مقالات تاريخية-متجدد

رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

الحملة الصليبية السادسة

مقدمات الحملة الصليبية السادسة
كانت الحملة الصليبية الخامسة ضد دمياط آخر محاولات البابوية لتوجيه حملة صليبية تحت قيادتها فقط ولحسابها منفردة. ومن ناحية أخرى فإن الحملات الصليبية في القرن الثالث عشر الميلادي اتخذت طابعا مخالفا لحملات القرن الثاني عشر الميلادي. فالحملة الصليبية الثانية جاءت رد فعل على سقوط الرها سنة 539هـ / ١١٤٤م في يد عماد الدين زنكي، كما أن الحملة الصليبية الثالثة كانت استجابة للكارثة التي حاقت بالصليبيين في فلسطين بعد معركة حطين وسقوط بيت المقدس سنة 583هـ / ١١٨٧م.

أما حملات القرن الثالث عشر الميلادي فكانت نتيجة الضعف الدائم الذي ألم بالمستوطنات الصليبية، ولم تبرأ منه منذ عمليات صلاح الدين الأيوبي على الرغم من أن فرنج الشرق لم يواجهوا أي خطر حقيقي طوال فترة الدولة الأيوبية بعد وفاة صلاح الدين. وعلى الرغم من أن شواطئ فلسطين شهدت في هذا القرن موجات متصلة من الفرسان والمغامرين وشذاذ الآفاق والباحثين عن الفرص تحت راية الصليب، وعلى الرغم من أن بعض هذه الموجات كانت عاتية تضم فيالق من الفرسان والمحاربين وبعضها كان أقرب إلى الرذاذ الخفيف إلا أن هذا المدد المتواصل لم يستطع أن يقدم شيئا للكيان الصليبي الذي كان يمضي إلى نهايته المحتومة.

ولأن فشل حملة دمياط كان ضربة موجعة لهيبة البابوية، فقد أخذ البلاط البابوي يضغط بشدة من أجل شن حملة صليبية جديدة. ولن ندخل في تفاصيل التقلبات السياسية في أوروبا آنذاك. ولكن ما يهمنا أن الصليبيين في فلسطين لم يحاولوا الإفادة من سياسة المهادنة التي اتبعها السلطان الكامل الأيوبي أو أن يستجيبوا لها، وكذلك كان حال البابوية.

الإمبراطور الألماني فردريك الثاني II Frederick
كان موقف الإمبراطور الألماني فردريك II Frederick (١٢١٥م - ١٢٥٠م) مختلفا; فقد أبدى استعدادا واضحا للإفادة من هذه الروح السلمية البادية في موقف السلطان الكامل الأيوبي. ويرجع السبب في ذلك إلى فردريك الثاني نفسه إذ لم يكن صليبيا مثل غيره من ملوك أوروبا اللذين قادوا الحملات الصليبية. لقد كان هذا الإمبراطور الذي عرف باسم أعجوبة الدنيا صقليا تربى في ظل مظاهر الحضارة العربية التي فرضت نفسها في كل مكان من جزيرة صقلية التي نشأ في أحضانها.

ولم يكن الإسلام بالنسبة له مجرد كتاب مغلق كما أن المسلمين لم يكونوا مجرد قوم من الكفار يستحقون الموت. فقد كان ذلك الإمبراطور يكن للمسلمين ودينهم وحضارتهم تقديرا كبيرا. وكان واسع العلم غزير المعرفة يجيد من لغات الدنيا آنذاك ست لغات هي العربية واليونانية واللاتينية والإيطالية والألمانية والفرنسية.

وكان فردريك الثاني قد تولى عرش الإمبراطورية الرومانية سنة 612هـ/ ١٢١٥م، وأخذ شارة الصليب في تلك السنة لكي يضمن تأييد البابا إنوسنت الثالث له في عرش الإمبراطورية، بيد أنه كان عازفًا عن القيام بحملة صليبية؛ لأنه كان يطمح إلى بسط نفوذه على كل إيطاليا بما فيها أملاك البابوية ومدن الشمال التجارية الغنية؛ ولذلك أخذ يماطل في الوفاء بنذره الصليبي بأن يقود حملةً كبيرةً إلى الأراضي المقدسة، ولكن زواجه من يولاندا ابنة الملك الصليبي الراحل يوحنا بريين ملك عكا، جعل منه ملكًا على بيت المقدس ومسئولاً عن الصليبيين في الشرق.

وفي عام 624هـ / 1227م أراد فريدرك أن يلبي رغبة البابا، فأبحر من ميناء برنديزي (جنوب إيطاليا) على رأس حملة ضخمة ولكن الحمى أصابته، كذلك انتابت صفوف الجيش نوبة مرض مدة قصيرة من الزمن أثناء انتظارهم لعبور البحر، فعاد فردريك لكي يسترد صحته، وأثناء ذلك مات هو نوريوس الثالث، وتولى جريجوري التاسع، فاعتقد أن فرديك يتمارض ويتعمد المراوغة فأصدر قرار حرمان من الكنيسة ضده. لقد فتح قرار الحرمان باب النزاع بين الطرفين الإمبراطور والبابا ولكن الإمبراطور أدرك أن مصلحته تقتضي القيام بحملة على بلاد الشام حتى يفوت على البابا إظهاره في صورة مسيحي عاق.

ويبدو أن ظروف الشرق هيأت الجو للإمبراطور للقيام بحملته، كذلك، فإن شخصية الإمبراطور وافقت عقلية الملك الكامل وشخصيته، إذ توثقت العلاقات بينهما في عصر اشتد فيه العداء بين ملوك الصليبيين والمسلمين، وازدادت الحركة الصليبية عنفاً، إلا أن شخصية الملكين وما كان يحيط بهما من ظروف كان لها أثر كبير في توثيق هذه العلاقة الودية.

قدوم الحملة الصليبية السادسة
أقلع الإمبراطور بحملته الصليبية في صيف 625هـ /1228م على رأس جيش صليبي صغير قوامه ستمائة فارس فقط، وأسطول هزيل، استجابة للدعوة التي تلقاها من الملك الكامل بمنحه القدس، ولم ينس أنه خرج من بلاده محروماً من الكنيسة، وأنه اعتمد وعود الكامل له بإعطاء بيت المقدس لذلك لم يحضر جيشاً قويا.

عرج فردريك الثاني على قبرص في طريقه إلى الشام، واستقبل استقبالاً طيباً، وأصبحت الجزيرة تابعة له وفقاً لقانون الإقطاع الحرماني، ثم أبحر في قبرص قاصداً عكا، فوصلها بعد أربعة أيام، ولعله من الغريب أن البابا أخذ يعمل على ألا ينجح الإمبراطور فردريك الثاني في احتلال بيت المقدس، حتى لا يكسبه ذلك شرفاً ونصراً بعد ما حرم، بل أن البابا حرض الملك الكامل على عدم تسليم المدينة المقدسة للإمبراطور. كما استغل الإمبراطور وفاة الملك المعظم سنة 624هـ / 1226م فقام سنة 625هـ / 1227م بالاستيلاء على صيدا التي كانت مناصفة بين المسلمين والإفرنج.

المفاوضات بين الملك الكامل والإمبراطور فردريك الثاني
عندما وصل الإمبراطور فردريك إلى عكا بعث رسوله إلى الملك الكامل، وأمره أن يقول له: "الملك يقول لك: كان الجيد والمصلحة للمسلمين أن يبذلوا كل شيء .. ولا أجيء إليهم والآن فقد كنتم بذلتم لنائبي -في زمن حصار دمياط- الساحل كله، وإطلاق الحقوق بالإسكندرية وما فعلناه وقد فعل الله لكم ما فعل من ظفركم، وإعادتها إليكم، ومن نائبي؟ إن هو إلا أقل غلماني، فلا أقل من إعطائي ما كنتم بذلتموه له".

وحار الملك الكامل في الموقف الذي يجب أن يتخذه من الإمبراطور لأنه هو الذي دعاه إلى الشام، وألح عليه في المجيء إليها ليناصره على أخيه المعظم، واعداً إياه بقسم من أملاك هذا الخصم، فلما وصل إليها لم يعد في حاجة إلى مساعدته لأن المعظم كان قد توفي، وغدت الأملاك الموعودة جزءاً من مملكته وأصبح من واجبه أن يدافع عنها، إن لم يكن بعامل الرغبة في المحافظة عليها فبعامل الحفاظ على سمعته أمام جماهير المسلمين يصف ابن واصل الموقف فيقول: "تحير الملك الكامل، ولم يمكنه دفعه ولا محاربته، لما كان تقدم بينهما من الاتفاق". ومن هنا أراد الكامل أن يطيل أمد المفاوضات بينه وبين فردريك.

وأدرك الإمبراطور أن موقف الملك الكامل أصبح على غير ما كان ينتظر، ولم يبق للإمبراطور فردريك الثاني أمام هذا الموقف الحرج سوى سلاح المفاوضة والاستعطاف واستخدام كافة وسائل الدبلوماسية للوصول إلى غرضه والعودة إلى الغرب الأوروبي مرفوع الرأس، فأرسل إلى الملك الكامل سفارة من رسولين تحمل له هدايا نفيسة من منسوجات حريرية وأواني ذهبية وفضية، مطالباً إياه بتحقيق وعده تسليم بيت المقدس، غير أن السلطان الكامل بادله بالرفض.

وإزاء تنكر الكامل لوعوده، ساء موقف فردريك الثاني لاسيما بعد أن جاءته الأخبار من الغرب بأن البابا استغل فرصة غيابه واعتدى على ممتلكاته، فأخذ يرجو الملك الكامل ويستعطفه، حتى قيل أنه كان يبكي في بعض مراحل المفاوضات وليس أدل على تذلل الإمبراطور من الكلام الذي جاء في رسائله إلى الملك الكامل: "أنا أخوك واحترام دين المسلمين احترامي لدين المسيح، وأنا وريث مملكة القدس، وقد جئت لأضع يدي عليها، ولا أروم أن أنازعك ملكك، فلنتجنب إراقة الدماء". واستمر الإمبراطور في الاستعطاف، ولم تلبث الاستعطافات أن أتت أكلها وأفلحت في التأثير في الكامل.

وأثناء ذلك شرع فردريك الثاني في عمارة صيدا وقام بتحصين يافا، وكان ذلك بمثابة مظاهرة عسكرية، جعلت الملك الكامل يخشى قيام فردريك وبقية الجموع الصليبية بالشام بعمل حربي ضده، وهو الشعور الذي فسره المقريزي بقوله: "إن الكامل خاف من عائلته عجزاً عن مقاومته". وكان الدخول في حرب ضد الإمبراطور والصليبيين عندئذ تعني بالنسبة للملك الكامل وقوعه بين ثلاثة أعداء هم: (الصليبيين، وابن أخيه الملك الناصر داود من ناحية، والخوارزمية التي استنجد بها الناصر داود من ناحية ثانية). وفي ضوء هذه الحقائق كلها، وتحت تأثير رسول الملك الكامل في المفاوضات الأمير فخر الدين يوسف بن الشيخ، تنازل عن بيت المقدس.

صلح يافا .. هدنة العشر سنوات
أخيراً عقد الملك الكامل في ربيع الأول 626هـ/ فبراير 1229م اتفاقية مع الإمبراطور فردريك الثاني، عرفت بصلح يافا، وكتبت صيغة الاتفاقية باللغتين العربية والفرنسية، ووقع عليها الطرفان وحلفا على التزامها ووقع الإمبراطور عليها بعد أسبوع، فيما وقع على بنودها الملك الكامل في الوقت نفسه، على أساس أن يتسلم الإمبراطور مدينة القدس، وبيت لحم، وشريطًا من الأرض يصل بين عكا والقدس، ويبقى في حوزة المسلمين المسجد الأقصى وقبة الصخرة والمناطق الريفية، وفي المقابل يتعهد فردريك بمنع أي حملة صليبية طوال عشر سنوات من أوربا.

وسرعان ما وضعت هذه الاتفاقية موضع التنفيذ، فنودي بالقدس بخروج المسلمين منه، وتسليمه إلى الفرنج، وأعلن فردريك الثاني في جنوده: "أشكروا الله واحمدوه، إذ أتم عليكم نعمته، وإن إتمامها كان معجزة من الله وليس نتيجة الشجاعة أو الحروب، وما أتمه الله لم تستطع قوة من البشر على الأرض إتمامه لا بكثرة العدد، ولا بالقوة ولا بأية وسيلة أخرى".

وبعد أن تُوِّج فردريك الثاني ملكًا على مملكة بيت المقدس الصليبية عاد في رجب 626هـ/ يونيو ١٢٢٩م إلى أوربا بمكاسب لم تستطع أية حملة أخرى قبله أن تحققها منذ الحملة الأولى في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي، مع أنه كان يقود أضعف الحملات.

ويبدو جليًّا لنا أن هذه النتائج لم يكن لها أن تتحقق لولا تنازل الملك الكامل الذي فرَّط في أراضي المسلمين لصديقه الملك الصليبي بدون مقابل؛ وذلك حتى يُحسِّن فردريك وضعه في أوربا. ولا شك أن هذه الأحداث تعكس طبيعة متهاونة للملك الكامل في حقوق المسلمين، تُكرِّس الصورة التي ظهرت خلال الحملة الخامسة عندما انسحب تاركًا العادلية ودمياط للصليبيين.

موقف العالم الإسلامي من تفريط الكامل
أما العالم العربي الإسلامي فقد رأى -بحق- أن الهدنة التي عقدها الكامل الأيوبي كارثة حقيقية. وكان رد الفعل الشعبي عنيفا ضد السلطان الذي بعث سفراءه إلى كل مكان لتبرير فعلته. وقد علق ابن الأثير على ذلك بقوله: "واستعظم المسلمون ذلك وأكبروه ووجدوا له من الوهن والتألم ما لا يمكن وصفه. يسر الله فتحه وعوده إلى المسلمين بمنه وكرمه، آمين".

وقال ابن الأهدل: "وللكامل هفوة جرت منه -عفا الله عنه- وذلك أنه سلمَّ مرة بيت المقدس إلى الفرنج اختياراً نعوذ بالله من سخط الله وموالاة أعداء الله".

السلطان الصالح نجم الدين أيوب
وفي سنة ٦٣٥ ه/ ١٢٣٩م مات السلطان الكامل، وبعد عدة تقلبات في الأحوال اعتلى عرش السلطنة في القاهرة ابنه السلطان الصالح نجم الدين أيوب سنة ٦٣٨ه/ ١٢٤٠م. وفي غمرة الحرب الأهلية والمنازعات التي اندلعت بين الأيوبيين في بلاد الشام ومصر والجزيرة، والتي انتهت باعتلاء الصالح أيوب عرش مصر، انتهت الهدنة ذات السنوات العشر.

معركة غزة
وكان البابا جريجوري التاسع Gregory IX يستعد لهذا الموقف منذ صيف سنة 637هـ / 1239م، ولم تلق جهوده استجابة كبيرة سوى في فرنسا حيث تجمع عدد من نبلائها تحت زعامة تيبالد الشامباني ملك نافار Theobald de Champagne، وبعد رحلة عاصفة في الموسط وصلت هذه الحملة إلى عكا في أول سبتمبر. وفي غضون أسابيع قليلة تجمع جيش قوامه حوالي ألف من الفرسان. وفي نوفمبر من السنة نفسها (637هـ / 1239م) التقى هذا الجيش مع الجيش المصري قرب مدينة غزة في معركة قاسية كانت الهزيمة فيها من نصيب الصليبيين الذين تفرقوا بين أسير وقتيل.

استعادة الصالح أيوب بيت المقدس
كان التنازل عن بيت المقدس صدمة مزلزلة للمسلمين، الذين ترحَّموا على صلاح الدين وجنوده المجاهدين الذين بذلوا أرواحهم من أجل تحريره؛ ليأتي ذلك الملك الخانع الكامل الأيوبي ليتنازل عنه لشرذمة من الصليبيين دون أي مقاومة. ومن ثَمَّ كان من أهم آمال المسلمين إعادة تحرير الأقصى.

وقد قيَّض الله للأمة السلطان المجاهد نجم الدين أيوب، الذي عمل على تحرير المقدسات؛ واستطاع بفضل الله أن يحرِّر المسجد الأقصى بمعاونة جنوده الخوارزميين في 3 من صفر 642هـ / 11 من يوليو 1244م؛ ليتحرر المسجد الأقصى نهائيًّا من أيدي الصليبيين، ولم يجرؤ جيش صليبي أن يدخلها مدة سبعة قرون، حتى دخلها الإنجليز خلال الحرب العالمية الأولى عام 1914م، وقبل أن يحتلها الصهاينة عام 1948م.

وقد كان الملك الصالح نجم الدين حاكمًا صالحًا، ومجاهدًا في سبيل الله، يحب العلم، ويقدّر العلماء، وهو مَن استضاف سلطان العلماء العز بن عبد السلام رحمه الله بعد أن ضيَّق عليه الخائن الصالح إسماعيل سلطان دمشق، وكان نجم الدين يلتزم برأي العز، ولا يخالفه؛ لذا لمَّا أعلمه بوجود حانات للخمور أسرع بإغلاقها. وبالجملة كان نجم الدين أيوب أفضل حاكم أيوبي بعد صلاح الدين.

وفي سنة ٦٤٧هـ / ١٢٤٩م تواترت الأنباء عن قرب قدوم حملة جديدة تحت راية الصليب ضد مصر بقيادة لويس التاسع Louis IX ملك فرنسا بهدف احتلال مصر، وتلك كانت الحملة الصليبية السابعة.

المراجع:

- قاسم عبده قاسم: ماهية الحروب الصليبية، عالم المعرفة (149)، مايو 1990م.
- علي الصلابي: الأيوبيون بعد صلاح الدين، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر، الطبعة: الأولى.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

العباسيون وبلاد ما وراء النهر

بلاد ما وراء النهر أو ما يعرف الآن ببلاد وسط آسيا أو آسيا الوسطى، تعبير أطلقه الجغرافيون والمؤرخون المسلمون على المنطقة المحصورة بين نهري جيحون (آموداريا) في الجنوب، وسيحون (سرداريا) في الشمال، وسكانها من العنصر التركي الذي انحدر إليها من الشرق منذ القرن السادس الميلادي وكونوا لهم عدة ممالك مستقلة فيها. وهي اليوم تضم خمس جمهوريات إسلامية كانت خاضعة للاتحاد السوفيتي، ثم مَنَّ الله عليهم فاستقلوا بعد انهياره، وهذا الجمهوريات هي الآن أوزبكستان وطاجيسكتان وقازاخستان وتركمانستان وقرغيزيا.

الأمويون وبلاد ما وراء النهر
تعد المرحلة الحاسمة لفتح بلاد ما وراء النهر جاءت على يد الفاتح البطل قتيبة بن مسلم الباهلي، ففي غضون عشر سنوات (86- 96هـ) بسط السيادة الإسلامية على كل البلاد. وقد توالت إغارات الأتراك الشرقيين على بلاد ما وراء النهر حتى أخذوا يشكلون خطرا على الدولة الأموية التي تصدَّت لذلك الخطر بجراءة وجسارة، وقام الولاة الأمويون مثل الجراح بن عبد الله الحكمي، وعبد الله بن معمر اليشكري، الذي تابع الغزو في الجزء الشمالي الشرقي من البلاد ونسب إليه أنه هم بغزو الصين نفسها.

وظلت الدولة الأموية والأتراك الشرقيين في صراع يتبادلون النصر والهزيمة حتى تغلبت كفة الدولة الأموية على يد الوالي الشجاع أسد بن عبد الله القسري (117- 121هـ) ونصر بن سيار (121- 129هـ) الذي حظي بمكانة في تاريخ الجهاد الإسلامي في تلك البلاد لا تقل عن مكانة قتيبة بن مسلم، فهو الذي حمى بلاد ما وراء النهر من خطر الأتراك الشرقيين [1].

وخلاصة القول: أن فتح بلاد ما وراء النهر وتثبيت ذلك الفتح وتهيئتها لقبول الإسلام، عقيدة وفكرا وثقافة وسلوكا يعتبر من أهم منجزات العصر الأموي.

العباسيون وبلاد ما وراء النهر
ظل الأمويون يخوضون معارك تثبيت الفتوحات الإسلامية في بلاد ما وراء النهر، وحمايتها من خطر الأتراك الشرقيين إلى آخر أيامهم، فلما سقطت دولتهم سنة 132هـ وقامت الدولة العباسية واصلت- تلك الأخيرة- السياسية نفسها بل إن العباسيين واجهوا خطرا جديدا، وهو الخطر الصيني، فقد رنت الصين إلى السيطرة لا على الأتراك الشرقيين فحسب، بل على بلاد ما وراء النهر ذاتها.

ولم تكن الأطماع الصينية تقف عند حد السيطرة السياسية، وإنما كانت ترمي إلى الاستيلاء على طرق التجارة التي تعبرها القوافل من الشرق الأقصى إلى بلاد ما وراء النهر ثم إلى موانئ البحرين الأسود والأبيض المتوسط ثم إلى أوربا، وهذه المطامع الصينية جعلت الصدام مع الدولة العباسية أمرا محتما.

معركة طلاس
وبالفعل التقى الجيشان الصيني والعباسي في معركة طلاس سنة (134 هـ/ 752 م) والتي انتصر فيها الجيش العباسي انتصارا عظيما، كان أعظم الانتصارات العربية في وسط آسيا. وبعد هزيمتهم تراجع الصينيون، بل كان أثر الهزيمة شديدا عليهم إلى درجة أنهم تقاعسوا عن نصرة أمير أشروسنة عند ما استغاث بهم ضد المسلمين، وكان هذا يعني أن العباسيين قد نجحوا في إبعاد الصين عن المعركة.

وبات على الأتراك الشرقيين أن يواجهوا العرب معتمدين على أنفسهم وكان هذا فوق طاقتهم؛ لأن العباسيين أولوا المنطقة عناية كبيرة، وواصلوا جهودهم في صد العدوان إلى أن زال خطر الأتراك الشرقيين، وانتشر الأمن على الحدود، وارتفع شأن الحكومة الإسلامية في عيون الناس، مما مكّن للإسلام أن يمضي قدما في طريق الانتشار والنجاح.

السياسة العباسية في بلاد ما وراء النهر
وقد واكبت السياسة العباسية هذا التطور، وشجعت الأتراك على اعتناق الإسلام بالإكثار من استخدامهم في الإدارة بل في الجيش نفسه، والحق أن العباسيين اقتدوا في ذلك بالأمويين، الذين سبق أن استخدموا غير المسلمين في الجيش، فجاء العباسيون وتوسعوا في هذا المجال، فقد أنشأ الفضل بن يحيى البرمكي في عهد هارون الرشيد فرقة كبيرة في خراسان من الأتراك الغربيين، بلغ عدد أفرادها خمسين ألف مقاتل بعث منهم عشرين ألفا إلى بغداد، وأطلق عليهم اسم الفرقة العباسية واشترك في قوات علي بن عيسي رجال من الصغد، وكان جيش طاهر بن الحسين يضم سبعمائة من الخوارزمية، والجديد في الأمر هنا هو استخدام الجنود الأتراك في بغداد نفسها.

كما استن الخليفة المأمون (198- 218هـ) سنَّة جديدة، حيث دعا كثيرين من زعماء الأتراك إلى الدخول في خدمته في بغداد ومنحهم الصلات وال****ا، وألحق كثيرا من فرسانهم بالحرس الخليفي [2].

وفي عهد الخليفة المعتصم (218- 277 هـ) وضح أن الإسلام قد تمكن في بلاد ما وراء النهر، ورسخت أقدامه، حتى أن الأتراك الغربيين أنفسهم قد أصبحوا مادة الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن الإسلام ونشره بين الأتراك الشرقيين، يقول البلاذري: "والمعتصم بالله جل شهود عسكره من جند أهل ما وراء النهر، من الصغد والفراغنة وأهل الشاش وغيرهم، وحضر ملوكهم ببابه، وغلب الإسلام على ما هناك، وصار أهل تلك البلاد يغزون من وراءهم من الترك ففتح مواضع لم يصل إليها أحد من قبله" [3].

أسلمة بلاد ما وراء النهر
وهكذا مضى العباسيون قدما في تنفيذ السياسة التي رسمها الأمويون لأسلمة بلاد ما وراء النهر، وحققوا نجاحات هائلة، وسارت الثقافة الإسلامية في ركاب الإسلام، وتوطدت أركانها بين أهل البلاد ولم تعد ثقافة الوافدين، وبدأ أهل البلاد يتعلمون اللغة العربية، وإذا كانت المراكز الثقافية فيما وراء النهر خاصة في بخارى وسمرقند لم تبرز وتحدد معالمها إلا في عهد الطاهريين (205 - 259هـ/ 820 - 873م) والسامانيين (261 - 389هـ/ 874 - 999م) إلا أن الخطوات الأولى التي أدت إلى ذلك التطور قد بدأت في أواخر العصر الأموي وأوائل العصر العباسي.

ومن أراد أن يعرف الجهود التي بذلها أهل ما وراء النهر وإسهاماتهم في الثقافة الإسلامية ويقدر كل ذلك حق قدره فما عليه إلا أن يرجع إلى كتب طبقات العلماء، مثل طبقات الأطباء، والحفاظ، والفقهاء، والمفسرين، والمحدثين، والنحاة، واللغويين، والشعراء ... إلخ.

ومما لا شك فيه أن بروز علماء كبار من أهل تلك البلاد من أمثال الإمام البخاري -لا على مستوى بلاد ما وراء النهر فحسب، بل على مستوى العالم الإسلامي- لم يتم بين عشية وضحاها بل لا بد أن يكون هذا الجيل من العلماء مسبوقا بأجيال كثيرة مهدت له الطريق [4].

[1] حسن أحمد محمود: الإسلام في آسيا الوسطى، ص150 – 153.
[2] حسن أحمد محمود: الإسلام في آسيا الوسطى، ص157، 162 – 163.
[3] البلاذري: فتوح البلدان، ص431.
[4] حسن أحمد محمود: الإسلام في آسيا الوسطى، ص163 – 164.
 
السلام عليكم

مسيلمة الكذاب


مسيلمة بن حبيب الحنفي، أشهر المتنبئين وأخطرهم في الجزيرة العربية، وهو من يعرف في كتب السير والتاريخ والتراجم بمسيلمة الكذاب، ادعى النبوة زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم واستفحل أمره زمن أبي بكر الصديق، وشكلت حركته تهديدا واضحًا لدولة الإسلام الناشئة، فمن هو مسيلمة الكذاب؟ وما موقف رسول الله منه؟ وما طبيعة أسجاعه؟


من هو مسيلمة الكذاب؟
اختلف في اسمه، فقالوا: مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب، وقالوا: مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب الحنفي، ويكنى: أبا ثُمَامَةَ، وقيل: أبا هارون، وفي الأمثال: "أكذب من مسيلمة". ولد ونشأ في اليمامة، في القرية المسماة اليوم بالجبيلة، بقرب العيينة بوادي حنيفة في نجد.

تذكر الأخبار أن مسيلمة: "كان قصيًرا شديد الصفرة أخنس الأنف أفطس"، وكان أكبر عمرًا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه قد تكهن وتنبأ باليمامة ووجد له أتباعًا قبل نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم، وأن أهل مكة كانوا على علم برسالته، ويذكر أهل الأخبار أن مسيلمة كان ابن مائة وخمسين سنة حين قُتل في اليمامة.

وكان مسيلمة قبل ادعائه النبوة يتجول في الطرقات، يطوف في الأسواق التي كانت بين دور العرب والعجم، مثل الأبلة وبقة (موضع قريب من الحيرة)، والأنبار والحيرة، يلتمس تعلم الحيل والنِّيرَجَات، واحتيالات أصحاب الرقى والنجوم والخط ومذاهب الكهان والعياف والسحرة، ويتابع أخبار المتنبئين [1].

شخصية مسيلمة الكذاب [*]
ويبدو أن مسيلمة الكذاب كان على قدر من قوة البيان والشخصية، على عكس ما تصفه المصادر بأنه كان "رويجلا، أصيفر، أخينس"، إذ ترك تأثيرًا ملموسًا في أوساط بني حنيفة، والقبائل المجاورة، اشتهر بالخلابة، والقدرة على استهواء النفوس من الرجال والنساء، وخليق بهذا أن يظن به السحر، وتنتظر منه الخوارق بين الجهلاء؛ لأنهم يرون سلطانه ولا يعلمون مأتاه، فيخيل إليهم أنه سر من الغيب، أو معونة من الجنة والشياطين، وهو على هذا كان يعين حيلته بما استطاع من صناعة الشعوذة، والألاعيب التي كان يحذقها بعض الكهان في بلاد العرب والعجم، ولم يكن في طبيعته بمعزل عن طبائع السحرة، وأدعياء الغيب، وتسمى بالرحمن، فقيل له: رحمن اليمامة.

كان مسيلمة يدعي النبوة ورسول الله بمكة، وكان يبعث بأناس إليها ليسمعوا القرآن ويقرؤوه على مسامعه، فينسج على منواله أو يسمعه هو نفسه للناس زاعمًا أنه كلامه [2].

وفد بني حنيفة إلى رسول الله
وعندما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء يدعوهم إلى الإسلام، كتب إلى هوذة بن علي الحنفي النصراني وأهل اليمامة، وأرسل كتابه مع سليط بن قيس بن عمرو الأنصاري، فاشترط هوذة أن يجعل الأمر له من بعده، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "لا ولا كرامة، اللهم أكفنيه"، فمات بعد قليل.

وفي العام التاسع للهجرة الذي عم فيه الإسلام ربوع الجزيرة العربية أقبل وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة الكذاب إلى المدينة في بضعة عشر رجلًا برئاسة سلمى بن حنظلة، وفيهم الرجَّال بن عنفوة أحد وجهاء القبيلة، لإجراء مباحثات مع النبي صلى الله عليه وسلم، وإعلان إسلامهم، ويبدو أنهم أمَّلوا مقابل دخلوهم في الإسلام، الحصول على موافقة من النبي صلى الله عليه وسلم لخلافته.

ويذكر أن بني حنيفة تعد من أضخم القبائل العربية، وأوفرهم حظًّا بالمنعة والجاه، وقد دفعوا أولاً بمسيلمة للوقوف على رأي النبي صلى الله عليه وسلم، فاجتمع به منفردًا، وطلب منه أن يجعل الأمر له من بعده، فرفض النبي صلى الله عليه وسلم وقال له: "لو سألتني هذا القضيب -وكان بيده- ما أعطيتكه، وإني لأراك الذي رأيت فيه ما رأيت".

ثم اجتمع أعضاء الوفد بالنبي صلى الله عليه وسلم في المسجد بدون مسيلمة، والواقع أن ذلك كان متعمدًا، ولم تذكر المصادر ما دار في هذا الاجتماع، إنما روت خروج أعضاء الوفد، وقد اعتنقوا الإسلام، وأعطاهم النبي جوائزهم، غير أنه استنادًا إلى تطور الأحداث بعد ذلك يحملنا على الاعتقاد بأنهم كرروا طلب مسيلمة بأن يكون الأمر لهم بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وأن النبي رفض طلبهم، ولما قرروا العودة خاطبوا رسول الله قائلين: "إنا خلفنا صاحبًا لنا في رحالنا يبصرها لنا، وفي ركابنا يحفظها علينا".

وهذا دليل على أن تخلف مسيلمة كان متعمدًا وفق خطة مبيَّتة علهم ينتزعون من النبي صلى الله عليه وسلم وعدًا، أو ما يشبه الوعد، بتحقيق هدفهم، ولا شك بأن رسول الله أدرك فورًا هدفهم بأن صاحبهم هذا هو مسيلمة، فلم يميزه، وساواه بأصحابه، وقال صلى الله عليه وسلم: "ليس بشركم مكانًا يحفظ ضيعة أصحابه"، فقيل ذلك لمسيلمة، فقال: "عرف أن الأمر إليَّ من بعده"، فلما عادوا إلى ديارهم أدعى النبوة متخذًا من حديث رسول الله مع وفد قومه، وإخباره أنه ليس بشرهم مكانًا؛ دليلًا على دعواه، وهذا تفسير أحادي الجانب يتناقض مع قول النبي صلى الله عليه وسلم الصريح بشأن وضعه.

ومهما يكن من أمر، فقد أدرك النبي صلى الله عليه وسلم من خلال ما جرى مع وفد بني حنيفة، أن هؤلاء القوم سوف يغدرون به، ويرتدون عن الإسلام، وأن صاحبهم سيقودهم إلى شر عاقبة يهلكهم بها، فهم وهو في شر سواء.

واستغل نَهَار الرِّجَال بن عنفوة وجوده في المدينة، فتعلم القرآن وتفقه في الدين، ووقف على تعاليم الإسلام، وكان هذا الرجل ذا بصيرة، وذكاء فعينه النبي معلمًا لأهل اليمامة يفقههم في الدين، ويرد من اتبع منهم مسيلمة، ويشغب معهم عليه، ويشد من عزائم المسلمين. لكن نهارًا كان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، وما كان تفقهه إلا رياء، فهو لم يلبث أن انضم إليه، وأقر بنبوته، وشهد بأن محمدًا أشركه معه في الرسالة، فالتف بنو حنيفة حوله، ومن جهته فقد وضع مسيلمة كل ثقته بنَهَار يستشيره في كل أمر يقلد فيه محمدًا [3].

مراسلات بين رسول الله ومسيلمة الكذاب
وبعد أن عاد مسيلمة الكذاب إلى قومه، وأظهر دعوته، كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم كتابًا يدعي فيه مشاركته في الرسالة، ويساومه في اقتسام الملك والسيادة في جزيرة العرب، فقال: "مِنْ مُسَيْلِمَةَ رَسُولِ اللَّهِ، إلَى مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ: سَلَامٌ عَلَيْكَ، أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي قَدْ أُشْرِكْتُ فِي الْأَمْرِ مَعَكَ، وَإِنَّ لَنَا نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلِقُرَيْشٍ نِصْفَ الْأَرْضِ، وَلَكِنَّ قُرَيْشًا قَوْمٌ يَعْتَدُونَ".

وأبى النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك الفرصة لمثل هؤلاء الكذابين للتشكيك في أمر الدين، فكتب رسالة وأعطاها إلى حبيب بن زيد رضي الله عنه أحد الصحابة الشباب، وفيها: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، مِنْ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ، إلَى مُسَيْلِمَةَ الْكَذَّابِ: السَّلَامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى. أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ الْأَرْضَ للَّه يُورَثُهَا مَنْ يُشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ". وكان ذلك في آخر سنة عشر من الهجرة.

فما كان من مسيلمة الكذاب إلا أن أسر حبيب بن زيد وقيده، فكان مسلمة إذا قال له: أتشهد أن محمدًا رسول الله؟ قال: نعم، وإِذا قال: أتشهد أني رسول الله؟ قال: أنا أصم لا أسمع، ففعل ذلك مرارًا، فقطعه مسيلمة عضوا غضوا، فمات شهيدا رضي الله عنه.

آمنوا بمسيلمة وشهدوا بكذبه
واتخذ مسيلمة حرمًا باليمامة، فأخذ الناس به، فكان محرمًا، ونظم كلامًا مضاهاة للقرآن، وقصده الناس ليتسمعوا منه بعد أن اشتهر أمره، وتمكن من التأثير في بعضهم، وكان ممن قصده المتشمس بن معاوية، عم الأحنف بن قيس، فلما خرج من عنده قال عنه: "إنه كذاب، وقال عنه الأحنف بن قيس وكان قد رآه أيضًا: "ما هو بنبي صادق، ولا بمتنبئ حاذق".

عرف مسيلمة بين أتباعه برسول الله، وكانوا يتعصبون له، ويؤمنون بدعوته إيمانًا شديدًا، وكانت المنافسة بين قبائل مضر وربيعة على أشدها، والأخيرة تعصب لنسبها، وتأنف أن تعلوها قريش بفضل النبوة والرئاسة، وليس أدل على ذلك من طلب هوذة الذي أشرنا إليه، بالإضافة إلى رأي طلحة النميري الذي قدم إلى اليمامة للاجتماع بمسيلمة، والوقوف على حقيقة دعوته، واختبار نبوته، إذ عندما طلب الاجتماع به وسماه باسمه، مسيلمة، رد عليه قومه: مه يا رسول الله، فقال: لا حتى أراه، فلما جاءه قال: أنت مسيلمة؟ قال: نعم، قال: من يأتيك؟ قال: رحمن، قال: أفي نور أو في ظلمة؟ فقال: في ظلمة، فقال: "أشهد أنك لكذاب وأن محمدًا صادق؛ ولكن كذاب ربيعة أحب إلينا من صادق مضر" [4].

وتعاون مسيلمة في إحدى مراحل ادعائه النبوة مع سجاح بنت الحارث بن سويد التميمية، التي أدعت هي الأخرى النبوة، والتف حولها قومها بنو تميم، وأخوالها من تغلب وغيرهم من قبائل ربيعة، وتزوجها مسيلمة، وانضم أتباعها إليه، فتقوى بهم، وتحدى حكومة أبي بكر في المدينة.
يتبع.......
 
السلام عليكم
أسجاع مسلمة الكذاب [**]
وقد حاول مسيلمة الكذاب أن يضاهي القرآن تغريرا بعقول السذج من قومه فجاء كلامه سخيفا، وإنا بعد ذلك نورد من أسجاعه ما عثرنا عليه ليتبين القارئ هذا المتنبئ ومبلغ علمه:

1- وَاللَّيْلُ الدَّامِسْ، وَالذِّئْبُ الْهَامِسْ، مَا قَطَعَتْ أَسَدٌ مِنْ رَطْبٍ وَلَا يَابِسْ.

2- لَقَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَى الْحُبْلَى، أَخْرَجَ مِنْهَا نَسَمَةً تَسْعَى، مِنْ بَيْنِ صِفَاقٍ وَحَشَا.

3- إن بني تميم قوم طهر لقاح، لا مكروه عليهم ولا إتاوة، نجاورهم ما حيينا بإحسان، نمنعهم من كل إنسان، فإذا متنا فأمرهم إلى الرحمن.

4- وَالْفِيلْ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْفِيلْ، لَهُ زَلُّومٌ طَوِيلْ.

5- وَالْمُبَذِّرَاتِ زَرْعًا، وَالْحَاصِدَاتِ حَصْدًا، وَالذَّارِيَاتِ قَمْحًا، وَالطَّاحِنَاتِ طِحْنًا، وَالْخَابِزَاتِ خَبْزًا، وَالثَّارِدَاتِ ثَرْدًا، وَاللَّاقِمَاتِ لَقْمًا، إِهَالَةً وَسَمْنًا، لَقَدْ فُضِّلْتُمْ عَلَى أَهْلِ الْوَبَرِ، وَمَا سَبَقَكُمْ أَهْلُ الْمَدَرِ، رَفِيقَكُمْ فَامْنَعُوهُ، وَالْمُعْتَرَّ فآووه، والناعي فواسوه.

6- يَا ضِفْدَعُ بَنَتَ الضِّفْدَعِينْ، نَقِّي كَمْ تَنِقِّينْ، لَا الْمَاءَ تُكَدِّرِينْ، وَلَا الشَّارِبَ تَمْنَعِينْ، رَأْسُكِ فِي الْمَاءِ وَذَنَبُكِ فِي الطِّينْ.

7- وقد ذكر ابن كثير أن عمرو بن العاص -قبل إسلامه- قابل مسيلمة الكذاب فسأله مسيلمة: ماذا أنزل على صاحبكم في هذا الحين؟ فقال له عمرو: لقد أنزل عليه سورة وجيزة بليغة. فقال: وما هي؟ قال: أنزل عليه: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ} [العصر:1 - 3]، قال: ففكر مسيلمة ساعة،، ثم رفع رأسه فقال: ولقد أنزل عليَّ مثلها. فقال له عمرو: وما هو؟. قال مسيلمة: "يَا وَبَرُ يَا وَبَرُ، إِنَّمَا أَنْتِ أُذُنَانِ وَصَدْرٌ، وَسَائِرُكِ حَقْرٌ نَقْرٌ". ثم قال: كيف ترى يا عمرو؟ فقال عمرو: والله إنك لتعلم أني أعلم إنك لتكذب.

قال أبو بكر الباقلاني رحمه الله: "فأما كلام مسيلمة الكذاب وما زعم أنه قرآن فهو أخس من أن ننشغل به وأسخف من أن نفكر فيه، وإنما نقلنا منه طرفًا ليتعجب القارئ وليتبصر الناظر، فإنه على سخافته قد أضل، وعلى ركاكته قد أزل، وميدان الجهل واسع" [5].

[1] البلاذري: فتوح البلدان، ص100. السهيلي: الروض الأنف،2/ 340. اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، 1/ 120. الزركلي: الأعلام، 7/ 226.
[*] سهيل طقوش: تاريخ الخلفاء الراشدين الفتوحات والإنجازات السياسية، ص50 - 54.
[2] الجاحظ: الحيوان، 4/ 369 وما بعدها. الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 295. العقاد: عبقرية خالد، ص97.
[3] البلاذري: فتوح البلدان، ص97. الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 137 - 138، 282 -287. ابن كثير: البداية والنهاية، 5/ 50 - 52. السهيلي: الروض الأنف، 4/ 225.
[4] الطبري: تاريخ الرسل والملوك، 3/ 283 - 286. الجاحظ: الحيوان، 5/ 530. ابن الأثير: أسد الغابة، 1/ 443. جواد علي: المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، 6/ 97.
[**]محمد رضا: أبو بكر الصديق أول الخلفاء الراشدين، تحقيق: الشيخ خليل شيحا، ص45 – 53.
[5] ابن سعد: الطبقات الكبرى: 1/ 317، 5/ 550. البدء والتاريخ: 5/ 163. الذهبي: سير أعلام النبلاء: 3/ 96. ابن كثير: البداية والنهاية: 6/ 336، تفسير القرآن العظيم: 8/ 479. ابن حجر: الإصابة في تمييز الصحابة: 2/ 539. الباقلاني: إعجاز القرآن، تحقيق: سيد صقر: ص156.

انتهى
 
السلام عليكم

مذبحة بربشتر .. مأساة مسلمي الأندلس

إن من أعظم محن المسلمين فيالأندلس -إن لم تكن أعظمها- ما حدث للمسلمين في بربشتر Barbastro؛ إذ كان الخطب بها أكبر من أن يوصف؛ حيث هاجم النورمانديون المدينة سنة (456هـ/ 1064م) وفتكوا بأهلها، وأبادوا المسلمين بأبشع صور الإبادة في التاريخ.


مدينة بربشتر
تقع بَرْبُشْتَر Barbastro على بعد 60 كم شمال شرقسرقسطة (الثغر الأعلى في بلاد الأندلس)، على فرع صغير من أفرع نهر إبره بين مدينتي لاردة ووشقة، وبربشتر إحدى القواعد الأندلسية المنيعة، وأمنع قلاع الأندلس قاطبة، وكانت ذات موقع إستراتيجي هام لقربها من الحدود مع الممالك الإسبانية النصرانية في شمال شرق الأندلس وهي ممالك قطلونية ونافار أو نبرة وقشتالة؛ لذلك فهي في جهاد دائم؛ إذ لم يَكُفُّ النصارى عن هجماتهم على بلاد الإسلام في الأندلس منذ الفتح الإسلامي لها أيام موسى بن نصير وطارق بن زياد.

وصفها الحميري بقوله: "بربشتر من أمهات مدن الثغر الفائقة في الحصانة والامتناع". وقال ياقوت الحموي: "بَرْبُشْتَرُ بضم الباء الثانية، وسكون الشين المعجمة، وفتح التاء المثناة من فوق: مدينة عظيمة في شرقي الأندلس من أعمال بربطانية ..، ولها حصون كثيرة، منها حصن القصر وحصن الباكة وحصن قصر مينوقش وغير ذلك" [1].

ومدينة بربشتر إحدى أعمال مملكة سرقسطة التي كانت في عصر ملوك الطوائف تحت حكم بنو هود (431هـ / سبتمبر 1039م - 512هـ /ديسمبر 11188م) والتي تعد مملكتهم من أهمِّ وأخطر الممالك الإسلامية في بلاد الأندلس؛، ومن أعمالها وَشْقَة Huesca، ولاردة Lareda.

الحملة الصليبية على بربشتر
تمثل مأساة بربشتر امتداد لسلسلة الحروب الصليبية التي بدأها الغرب الصليبي ضد المسلمين في بلاد المغرب والأندلس قبل بدأ الحملات الصليبية على المشرق الإسلامي.

ذلك أن حملة كبيرة من النورمانيين (أو الأردمانيين في الرواية العربية) تقدرها الرواية بعشرة آلاف فارس، بقيادة جيوم دي مونري، نزلت بشاطىء قطلونية وسارت نحو الشرق مخترقة أراضي مملكة سرقسطة الشمالية. وقد اختلفت الرواية في تكييف ظروف هذه الحملة وفي مصدر قدومها، وفيمن نظمها وقادها.

بيد أنه يستخلص من مختلف الروايات الخاصة بها، أنها حشدت في ولاية نورمانديا الفرنسية، حيث كان النورمان قد استقروا بها قبل ذلك العصر بموافقة ملك فرنسا، وأن أولئك النورمان خرجوا عندئذ في طلب المغامرة والكسب ومعهم جموع كبيرة من الفرسان الفرنسيين.

أما قائد الحملة فهو الفارس جيوم دي مونري، وكان من أكابر فرسان عصره، وقائد الجيوش الرومانية والبابوية. أما بواعث قيادته لهذه الحملة، ولماذا قصدت إلى شاطىء قطلونية، فمما يحيط به الغموض، على أنه يبدو من جميع الظروف أنها كانت من الحملات الناهبة التي تستتر بالصفة الصليبية، والتي تقصد العيث والنكاية، والغنم والسبي في أراضي المسلمين أينما كانت.

ويؤيد البحث الحديث هذه الصفة الصليبية للحملة، ويقول لنا إن الذي دفع إلى إعدادها هو البابا اسكندر الثاني، الذي استغل أحداث الأندلس المضطربة، وانشغال حكام المسلمين بالقتال فيما بينهم، وكلَّف الفارس جيوم دي مونري قائد الجيوش البابوية بإعداد حملة صليبية فرنسية إيطالية مشتركة للهجوم على سرقسطة بالأندلس.

والرواية الإسلامية صريحة واضحة في أن هذه الحملة قد قدمت من فرنسا، فهي تقول لنا "إن الفرنج خرجوا من الأرض الكبيرة (أي فرنسا) إلى الأندلس في جموع كبيرة ليس لها حد، ولا يحصى لها عدد إلا الله، وانتشروا على ثغور سرقسطة" [2]، ثم إنه ليس من الواضح أيضاً ما إذا كانت هذه الحملة قد عبرت إلى إسبانيا من طريق جبال البرنيه، أم جازت إلى قطلونية بطريق البحر.

نزل أولئك النورمان في قطلونية واجتازوا إلى أراضي مملكة سرقسطة، إذ كانت تحمي مؤخرتها أرض نصرانية هي مملكة برشلونة، وقصدوا أولا إلى مدينة وشقة إحدى قواعد سرقسطة الرئيسية، فنازلوها أياماً، ولما لم ينالوا منها مأرباً غادروها وساروا شرقاً حتى مدينة بربشتر، وهي لا تقل عن وشقة أهمية وحصانة[3].
 
السلام عليكم

موقف بني هود من الهجوم الصليبي
نزل النورمان مدينة بربشتر وضربوا حولها الحصار، وذلك في أوائل سنة 456هـ / ربيع سنة 1064 م، ولم يبادر أحمد بن هود (المقتدر بن هود) لإنجاد المدينة المحصورة، إذ كانت من أعمال أخيه يوسف المظفر، فكان ذلك منه جبناً ونذالة، أدرك عواقبهما فيما بعد، ولم يستطع يوسف نفسه إنجادها، فتركها لمصيرها. واستمر الحصار أربعين يوماً، والمسلمون صامدون داخل مدينتهم الحصينة، وكانت حاميتها تخرج من آن لآخر، وتخوض مع الأعداء معارك شديدة، ثم ترتد إلى الداخل.

ولما اشتد الضيق بالمدينة المحصورة، وعزت الأقوات، وقع الهرج والتنازع بين أهلها، وعلم النورمان بذلك، فشددوا قبضتهم وضاعفوا جهودهم، واستطاعوا بعد قتال عنيف أن يقتحموا المدينة الخارجية، وذلك في يوم الخميس 26 شعبان 456هـ، وقد دخل الصليبيون المدينة، دخول الضواري الجائعة حيث ارتكبوا واحدة من أفظع المجازر البشرية.

مأساة مسلمي الأندلس في بربشتر
وقد وصف ابن حيان المحنة بكلمات من الدماء لِمَا حلَّ بالمسلمين هناك، يقول بعد أن ذكر تخاذل المقتدر عنها: "فأقام العدوُّ عليها أربعين يومًا، ووقع فيما بين أهلها تنازع في القوت لقلَّتِه، واتصل ذلك بالعدوِّ فشدَّد القتالَ عليها والحصر لها، حتى دخل المدينة الأولى في خمسة آلاف مُدَرَّع، فدهش الناس وتحصَّنوا بالمدينة الداخلة.

وجرت بينهم حروب شديدة، قُتِلَ فيها خمسمائة إفرنجي، ثم اتُّفِقَ أن القناة التي كان الماء يجري فيها من النهر إلى المدينة تحت الأرض في سَرَب موزون انهارت وفسدت، ووقعت فيها صخرة عظيمة سَدَّت السَّرَب بأسره؛ فانقطع الماء عن المدينة، ويئس مَنْ بها من الحياة، فلاذوا بطلب الأمان على أنفسهم خاصة دون مال وعيال، فأعطاهم العدوُّ الأمان، فلمَّا خرجوا نكث بهم وغدر. وقُتل الجميع إلا القائد ابن الطويل والقاضي ابن عيسى في نفر من الوجوه.

وحصل للعدوِّ من الأموال والأمتعة ما لا يُحْصَى، حتى إن الذي خصَّ بعضَ مُقَدَّمي العدوِّ لحصنه -وهو قائد خيل رومة- نحو ألف وخمسمائة جارية أبكارًا، ومن أوقار [4] الأمتعة والحلي والكسوة خمسمائة جمل، وقُدِّر مَنْ قُتل وأُسر بمائة ألف نفس، وقيل: خمسون ألف نفس.

ومن نوادر ما جرى على هذه المدينة لَمَّا فسدت القناة وانقطعت المياه أن المرأة كانت تقف على السور وتُنادي من يقرب منها أن يعطيها جرعة ماء لنفسها أو ولدها، فيقول لها: أعطيني ما معك. فتعطيه ما معها من كسوة وحلي وغيره".

ويُكمل ابن حيان قائلاً: "وكان السبب في قتلهم أنه خاف مَنْ يَصِلُ لنجدتهم وشاهد من كثرتهم ما هاله، فشرع في القتل -لعنه الله تعالى- حتى قتل منهم نيِّفًا وستة آلاف قتيل، ثم نادى الملك بتأمين مَنْ بَقِيَ، وأمر أن يخرجوا، فازدحموا في الباب إلى أن مات منهم خلق عظيم، ونزلوا من الأسوار في الحبال للخشية من الازدحام في الأبواب، ومبادرة إلى شرب الماء، وكان قد تحيَّز في وسط المدينة قدر سبعمائة نفس من الوجوه، وحاروا في نفوسهم، وانتظروا ما ينزل بهم، فلمَّا خلت ممَّنْ أُسر وقُتل وأُخرج من الأبواب والأسوار، وهلك في الزحمة، نُودي في تلك البقية بأن يُبادر كلٌّ منهم إلى داره بأهله وله الأمان، وأُرهقوا وأُزعجوا، فلما حصل كل واحد بمن معه من أهله في منزله، اقتسمهم الإفرنج -لعنهم الله تعالى- بأمر الملك، وأخذ كل واحد دارًا بمن فيها من أهلها، نعوذ بالله تعالى.

وكان من أهل المدينة جماعة قد عاذوا برءوس الجبال، وتحصنوا بمواضع منيعة، وكادوا يهلكون من العطش، فأمَّنهم الملك على نفوسهم، وبرزوا في صور الهلكى من العطش، فأطلق سبيلهم، فبينما هم في الطريق إذ لقيتهم خيل الكفر ممن لم يشهد الحادثة، فقتلوهم إلا القليل ممن نجا بأجله.

وكان الفرنج -لعنهم الله تعالى- لما استولوا على أهل المدينة يفتضُّونَ البكر بحضرة أبيها، والثَّيِّب بعين زوجها وأهلها، وجرى من هذه الأحوال ما لم يشهد المسلمون مثله قط فيما مضى من الزمان، ومَنْ لم يرضَ منهم أن يفعل ذلك في خادم أو ذات مهنة أو وخش أعطاهن خَوَله وغلمانه يعيثون فيهن عيثه [5]. وبلغ الكَفَرة منهم يومئذ ما لا تلحقه الصفة على الحقيقة.

ولمَّا عزم ملك الروم على القفول إلى بلده تخيَّر من بنات المسلمين الجواري الأبكار والثيبات ذوات الجمال، ومن صبيانهم الحسان ألوفًا عدَّة، حملهم معه ليهديهم إلى مَنْ فوقه، وترك من رابطة خيله ببربشتر ألفًا وخمسمائة، ومن الرجَّالة ألفين [6].

ولما غادر الغزاة النورمان بربشتر بعد اقتحامها، والفتك بأهلها، والاحتواء على أموالها، تركوا لحمايتها ألفاً وخمسمائة من الفرسان وألفين من الرجالة، وقيل بل تركوا ألف فارس وأربعة آلاف راجل، واستقدموا إليها كثيراً من أهلهم وأقاربهم ومواطنيهم، وساروا عائدين إلى بلادهم، وفي ركبهم ألوف من سبي المسلمين نساء ورجالا، ومقادير هائلة من الأموال والغنائم المختلفة [7].
 
السلام عليكم
وقد صوَّر الفقيه ابن العسال فجيعة المسلمين هذه فقال: [الكامل]

هَتَكُوا بِخَيْلِهِمُ قُصُورَ حَرِيمِهَــا *** لَمْ يَبْــقَ لا جَبَــلٌ وَلا بَطْحَــــاءُ
جَاسُـوا خِـلالَ دِيَارِهِمْ فَلَهُمْ بِهَا *** فِي كُلِّ يَــوْمٍ غَــــارَةٌ شَعْــــرَاءُ
كَمْ مَوْضِعٍ غَنِمُوهُ لَـمْ يُرْحَـمْ بِهِ *** طِفْــلٌ وَلا شَيْـــخٌ وَلا عَـــذْرَاءُ
وَلَكَـمْ رَضِيــعٍ فَرَّقُــوا مِـنْ أُمِّهِ *** فَلَــهُ إِلَيْهَــا ضِجَّـــةُ وَبُغَـــــــاءُ
وَلــَرُبَّ مَوْلُـودٍ أَبُـوهُ مُجَدَّلٌ [7]*** فَوْقَ التُّرَابِ وَفَرْشُهُ الْبَيْـــــدَاءُ
وَمَصُونَةٍ فِي خِدْرِهَا مَحْجُـوبَـةٍ *** قَـدْ أَبْرَزُوهَــا مَـا لَهَـا اسْتِخْفَاءُ
وَعَزِيزِ قَــــوْمٍ صَارَ فِي أَيْدِيهُمُ *** فَعَلَيْـهِ بَعْــدَ الْعِـــزَّةِ اسْتِخْـــذَاءُ
لَـوْلا ذُنُـوبُ الْمُسْلِمِيــنَ وَأَنَّهُــمْ *** رَكِبُـوا الْكَبَائِــرَ مَـا لَهُــنَّ خَفَاءُ
مَا كَانَ يُنْصَرُ لِلنَّصَارَى فَارِسٌ *** أَبَــدًا عَلَيْهِـــمْ فَالذُّنُــوبُ الــدَّاءُ
فَشِـرَارُهُـمْ لا يَخْتَفُــونَ بِشَرِّهِمْ *** وَصَلاحُ مُنْتَحِلِي الصَّلاحِ رِيَـاءُ [8]



ونحن لَنْ نُعَقِّب على الحادثة بل نترك ابن حيان يُعَقِّب عليها بنفسه؛ لنتبيَّن الأسباب التي أدَّت إلى وقوع تلك الكارثة بالمسلمين، يقول ابن حيان: "قد غَرْبَلَ (زماننا هذا) أهليه أشدَّ غربلة، فسَفْسَفَ أخلاقهم، واجتثَّ أعراقهم، وسفَّه أحلامَهُم، وخبَّثَ ضمائرهم، فاحتوى عليهم الجهلُ، واقتطعهم الزَّيْفُ، وأركستهم الذنوب، ووَصَمَتْهُمُ العيوبُ، فليسوا في سبيل الرشد بأتقياء، ولا على معاني الغيِّ بأقوياء، شاءٌ من الناس هامل، يُعَلِّلون نفوسهم بالباطل، من أدلِّ الدلائل على فرط جهلهم بشأنِهِم، اغترارهم بزمانهم، وبعادهم عن طاعةِ خالقهم، ورفضهم وصيَّةَ رسوله نبيهم، وذهولهم عن النظر في عاقبة أمرهم، وغفلتهم عن سدِّ ثغرهم.

حتى لظلَّ عدوُّهم الساعي لإطفاء نورهم يتبحبحُ عِرَاصَ ديارهم، ويستقرئُ بسائِطَ بقاعهم، يقطعُ كلَّ يومٍ طرَفًا منهم، ويبيدُ أمَّةً، ومَنْ لدينا وحوالينا من أهل كلمتنا صُموتٌ عن ذكرهم، لهاةٌ عن بثِّهم، ما إن يُسْمَعُ عندنا في مسجد من مساجدنا وَمَحفلٍ من محافلنا مذكِّرٌ بهم أو داعٍ لهم، فضلاً عن نافرٍ إليهم أو مواسٍ لهم، حتى كأنْ ليسوا منَّا، أو كأنَّ فتقَهُمْ ليس بمفضٍ إلينا، قد بخلنا عليهم بالدعاء، بُخْلنا بالغَنَاء، عجائبُ مُغْرِبَة فاتتِ التقدير، وعرضت للتغيير، فلله عاقبةُ الأمور، وإليه المصير"[9].

نجدة مسلمي بربشتر
وصلت أنباء مذبحة بربشتر إلى قرطبة في أوائل رمضان 456هـ، وذاعت في بلاد الأندلس كلها، واهتزت لها القلوب، وتزلزت النفوس، وسادها الاشمئزاز والروع لتلك الفظائع والشناعات التي لم يسمع بمثلها، بيد أنه لم تمض أشهر قلائل حتى وقعت المعجزة، وكان صدى النكبة قد نفذ إلى الأعماق، واهتز لها أمراء الأندلس قاطبة، وفي مقدمتهم المقتدر بن هود (أحمد)، وهو الذي شهدها عن كثب، ولحقه من جرائها أكبر وزر، فأسرع المقتدر بن هود وأعلن الجهاد، ونادى بالنفير العامِّ في بلاد الأندلس.

فاجتمع له كثير من المتطوِّعة، وبعث له المعتضد بن عباد خمسمائة فارس من إشبيلية، فسار في جمادى الأولى سنة 457هـ / 1065م، وضربوا الحصار على المدينة، ودارت معركة شرسة مع النصارى مزق فيها النصارى وهلك معظمهم، وأسر من كان بالمدينة من أهلهم وأبنائهم، وقُتل فيها منهم ألف فارس وخمسمائة راجل، ودخل المقتدر بن هود بخمسة آلاف سبية من سبايا النصارى سرقسطة، كما حمل إليها ألف فرس وعدة وسلاح وأموال كثيرة.

وكان استرداد بربشتر في الثامن من جمادى الأولى سنة 457هـ، بعد أن احتلها النصارى تسعة أشهر [10].

وبذلك جبر الصدع، ورفعت المعرة، وأثلجت صدور المسلمين. وعلى أثر هذا الفتح الجليل اتخذ بطله ابن هود لقبه المقتدر بالله.

[1] ياقوت الحموي: معجم البلدان، 1/ 370 - 371. الحميري: صفة جزيرة الأندلس، 1/ 39.
[2] المراكشي: الحلل الموشية، ص54. يقول الحميري في كلامه عن بربشتر: "وقد غزاها على غرة وقلة عدد من أهلها وعدة، أهل غاليش والروذمانون ". وغاليش هي فرنسا، والروذمانون هم النورمان. صفة جزيرة الأندلس، 1/ 39 - 40.
[3] محمد عبد الله عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/ 274 - 275. I.de las Cagigas: Los Mozarabes p. 453
[4] أوقار جمع وِقَر: وهو الحِمْل الثقيل، وعَمَّ بعضهم به الثقيل والخفيف. الجوهري: الصحاح، باب الراء فصل الواو 2/ 848، وابن منظور: لسان العرب، مادة وقر، 5/ 289.
[5] أي أن الإفرنجي إذا وجد خادمة أو غير ذات جمال تكبر أن يهتكها هو فكان يعطيها لخدمه وغلمانه يهتكونها.
[6] المقري: نفح الطيب، 4/ 449 - 451. وانظر مآسي المسلمين في: ابن بسام: الذخيرة، 5/ 181 - 189، وابن عذاري: البيان المغرب، 3/ 225 - 227.
[7] المجدَّل: الصريع، أو الملقى بالأرض. ابن منظور: لسان العرب، مادة جدل، 11/ 103.
[8] الحميري: صفة جزيرة الأندلس، 1/ 40 - 41.
[9] ابن بسام: الذخيرة، 5/ 188 - 189.
[10] ابن بسام: الذخيرة 5/ 189 - 190، وابن عذاري: البيان المغرب، 3/ 227 – 228. والحميري: الروض المعطار، ص91، وصفة جزيرة الأندلس، 1/ 41، والمقري: نفح الطيب، 4/ 454. عنان: دولة الإسلام في الأندلس، 2/ 278 - 279.
 
السلام عليكم

التاريخ الإسلامي عرضة للتشويه من قبل أبنائه

لمَّا كان التاريخ ذاكرة ومرآة الأمم وسيرتها، يُجسِّد ماضيها ويعكس شخصية الشعوب عقيدةً وثقافةً وحراكًا اجتماعيًّا واقتصاديًّا وسياسيًّا، ويترجم حاضرها، وتستلهم من خلاله دروس مستقبلها؛ كان من الأهمية بمكان الاهتمامُ به، والحفاظ عليه، ونقله إلى الأجيال نقلاً صحيحًا، بحيث يكون نبراسًا وهاديًا -بعد توفيق من الله- لهم في حاضِرِهم ومستقبلهم؛ فالشعوب التي لا تاريخ لها لا وجودَ لها، إذ به قوام الأمم، تحيا بوجوده وتموت بانعدامه.


ونظرًا لأهمية التَّاريخ في حياة الأمم، فقد لجَأَ أعداءُ وأدْعِياء هذه الأمة -فيما لجؤوا إليه- إلى تاريخها، لتشتيت جمعها، وتفتيت أوصالها، وتهوين شأنها، فأدخلوا فيه ما أفسد كثيرًا من الحقائق، وقلب كثيرًا من الوقائع، وأقاموا تاريخًا يوافق أهواءهم و أغراضهم، ويخدم مآربهم، ويحقق ما يصبون إليه.

موضوع تزوير التاريخ الإسلامي، طويل وعناصره كثيرة، ولكنني سأحاول الاختصار بقدر الإمكان مكتفيًا من القلادة بما أحاط بالعنق.. إن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز؛ فكانت هذه السطور تذكيرًا، ونصحًا، وتبيانًا، وتحذيرًا من عاقبة تزوير وتحريف الكلم عن مواضعه..

شاع في العصر المتأخر في كثير من محافل العلم والثقافة، والمناهج التربوية - التعليمية، عدد من المغالطات والتُرَّهات والأباطيل والتخرصات التي يراد من ورائها زحزحة المسلمين عن دينهم وتشويه حقهم، وتشويه العقائد الخالصة لصد الناس عنها، هذه المغالطات تقدم بصورة يحسبها بعضهم علمًا وسبقًا في الأركيولوجية التاريخيَّة، وما هي كذلك؛ وهم بهذا يريدون أن يستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، ولهذا يجب إماطة اللثام وكشف النقاب عن مثل هذه المغالطات وإظهار ما يهدمها من حقائق، ومن بين هذه الأخطاء:

1 - في برنامج التاريخ الطبعة الأولى 1994 – 1995م؛ تضمن درسه الأول (التطورات الكبرى في عصر ما قبل التاريخ) إشارة داروينيَّة؛ مفادها أن الإنسان عرف تطورًا في خِلقته[1]، ضربًا عرض الحائط بالآية القرآنية: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، قالوا في التقويم: إنّه جَعلُ الشيء ذا قوام، وقوام الشيء: ما يقوم به ويثبت، وتُصرِّح الآية الكريمة بأنَّ الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، ويذهب بعض أهل التفسير إلى أنَّ المقصود هنا القوام الجسدي، وإن كان اللفظ يحتمله، والراجح أنَّ المقصود هنا هو تعديل القوى الظاهرة والباطنة معًا، أي المادِّية والمعنويَّة، وللأسف الشديد، سقط في هذا الفخ العجيب حتى ممن يعتبرون أنفسهم مفكرين إسلاميِّين؛ إذ يرى أحدهم في إحدى حواراته مع بعض القنوات الإعلامية أن الإنسان أصله قرد وأن نظرية داروين لا تعارض القرآن الكريم، ويقول في هذا الشأن: "لا أرى تعارضًا في القول بأن الإنسان أصله قرد مع النص القرآني"!

لماذا لا نستفيد مما قامت به فرنسا بلد الحريات –كما يزعمون - في تعاملها مع كتاب "أطلس الخلق" للباحث الإسلامي التركي الجنسية المشهور هارون يحيى؛ فبعد أن تلقت وزارة التعليم الفرنسية مئات الاستفسارات حول الكتاب ذي الصبغة الإسلامية - والذي اعتبر في فرنسا بمثابة صاعقة وهجوم علمي على فرضية النشوء والارتقاء "الداروينية"، والتي تقوم عليها المناهج التعليمية والتربوية في العديد من دول العالم، باعتبارها حقيقة علمية مسلمًا بها - تم تسليم الكتاب والاستفسارات لمتخصصين وبدأ التحقيق؛ إذ ساد الاعتقاد بارتباط نشره في فرنسا بوجود أكبر جالية مسلمة في أوربا، وعلى أرض فرنسا، الظن الذي تبدد بعد التأكد من عشوائية التوزيع، حيث شمل مختلف مناطق البلاد، بغض النظر عن التقسيم الديني للسكان..!

بينما وصفت مجلة (New Scientist) الأمريكية الكاتب بـ"البطل الدولي"؛ لجهوده الضخمة في تفنيد مزاعم التطور، اجتاح الزلزال الفكري لكُتَّابِ الأكاديمياتِ العلمية الفرنسية؛ فأثار حفيظة أعداء حقيقة الخلق من ماديين و داروينيين، وعمدوا إلى الضغط على الحكومة لحظر الكتاب، وبالفعل صدر بيان يحظر تداول كتاب أطلس الخلق، ويؤكد أنه "لا مكان له في المدارس الفرنسية"، ولو في خزاناتها..
 
السلام عليكم

من أعضَل الأمور وأشدها التباسًا أن لا يكون ممن يدعي النخبوية في العلم والفكر غير قادر على أن يقيس ببيانه أو علمه المطارحة الغربية و يستفيد من أسياده هؤلاء.. لكن للأسف، يريد العلمانيون منا أن نلبس لَبُوس الغرب بقدِّه وقديده، وغثه وسمينه، ويرفعون شعارَ "لتكون متقدمًا لا بد أن تسلخ جلدك وتلبس جلد الأوربي والغربي، بل تغيِّر ذاتك أيضًا"..

2 - وما إن كدنا نطوي صفحات البرنامج السابق الذكر حتى نزل علينا كتاب "المسار الجغرافيا" للسنة الثانية من سلك البكالوريا (البرنامج الجديد)، رغم معلوماته القيمة - بخطأ تاريخي فادح وقع فيه الإخوة الساهرين على إعداد برنامج هذه السنة 2007، ويتعلق الأمر بالأسماء الموضوعة على صورة القدس؛ لإبراز دور القدس في تعايش الرسالات (وليس الأديان) كما ورد في الكتاب: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلَامِ}، تم وضع مكان حائط البراق[2] حائطَ المبكى! في الوثيقة 3 (ب): مدينة القدس مهد الديانات السماوية الصفحة399..

وبدأت تختمر في ذهني أسئلة يستعصي فك لغزها وترابطاتها: هل هو خطأ عفْوِي وقع سهوًا؟! عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله تجاوز عن أمتي الخطأ والنسيان وما استُكرهوا عليه"[3].

ولكن في هذا الإطار: ألم يكن من الأجدى – في إطار ما يسمى في الطرائق البيداغوجية الحديثة المتبعة في المغرب "الكفايات الممتدة" - الاستعانة بأهل التخصص؟!

هل الأطُرُ المكلفة بإعداد البرنامج ضحية الإعلام الذي يسيطر عليه اللوبي الصهيوني؟! كما قال أحد مفكريهم: "في عهد الميركانتيلية من يملك الذهب يملك العالم، وحاليًّا من يملك الإعلام يملك العالم"..!

هل الصورة مأخوذة من مواقع ومراجع صهيونية لا علاقة لها بالمواقع الإسلامية؟!

هل بهذه الصورة نساهم في تكريس أكذوبة الصهاينة لأبنائنا بأن "إسرائيل لم تغتصب أرضًا ولم تُبِدْ شعبًا"؟!

هل الإخوة الساهرون ليل نهار في إعداد الكتاب وإخراجه في حلَّة بهية لم يطَّلعوا على التاريخ الإسلامي، وبالأخص القضية الفلسطينية التي هي أمِّ القضايا التي نجح الكِيان الصِّهيَوني في ترويج الأوهام وتزوير الحقائق حولها؟! عجبًا، والله! في الوقت الذي يعمل الكِيان الصِّهيَوني جاهدًا في تشويه الحقائق التاريخية، وفي الوقت الذي يضيق الخناق على المفكرين والمؤرخين الذين يشككون وينفون المحرقة (الهولوكوست) أمثال الفرنسي جاوردي والمؤرخ النمساوي دافيد إيرفينغ المتخصص في الحرب العالمية الثانية - تقع اللجنة العلمية المكلفة بالتأليف في خطأ فادح، يمكن أن يكلف الصهاينة ميزانية ضخمة من أجل ترويجه في وسائل الإعلام العربيَّة والدولية!!!

ألم يفطن هؤلاء النخبة للجرائم والإبادة الجماعية (غزة أخيرًا) التي ارتكبتها - ولازالت ترتكبها - دولة الكِيان الغاصِب لأرضنا الفلسطينية، تجعلهم يعضون على تاريخ القضية الفلسطينية بالنواجذ؟!

وللإشارة، فالمتخصصون في دراسة المسجد الاقصى يرون عكس ما تروجه بعض وسائل الإعلام والكتب المدرسية، فعندما يذكر (المسجد الأقصى المبارك) يتبادر الى الذهن ذلك المعمار والبناء ذي القبة الذهبية، ولكن مفهوم الأقصى المبارك الحقيقي أوسع من هذا وذاك، فالمسجد الأقصى المبارك هو كامل المساحة المسوَّرة الواقعة داخل البلدة القديمة بالقدس الشريف بشكل شبه مستطيل، وهو الذي يعرفه المعظم في هذه الأيام (خطأً) باسم (الحرم القدس الشريف) (هذا يتطلب منا دراسة مستفيضة ونترك ذلك لفرصة لا حقة إن شاء الله).

فالتاريخ، إذًا، ليس مجرد أقاصيص تحكى وروايات تاريخية تروى للتسلية، ولا مجرد تسجيل للوقائع والأحداث وعرضها دون تمحيص وتدقيق، ومن ثم تكون أثرًا بعد عينٍ، خيالاً بعد واقع، إنما يدرس التاريخ للعبرة والعظة وتربية الأجيال وتقويم اعوجاجات الأمة وتنويرها والدفع بها إلى الأمام؛ من خلال الوقوف على ركائز تاريخية متينة بعيدًا عن التلفيق والتزوير؛ يقول تعالى: {فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الأعراف:176].. وكل أمة -كما يقول أحد المؤرخين- من أمم الأرض تعتبر درس التاريخ من دروس التربية للأمة؛ فتصوغه بحيث يؤدي مهمة تربوية في حياتها، ولا يعني هذا تزوير التاريخ لإعطاء صورة وضَّاءة لإحداث أثر معين في نفس الدارس، ولا إلى إغفال عثرات المسلمين وانتكاساتهم، وإبراز الأمجاد والبطولات وحدها؛ فهذا ليس هو المطلوب، إنما المطلوب أن يكون الدرس التربوي الأكبر هو المستفاد من درس التاريخ.. إن أحوال هذه الأمة في صعودها وهبوطها، ورفعتها وانتكاستها إنما تخضع لنواميس وقوانين ربانية ثابتة لا تحابي أحدًا ولا تنحرف عن مسارها من أجل أحد، ويقول الله عز وجل عن أهمية الحدث التاريخي: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الأَلْبَابِ} [يوسف:111]، أي: في دراسة الحدث وأخذ العبرة منه يكون الهدى والفلاح؛ لهذا نرجو من الإخوة الساهرين على الحقل التربوي، إرسال مذكرة وزارية إلى كل المراقبين التربويين للتنبيه لخطورة هذه الكلمة (حائط المبكى)، وتصحيحها في الطبعات المقبلة؛ حتى لا تترسخ في ذهنيَّة الأجيال الصاعدة من أبنائنا!!

وَمَا مِنْ كَاتِبٍ إلاَّ سَيَفْنَى *** وَيَبْقَى الدَّهْرَ مَا كَتَبَتْ يَـــــدَاهُ
فَلا تَكْتُـــبْ بِكَفِّكَ غَيْرَ شَيْءٍ *** يَسُرُّكَ فِي الْقِيَامةِ أنْ تَرَاهُ

[1] انظر: الجدل المأخوذ من الكتاب، ص:8
[2] حائط البراق: هو ما يسميه اليهود حائط المبكى (حيث يزعمون بأنه الجزء المتبقي من الهيكل المزعوم، ولم يدع اليهود يومًا من الأيام أيَّ حق في الحائط إلا بعد أن تمكنوا من إنشاء كيان لهم في القدس، وكانوا إذا زاروا القدس يتعبدون عند السور الشرقي، ثم تحولوا إلى السور الغربي).. حائط البراق حائط يحد الحرم القدسي الشريف من الغرب، وترجع هذه التسمية إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم - طبقًا لما أشارت إليه مصادر قرآنية ونبوية عديدة في تفسيرها للآية الكريمة {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ} - أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - ركب البُراق حتى باب المسجد الأقصى؛ حيث ربط الدابة قرب الباب في مكان بالحائط الغربي للحرم، في الحلقة التي كان يربط فيها الأنبياء من قبل، ودخل المسجد، حيث صلى بالأنبياء ثم عُرج به إلى السماوات العُلا..
[2] حديث حسن رواه ابن ماجة والبيهقي وغيرهما

 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top