. وبات الناس يعبرون الليل كله وأمير المؤمنين لا علم له بذلك، فلما رأى الروم عبور العساكر، خرجوا منتهزين الفرصة إلى أمكنتهم في خيل كثيفة فحملوا على من يليهم من الناس، فانهزموا أمامهم، حتى بلغوا خباء الخليفة، فقتل على بابه من عيان الجند خلق كثير، أكثرهم من أعيان الأندلس، وخلص إلى أبي يعقوب فطعن تحت سرته طعنة مات منها بعد أيام يسيرة [10].

وخَلَفَهُ ابنه يعقوب المنصور (580 - 595هـ /1184 - 1199م) الذي جمع إلى عظمة السلطان السياسي، رسوخ العقيدة، وشدة الحرص على أحكام الشريعة وسنتها.

أما في البرتغال فقد توفي الملك ابن الريق وخلفه ابنه (سانجو الأول SANCHO-1-) الذي حكم بين (581 - 607هـ/1185 - 1211م) فرأى أن يبادر المسلمين بالهجوم، واتفق أن عددا كبيرا من المحاربين الصليبيين الإنجليز والألمان كانوا قادمين من فلسطين، فَرَسَا أسطولهم قبالة لشبونة، ولما كان الوقت متأخرا وقد دنا الشتاء، فقد استطاع سانجو ملك البرتغال أن يحملهم على الاشتراك معه في القيام بغزوة مشتركة ضد المسلمين في ولاية الغرب.

وبينما أرسل سانجو إلى باجة ويابرة اللتين فقدهما في الأعوام الأخيرة واللتين لم تكن تحرسهما حاميات قوية، جيشا غزاهما واستولى عليهما، إذ سار الأسطول إلى الجنوب قبالة لسان ولاية الغرب، وأنزل جيشا إلى البر على غرة من المسلمين، وحاصر النصارى في الحال مدينة شلب، وقطعوا عنها موارد الماء، فاضطرت إلى التسليم، وعقدت مع الملك سانجو دون علم الصليبيين عهدا بالخضوع، بيد أن ذلك لم ينجها من مصيرها المروع... وقسمت الغنائم وفقا لاتفاق سابق بين الصليبيين، ولكن المدينة كانت من نصيب الملك [11].

كان العداء بين المسلمين والنصارى مستمرا والهجمات المسيحية على الأندلس في استمرار مما دفع بالخليفة يعقوب المنصور إلى تجهيز حملة على الأندلس في ربيع الأول سنة (585هـ/ 1189م) "فارتحل عن الجزيرة الخضراء حتى نزل شنترين وشن الغارات على مدينة لشبونة وأنحائها. وانصرف إلى العدوة بثلاثة عشر ألف سبية من النساء والذرية. وفي سنة (587هـ/1191م) كتب إلى قواد الأندلس يأمرهم بغزو بلاد الغرب ويعلمهم أنه قادم عليهم في إثر كتابه، فاجتمع قواد الأندلس إلى محمد بن يوسف والي قرطبة، فخرج بهم في جيش عظيم من الموحدين والعرب والأندلس حتى نزل شلب فحاصرها, وشد عليها القتال حتى فتحها وفتح قصر أبي دانس ومدينة باجة ويابرة ورجع إلى قرطبة" [12].

تكررت الحروب والمواجهات بين المسلمين والنصارى، وطلب ألفونسو الثامن ملك قشتالة من الخليفة الموحدي يعقوب المنصور الصلح لمدة خمس سنوات، إلا أنه وقبل انصرام المدة أغار على بلاد المسلمين وحكم بالسيف في رقابهم، وبلغت طلائع جنده الجزيرة الخضراء دون أن تجد أمامهم قوة رادعة. ودفعته نشوة الانتصار إلى أن يوجه رسالة إلى الخليفة الموحدي فيها من الاستهزاء ما أقض مضجع الموحدين، فكان العبور يوم 20 رجب سنة (591هـ/1195م) مخترقا قلب إسبانيا إلى أن وصل هضبات الأرك (على بعد 11 كلم من مدينة ثيودادريال)، فكانت المعركة الشهيرة التي انتصر فيها يعقوب المنصور على الإسبانيين والبرتغاليين وتسلق بعدها قمة المجد، واشتهر اسمه في الشرق والغرب.

غير أن هذا المجد ما فتئ ينذر بالانهيار وخصوصا بعد وفاة الخليفة المنصور وولاية ابنه محمد الناصر، الذي جهز هو الآخر حملاته على الممالك النصرانية في شبه الجزيرة الإيبيرية فلم يستطع الصمود فحلت به الهزيمة في المعركة المعروفة باسم العقاب، وذلك سنة (609هـ/ 1212م). فكانت بداية الانهيار لدولة الموحدين وضياع الممالك الأندلسية (دول إسبانيا المسيحية والبرتغال).

[1] المعجب, ص337.
[2] انظر كتاب (الشعر في عهد المرابطين والموحدين بالأندلس) محمد مجيد السعيد, ص26, الدار العربية للموسوعات.
[3] انظر الحلة السيراء لابن الآبار, تحقيق حسين مؤنس, الجزء الثاني, ص197.
[4] الجزء الرابع, ص105.
[5] الحلة السيراء, الجزء الثاني, ص199.
[6] المرجع نفسه, ص200.
[7] انظر تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين, يوسف أشباخ, ترجمة : محمد عبد الله عنان, الجزء الثاني, ص31و 32, مطبعة لجنة التأليف والترجمة والنشر 1941م.
[8] انظر المعجب, للمراكشي, ص372.
[9] انظر: تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين, يوسف أشباخ, الجزء الثاني, ص71و72.
[10] انظر المعجب, ص373-374-375, وابن أبي زرع في الأنيس المطرب بروض القرطاس, ص214 دار المنصور للطباعة والوراقة, الرباط- 1973م, يوسف أشباخ، تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين, ص73 مرجع سابق, تاريخ ابن خلدون, الجزء السادس, ص241.
[11] انظر تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين, يوسف أشباخ, الجزء الثاني, ص79و 80.
[12] انظر الأنيس المطرب بروض القرطاس, لابن أبي زرع, ص218و 219.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

سقوط البرتغال الإسلامية ومأساة الموريسكيين(5)

"يبدأ تاريخ البرتغال المسيحية على أنقاض الولايات الغربية من الأندلس منذ منتصف القرن الثالث عشر الميلادي، ولعل المقاومة العنيفة التي واجههم بها المسلمون هناك هي التي ملأت قلوب ملوك البرتغال غلا وحقدا على الإسلام، وإن كان ما ورثوه أيضا من حضارة المسلمين هو الذي جعل بلادهم تصل في مدى قصير إلى أن تصبح من أولى الدول البحرية في العالم" [1].

سقوط البرتغال الإسلامية:
سقطت القواعد الإسلامية في البرتغال، وبسقوطها انتهى الوجود العربي في غرب الأندلس. فقد احتلت براغة سنة (431هـ /1040 م) ثم قلمرية سنة (456هـ / 1064م)، ثم احتلت لشبونة سنة (486هـ / 1093م) ويابرة سنة (561هـ / 1166م) وقصر بني دانس سنة (614هـ / 1217م)، وشلب وجميع غربي الأندلس سنة (647هـ / 1249م).

"وبهذا استقرت حدود البرتغال على ما هي عليه اليوم. وعند احتلال الأراضي الإسلامية، صادر البرتغاليون كل أراضي المسلمين وأملاكهم، فهاجر عدد كبير منهم، واستقر بعضهم الآخر في بلادهم كمدجنين. فلما أعلنت إسبانيا أمرها بتنصير المسلمين سنة (905هـ / 1499م) تبعها البرتغال سنة (908هـ / 1502م) فهاجر عدد منهم إلى شمال المغرب، وبقي بعضهم الآخر كمسلمين سرا في البلاد، ثم هاجر عدد كبير آخر سنة (947هـ / 1540م) إلى المغرب، وبقي الباقون تحت المصير نفسه الذي أصاب إخوانهم داخل الدولة الإسبانية" [2].

الموريسكيون في البرتغال:
طورد المسلمون قتلًا وتشريدًا وتنصيرًا، وكان الاضطهاد الكنسي موازيًا لجميع الحملات المتربصة بهم في كل مكان، واتخذت سمة الاستماتة والعنف داعية إلى وجوب إبادة المسلمين وإخراجهم من الجزيرة الإيبيرية مهما كلف الثمن، وصاحب هذا التدخل الكنسي الفصول النهائية لمأساة الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا والبرتغال.

وعانى الموريسكيون خلال حقبة طويلة ألوانا من الاضطهاد المدني والديني. إلا أن المشكل الموريسكي بالبرتغال لم يحظ بالاهتمام الكافي من طرف المؤرخين كما حظي موريسكيي إسبانيا، ويعلل ذلك الباحث المغربي أحمد بوشرب إلى كون الجالية الموريسكية بالبرتغال كانت أقل عددا وخطورة من الجالية الموريسكية الإسبانية من جهة، وإلى كون أرشيفات البرتغال لا توفر مصادر توازي من ناحية الوفرة والتنوع ما تقدمه أرشيفات إسبانيا. وإذا قيل بشأن موريسكيي إسبانيا أنهم عبارة عن جالية بدون تاريخ فإن ذلك ينطبق على موريسكيي البلد المجاور نظرا لكون المعلومات والأخبار التي وصلتنا عنهم تنحصر فيما ورد بمصادر محاكم التفتيش الدينية؛ إذ لم يصلنا أدنى خبر عن أوضاع هذه الجالية خلال الفترة الممتدة ما بين ظهور المشكل الموريسكي بعد إقرار التنصير الإجباري الذي فرضه الملك (إمنويل) على مسلمي ويهود البرتغال سنة (902هـ / 1497م) وبداية العمل بمحاكم التفتيش سنة (943هـ / 1536م)، فلقد اختفت كل المصادر والوثائق الإسلامية والموريسكية المتعلقة بهذه الحقبة المهمة من تاريخ البرتغال [3].

ويرى الأستاذ بوشرب أن سكوت المصادر عن الجالية الموريسكية البرتغالية مؤسف حقا، لكونه لا يحرمنا من إمكانية تتبع موقف المسيحيين منهم ومقارنته مع ما خصوا به المسيحيين المحدثين (اليهود المتنصرين) فحسب، ولكنه يحرمنا أيضا من إمكانية تتبع موقف موريسكيي البرتغال من الموريسكيين الأجانب الذين تم جلبهم من البلاد الإسلامية الإفريقية والآسيوية ومن إسبانيا، ومن ثم معرفة مدى تماسك وتآزر الجالية الإسلامية المرغمة على التنكر لدينها.

ووفرت محاكم التفتيش مادة مهمة سمحت بتسليط الأضواء على أوضاع الموريسكيين المقيمين بالبرتغال؛ إذ وصلتنا مئات من محاضر المحاكمات بعد أن ضاعت أعداد هائلة منها، كما وصلتنا عشرات من دفاتر التبليغات والاعترافات وكتب (المحامي المراقب) [4].

وإذا كان الموريسكيون محرومين من حريتهم، يعانون من سوء المعاملة ومن ظروف عيش جد قاسية، فإن أوضاعهم تأزمت أكثر بسبب ما كانوا معرضين له من رقابة يومية تحرمهم حتى من إمكانية التصرف بشكل طبعي، ولزمتهم لعبة ازدواجية الشخصية الصعبة؛ وذلك بالارتباط بقيم المجتمع البرتغالي وعقيدته من الناحية المظهرية لإبعاد الشر عن أنفسهم وبالارتباط بالإسلام سرا اعتمادا على التقية.

وفعلا لم يأخذ هؤلاء اعتناقهم للمسيحية مأخذ الجد؛ إذ اعتبروا أن حفل التعميد لا يلزمهم في شيء. ولهذا استمروا في استعمال أسمائهم الإسلامية، والقيام سرا ببعض الفرائض كالصلاة والصوم والنطق بالشهادة والاستغاثة بالله وبالنبي صلى الله عليه وسلم وبالأولياء. مع الحرص على الظهور بمظهر المسيحيين الصادقين. ولم يكونوا يتركون أية فرصة تمر دون أن يسخروا من المسيحية وأن يؤكدوا على أفضلية الإسلام وعلى ارتباطهم به. وكان النقد موجها على الخصوص لمبدأ الثالوث، ومن ثم لصفات وألوهية عيسى، لبكارة السيدة مريم، وللقربان المقدس ودلالته، وكذلك للكنائس ورسومها ونواقيسها .. إلخ) [5].

واستغل البرتغاليون باستمرار كل خلاف أو سوء فهم مع الموريسكي لتذكيره بأصله ولإهانته، ولم يكن البرتغالي في حاجة إلى مبرر للقيام بذلك. فقد ذكر (جواد راغو J.DRAGO) أمام المحكمة أن خدام سيده كانوا يستغلون كل خلاف معه "لمناداته بالمسلم القديم، ابن المسلم، وبالكلب"، وكان لفظ (كلب) كثير الاستعمال لسب الموريسكي الذي سرعان ما جعل منه بدوره مرادفا لكلمة (برتغالي).

فلقد بلغت برتغالية بأخرى لكونها لاحظت أنها لم تتوقف عن مناداة خادمتها المغربية (بالكلبة) وذلك رغم أنها تنصرت وأصبح لها اسم مسيحي! وكان لفظ موريسكي يستعمل من طرف جل البرتغاليين استعمالا قدحيا للتأكيد على حداثة تنصر الموريسكي وعدم صدقه في ذلك. وكان عدد مهم منهم لا يستعمل إلى كلمة (مسلم) للإشارة إلى الموريسكي [6].

وتكثر بمصادر محتكم التفتيش البرتغالية الإشارات إلى المورسكيين الذين جلدهم أسيادهم أو حبسوهم أو حرموهم من الطعام لمدة معينة، أو الذين كانوا يجوبون شوارع العاصمة وهم مكبلون بالسلاسل الحديدية. وعبر أحد المورسكيين العاملين بلشبونة عن العلاقة بين العمل والأجور بما يلي: "كانوا يقضون أيامهم بالميناء والتبن، وقد كسرت ضلوعهم كالحمير، دون أن يوفروا من ذلك في نهاية السنة لا ريالا ولا سبتيا" [7].

وكان يشرف على محاكم التفتيش الدينية البرتغالية في بداية الأمر أسقف مدينة سبتة، الذي سرعان ما استقال بسبب غلو القضاة وبشاعة الطرق المستعملة من طرف المحكمة، وقساوة الأحكام الصادرة عنها. واستمر العمل بمحاكم التفتيش إلى سنة (1236هـ / 1821م) [8].

[1] انظر مجلة العربي, عدد 219, فبراير 1977م, ص27, (البرتغال الإسلامية) محمود علي مكي.
[2] انظر كتاب الأمة, عدد 31, ص44, الصحوة الإسلامية في الأندلس اليوم: جذورها ومسارها, علي المنتصر الكتاني.
[3] انظر مجلة المناهل المغربية, عدد 24, 1982م, ص354و 355, الجالية الموريسكية المقيمة بالبرتغال, وهي دراسة مهمة اعتمدتُ عليها كثيرًا في هذا الباب.
[4] المرجع نفسه, ص357.
[5] المرجع نفسه, ص376و 379.
[6] المرجع نفسه, ص368.
[7] المرجع نفسه, ص374.
[8] انظر مجلة المناهل, عدد 21, 1981م, ص299, محضر محاكمة امرأة مغربية من لدن محاكم التفتيش البرتغالية 1559م, ترجمة وتعليق أحمد بوشرب.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

المراكز الحضارية في البرتغال الإسلامية(6)

"طورد العرب وانتهت مأساة الموريسكيين، وبقيت حضارتهم ومراكزها بارزة في البرتغال وحياة البرتغاليين ثقافة وفكرا ولغة وعمرانا، غير أن مؤرخي البرتغال درجوا -إلا قلة منصفة منهم- على تجاهل هذه الحقبة الطويلة. والغريب أنهم يتحدثون عن بداية تاريخهم في ظلال الرومان، مع أن البرتغال بقيت تابعة للرومان ثم القوط نحو ثمانية قرون ونصف لم نسمع خلالها بشخصية واحدة لها قيمتها من الناحية الحضارية أو الثقافية، على حين أخرجت البرتغال الإسلامية مئات من الشخصيات الفذة التي تعتز بها الحضارة الإنسانية, والتي تمثل في تاريخ الفكر معالم مشرقة مجيدة" [1].

مدينة شلب البرتغالية:
وتعتبر مدينة شلب (SILVES) أولى المدن التي فتحها المسلمون في البرتغال، وأصبحت ذات شأن كبير، فقد شهدت ازدهارا حضاريا وفكريا. وهي قاعدة كورة اكشونبة وبقبلي مدينة باجة ولها بسائط فسيحة، وبطائح عريضة. ولها غلات وجنات، يقول عنها صاحب الروض المعطار: إنها "حسنة الهيئة بديعة البناء مرتبة الأسواق, وأهلها وسكان قراها عرب من اليمن, وغيرها وكلامهم بالعربية الصريحة وهم فصحاء يقولون الشعر، نبلاء خاصتهم وعامتهم. وأهل بوادي هذه البلدة في غاية من الكرم لا يجاريهم فيه أحد".

وذكر ياقوت الحموي في معجمه أنه ليس بالأندلس بعد إشبيلية مثل (شلب) وأنه قل أن ترى من أهلها من لا يقول شعرا ولا يعاني الأدب، ولو مررت بالفلاح خلف فدانه وسألته عن الشعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه وأي معنى طلبت منه.

عرفت المدينة أجمل أيام مجدها في عهد المعتمد بن عباد الذي كان واليا عليها من قبل أبيه المعتضد، وقد تركت في نفسه ذكريات عميقة. ولما توفي المعتضد في سنة (461هـ /1068م) وخلفه ولده المعتمد عين الشاعر ابن عمار واليا عليها فخاطبه بهذه الأبيات:

ألا حي أوطاني بشلب أبا بكــر وسلهن *** هل عهـد الوصـــــــــــــال كما أدري

وسلم على قصر الشراجيب من فتى له*** أبدا شوق إلى ذلك القصـــــــــــــــر

منـــــازل آســـــــاد وبيــــض نواعــــم *** فناهيك من غيل وناهيك من خـــدر.

ويقول الفتح بن خاقان عن قصر الشراجيب الذي ذكره المعتمد: "بأنه متناه في البهاء والإشراق مباه لزوراء العراق، ركضت فيه جياد راحاته, وأومضت بروق أمانيه في ساحاته، وجرى الدهر مطيعا بين بكره وروحاته, أيام لم تحل عنه تمائمه ولا خلت من أزاهير الشباب كمائمه" [2].

مدينة أشبونة أو لشبونة البرتغالية:
أما مدينة أشبونة (لشبونة: LIBOA) فقد أفاض المصنفون الجغرافيون المسلمون الحديث عن موقعها وثروتها البرية والبحرية والمعدنية. "وهي مدينة قديمة على سيف البحر تتكسر أمواجه في سورها واسمها قودية، وسورها رائق البنيان بديع الشأن، وبابها الغربي قد عقدت عليه حنايا فوق حنايا على عمد من رخام مثبتة على حجارة من رخام، وهو أكبر أبوابها، ولها باب غربي أيضا يعرف بباب الخوخة مشرف على سرح فسيح يشقه جدولا ماء يصبان في البحر، ولها باب قبلي يسمى باب البحر تدخل أمواج البحر فيه عند مده وترتفع في سوره ثلاث قيم، وباب شرقي يعرف بباب الحمة...وقبالتها على ضفة البحر حصن المعدن ويسمى بذلك لأن عند هيجان البحر يقذف بالذهب التبر هناك، فإذا كان الشتاء قصد إلى هذا الحصن أهل تلك البلاد فيخدمون المعدن الذي به إلى انقضاء الشتاء، وهو من عجائب الأرض".

ويفرد صاحب (المغرب في حلى المغرب) فصلا في كتابه بعنوان (كتاب الرياض المصونة في حلى مملكة أشبونة), وفيه يصفها بأنها مملكة جليلة على البحر المحيط في غرب إشبيليا وشمالها. ويورد تحت هذا الفصل كتاب (الغرة الميمونة في حلى مدينة أشبونة) وينقل من كتاب الرازي ما يلي: "مدينة قديمة في غرب باجة، ولها أثرة فاضلة في طيب الثمرات وتمكن في ضروب الصيد برا وبحرا، وبزاتها الجبلية أطير البزاة وأعتقها، وفي جبالها شورة النحل، وهو العسل الخالص البياض كالسكر، ويضع في خرقة، فلا يكون له رطوبة".

وعلى العموم فقد كانت لشبونة مركزا عربيا كبيرا للتجارة والملاحة، ويخبرنا الجغرافي الإدريسي عن قصة إبحار المغامرين الذين "ركبوا المحيط الأطلسي ليعرفوا ما فيه وأين انتهاؤه، ولهم بأشبونة موضع بقرب الحمة منسوب إليهم يعرف بدرب المغررين".

ويرجح أن يكونوا وصلوا إلى العالم الجديد، ولا سيما أن رحلتهم في الذهاب استغرقت شهرا بالضبط. وتعتبر هذه الرحلة -كما يقول أحد الباحثين البرتغاليين المحدثين- الخطوة الأولى في الاستكشافات البحرية البرتغالية منذ العصر العربي. كما أنه تسنى إحراز ما اكتشفوه في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بفضل اقتباسهم لطريقة بناء مراكب العرب التقليدية في غرب الأندلس، فعلى أساسها استطاع هنري الملاح وبحارته أن يتوصلوا إلى صناعة القوارب (CARAVELAS) وهي المراكب الصغيرة السريعة التي ساعدت على تحقيق الاستكشافات.

ومازال الحي الشرقي من لشبونة يحمل اسمه العربي (ALFAMA)، وهذه التسمية البرتغالية محرفة عن اسمه العربي (الحمة) الذي كانت الطبقة الأرستقراطية حتى عهد قريب تتخذ مساكنها فيه، ومازالت موجودة فيه بعض الدور التي يرجع تاريخها إلى عصر المسلمين، وهو يتميز بأزقته الضيقة الملتوية وواجهات بيوته المزخرفة بالزليج. وقد كانت بلدية العاصمة صارمة في قرارها الصادر في الثمانينات من القرن العشرين بالحفاظ على شكل الجزء القديم من المدينة كما هو، فلم تمتد يد العبث إلى المباني التقليدية بالتشويه، أو الإزالة. لأنها تتميز بالفخامة وروعة التصميم.

أنجبت هذه المدينة عددا من الشعراء والأدباء والفقهاء من أشهرهم أبو زيد عبد الرحمن بن مقانا الأشبوني القذافي الذي يقول عنه ابن بسام الشنتريني أنه كان "من شعراء غربنا المشاهير، وله شعر يعرب عن أدب غزير". وكان ابن مقانا قد جال أقطار الأندلس في شبابه مادحا رؤساءها، ومن أشهر قصائده تلك التي أنشدها في مدح إدريس بن يحيى بن حمود ومطلعها:

البرق لائح من أندريـــــــــــــــن *** ذرفت عيناك بالماء المعيـــــــــــــن

ولصوت الرعد زجر وحنـيـــــــن *** ولقــــــــــــــــــلبي زفـرات وأنيــــن

والشاعر محمد بن سوار الأشبوني شاعر مشهور مذكور في الذخيرة، أسره النصارى وجرت عليه محن وفداه منهم ابن عشرة كريم سلا، فله فيه أمداح كثيرة نذكر منها هذين البيتين:

أحــــــــــب سلا من أجل كونك *** من سلا فكل سلاوي إلي حبيــــب

لصـيرتها مصرا ونيـلك نيلهــا *** وكفـــــــــك بطحـاها وأنت خصيب

ومن أدباء أشبونة كذلك الشيخ أبو الحسن علي بن إسماعيل القرشي الأشبوني الذي "كان يعرف عندنا بالطيطل، ممن نظم الدر المفضل لا سيما في الزهد". ويبدو أن المدينة كانت مقصد الأدباء في غرب الأندلس، فابن بسام يذكر أكثر من مرة أنه ذهب إلى الأشبونة لملاقاة أدبائها والوافدين عليها، فعند الحديث عن الأديب أبي جعفر بن الدودين البلنسي يقول: "هو أحد من لقيته وشافهته، وأملى عَلِيٌّ نظمه ونثره بالأشبونة سنة سبع وسبعين وأربعمائة". ويتحدث ابن بسام كذلك عن الأديب أبي عامر الأصيلي من سرقسطة فيقول: "وهبط إلى الأشبونة أيام كوني به، وزرته ونزلت عليه في منزله أول التقائي به في لمة من أهل الأدب".

ويذكر ابن بشكوال أن أبا عبد الله محمد بن يحيى بن مزاحم الأنصاري، سكن طليطلة ورحل إلى المشرق وأصله من الأشبونة، ويصفه بأنه كان نهاية في علم العربية وتوفي سنة (502 هـ).

ومن فقهاء الأشبونة عبد الرحمن بن عبيد الله، وكان يروي عن الإمام مالك بن أنس. وأبو إسحاق إبراهيم بن هارون المصمودي، المعروف بالزاهد الأشبوني [3].

مدينة شنترين البرتغالية:
وكيف لا نقف عند مدينة شنترين (SANTAREM) الواقعة في شمال شرقي لشبونة والتي وصفها الوزير الكاتب الفتح بن خاقان حيث يقول: "شنترين قاصية أرض الإسلام، السامية الذُّرَا والأعلام، التي لا يروعها صرف، ولا يفرعها طرف؛ لأنها متوعرة المراقي، معثرة للراقي، متمكنة الرواسي والقواعد، على ضفة نهر استدار بها استدارة القلب بالساعد، قد أطلت على خمائلها إطلال العروس من منصتها، واقتطعت في الجو أكثر من حصتها".

ويكفي المدينة فخرا أنها أنجبت أديبا أندلسيا كبيرا هو أبو الحسن بن بسام التغلبي الشنتريني صاحب الموسوعة المعروفة (الذخيرة في محاسن الجزيرة)، جاء في المسهب للحجاري نقلا عن ابن سعيد: "العجب أنه لم يكن في حساب الآداب الأندلسية أنه سيبعث من شنترين - قاصية الغرب، ومحل الطعن والضرب، من ينظمها في قلائد من جيد الدهر، ويطلعها ضرائر للأنجم الزهر. ولم ينشأ بحضرة قرطبة ولا بحضرة إشبيليا ولا غيرهما من الحواضر العظام من يمتعض امتعاضه لأعلام عصره، ويجهد في جمع حسنات نظمه ونثره. وسَلَّ (الذخيرة)، فإنها تعنون عن محاسنه الغزيرة... ونثره في كتاب (الذخيرة) يدل على علو طبقته".

وضع ابن بسام مصنفه التاريخي والأدبي الرائع قبل سقوط وطنه شنترين في أيدي النصارى بأعوام قلائق. وكان قد ذكر في مقدمته أنه غادرها، حيث قال: "وعلم الله تعالى أن هذا الكتاب، لم يصدر إلا عن صدر مكلوم الأحناء، وفكر خامد الذكاء، بين دهر متلون تلون الحرباء، لانتباذي كان من شنترين قاصية الغرب، مفلول الضرب، مروع السرب، بعد أن استنفذ الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفاد، بتواتر طوائف الروم علينا في عقر ذلك الإقليم".

ويشتمل كتاب الذخيرة وفقا لتصنيف مؤلفه على أربعة أقسام خص القسم الثاني لأهل الجانب الغربي من الأندلس، وذكر أهل حضرة إشبيليا، وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومي، وفيه من الأخبار وأسماء الرؤساء وأعيان الكتاب جملة موفورة.

ومن أدباء شنترين المشهورين كذلك نذكر أبا محمد عبد الله بن سارة الشنتريني قال عنه ابن الآبار في التكملة: "سكن إشبيلية وتعيَّش فيها بالوراقة وتجول في بلاد الأندلس شرقا وغربا وامتدح الولاة والرؤساء وكتب لبعضهم وكان أديبا ماهرا شاعرا مفلقا مخترعا مولدا, توفي سنة 517 هـ".

وابن دِحْيَةَ في المطرب: "أدبه موفور، وشعره مشهور. انتقل من بلده شنترين إلى مدينة إشبيليا، وهو أوحش حالا من الليل، وأكثر انفرادا من سهيل، فانتجع الوراقة على كساد سوقها وفساد طريقها فتركها وأنشد فيها:

أمـــــــــــــــــــا الوِراقةُ فهي أنكد حرفــة *** أغصـــــــــــــنها وثمارها الحرمـان

شبهت صــــــــــــاحبها بإبرة خائـــــــط *** تكسو العراة وجسمها عريان [4]

شنتمرية الغرب . فارو البرتغالية:
ومن المراكز الحضارية الإسلامية في البرتغال المدينة التي سماها العرب (شنتمرية الغرب) والمعروفة اليوم باسم (فارو FARO) وتقع جنوبي البرتغال، وكان لها شأن كبير أيام العرب، مشهورة بالعنب والتين، وبينها وبين شلب ثمانية وعشرون ميلا. ومن عجائبها ما ذكره الحميري: "عين تنفجر بماء كثير يبصر ذلك الناس عيانا، فإذا قربوا منها ووقفوا عليها انقطع جريانها فلا تنبض بقطرة، فإذا تباعد الناس عنها عادت إلى حالها. ومن الغرائب ما ظهر بشنتمرية هذه في عشر الستين والخمسمائة، وذلك صبي يتواصف المحققون ممن عاين أمره أن سنه خمسة أعوام أو نحوها بلغ مبلغ الرجال وأشعر، وهذا مستفيض عندهم".

وإلى هذه المدينة ينتسب أبو الحجاج يوسف بن سليمان بن عيسى الأعلم الشنتمري العالم اللغوي الكبير وصاحب التصانيف الشهيرة في اللغة والأدب والنحو، بلغت ستة عشر مؤلفا منها الموجود بين مطبوع ومخطوط، ومنها المفقود، ومنها ما نطمئن إلى نسبته ومنها ما نشك فيه. لقد كان الأعلم واسطة في نقل ثقافة الجيل الثاني وما أخذه عن شيوخه إلى أجيال لاحقة ممن تتلمذوا عليه. وقد ذكرت المصادر عبارات تدل على تعدد من أخذ عنه وحضر حلقاته العلمية بإشبيلية. جاء في الصلة: "أخذ الناس عنه كثيرا". وفي الوفيات: "صارت الرحلة إليه في زمانه". وفي البغية: "ورحل إليه الناس من كل وجه". وفي الذخيرة: "وكان الأستاذ أبو الحجاج الأعلم يومئذ زعيم البلد وأستاذ ولد المعتمد فعول عليه في رحلته، وانقطع إليه بتفصيله وجملته، وكانت له في أثناء ذلك همة تترامى به إلى العلا"، وفي فجر الإسلام: "وقد استفاد منه كثيرون من أهل الأندلس، وكانوا يرحلون إليه".

وعلى العموم فقد كان واحدا من ثلاثة كان الأندلسيون يعدونهم أدباء عصرهم بلا منازع وهم: أبو مروان ابن سراج بقرطبة، والأعلم في إشبيلية، وغانم بمالقة [5].

مدينة يابرة البرتغالية:
أما مدينة يابرة (EVORA) فكانت من أهم مدن هذه المنطقة, ويصفها الحميري بأنها "كبيرة عامرة بالناس لها أسواق وقصبة، ومسجد جامع، وبها الخصب الكثير الذي لا يوجد لغيرها، من كثرة الحنطة واللحم وسائر البقول والفواكه، وهي أحسن البلاد بقعة وأكثرها فائدة".

وقد اشتهر من أبنائها الكاتب والشاعر الكبير أبو محمد عبد المجيد بن عبدون "العالم المستبحر في جميع الفنون", ويصفه ابن بسام بأنه "سر الدهر المكتوم، وشرف فهر الحديث والقديم، لسان صدقها في الآخرين، وقمر أفقها الذي ملأ الصدور والعيون، وديوان علمها المذال والمصون، ومسترق كلمها المنثور والموزون، أعجوبة الليالي، وذروة المعالي، ذو لسان يَفْرِي ظُبَةَ السيف، وصدر يسع رحلة الشتاء والصيف، أفصح من صمت ونطق وأجمح من صلى وسبق، عول من ملوك الطوائف على رئيس بلده المتوكل، فعليه نثر دره الثمين، وباسمه جبر وشيه المصون" [6].

مدينة باجة البرتغالية:
وتذكر المصادر التاريخية والأدبية أسماء أعلام كبار في مجالات فكرية وأدبية وفقهية تنتمي إلى مناطق برتغالية أخرى نذكر منها على سبيل المثال، عبد الملك ابن صاحب الصلاة صاحب كتاب (تاريخ المن بالإمامة). وهو أحد أبناء مدينة (باجةBEJA ) "أقدم مدن الأندلس بنيانا وأولها اختطاطا". ومن أشهر رجالاتها كذلك الإمام القاضي أبو الوليد الباجي شارح الموطأ، وصنف في الأصول والفروع، توفي سنة (474هـ).

مدينة شنترة وميرتلة البرتغاليتين:
وكذلك مدينة شنترة (CINTRA) وهي من أعمال لشبونة. وقد نسب إليها قوم من أهل العلم. نذكر منهم الزاهد بكار بن داود المرواني "وكان غاية في الزهد، مطرحا لنفسه ومات في جهاد العدو".

وميرتلة (MERTOLA) وكانت من أعمال باجة، وقد وصف ياقوت الحموي قصبتها بأنها أمنع حصون الجوف (غرب الأندلس) وهي من الأبنية القديمة، ينسب إليها الأديب الشاعر محمد بن عبد الله بن عمر ابن مندلة، صحب أبا الحجاج الأعلم كثيرا, وأخذ عن أبي محمد بن خزرج وأبي مروان بن سراج وغيرهما، كان أديبا لغويا شاعرا فصيحا، توفي سنة (533هـ). وقد اتخذها ابن قسي قاعدة لدعوته. وينتسب إليها كذلك الفقيه الزاهد أبو عمران موسى بن عمران المارتلي "له نثر ونظم في الزهد والحكم مدون مشهور. ومن نثره: كل ما يفنى ما له معنى. من خف لسانه وقدمه كثر ندمه. التغافل عن الجواب من فعل ذوي الألباب"، وقال عنه ابن الزبير في صلة الصلة "أحد أفذاذ الرجال، ممن جمع الله له العلم والعمل، زاهد ورع، عابد منقطع القرين. يؤثر العزلة والفرار عن الناس والانقطاع بدينه، فكان لا يخرج من داره إلا إلى مسجده، ولا يرى لغير ذلك أصلا. توفي سنة 604هـ وقيل 603هـ".

إضافة إلى مدن أخرى كان لها شأن كبير في تاريخ وحضارة الإسلام بالبرتغال مثل قلمرية (COIMBRA) وقصر أبي دانس وأبرنطيش (ABRANTES) وبراقة (BRAGA) وغيرها [7].

[1] انظر مجلة العربي الكويتية, عدد 219, 1977م, ص27 (البرتغال الإسلامية) محمود علي مكي.
[2] مجلة العربي, ص342. معجم البلدان لياقوت الحموي, الجزء الثالث, ص357-358, دار إحياء التراث العربي, بيروت. ديوان المعتمد بن عباد, 135, رقم 39. قلائد العقيان للفتح بن خاقان, ص33, مطبعة التقدم العلمية, القاهرة.
[3] انظر الروض المعطار, ص61. المغرب في حلى المغرب، الجزء الأول, ص411, تحقيق شوقي ضيف, دار المعارف, طبعة ثالثة, 1978م. ويذكر لسان الدين بن الخطيب في مقدمة الإحاطة, الجزء الأول, ص83, أنه في تأليفه عن تاريخ وأعلام بلده غرناطة إنما يحتذي حذو الكثيرين ممن سبقوه في التأليف عن أوطانهم، ويذكر أبا بكر بن محمد بن إدريس الفرابي العالوسي صاحب كتاب, الدرة المكنونة في أخبار أشبونة. وانظر ما كتبه عبد الرحمن حجي في (أندلسيات) ص150 عباس الجيراري في مجلة المناهل, عدد 12, ص62. انظر مجلة: آفاق عربية, عدد 1/1980م, ص41, أثر الحضارة الإسلامية على البرتغال, ف.ج فيلوزو ترجمة عبد الواحد ذنون. مجلة المناهل, عدد 112, ص62. ومجلة العربي, عدد: ديسمبر 1987م, ص79 (البرتغال مملكة الشمس الغاربة) محمود عبد الوهاب. الذخيرة, القسم الثاني, المجلد الثاني, ص786 تحقيق إحسان عباس, ليبيا, تونس 1978م. ابن بسام, الذخيرة, 2/2, ص797، 3/2, ص703، ص862. الصلة, الجزء الأول, ص532, تحقيق عزت العطار الحسيني, القاهرة 1955م. الحميدي, جذوة المقتبس, ص257, تحقيق محمد بن تاويت الطنجي, القاهرة 1952م.
[4] المطرب من أشعار أهل المغرب, ابن دحية, ص23, تحقيق إبراهيم الأبياري وحامد عبد المجيد وأحمد أحمد بدوي, دار العلم للجميع, 1955م. المغرب في حلى المغرب لابن سعيد, الجزء الأول, ص417و 418. التكملة, ص462، طبعة مصر, 1955م. المطرب لدحية الكلبي, ص78.
[5] الروض المعطار, ص347. مقدمة محقق كتاب, النكت في تفسير كتاب سيبويه، وتبيين الخفي من لفظه وشرح أبياته وغريبه, رشيد بلحبيب, الجزء الأول, ص24, مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- 1999م. ابن بشكوال, الجزء الثاني, ص643, تصحيح عزة العطار الحسيني, سلسلة من تراث الأندلس - 1354هـ. ابن خلكان, الجزء السابع, ص281, تحقيق إحسان عباس, دار صادر, بيروت. السيوطي, الجزء الثاني, ص356, تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم, دار الفكر, الطبعة الثانية, 1979م. ابن بسام, القسم الثاني, المجلد الأول, ص47, مرجع سابق. أحمد أمين, فجر الإسلام، الجزء الثالث, ص91, دار الكتاب العربي لبنان, 1969م. بغية الملتمس في تاريخ رجال أهل الأندلس, للضبي الجزء, ص241, طبعة مدريد 1884م.
[6] الروض المعطار, ص61. ابن دحية في المطرب, ص27. الذخيرة, القسم الثاني, المجلد الثاني, ص668/669.
[7] تاريخ المن بالإمامة ابن صاحب الصلاة، تحقيق عبد الهادي التازي, دار الأندلس, بيروت 1964م. الروض المعطار, الحميري, ص75, مرجع سابق. ياقوت الحموي, معجم البلدان, الجزء الثالث, ص367، الجزء الخامس, ص242. المغرب في حلى المغرب, الجزء الأول, ص ص406 ،415, مرجع سابق. الغصون اليانعة في محاسن شعراء المائة السابعة لابن سعيد ( الترجمة الخامسة) ص135 و 136 و 137, تحقيق إبراهيم الأبياري, دار المعارف الطبعة الثالثة, 1977م. صلة الصلة لابن الزبير، القسم الثالث, ص52/53 تحقيق عبد السلام الهراس والشيخ سعيد أعراب, مطبوعات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1993م.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

صور من الحضارة الإسلامية في البرتغال(7)

"طورد العرب وانتهت مأساة الموريسكيين، وبقيت حضارتهم ومراكزها بارزة في البرتغال وحياة البرتغاليين ثقافة وفكرا ولغة وعمرانا، غير أن مؤرخي البرتغال درجوا -إلا قلة منصفة منهم- على تجاهل هذه الحقبة الطويلة. والغريب أنهم يتحدثون عن بداية تاريخهم في ظلال الرومان، مع أن البرتغال بقيت تابعة للرومان ثم القوط نحو ثمانية قرون ونصف لم نسمع خلالها بشخصية واحدة لها قيمتها من الناحية الحضارية أو الثقافية، على حين أخرجت البرتغال الإسلامية مئات من الشخصيات الفذة التي تعتز بها الحضارة الإنسانية, والتي تمثل في تاريخ الفكر معالم مشرقة مجيدة" [1].

الآثار العربية الإسلامية في البرتغال:
مازالت الآثار العربية الإسلامية شاهدة على ما كانت تتمتع به هذه الربوع في ظل الإسلام من تقدم حضاري وتطور عمراني. ويذكر (فيلوزو) أن عدد أسماء المواقع الجغرافية العربية الأصل كبير بصورة غير اعتيادية في البرتغال، وذلك ينطبق حتى على المناطق التي خضعت للحكم العربي لفترة قصيرة، وتكثر هذه الأسماء بشكل عجيب في أقصى المناطق الجنوبية للبرتغال.

لقد كانت حضارة العرب متقدمة ومتطورة أكثر من حضارة شبه الجزيرة اللاتينية المسيحية. وبطبيعة الحال، فقد تبنى السكان عادات وتقاليد الفاتحين المتحضرة إلى حد كبير خلال فترة القرون الخمسة التي خضع فيها التاريخ البرتغالي للحكم العربي [2].

ويقول (الفييرا ماركيس) في كتابه: (تاريخ البرتغال/ الجزء الأول/ ص: 283): "إن الفن المدجن كانت له أهمية قصوى في المعمار المدني وفي البنايات الدينية وفي قصور الملوك وعليه القوم في أواخر القرن الخامس عشر والسادس عشر من كثرة ما كانوا يضعونه من فن النقش والزخرفة على البنايات مقيدين في ذلك بقواعده التي لا يحيدون عنها، وإن قصر شنترة أحسن مثال على ما تبقى من ذلك. وإن أكبر قسط من أبراج الأسوار المقامة بجنوب مونديكو أو جنوب نهر التاجة في القرون الحادي عشر والثاني عشر والثالث عشر هي من إنتاج البناء المدني والخبرة العسكرية الإسلامية، ولا تخلو لشبونة من الفن المدجن المتجلي خاصة في الزخرفة بالفسيفساء، وقد شاهدت ذلك في عدة أماكن سواء منها دور السكنى الكبيرة منها أو المتواضعة، بل حتى المقاهي الشعبية ودكاكين ومتاجر في الأحياء القديمة" [3].

وهناك مطبوعات قديمة ظاهرة على الأحجار، تبين أسماء شوارع بعض المدن البرتغالية بمنازلها المملوءة بالدفاف التي تضفي عليها سمة من السمات الشرقية [4].

التأثير العربي والإسلامي في البرتغال:
والمطلع على اللغة البرتغالية والدارس لها ولثقافتها لا يصعب عليه كشف التأثير العربي والإسلامي فيها. فهناك الكثير من الكلمات البرتغالية هي عربية أصيلة أو ذات أصول عربية، وقد توصل الباحث الدكتور البرازيلي (جواوباتيست فارجينز) في رسالته الجامعية (الكلمات البرتغالية ذات الأصول العربية) إلى وجود ثلاثة آلاف كلمة برتغالية من أصل عربي، "وقد اعتمدت في ذلك على قاموس (أوراليو) ومن نصوص برتغالية قديمة تتضمن بدورها أصولا لكلمات بالبرتغالية كالزبيب الذي يعني بالبرتغالية العزيز، وكذا السكر والسكاكير وأي مكان نمو السكر. وكلها كلمات عربية وصلت إلينا عبر التأثيرات الحضارية والتواصل الذي تعمق في مراحل معينة. وما يعد مهما ولافتاً للانتباه في هذه الدكتوراه هو توصلنا إلى حوالي ثلاثة آلاف كلمة برتغالية من أصل عربي. وقد اعتمدت في ذلك بالإضافة إلى ما ذكرته على قاموس لغوي قديم يرجع تاريخه إلى القرن السادس عشر، والذي مكنني من الوقوف على أصل الكلمات ومعانيها وتطوراتها، كما كنت أبحث كذلك في القاموس العربي في محاولة لمعرفة المرحلة التاريخية التي دخلت فيها الكلمة إلى البرتغالية" [5].

ويكاد القانون الجنائي البرتغالي في العصور الوسطى أن يكون عربيا في مواصفاته. "ويجب أَلاَّ نستغرب من هذا الأمر لأن العرب كانوا حكاما لمدة خمسة قرون في هذه الأرض. صحيح كانت هناك مؤسسات محلية أيضا، ولكن دراسة القوانين القديمة تشير إلى أن هناك عددا لا بأس به من الموظفين البرتغاليين في العصور الوسطى كانوا يتمتعون بألقاب ومناصب عربية، ولقد كان هذا -إلى حد ما- نتيجة لاتخاذ لشبونة عاصمة للحكم الملكي المسيحي، وهي التي كانت سابقا مركزا عربيا مهما".

ويظهر قانون المواريث التأثير الكبير للتشريع القرآني على الحياة القديمة للسكان البرتغاليين، فحتى عام (1910م) كان يحق في البرتغال للشخص أن يتصرف بثلث ثروته فقط قبل الوفاة، أما ما تبقى من ممتلكاته -وهو الثلثان- فيحفظ للأبناء.

كما عومل العبيد في البرتغال الإسلامية معاملة كريمة، كما هو الحال في بقية الأقطار الإسلامية. ولقد كان لتقليد الـ"ANADIGO" في برتغال العصور الوسطى أهمية عظمى، وهو يحمي المرأة المربية والمرضعة لابن سيدها، الذي هو ابنها أحيانا. وأطلق على هذه المرأة اسم (أمة) ويقوم سيدها بتكريمها وتكريم أسرتها بإهدائها قطعا من الأراضي، ويمن عليها بالحرية، وذلك طبقا للقانون الإسلامي [6].

لقد ازداد البرتغاليون تمرسا بالنظافة والأخلاق تحت حكم العرب، ولم يبطل التأثير العربي في توجيههم وتدريبهم حتى بعد أن أصبحوا أرقاء بسبب انصرافهم إلى العمل والكدح. وبفضل العرب أيضا استخدم الدلو والرشاء لانتشال الماء من الآبار العميقة، واستخدموا الساقية والناعورة لسقي الزروع.

وهم الذين أنشؤوا صناعة السكر في البرتغال، كما أدخلوا إليها الطاحونة المائية جدة الآلة البدائية لعصر القصب والتي تعمل بقوة انحدار الماء على دولاب خشبي كبير. ولا ريب أن زراعة الزيتون ازدادت تحسنا في البرتغال بعد قدوم العرب إليها. وكان للكرمة نصيب من عناية العرب، فقد جلبوا إلى الجزيرة البرتقال والقطن ودودة القز، ومما اقتبسه البرتغاليون عن العرب ونقلوه إلى البرازيل صناعة القرميد المطلي الذي عم استعماله في المساكن والكنائس والأديرة والحمامات والمغاسل، وفي فن الطبخ نقلوا عددا من المآكل الشهية وعلى الأخص المطهية بالزيت والكثيرة الدسم [7].

وعلى العموم فإن البرتغال كما يقول (سيرابراندو) رئيس جمعية المؤرخين البرتغاليين: "استفادت من انتمائها لحوض البحر المتوسط، فتأثرت بالمد والحضارة العربية، واستفادت من العلوم والمعارف العربية، فتم تطوير الإسطرلاب الذي استخدمه العرب من قبل، وكذلك كتابات العرب حول تحديد المركز المغناطيسي للأرض, والرياح, وحركة الأمواج" [8].

[1] انظر مجلة العربي الكويتية, عدد 219, 1977م, ص27 (البرتغال الإسلامية) محمود علي مكي.
[2] آفاق عربية, عدد 1/1980م, ص40.
[3] انظر كتاب محمد قشتليو, تأثير الفن العربي المدجن في حياة الأسبان ص54/55 مطبعة سبارطيل, طنجة 1989م.
[4] انظر كتاب (المدن الإسبانية المسلمة) ليوبولد تورس بالباس, ترجمه عن الإسبانية: إليودورودي لا بنيا, ص598, مطبوعات مركز الملك فيصل بالرياض, السعودية, الطبعة الأولى 2003م ( الدفة وتسمى في البرتغال ADUFA ) وعي تعني بوابة أولوحا خشيا.
[5] انظر حوارا معه في مجلة (الأنباء) المغربية, عدد 15/14, غشت 2000م, ص46/47, أدجرته نعيمة الحاجي.
[6] آفاق عربية, ص4 - 41.
[7] انظر دراسة المؤرخ البرازيلي جلبر توفريدي عن: (أثر الحضارة العربية في البرازيل) في مجلة (المعرفة) السورية، عدد: الخامس, السنة الثانية, يوليوز 1963م, ص7و 8 و 11, ترجم الدراسة موسى كريم.
[8] انظر مجلة العربي, عدد349, ديسمبر 1987م, ص82, البرتغال مملكة الشمس الغاربة، محمود عبد الوهاب.
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top