مقالات تاريخية-متجدد

رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

جودا أكبر بين السينما والتاريخ

يحاول هذا المقال إلقاء الضوء على شخصية هذا السلطان الذي حكم الهند من نسل سلالة إسلامية اتخذت من شريعة الإسلام هوية وقانون لحكم الأراضي الهندية، رابطًا بين بعض أحداث الفيلم الذي عُرض على شاشات التلفاز في نسخة مترجمة وأخرى مدبلجة وبين التاريخ الحقيقي لهذا السلطان الذي ترك طريق الإسلام ليخترع له دينًا جديدًا جعله دين دولته الرسمي.

مولد جلال الدين أكبر وحياته:
ولد «جلال الدين» [949هـ/1542م وتوفى 1014هـ/1605م] لأب مسلم سني وأم شيعية، ولم يحظ في حياته بتعليم جيد فكان أميًا لا يعرف القراءة ولا الكتابة إلا أنه كان يستمع للقصص كثيرًا، ويحفظ أسماء شعراء الإسلام، ويعرف بعض تعاليم الإنجيل والعقائد النصرانية، ومبادئ الهندوسية، والزرادشتية.

وصلت مدة حكم أكبر 50 عامًا تقريبًا بدأها من عام 1556 حتى عام 1605 ساهم فيها بنهوض الهند بشكل ضخم، وصُنف من أكبر ملوك الهند وأعاظمها في تاريخها القديم والحديث.

مر جلال أكبر في حياته الدينية بمرحلتين: الأولى مدة عشرين عامًا حتى وصوله سن 32 عامًا في 982هـ/ 1574 واتصف سلوكه في هذه المرحلة بكونه سني متمسك بدينه، محافظ على أصول الدين ويؤدي الصلوات الخمس بانتظام في المسجد، يحترم علماء الدين والمتصوفة ويجلهم ويؤثر صحبتهم ويقضي معهم الساعات الطوال، وكان يتبرك بشيخ منهم يدعى «سليم بن بهاء الدين السيكوري» حتى سمى ابنه «سليم» على اسم الشيخ. عيَّن أكبر القضاة والمفتين في كل أجزاء مملكته ليحكموا بالعدل بين الناس بواسطة الشريعة الإسلامية. أما المرحلة الثانية من حياته فانقلب فيها على النقيض من الأولى، فتولى عن تمسكه بدينه وأخذ ينظر إلى الملل والنحل الكثيرة التي تسكن مملكته مفكرًا في اختراع دين جديد يجمع هذه الملل والنحل تحت مظلة واحدة.

سياسته الداخلية وعلاقاته الخارجية بالدول الإسلامية:
وقت أن تسلم أكبر الحكم كانت «الهند» في أوضاع سيئة، فالطاعون ضاربها في الأجزاء الشمالية، والإقليم الشمالي الغربي موضع حروب ونزاع في حين كانت الولايتين الكبيرتين «السند» و«كشمير» في هذه المنطقة الجغرافية منفصلتين عن حكم «دلهي». استطاع أكبر أن يضم ولايات كثيرة إلى مملكته مثل «كشمير» و«السند» و«بلوخستان» و«قندهار» و«كابُل» وأضحت الدولة المغولية في الهند أكبر دولة في عهده وأقواها وأكثرها ثراء وغنى.

بالإضافة إلى ما سبق، استطاع أكبر ضم ولاية «الگجرات» في غرب البلاد والتي مكنته من فتح صفحة جديدة في تاريخ دولته، فخراج هذه الولاية الساحلية الثرية كان يؤَمن لدولة أكبر نحو خمسة ملايين روبيه في العام، ومن خلال هذه الولاية بدأ السلطان يتصل اتصالًا مباشرًا بالبرتغاليين عبر موانئها، كما مهدت لضم المملكة الجنوبية المعروفة باسم «ولاية الدكن» وأضحى غزو «البنغال» في الشرق أمرًا سهلًا.

أما بخصوص علاقاته الخارجية مع الدول الإسلامية الكبيرة والتي تمثلت في «الدولة العثمانية» و«الدولة الصفوية» فكانت تتراوح ما بين علاقات طيبة ومتوترة، فعلاقته بالدولة الصفوية كانت علاقة جيدة وحسنه بسبب الصلة التاريخية بين الدولتين، فقد استنجد جد أكبر «بابُر شاه» مؤسس الدولة المغولية بمؤسس الدولة الصفوية «إسماعيل الصفوي» في حربه ضد «الأوزبك» السُنة فأمده الشاه بجيش صفوي، كما استعان ابوه «هُمايون» بالشاه «طهماسب الأول» ابن الشاه إسماعيل الصفوي واستطاع بمساعدته الرجوع إلى عرش الهند مرة أخرى.

اتسمت العلاقات على نفس المنوال بين «طهماسب» وأكبر، فكانت علاقات ود واحترام وتعاون استقبل خلالها أكبر مبعوث طهماسب بعد جلوسه على العرش وأنعم عليه بالهدايا.

أما بخصوص العلاقة مع الدولة الإسلامية الأكبر في عهده وهي «الدولة العثمانية» فلم تكن على ما يرام، فقد وقف بجانب الصفويين ضد العثمانيين على الرغم من كون العثمانيين سنة والصفويين شيعة. وفي عام 1582 فكر جديًا في عقد تحالف مع البرتغاليين لمهاجمة العثمانيين، وعندما أتى إليه وفد دبلوماسي من والي «اليمن» العثماني قام بتقييدهم وعاقبهم، وكان السبب المذكور لأجل ذلك أنهم كانوا مغرورين وأنهم حاولوا إقناعه بالتحالف بين دولته والدولة العثمانية ضد الإسپان والبرتغاليين فأبى.

اقترح أكبر أيضًا على الأوزبك أن يتعاون معهم بمساعدة الصفويين في حملة ضد العثمانيين؛ لأن العثمانيين لم يلتزموا بمعاهدتهم مع الدولة الصفوية وقاموا بحملات ضدها [في عهد السلطان مراد الثالث عام 1579 و 1588] لكن سلطان الأوزبك رفض.

indian-akbar-914x1024.gif
مساحة مملكة أكبر مُظللة باللون الرمادي
مساحة مملكة أكبر مُظللة باللون الرمادي
العلوم والفنون في عهده:
على الرغم من كون أكبر أميًا لا يقرأ ولا يكتب إلا أن تمتعه بذكاء كبير وحب للعلماء والشعراء جعل مجلسه دائمًا يحفل بالمفكرين والفقهاء والشعراء والأدباء الذين تجاوز عددهم الثلاثمائة، وقد نشطت حركة التأليف والترجمة بشكل كبير في عهده وتم نقل الكثير من الكتب إلى الفارسية [لغة الدولة والعلم] من أشهرها كتاب «حياة الحيوان الكبرى» لكمال الدين الدميري و «معجم البلدان» لياقوت الحموي.

شهد عهده كذلك ازدهار للفنون بشكل لم يزدهر مثله في بلاط ملوك الهند المسلمين خاصة فن التصوير، فقد زيّن جدران قصور مدينته «فتح بورسيكرى» التي أنشأها برسوم جدارية على أيدي فنانين من الهند وإيران، كما أنشأ معهدًا التحق به حوالي مائة فنان تحت إشراف المصورين الإيرانيين، وكانت الفنون الهندية في عهده تضارع الفنون الأوروبية بل وتتفوق عليها في بعض نواحيها.

سياساته الدينية واختراعه الدين الإلهي:
لعل من أهم ما اشتهر به جلال الدين هو اختراعه لدين سُمي باسم «الدين الإلهي» الذي هو عبارة عن تجميع لمعتقدات وملل ونحل مختلفة في عقيدة واحدة، وهو أمر بدأ بارتكاز سياساته تجاه رعاياه على أساس متين من الحب والرضاء بغض النظر عن أديانهم أو مذاهبهم، والعمل على توحيد سكان الهند جميعًا مسلمين وهندوس، فعمل على استقطاب «الراجبوت» الذين يكونون الطبقة العسكرية في المجتمع الهندوسي، واتخذ لتحقيق ذلك عدة وسائل منها الزواج فقد تزوج في عام 969هـ / 1562 من أسرة هندوسية قوية كانت محور الفيلم الذي تناول سيرته كقصة حب رومانسية بينه وبين ابنة هذه الأسرة دون أن تذكر بأن الرجل خان الحب الذي جمعه بهذه الأميرة بالتزوج عليها في عام 978هـ/1570م من أميرتين هندوسيتين من مدينة «جايسلمير» و مدينة «بيكانير»، كما قام بتزويج ابنه وولي عهد الأمير «جهانكير» بفتاة هندوسية كذلك. اعتمد أكبر على تعيين الهندوس في أعلى مناصب الدولة الإدارية والمالية، وشكَّل الهندوس الراجات نصف قادة الجيش، كما شجّع على إحياء عادات الهندوس وأعرافهم وكان يختلط بهم ويشايعهم في تقاليدهم وعاداتهم، وألغى ضريبة الجزية المفروضة عليهم والرسوم المفروضة على زيارتهم لأماكن حجهم والتي وصل عائدها إلى ملايين الروبيات سنويًا وهي نقطة محورية أيضًا في الفيلم جعلت كاتب السيناريو يذكر بأن الشعب الهندوسي أطلق عليه بسبب هذه الواقعة اسم «أكبر» إلا أن التاريخ يذكر بأنه هو من تسمى بهذا الاسم متوهمًا العظمة والعلو التي يتصف بها الخالق عز وجل [كما سيأتي ذكره]، ولم يطلق عليه أحد من الشعب الهندوسي هذا الاسم.

قام السلطان في عام 983هـ/1575م بإنشاء مؤسسة سماها «دار العبادة»، وهو منتدى للمناقشات والمجادلات الدينية بين العلماء والفقهاء من السنة والشيعة، كما قام بدعوة «الهندوس» و«النصارى» و«ألزرادشت» و«البراهمة» و«اليهود» إلى الاشتراك في المناقشات الدينية، وأمر وزيره بترجمة «الإنجيل» للفارسية وعَهِد إلى فريق من العلماء لنقل أمهات الكتب الهندوسية من «السنسكريتية» إلى الفارسية، وبلغ من تلطفه مع الهندوس إلى ارتداء مُسوحهم وممارسة طقوسهم الدينية، وكف عن استخدام الثوم والبصل في أطعمته وتقديم اللحوم على مائدته.

وفي جمادي الأول عام 987هـ/1579م انتقل أكبر إلى مرحلة أخرى من حياته، فترأس الصلاة محل الإمام في جامع «فتح بورسيكرى الكبير» وبعد أن فرغ من الصلاة قال بصوت جهور «الله أكبر» معلنًا مشاركته للطبيعة الإلهية وأنه معصوم في آرائه وأقواله، ودعا الجميع أن يمتثلوا لأوامره وإلا خسروا كل ما يملكون، وقد أعلن على الملأ دينه الجديد «الدين الإلهي» وهو خليط يجمع في أصوله ما بين التوحيد الإسلامي وفي فروعه على التصوف القائم على الهندوسية والزرادشتية، فهو تصوف فلسفي فيه نوع من الحلولية من أطاع فيه السلطان ممثل الله على الأرض فقد أطاع الله، ومن عصاه خسر الدنيا والآخرة. شهد العام نفسه انقطاع السلطان عن الزيارة الدورية لأضرحة مشايخ الصوفية التي كان يزورها سنويًا، ومنع الأموال التي كانت يرسلها كل عام إلى أشراف وفقراء الأراضي المقدسة في شبه الجزيرة العربية، وهو أمر لا يذكر في السياق الدرامي الذي يتناول حياة السلطان العاطفية، فقط ما يُذكر هو إسلامه المتسامح.

شَمِل دين أكبر خليط من المعتقدات المتداخلة مثل عبادة الشمس عند طلوعها واحترام النار وإنكار الجن والملائكة والحشر والنشر وسائر الغيبيات، وإنكار المعجزات والتشكيك في النبوات، ودعوة اتباعه بترك الإسلام لأن واضعوه فقراء الأعراب، وقام بتبديل لفظ الشهادة «لا إله إلا الله محمد رسول الله» إلى «لا إله إلا الله أكبر خليفة الله» وكان يسجد للشمس والنار كل سنة يوم النيروز، كذلك قام بمنع تعدد الزوجات. قام كذلك بتغيير التاريخ الهجري المعمول به في الدولة ووضع تاريخ جديد يبدأ من يوم جلوسه على العرش، وسُميت شهور وأعوام هذا التقويم بالشهور والأعوام الإلهية، كما استخف بالعربية وعلوم الفقه والعلوم الدينية، ومنع ذبح الأبقار اعتقادًا منه بقدسية البقرة كما يفعل الهندوس، وكان لا يصوم رمضان ويكتفي بركعتي العيد مع توزيع الصدقات وإعتاق العبيد مقابل عدم صيامه.

شهد عهده أيضًا حركة تنصيرية قام بها البرتغاليون الذين كانوا يسيطرون على أجزاء من الأراضي الهندية، فتم إرسال البعثات التبشيرية للتبشير بالنصرانية بين أفراد السكان، فعلم أكبر بالأمر فطلب بإرسال مبعوث إلى مدينة «گوا» يطلب إرسال رهبان لشرح الأسس الفلسفية للنصرانية، فتم في عام 988هـ /1580م إرسال بعثة من المدينة استقبلها السلطان بكل ترحاب واحترام، وسمح لهم ببناء كنيسة في مدينة «آگرہ» وأظهر أعجابه الشديد بصور المسيح والعذراء، ووضع ابنه «مراد» تحت رعايتهما ليجرب أثر النصرانية على عقل طفل صغير !

أُسست بالفعل أول كنيسة في مدينة «آگرہ» عام 1011هـ/1602م، ورُخص بعدها لبعض الأمراء اليسوعيين بإنشاء إرساليات تبشيرية في البلاد، كما تم إصدار أمر يجيز للمرسلين التبشير بالإنجيل، وترك أكبر لرعاياه حرية اعتناق النصرانية دون تقييد.

أدت دعوة أكبر لمثل هذه المعتقدات إلى رجات عنيفة في مملكته، فقد خرجت عليه بعض الولايات وحاربته باعتباره ملحدًا مثل «كابُل» الذي عَين عليها حاكمًا هندوسيًا، وهي أول مرة يعين فيها هندوسي على حكم ولاية إسلامية في الهند، كما عاداه كثير من العلماء وهاجموه ومن أشهرهم العالِم الكبير الشيخ «أحمد السرهندي» بالإضافة إلى الشيخ «عبد الله السلفانيوري» والشيخ «عبد النبي الگنگوهي» والذي أمر بأن يُنفوا إلى الحجاز، وقد تناول الفيلم في نهايته هذا الأمر بالإشارة فظهر عالم دين كبير خاطبه السلطان بأمر نفيه إلى مكة لأنه متعصب انضم إلى خصم لأكبر يريد انتزاع الحكم منه؛ لأن طبيعة هذا العالِم لا تُقدر التسامح الذي يجب أن يكون عليه المسلمين مع غير المسلمين، والحقيقة أن الرجل نفى علماء المسلمين إلى مكة كمن سبق ذكر اسمائهم لأجل اعتراضهم على اختراعه هذه الوثنيات الجديدة وجعلها ديانة جديدة لدولته، وليس بسبب تعصبهم وعدم تسامحهم.

توفى أكبر في 30 جمادي الأول 1014هـ/13 تشرين الأول 1605م على إثر إسهال حاد أصابه عجز الأطباء عن علاجه فمات متأثرًا به ودُفن في ضريحه الذي بدأ ببناءه في سِكندرا بمدينة «آگرہ».
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنتريني

لئن لم يجرِ ابن بسام الشنتريني (460 - 542هـ / 1067 - 1147م)، في ميدان الشعر طويلًا، فإنه قد عوّض عن ذلك بانكبابه على شعر أهل الأندلس يجمعه دواوين ومختارات، وقد عُدَّ الأثر الباقي له "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" أهم آثاره. وبه يحتل ابن بسام مكانًا بارزًا في الأدب العربي أديبًا ومؤرخًا.

أهمية كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة:
كتابٌ "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" ألفه أبو الحسن علي بن بسَّام الشنتريني، من أعلام الكُتَّاب والنقاد الأندلسيين في القرنين الخامس والسادس الهجريين. ولد بجزيرة شنترين، وإليها نسب، في أسرة ميسورة الحال، عنيت بتربيته وتعليمه وإعداده لمستقبل زاهر. أظهر ابن بسام قدرًا من الموهبة الأدبية منذ الصغر، وبدأ يكتب الشعر والنثر فلفت الأنظار إليه.

وكتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة مصدر على جانب كبير من الأهمية للباحث في تاريخ الأندلس وأدبها في فترة ملوك الطوائف التي تلت نهاية خلافة قرطبة الأموية القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي.

أما أهمية الكتاب التاريخية فترجع إلى احتفاظه بفقرات مطولة من كتاب "المتين" لشيخ مؤرخي الأندلس أبي مروان بن حيان (ت 469هـ / 1076م)، وهو التاريخ الذي لم يصلنا، وفيه تناول ابن حيان -بأسلوبه البليغ وصدقه وصراحته المعهودتين- تاريخ الأندلس على عهد ملوك الطوائف. إن هذه الفقرات التي أوردها ابن بسام في كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة هي كل ما وصلنا من كتاب "المتين"، وأضاف إليها ابن بسام تأريخه هو للثلث الأخير من القرن الحادي عشر بعد وفاة ابن حيان.

وأما من الناحية الأدبية، فإن ابن بسام يعرض لنا بأسلوب بديع مرسل -من دون إغراق في السجع كبعض معاصريه- نماذج ومقتطفات من شعر دفتر أعلام الأدباء في تلك الفترة التي شهد جانبًا منها، او استقى أخبارها من مصادر قريبة العهد بها.

ويتجلى في الذخيرة علم ابن بسام وإلمامه بتاريخ العرب وتمثّله وحفظه أشعارهم وأمثالهم. وقد قدم لأقسام الكتاب بتمهيد تاريخي ذكر فيه أنه كفاه مؤونته مؤرخ قرطبة ابن حيان، كما اعتمد تاريخًا منظومًا للأندلس لأبي طالب عبد الجبار المتيني من جزيرة شَقَر، وقد عاش هذا المؤرخ في حدود سنة 520هـ، وبعد هذا التمهيد بدأ تراجم الأعلام فذكر اسم المترجم له ولقبه ونسبه وبلده وبعضًا من شعره ونثره.

وقد خالف ابن بسّام كتب التراجم، فكان ينتقل من الجدّ إلى الهزل لتنشيط القارئ، كما أدخل كتابه في حيز الدراسات النقدية والبلاغية، وهي ميزة تضاف إلى ميزات الكتاب، فكان يورد آراء النقاد والأدباء، ويدلي بدلوه في ذلك بآراء وأحكام تدلّ على سعة اطّلاعه على بلاغات العرب السابقين والتفطّن إلى ما ينطوي عليه الكلام من نوادر الأدب والأدباء في عصره، وقد سجّلها في نثر شديد الشبه بنثر الثعالبي في "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر".

وقد توفي ابن بسام الشنتريني (سنة 542هـ/ 1147م)، بعد أن قدم سفْرًا أصيلًا وجهود سنين مضنية في المعرفة والبحث، ولولاه لظل الكثير من روائع الأدب الأندلسي محجوبًا عن الباحثين والدارسين. وحقا ما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف في تقرير أهمية الذخيرة، ودورها في التعريف بالأدب الأندلسي حيث يقول: "لولا الذخيرة لظل الأدب الأندلسي بروائعه الباهرة شعرا ونثرا، محجوبا عن الباحثين، ولما استطاع أحد أن يكتب تاريخه".

لماذا ألف ابن بسام الذخيرة؟:
إن ما دفع ابن بسام الشنتريني إلى تصنيف كتابه هو الرغبة في التعريف بأهل الأدب الأندلسيين، إذ أنه رأى الناس يغمطون قدرهم، وغيرته على نتاج أهل وطنه من شعر ونثر، ورغبته بالتالي في حجم هذا النتاج، خصوصًا أنه لاحظ تعلق أهل الأندلس بكل ما هو مشرقي في هذا الباب، "حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا ضمًا، وتلوا ذلك كتابًا محكمًا. وأخبارهم أهل الأندلس الباهرة وأشعارهم السائرة مرمى القصية ومناخ الرذية، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة، وتمج بحاره ثمادًا مضمحلة، مع كثرة أدبائه ووفور علمائه".

وابن بسام شديد الإعجاب بإنتاج بني بلده على رغم "كونهم بهذا الإقليم، ومصاقبتهم لطوائف الروم، وعلى أن بلادهم آخر الفتوح الإسلامية، وأقصى خطى المآثر العربية، ليس وراءهم إلا البحر المحيط، والروم والقوط".

وفي كتاب "الذخيرة" يحذو ابن بسام حذو أبي منصور الثعالبي المتوفي سنة 429هـ/ 1038م في كتابه "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر"، إلا أنه إمعانًا في الفائدة يورد الخلفية التاريخية لأخباره ومنتخباته "فإني رأيت أكثر ما ذكر الثعالبي من ذلك في "يتيمته" محذوفًا من أخبار قائليه، مبتورًا من الأسباب التي وصلت به وقيلت فيه، فأملّ قاريء كتابه منحاه، وأحوجه إلى طلب ما أغفله من ذلك في سواه" [1].

موضوع كتاب الذخيرة:
واقتصر ابن بسام الشنتريني في كتابه على أعلام القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي ذلك لأن أعلام الدولتين المروانية والعامرية تناولهم ابن فرج الجياني في "كتاب الحدائق". فهو يقول: "فأضربت عما ألف، ولم أعرض لشيء مما صنّف، ولا تعديت أهل عصري، مما شاهدته بعمري أو لحقه بعض أهل دهري، إذ كل مردد ثقيل، وكل متكرر مملول".

وعانى ابن بسام كثيرًا في جمع مادته، إذ "إن عامة من ذكرته في هذا الديوان لم أجد له أخبارًا موضوعة، ولا أشعارًا مجموعة، تفسح لي في طريق الاختيار منها"، ثم إنه تولى المهمة في ظروف شخصية صعبة إثر نزوحه عن مسقط رأسه شنترين شمالي لشبونة بنحو 80 كلم قبيل استيلاء الروم عليها سنة 486هـ/ 1093م، وقد تقدمت به السن. كما أن جمْع المادة تَطَلَّب منه الرجوع إلى مصادر متفرقة كان يعوزها الوضوح والبيان والدقة، فهو يقول: "فإنما جمعته بين صعب قد ذل، وغرب قد فل، ونشاط قد قل، وشباب ودع فاستقل، من تفاريق كالقرون الخالية، وتعاليق كالاطلال البالية، بخط جهال كخطوط الراح، أو مدارج النمل بين مهاب الرياح. فضبطهم تصحيف، ووضعهم تبديل وتحريف، أيأس الناس منها طالبها، وأشدهم استرابة بها كاتبها، ففتحت أنا أقفالها، وفضضت قيودها وأغلالها، فأصبت غايات تبيين وبيان، ووضحت آيات حسن وإحسان".

ويمضي ابن بسام في مقدمة "الذخيرة" فيقول: "واعتمدت المئة الخامسة من الهجرة، فشرحت بعض محنها، وجلوت وجوه فتنها، وأحصيت علل استيلاء طوائف الروم على هذا الإقليم الأندلس، وألمحت بالأسباب التي دعت ملوكها إلى خلعهم، واجتثاث أصلهم وفرعهم. وعولت في معظم ذلك على تاريخ أبي مروان بن حيان" [2].

أقسام كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة:
وقسم ابن بسام كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة أربعة أقسام:

القسم الأول: واختص به "أهل حضرة قرطبة وما يصاقبها من بلاد موسطة الأندلس"، وقد ترجم في هذا القسم لعدد كبير من أدباء الإقليم، بلغ عددهم أربعة وثلاثين شاعرا وأديبا وسياسيا ومؤرخا، أظهرهم: ابن دراج القسطلي، وابن حزم، وابن شهيد، وابن زيدون، وولادة بنت المستكفي، وعبادة بن ماء السماء، وابن حيان وغيرهم.

القسم الثاني: وجعله لأهل الجانب الغربي من الأندلس "وذكر أهل حضرة أشبيلية وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومي"، وعرف فيه بستة وأربعين من الرؤساء وأعيان الكتاب، أوضحهم: القاضي أبو الوليد الباجي، وابن القصيرة، وابن وهبون، وابن عبدون، وابن قزمان، وابن عمار ومقتله، وابن القبطورنة وغيرهم.

القسم الثالث: وذكر فيه أهل الجانب الشرقي من الأندلس، ومن نجم من كواكب العصر في أفق ذلك الثغر الأعلى، إلى منتهى كلمة الإسلام هناك، وعرف بعدد من الرؤساء وأعيان الكتاب وطوائف الشعراء، بينهم، ابن حسداي، وابن خفاجة، وابن اللبانة، وابن أبي الخصال، وغيرهم.

القسم الرابع: وأفرده "لمن طرأ على هذه الجزيرة من أديب شاعر، وأوى إلى ظلها من كاتب ماهر، واتسع فيها مجاله، وحفظت في ملوكها أقواله، وألحق بهم طائفة من مشهوري أهل تلك الآفاق، ممن نجم في عصره بأفريقية والشام والعراق". وقد أثبت في آخر هذا القسم طرفا من كلام أهل المشرق، وإن كانوا لم يطرأوا على هذا الأفق، حذو أبي منصور الثعالبي، فإنه ذكر في يتيمته نفرا من أهل الأندلس، فعارضه أو ناقضه. وتضم تراجم هذا القسم اثنين وثلاثين شخصا، أولهم أبو العلاء صاعد البغدادي وابن حمديس الصقلي، وابن القابل البستي، ومن المشارقة : الشريف الرضي، ومهيار الديلمي، والثعالبي، وأبو إسحاق الحصري، وابن رشيق القيرواني، وغيرهم. ويعلن ابن بسام أنه إنما ذكر أدباء هذا القسم الأخير تقليدا واقتداءا بالثعالبي في اليتيمة.

منهج ابن بسام في كتاب الذخيرة:
أما المنهج الذي انتهجه ابن بسام في كتاب الذخيرة فهو إيراد توطئة تاريخية يتبعها بمن يترجم لهم من الرؤساء والكتّاب والوزراء والشعراء، على هذا الترتيب. وهو يبدأ عادة بترجمة العلم المراد في نثر بديع مسجوع، ويورد مقتطفات من شعره أو نثره، وهو يُكثر من المقارنة بين شعر معاصريه وبين شعر القدامى، ويشير إلى المواضع التي قلدوا القدامى فيها.

ويقتبس ابن سعيد عن الحجاري صاحب "المسهب" قوله في ابن بسام: "العجب أنه لم يكن في حساب الآداب الأندلسية أنه سيبعث من شنترين، قاصية الغرب، ومحل الطعن والضرب، من ينظمها قلائد في جيد الدهر، ويطلعها ضرائر للأنجم الزهر. ولم ينشأ بحضرة قرطبة ولا بحضرة اشبيلية ولا غيرهما من الحواضر العظام من يمتعض امتعاضه لاعلام عصره، ويجهد في جمع حسنات نظمه ونثره. وسل الذخيرة فإنها تعنون عن محاسنه الغزيرة، ومن نثره في كتاب الذخيرة ما يدل على طبقته" [3].

ويذكر ابن بسام من منهجه في الذخيرة ما يتصل بعملية الاختيار بنماذج الإبداع التي يودعها ذخيرته، يقول ابن بسام: "وتخيرت في الجملة حر النظام، وتخيرت جيد الكلام، وجردت جملة الفصول والأقسام، وإذا مر معنى غريب، وتعلق به خبر مشهور، وأمكنني فيه شعر كثير، مددت إطنابه، ووصلت أسبابه، وقد أذكر الشاعر الخامل، وينشد الشعر النازل، لأرب يتعلق به، أو الخبر يذكر بسببه، وقد أذكر الرجل لنباهة ذكره لا لجودة شعره، ويقدم الآخر لاشتهار إحسانه، مع تأخر زمانه" [4].

ولم يرتب تراجمه على حسب السنين إلا في الجزء الخاص ببطليوس وما يصاقبها، وإنما رتبها على حسب مكانة المترجم له كما رآها، وهو يبدأ عادة بترجمة العلم المراد، شاعرا أو كاتبا أو سياسيا، مرسله في نثر بديع مسجوع، ثم يذكر مؤلفاته، ويطري مواهبه الأدبية، ويورد مقتطفات من شعره ونثره، وفي الترتيب بين أصحاب بين أصحاب الفنون يبدأ بذكر الكتاب. يقول ابن بسام: "وبدأت بذكر الكتاب، إذ هم صدور في أهل الآداب، إلا أن يكون له حظ من الرياسة، أو يدعو إلى تقديمه بعض السياسة، فأول من ذكرت من أهل قرطبة؛ من كان بها من ملوك قريش، في المدة المؤرخة من أهل هذا الشأن، ثم من تعلق بسلطانهم، أو دخل في شئ من شأنهم، وتلوتهم بالكتاب والوزراء، ثم بأعيان الشعراء، ثم بطوائف من المقلين منهم، وكذلك فعلت في كل قسم، فبدأت بالملوك ثم استمر على ما وصفته من التركيب" [5].

وقصر مؤلفه على أهل زمانه، من منتصف القرن الحادي عشر الميلادي إلى منتصف القرن الثاني عشر الميلاديين، فقد حرص ابن بسام في الذخيرة على الترجمة لأدباء الأندلس في عصر ملوك الطوائف، وأوائل عصر المرابطين ترجمات ضافية ومفصلة، تعتمد على سرد جوانب كثيرة من إبداعاتهم الشعرية والنثرية، ويذكر ابن بسام أنه لم يفسح في ذخيرته مكانا لأدباء الدولة المروانية، ولا للمدائح العامرية، وذلك لأن أحد أدباء الأندلس في العصر المرواني، وهو ابن فرج الجياني وضع كتاب (الحدائق)، الذى ألفه للحكم المستنصر عارضا أطرافا من محاسن أهل زمانه، وقد ألفه معارضا كتاب (الزهرة) لابن داوود الأصبهاني، وقد هدف ابن بسام من ذلك إلى عدم تكرير ما سبق إليه الجياني وغيره، وأن يترجم لعدد من الأدباء في عصره هو. فلم يعرض لأحد ممن ذكره، ولم يتعد أهل عصره ممن شاهده بنفسه، أو لحقه بعض أهل دهره، لأن كل مردد ثقيل، وكل متكرر مملول [6].

وهو يخرج على قاعدة الفضل للمتقدم، وكانت سائدة في عصره وما قبل عصره، فيرى " أن الإحسان غير محصور، وليس الفضل على زمن بمقصور، ويكره للفضل أن ينكر تقدم به الزمن أو تأخر، ولو اقتصر المتأخرون على كتب المتقدمين لضاع علم كثير وذهب أدب غزير"، وهى قاعدة في النقد الأدبي ليست له، ويبدو أنه نقلها عن القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني ( ت 392هـ / 1001م) صاحب كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، فقد كان ابن بسام معجبا بالمتنبي، حفيا بشعره، يكثر الاستشهاد به، وكان الجرجاني أول من أنصف المحدثين دون أن يتحيف الأقدمين حقهم، عالما بصيرا في دراسته للموضوع وتحليل أسبابه، فهو يرد الإعجاب بالقدامى إلى "الكلف بنصرة ما سبق إليه الاعتقاد، وألفته النفس"، على حين قنع ابن بسام من القضية بإنكارها في جمل إنشائية بلاغية.

وبين مذهبه في طريقة إيراد النصوص وعرضها، وأنه أراد بديوانه "أن يكون بستان منظوم ومنثور، لا ميدان بيان وتفسير، يورد الأخبار والأشعار لا يفك معماها في شئ من لفظها أو معناها" . ولكنه إذا ظفر بمعنى حسن، أو وقف على لفظ مستحسن، ذكر من سبق إليه، وأشار إلى من نقص عنه أو زاد عليه.

ويمكن إيجاز منهج ابن بسام على نحو ما ذكرنا، كالتالي:

1) رتب التراجم على حسب مكانة المترجم له كما يراها، ولم يرتبها على حسب السنين إلا في الجزء الخاص بمدينة بطليوس وما يجاورها.

2) يبدأ عادة الترجمة في نثر مسجوع، ثم يذكر مؤلفات المترجم له، ويمدح مواهبه الأديبة ويورد مقتطفات من شعره ونثره

3) وقد أورد فهرسًا مفصلًا في أول الكتاب عن أقسامه الأربعة، ومحتوى كل قسم منها وما ترجم لهم من الأمراء والكتاب والشعراء.

4) تحدث عن نشأة الموشحات الأندلسية:

ا- وأثنى عليها وترجم لأهم شعرائها.

ب- أكد أن الأندلس موطنها وأن أهل الأندلس هم الذين وضعوا أسسها.

ج- أكدأن لها أوزانا كثيرةاستخدموها في الغزل المؤثر في القلوب

د- أكد أن أهل المشرق قد قلدوهم فيها.

ه- اقتصر ابن بسام في تأليف كتابه على أهل زمانه من منتصف القرن الحادي عشر الميلادي إلى منتصف القرن الثاني عشر الميلاديين.

و- يورد من النصوص ما يرتضيه أو ما يخدم فكرة معينة يهدف لها، دون أن تسير تراجمه على نمط واحد، فأحيانًا تطول وتمتد إلى ما يقرب من (خمس وعشرين ومائة صفحة) كما في ترجمة ابن شهيد. وقد تتوسط كما في ترجمة (ابن درّاج القسطليّ)، وقد يكتفي بثلاث صفحات كما أخبر عن (ولادة بنت المستكفى).

ز-أشـار لطريقته في إيراد النصوص وعرضها، فقد أراد من كتابه أن يكون "بستان منظوم ومنثور لا ميدان بيان وتفسير". لذلك كان يورد الأخبار والأشعار ولا يفسر شيئًا من لفظها أو معناها إلا إذا وجدفي القصيدة بيتًا غامضا أو تركيبًا معقدًا، فكان يفسره كما كان يذكر أنباء الفتن والوقائع المشهور التي تتعلق بما يذكره من شعر ونثر.

ي- سار على منهج القاضي الجرجاني في كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، حيث أنصف المحدثين ولم يسند الفضل كله للقدماء دون غيرهم، بل إنه أعطى المحدثين حقهم في الفضل، ومع ذلك لم ينقص القدماء حقهم.

المراجع:
- أمين توفيق الطيبي: ابن بسام الشنتريني وكتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، مجلة الحياة الدولية، رقم العدد: 12838، تاريخ النشر: 2/1/1419هـ - 28/4/1998م.
- هناء دويدري: ابن بسام الشنتريني، الموسوعة العربية العالمية.
- صفاء عطا الله: منهج ابن بسام النقدي في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة". منتدى دكتور شيماء عطا الله.
الهوامش:
[1] ابن بسام الشنتريني، علي: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، الدار العربية، 1979م، 1/1 ص12، 14، 34.
[2] الذخيرة، 1/1 ص13، 15 – 18.
[3] ابن سعيد: المُغرب في حلى المغرب، القاهرة 1953م، 1/ ص417 - 418.
[4] الذخيرة، 1/1 ص32.
[5] السابق نفسه.
[6] انظر: الدكتور شوقي ضيف: عصر الدول والإمارات، طبعة دار المعارف، ص13.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلــــــــــــــــــــــــــنا اخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة
السلام عليكم

كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة لابن بسام الشنتريني

لئن لم يجرِ ابن بسام الشنتريني (460 - 542هـ / 1067 - 1147م)، في ميدان الشعر طويلًا، فإنه قد عوّض عن ذلك بانكبابه على شعر أهل الأندلس يجمعه دواوين ومختارات، وقد عُدَّ الأثر الباقي له "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" أهم آثاره. وبه يحتل ابن بسام مكانًا بارزًا في الأدب العربي أديبًا ومؤرخًا.

أهمية كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة:
كتابٌ "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" ألفه أبو الحسن علي بن بسَّام الشنتريني، من أعلام الكُتَّاب والنقاد الأندلسيين في القرنين الخامس والسادس الهجريين. ولد بجزيرة شنترين، وإليها نسب، في أسرة ميسورة الحال، عنيت بتربيته وتعليمه وإعداده لمستقبل زاهر. أظهر ابن بسام قدرًا من الموهبة الأدبية منذ الصغر، وبدأ يكتب الشعر والنثر فلفت الأنظار إليه.

وكتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة مصدر على جانب كبير من الأهمية للباحث في تاريخ الأندلس وأدبها في فترة ملوك الطوائف التي تلت نهاية خلافة قرطبة الأموية القرن الخامس الهجري / الحادي عشر الميلادي.

أما أهمية الكتاب التاريخية فترجع إلى احتفاظه بفقرات مطولة من كتاب "المتين" لشيخ مؤرخي الأندلس أبي مروان بن حيان (ت 469هـ / 1076م)، وهو التاريخ الذي لم يصلنا، وفيه تناول ابن حيان -بأسلوبه البليغ وصدقه وصراحته المعهودتين- تاريخ الأندلس على عهد ملوك الطوائف. إن هذه الفقرات التي أوردها ابن بسام في كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة هي كل ما وصلنا من كتاب "المتين"، وأضاف إليها ابن بسام تأريخه هو للثلث الأخير من القرن الحادي عشر بعد وفاة ابن حيان.

وأما من الناحية الأدبية، فإن ابن بسام يعرض لنا بأسلوب بديع مرسل -من دون إغراق في السجع كبعض معاصريه- نماذج ومقتطفات من شعر دفتر أعلام الأدباء في تلك الفترة التي شهد جانبًا منها، او استقى أخبارها من مصادر قريبة العهد بها.

ويتجلى في الذخيرة علم ابن بسام وإلمامه بتاريخ العرب وتمثّله وحفظه أشعارهم وأمثالهم. وقد قدم لأقسام الكتاب بتمهيد تاريخي ذكر فيه أنه كفاه مؤونته مؤرخ قرطبة ابن حيان، كما اعتمد تاريخًا منظومًا للأندلس لأبي طالب عبد الجبار المتيني من جزيرة شَقَر، وقد عاش هذا المؤرخ في حدود سنة 520هـ، وبعد هذا التمهيد بدأ تراجم الأعلام فذكر اسم المترجم له ولقبه ونسبه وبلده وبعضًا من شعره ونثره.

وقد خالف ابن بسّام كتب التراجم، فكان ينتقل من الجدّ إلى الهزل لتنشيط القارئ، كما أدخل كتابه في حيز الدراسات النقدية والبلاغية، وهي ميزة تضاف إلى ميزات الكتاب، فكان يورد آراء النقاد والأدباء، ويدلي بدلوه في ذلك بآراء وأحكام تدلّ على سعة اطّلاعه على بلاغات العرب السابقين والتفطّن إلى ما ينطوي عليه الكلام من نوادر الأدب والأدباء في عصره، وقد سجّلها في نثر شديد الشبه بنثر الثعالبي في "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر".

وقد توفي ابن بسام الشنتريني (سنة 542هـ/ 1147م)، بعد أن قدم سفْرًا أصيلًا وجهود سنين مضنية في المعرفة والبحث، ولولاه لظل الكثير من روائع الأدب الأندلسي محجوبًا عن الباحثين والدارسين. وحقا ما ذهب إليه الدكتور شوقي ضيف في تقرير أهمية الذخيرة، ودورها في التعريف بالأدب الأندلسي حيث يقول: "لولا الذخيرة لظل الأدب الأندلسي بروائعه الباهرة شعرا ونثرا، محجوبا عن الباحثين، ولما استطاع أحد أن يكتب تاريخه".

لماذا ألف ابن بسام الذخيرة؟:
إن ما دفع ابن بسام الشنتريني إلى تصنيف كتابه هو الرغبة في التعريف بأهل الأدب الأندلسيين، إذ أنه رأى الناس يغمطون قدرهم، وغيرته على نتاج أهل وطنه من شعر ونثر، ورغبته بالتالي في حجم هذا النتاج، خصوصًا أنه لاحظ تعلق أهل الأندلس بكل ما هو مشرقي في هذا الباب، "حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثوا على هذا ضمًا، وتلوا ذلك كتابًا محكمًا. وأخبارهم أهل الأندلس الباهرة وأشعارهم السائرة مرمى القصية ومناخ الرذية، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب أن تعود بدوره أهلة، وتمج بحاره ثمادًا مضمحلة، مع كثرة أدبائه ووفور علمائه".

وابن بسام شديد الإعجاب بإنتاج بني بلده على رغم "كونهم بهذا الإقليم، ومصاقبتهم لطوائف الروم، وعلى أن بلادهم آخر الفتوح الإسلامية، وأقصى خطى المآثر العربية، ليس وراءهم إلا البحر المحيط، والروم والقوط".

وفي كتاب "الذخيرة" يحذو ابن بسام حذو أبي منصور الثعالبي المتوفي سنة 429هـ/ 1038م في كتابه "يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر"، إلا أنه إمعانًا في الفائدة يورد الخلفية التاريخية لأخباره ومنتخباته "فإني رأيت أكثر ما ذكر الثعالبي من ذلك في "يتيمته" محذوفًا من أخبار قائليه، مبتورًا من الأسباب التي وصلت به وقيلت فيه، فأملّ قاريء كتابه منحاه، وأحوجه إلى طلب ما أغفله من ذلك في سواه" [1].

موضوع كتاب الذخيرة:
واقتصر ابن بسام الشنتريني في كتابه على أعلام القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي ذلك لأن أعلام الدولتين المروانية والعامرية تناولهم ابن فرج الجياني في "كتاب الحدائق". فهو يقول: "فأضربت عما ألف، ولم أعرض لشيء مما صنّف، ولا تعديت أهل عصري، مما شاهدته بعمري أو لحقه بعض أهل دهري، إذ كل مردد ثقيل، وكل متكرر مملول".

وعانى ابن بسام كثيرًا في جمع مادته، إذ "إن عامة من ذكرته في هذا الديوان لم أجد له أخبارًا موضوعة، ولا أشعارًا مجموعة، تفسح لي في طريق الاختيار منها"، ثم إنه تولى المهمة في ظروف شخصية صعبة إثر نزوحه عن مسقط رأسه شنترين شمالي لشبونة بنحو 80 كلم قبيل استيلاء الروم عليها سنة 486هـ/ 1093م، وقد تقدمت به السن. كما أن جمْع المادة تَطَلَّب منه الرجوع إلى مصادر متفرقة كان يعوزها الوضوح والبيان والدقة، فهو يقول: "فإنما جمعته بين صعب قد ذل، وغرب قد فل، ونشاط قد قل، وشباب ودع فاستقل، من تفاريق كالقرون الخالية، وتعاليق كالاطلال البالية، بخط جهال كخطوط الراح، أو مدارج النمل بين مهاب الرياح. فضبطهم تصحيف، ووضعهم تبديل وتحريف، أيأس الناس منها طالبها، وأشدهم استرابة بها كاتبها، ففتحت أنا أقفالها، وفضضت قيودها وأغلالها، فأصبت غايات تبيين وبيان، ووضحت آيات حسن وإحسان".

ويمضي ابن بسام في مقدمة "الذخيرة" فيقول: "واعتمدت المئة الخامسة من الهجرة، فشرحت بعض محنها، وجلوت وجوه فتنها، وأحصيت علل استيلاء طوائف الروم على هذا الإقليم الأندلس، وألمحت بالأسباب التي دعت ملوكها إلى خلعهم، واجتثاث أصلهم وفرعهم. وعولت في معظم ذلك على تاريخ أبي مروان بن حيان" [2].

أقسام كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة:
وقسم ابن بسام كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة أربعة أقسام:

القسم الأول: واختص به "أهل حضرة قرطبة وما يصاقبها من بلاد موسطة الأندلس"، وقد ترجم في هذا القسم لعدد كبير من أدباء الإقليم، بلغ عددهم أربعة وثلاثين شاعرا وأديبا وسياسيا ومؤرخا، أظهرهم: ابن دراج القسطلي، وابن حزم، وابن شهيد، وابن زيدون، وولادة بنت المستكفي، وعبادة بن ماء السماء، وابن حيان وغيرهم.

القسم الثاني: وجعله لأهل الجانب الغربي من الأندلس "وذكر أهل حضرة أشبيلية وما اتصل بها من بلاد ساحل البحر المحيط الرومي"، وعرف فيه بستة وأربعين من الرؤساء وأعيان الكتاب، أوضحهم: القاضي أبو الوليد الباجي، وابن القصيرة، وابن وهبون، وابن عبدون، وابن قزمان، وابن عمار ومقتله، وابن القبطورنة وغيرهم.

القسم الثالث: وذكر فيه أهل الجانب الشرقي من الأندلس، ومن نجم من كواكب العصر في أفق ذلك الثغر الأعلى، إلى منتهى كلمة الإسلام هناك، وعرف بعدد من الرؤساء وأعيان الكتاب وطوائف الشعراء، بينهم، ابن حسداي، وابن خفاجة، وابن اللبانة، وابن أبي الخصال، وغيرهم.

القسم الرابع: وأفرده "لمن طرأ على هذه الجزيرة من أديب شاعر، وأوى إلى ظلها من كاتب ماهر، واتسع فيها مجاله، وحفظت في ملوكها أقواله، وألحق بهم طائفة من مشهوري أهل تلك الآفاق، ممن نجم في عصره بأفريقية والشام والعراق". وقد أثبت في آخر هذا القسم طرفا من كلام أهل المشرق، وإن كانوا لم يطرأوا على هذا الأفق، حذو أبي منصور الثعالبي، فإنه ذكر في يتيمته نفرا من أهل الأندلس، فعارضه أو ناقضه. وتضم تراجم هذا القسم اثنين وثلاثين شخصا، أولهم أبو العلاء صاعد البغدادي وابن حمديس الصقلي، وابن القابل البستي، ومن المشارقة : الشريف الرضي، ومهيار الديلمي، والثعالبي، وأبو إسحاق الحصري، وابن رشيق القيرواني، وغيرهم. ويعلن ابن بسام أنه إنما ذكر أدباء هذا القسم الأخير تقليدا واقتداءا بالثعالبي في اليتيمة.

منهج ابن بسام في كتاب الذخيرة:
أما المنهج الذي انتهجه ابن بسام في كتاب الذخيرة فهو إيراد توطئة تاريخية يتبعها بمن يترجم لهم من الرؤساء والكتّاب والوزراء والشعراء، على هذا الترتيب. وهو يبدأ عادة بترجمة العلم المراد في نثر بديع مسجوع، ويورد مقتطفات من شعره أو نثره، وهو يُكثر من المقارنة بين شعر معاصريه وبين شعر القدامى، ويشير إلى المواضع التي قلدوا القدامى فيها.

ويقتبس ابن سعيد عن الحجاري صاحب "المسهب" قوله في ابن بسام: "العجب أنه لم يكن في حساب الآداب الأندلسية أنه سيبعث من شنترين، قاصية الغرب، ومحل الطعن والضرب، من ينظمها قلائد في جيد الدهر، ويطلعها ضرائر للأنجم الزهر. ولم ينشأ بحضرة قرطبة ولا بحضرة اشبيلية ولا غيرهما من الحواضر العظام من يمتعض امتعاضه لاعلام عصره، ويجهد في جمع حسنات نظمه ونثره. وسل الذخيرة فإنها تعنون عن محاسنه الغزيرة، ومن نثره في كتاب الذخيرة ما يدل على طبقته" [3].

ويذكر ابن بسام من منهجه في الذخيرة ما يتصل بعملية الاختيار بنماذج الإبداع التي يودعها ذخيرته، يقول ابن بسام: "وتخيرت في الجملة حر النظام، وتخيرت جيد الكلام، وجردت جملة الفصول والأقسام، وإذا مر معنى غريب، وتعلق به خبر مشهور، وأمكنني فيه شعر كثير، مددت إطنابه، ووصلت أسبابه، وقد أذكر الشاعر الخامل، وينشد الشعر النازل، لأرب يتعلق به، أو الخبر يذكر بسببه، وقد أذكر الرجل لنباهة ذكره لا لجودة شعره، ويقدم الآخر لاشتهار إحسانه، مع تأخر زمانه" [4].

ولم يرتب تراجمه على حسب السنين إلا في الجزء الخاص ببطليوس وما يصاقبها، وإنما رتبها على حسب مكانة المترجم له كما رآها، وهو يبدأ عادة بترجمة العلم المراد، شاعرا أو كاتبا أو سياسيا، مرسله في نثر بديع مسجوع، ثم يذكر مؤلفاته، ويطري مواهبه الأدبية، ويورد مقتطفات من شعره ونثره، وفي الترتيب بين أصحاب بين أصحاب الفنون يبدأ بذكر الكتاب. يقول ابن بسام: "وبدأت بذكر الكتاب، إذ هم صدور في أهل الآداب، إلا أن يكون له حظ من الرياسة، أو يدعو إلى تقديمه بعض السياسة، فأول من ذكرت من أهل قرطبة؛ من كان بها من ملوك قريش، في المدة المؤرخة من أهل هذا الشأن، ثم من تعلق بسلطانهم، أو دخل في شئ من شأنهم، وتلوتهم بالكتاب والوزراء، ثم بأعيان الشعراء، ثم بطوائف من المقلين منهم، وكذلك فعلت في كل قسم، فبدأت بالملوك ثم استمر على ما وصفته من التركيب" [5].

وقصر مؤلفه على أهل زمانه، من منتصف القرن الحادي عشر الميلادي إلى منتصف القرن الثاني عشر الميلاديين، فقد حرص ابن بسام في الذخيرة على الترجمة لأدباء الأندلس في عصر ملوك الطوائف، وأوائل عصر المرابطين ترجمات ضافية ومفصلة، تعتمد على سرد جوانب كثيرة من إبداعاتهم الشعرية والنثرية، ويذكر ابن بسام أنه لم يفسح في ذخيرته مكانا لأدباء الدولة المروانية، ولا للمدائح العامرية، وذلك لأن أحد أدباء الأندلس في العصر المرواني، وهو ابن فرج الجياني وضع كتاب (الحدائق)، الذى ألفه للحكم المستنصر عارضا أطرافا من محاسن أهل زمانه، وقد ألفه معارضا كتاب (الزهرة) لابن داوود الأصبهاني، وقد هدف ابن بسام من ذلك إلى عدم تكرير ما سبق إليه الجياني وغيره، وأن يترجم لعدد من الأدباء في عصره هو. فلم يعرض لأحد ممن ذكره، ولم يتعد أهل عصره ممن شاهده بنفسه، أو لحقه بعض أهل دهره، لأن كل مردد ثقيل، وكل متكرر مملول [6].

وهو يخرج على قاعدة الفضل للمتقدم، وكانت سائدة في عصره وما قبل عصره، فيرى " أن الإحسان غير محصور، وليس الفضل على زمن بمقصور، ويكره للفضل أن ينكر تقدم به الزمن أو تأخر، ولو اقتصر المتأخرون على كتب المتقدمين لضاع علم كثير وذهب أدب غزير"، وهى قاعدة في النقد الأدبي ليست له، ويبدو أنه نقلها عن القاضي على بن عبد العزيز الجرجاني ( ت 392هـ / 1001م) صاحب كتاب "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، فقد كان ابن بسام معجبا بالمتنبي، حفيا بشعره، يكثر الاستشهاد به، وكان الجرجاني أول من أنصف المحدثين دون أن يتحيف الأقدمين حقهم، عالما بصيرا في دراسته للموضوع وتحليل أسبابه، فهو يرد الإعجاب بالقدامى إلى "الكلف بنصرة ما سبق إليه الاعتقاد، وألفته النفس"، على حين قنع ابن بسام من القضية بإنكارها في جمل إنشائية بلاغية.

وبين مذهبه في طريقة إيراد النصوص وعرضها، وأنه أراد بديوانه "أن يكون بستان منظوم ومنثور، لا ميدان بيان وتفسير، يورد الأخبار والأشعار لا يفك معماها في شئ من لفظها أو معناها" . ولكنه إذا ظفر بمعنى حسن، أو وقف على لفظ مستحسن، ذكر من سبق إليه، وأشار إلى من نقص عنه أو زاد عليه.

ويمكن إيجاز منهج ابن بسام على نحو ما ذكرنا، كالتالي:

1) رتب التراجم على حسب مكانة المترجم له كما يراها، ولم يرتبها على حسب السنين إلا في الجزء الخاص بمدينة بطليوس وما يجاورها.

2) يبدأ عادة الترجمة في نثر مسجوع، ثم يذكر مؤلفات المترجم له، ويمدح مواهبه الأديبة ويورد مقتطفات من شعره ونثره

3) وقد أورد فهرسًا مفصلًا في أول الكتاب عن أقسامه الأربعة، ومحتوى كل قسم منها وما ترجم لهم من الأمراء والكتاب والشعراء.

4) تحدث عن نشأة الموشحات الأندلسية:

ا- وأثنى عليها وترجم لأهم شعرائها.

ب- أكد أن الأندلس موطنها وأن أهل الأندلس هم الذين وضعوا أسسها.

ج- أكدأن لها أوزانا كثيرةاستخدموها في الغزل المؤثر في القلوب

د- أكد أن أهل المشرق قد قلدوهم فيها.

ه- اقتصر ابن بسام في تأليف كتابه على أهل زمانه من منتصف القرن الحادي عشر الميلادي إلى منتصف القرن الثاني عشر الميلاديين.

و- يورد من النصوص ما يرتضيه أو ما يخدم فكرة معينة يهدف لها، دون أن تسير تراجمه على نمط واحد، فأحيانًا تطول وتمتد إلى ما يقرب من (خمس وعشرين ومائة صفحة) كما في ترجمة ابن شهيد. وقد تتوسط كما في ترجمة (ابن درّاج القسطليّ)، وقد يكتفي بثلاث صفحات كما أخبر عن (ولادة بنت المستكفى).

ز-أشـار لطريقته في إيراد النصوص وعرضها، فقد أراد من كتابه أن يكون "بستان منظوم ومنثور لا ميدان بيان وتفسير". لذلك كان يورد الأخبار والأشعار ولا يفسر شيئًا من لفظها أو معناها إلا إذا وجدفي القصيدة بيتًا غامضا أو تركيبًا معقدًا، فكان يفسره كما كان يذكر أنباء الفتن والوقائع المشهور التي تتعلق بما يذكره من شعر ونثر.

ي- سار على منهج القاضي الجرجاني في كتابه "الوساطة بين المتنبي وخصومه"، حيث أنصف المحدثين ولم يسند الفضل كله للقدماء دون غيرهم، بل إنه أعطى المحدثين حقهم في الفضل، ومع ذلك لم ينقص القدماء حقهم.

المراجع:
- أمين توفيق الطيبي: ابن بسام الشنتريني وكتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، مجلة الحياة الدولية، رقم العدد: 12838، تاريخ النشر: 2/1/1419هـ - 28/4/1998م.
- هناء دويدري: ابن بسام الشنتريني، الموسوعة العربية العالمية.
- صفاء عطا الله: منهج ابن بسام النقدي في كتابه "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة". منتدى دكتور شيماء عطا الله.
الهوامش:
[1] ابن بسام الشنتريني، علي: الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، الدار العربية، 1979م، 1/1 ص12، 14، 34.
[2] الذخيرة، 1/1 ص13، 15 – 18.
[3] ابن سعيد: المُغرب في حلى المغرب، القاهرة 1953م، 1/ ص417 - 418.
[4] الذخيرة، 1/1 ص32.
[5] السابق نفسه.
[6] انظر: الدكتور شوقي ضيف: عصر الدول والإمارات، طبعة دار المعارف، ص13.
موقع قصة الاسلام
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلــــــــــــــــــــــــــنا اخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة
السلام عليكم

بئس حامل القرآن أنا إذاً

كان يوم اليمامة في حرب بني حنيفة -قوم مسيلمة الكذاب- من أشد أيام حروب الردة، وكان للقراء حملة القرآن فيه المواقف المشهودة، وكان القائد الأعلى سيف الله خالد بن الوليد رضي الله عنه يختار منهم من يعطيه على قسم من الجيش الراية، وحامل الراية لا تسقط من يده حتى يسقط ميتا، ولا تؤخذ منه حتى تؤخذ روحه فى دونها.

وكانت راية المهاجرين مع عبد الله بن حفص بن غانم القرشي، فثبت معها حتى قُتل، فأعطيت الراية لسالم مولى أبي حذيفة رضي الله عنه فقال لهم: ما أعلمني لأي شيء أعطيتمونيها؟ قلتم صاحب قرآن وسيثبت كما ثبت صاحبها قبله حتى مات؟ قالوا: أجل فانظر كيف تكون؟ أتخشى علينا من نفسك شيئا؟ قال: بئس حامل القرآن أنا إذاً.

تناول سالم الراية وهو يرى تناولها عهدا بينه وبين الله والمسلمين أن لا يفر حتى يصرع دونها، فصدق ما عاهد الله عليه وجرى على سنة حملة القرآن إخوانه من قبله، فأمسكها بيمينه حتى قطعت يمينه، فأخذها بيساره حتى قطعت يساره فاعتنقها حتى صرع.
فسأل أصحابه وهو صريع: ما فعل أبو حذيفة؟ يعني مولاه، فقالوا: قتل، فقال: أضجعوني بجنبه. فجمعهما بطن الأرض شهيدين كما عاشا على ظهرها على الإسلام والهجرة والنصرة مجتمعين رضي الله عنهما.

العبرة:
القرآن راية الإسلام، فحامل القرآن حامل راية الإسلام، فلذلك كان يتقدم حملته لحمل الرايات تحت بارقة السيوف، يجودون بأنفسهم، والجود بالنفس أقصى غاية الجود، ففي جميع مواطن البلاء، والشدة ومواقف الفزع والمحنة، هم أهل المتقدم إلى الأمام.
هؤلاء هم حملة القرآن الذين حملوه حمل فهم وعلم وعمل، فاعتزوا به وأعزوا به الإسلام، فأعزهم الله.
وخلفت من بعدهم خلوف اتخذوه حرفة وتجارة، وجاءوا بقراءته على الأموات بوجوه من البشاعة والمهانة والحقارة، فأذلوا أنفسهم وأذلُّوا اسم حامل القرآن بقبيح أعمالهم، فأذلهم الله.
على أن الله -ولله الحمد- لا يخلي الأرض من قائم لله بحجة، ومستجيب لداعي الله في سلوك المحجة، فقد أخذ كثير من حملة القرآن يعرفون قيمة ما حملوا، وينهضون بما حمِّلوا، ويعملون لعز الإسلام ورفع راية القرآن، راية الحق والعدل والأخوة والإحسان لبني الإنسان.

أيدهم الله، وأنقذ بهم الإنسانية، ومد بهم رواق السلام.
موقع قصة الاسلام
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلــــــــــــــــــــــــــنا اخــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــوة
السلام عليكم

وقفات الحافظ الذهبي النقدية لمتون السيرة النبوية

حظيت السيرة النبوية باهتمام بالغ، من حيث الجمع والتصنيف، بَيْد أن جانب التمحيص والنقد للمرويات والأخبار لم يَلْق العناية والاهتمام نفسهما، خصوصًا لدى العلماء السالفين، إلا ما كان من بعض المحدثين الحذاق النقاد، الذين لم يتوقفوا عند نقد الأسانيد، بل تجاوزوه إلى نقد المتون. ومن هؤلاء النقاد الأعلام: الإمام الذهبي (748هـ) رحمه الله، الذي قال عنه الصفدي رحمه الله: "أعجبني منه ما يعانيه في تصانيفه من أنه لا يتعدى حديثًا يورده حتى يبين ما فيه من ضعف متن، أو ظلام إسناد أو طعن في رواته، وهذا لم أر غيره يراعي هذه الفائدة فيما يورده" [1].

تعريف النقد الحديثي

النقد في اللغة
يدل النقد في اللغة على الإبراز والإظهار، يقول ابن فارس: النون والقاف والدال أصلٌ صحيح يدلُّ على إبراز شيءٍ وبُروزه (...) وتقول العرب: ما زالَ فلانٌ يَنْقُد الشَّيء، إذا لم يزَلْ ينظُر إليه"، "ويقال نقد النثر ونقد الشعر أظهر ما فيهما من عيب أو حُسن" [2].

النقد في الاصطلاح
النقد الحديثي في الاصطلاح هو: "تمييز الأحاديث الصحيحة من الضعيفة، والحكم على الرواة توثيقًا وتجريحًا" [3].
نماذج من النقد الداخلي (نقد المتن)
للمُحَدِّثين -في نقد المتن الحديثي- ضوابط ومعايير، سطروها في كتبهم تنظيرًا، ووظفوها في نقدهم للمتن تطبيقًا [4]، لذلك، فإذا كان نقد السند متوقفًا على معرفة أحوال الرجال من حيث الجرح والتعديل.. فإن نقد المتن لا يتم بما تهواه الأنفس، أو تميل إليه العقول المجردة، بل ذلك مردُّه إلى طول مصاحبة لروايات الحديث، وتضلُّع في معرفة السنن والآثار.

ومن المعايير التي اعتمدها الإمام الذهبي في نقده للمتن ما يلي:

1- إخضاع الروايات للحقائق التاريخية
أ- قصة خروج النبي صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب، وأشياخ من قريش إلى الشام، ولقائه ببحيرى الراهب، وقرار أبي طالب رد محمد صلى الله عليه وسلم، وأن أبا بكر بعث معه بلالًا. قال الإمام الذهبي ناقدًا: "رواه الناس عن قراد وحسنه الترمذي. وهو حديث منكر جدًّا وأين كان أبو بكر؟ كان ابنَ عشر سنين فإنه أصغر من رسول الله صلى الله عليه وسلم، بسنتين ونصف، وأين كان بلال في هذا الوقت؟ فإن أبا بكر لم يشتره إلا بعد المبعث ولم يكن ولد بعد".

ب- "روى إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي بردة عن أبيه قال: أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننطلق مع جعفر إلى الحبشة. قال الحافظ الذهبي: ويظهر لي أن إسرائيل وهم فيه ودخل عليه حديث في حديث وإلا أين كان أبو موسى الأشعري ذلك الوقت؟". يريد رحمه الله أن أبا موسى الأشعري وقومه بلغهم مخرج النبي صلى الله عليه وسلم، فانطلقوا من اليمن يريدون المدينة، فألقاهم البحر في الحبشة [5].

2- اختبار الألفاظ ودلالاتها
أ- لقد انتقد الحافظ الذهبي القصة السابقة المتعلقة بخروجه صلى الله عليه وسلم مع عمه إلى الشام من زاوية أخرى، وهي محاكمة ألفاظ الرواية، قال رحمه الله: "وفي الحديث ألفاظ مُنكرَة تشبه ألفاظ الطرقية".

ب- في قصة الإسراء والمعراج أورد رواية هاشم بن القاسم بسنده إلى أبي هريرة، وفيها أنه عليه الصلاة والسلام مر على قوم يزرعون في يوم ويحصدون في يوم كلما حصدوا عاد كما كان. ومر على رجل قد جمع حزمة عظيمة لا يستطيع حملها وهو يريد أن يزيد عليها .. قال الذهبي معقبًا: والحديث منكر يشبه كلام القصاص، إنما أوردته للمعرفة لا للحجة" [6].

3- المحاكمة العقلية للمتون
بالعقل المسدَّد بالوحي انتقد الإمام الذهبي كثيرًا من متون الروايات، ومن ذلك ما يلي:

أ- في قصة الخروج إلى الشام نفسها، وفيها أن غمامة تظله، وأنه لما دنا من القوم وجدهم قد سبقوه -يعني إلى فيء شجرة- فلما جلس مال فيء الشجرة عليه. قال رحمه الله منتقدًا الرواية من جميع وجوهها: "فإذا كان عليه غمامة تظله كيف يتصور أن يميل فيء الشجرة؟ لأن ظل الغمامة يعدم فيء الشجرة التي نزل تحتها، ولم نر النبي ذكَّر أبا طالب قط بقول الراهب ولا تذاكَرتْه قريش ولا حَكَتْه أولئك الأشياخ مع توفر هممهم ودواعيهم على حكاية مثل ذلك. فلو وقع لاشتهر بينهم أيما اشتهار ولبقي عنده حس من النبوة، ولما أنكر مجيء الوحي إليه أولًا بغار حراء وأتى خديجة خائفًا على عقله ولما ذهب إلى شواهق الجبال ليرمي نفسه. وأيضًا فلو آثر هذا الخوف في أبي طالب ورده، كيف كانت تطيب نفسه أن يمكِّنه من السفر إلى الشام تاجرًا لخديجة؟". اللافت للانتباه، أن الذهبي رحمه الله انتقد هذه القصة متنًا من خلال ثلاثة معايير: التاريخ، واختبار الألفاظ، والعقل.

ب- في احتضار أبي طالب، أورد رواية يونس بن بكير عن ابن اسحاق وفيها: "أن أبا طالب رؤي يحرك شفتيه فأصغى إليه العباس ليستمع قوله فرفع العباس عنه فقال: يا رسول الله قد والله قال الكلمة التي سألته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لم أسمع". قال الحافظ الذهبي -بعد تضعيفه للسند: "وأيضًا فكان العباس ذلك الوقت على جاهليته ولهذا إن صح الحديث لم يقبل النبي صلى الله عليه وسلم روايته وقال له: لم أسمع وقد تقدم أنه بعد إسلامه قال: يا رسول الله هل نفعت أبا طالب بشيء فإنه كان يحوطك ويغضب لك. فلو كان العباس عنده علم من إسلام أخيه أبي طالب لما قال هذا ولما سكت عند قول النبي صلى الله عليه وسلم: هو في ضحضاح من النار، ولقال: إني سمعته يقول: لا إله إلا الله. ولكن الرافضة قوم بهت" [7].

4- الترجيح بين الروايات
أ- بعد إيراده رواية الكلبي: "ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الفيل بخمس عشرة سنة"، قال رحمه الله: "قد تقدم ما يبين كذب هذا القول عن ابن عباس بإسناد صحيح" (أنه ولد عام الفيل).

ب- رجح رواية ابن مسعود على رواية ابن عباس: "ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم .." الحديث. قال الحافظ الذهبي: ويحمل قول ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم ما قرأ على الجن ولا رآهم يعني أول ما سمعت الجن القرآن ثم إن داعي الجن أتى النبي صلى الله عليه وسلم- كما في خبر ابن مسعود، وابن مسعود قد حفظ القصتين" [8]، فرجَّح رواية ابن مسعود لكونه حضر الحادثة وشهدها.

5- اعتماد أقوال النقاد من العلماء
أ- تعقب رواية موسى بن عقبة عن ابن شهاب: "بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم على رأس خمس عشرة سنة من بنيان الكعبة، وكان بينه وبين مبعثه وبين أصحاب الفيل سبعون سنة"، بقوله: كذا قال. وقد قال إبراهيم بن المنذر وغيره: هذا وَهْم لا يشك فيه أحد من علمائنا. إن رسول الله ولد عام الفيل وبعث على رأس أربعين سنة من الفيل".

ب- اعتمد مذهب أهل العلم في نقد رواية الكلبي: "تزوج النبي صلى الله عليه وسلم أم حبيبة بنت أبي سفيان، فصارت أم المؤمنين، وصار معاوية خال المؤمنين. قال الذهبي: «كذا روى الكلبي وهو متروك. ومذهب العلماء في أمهات المؤمنين أن هذا حكم مختص بهن ولا يتعدى التحريم إلى بناتهن ولا إخوانهن ولا أخواتهن" [9].

مما سبق من النماذج المنتَقَدة، يتضح أن الاهتمام بتنقية مرويات السيرة النبوية وتصفيتها وتمحيصها، شغل كبار المحدثين النقاد، وما عَملُ الإمام الناقد الحافظ الذهبي إلا خير شاهد على ذلك. وعلى منواله سار الإمام ابن كثير في سيرته (ت 774هـ).

لقد بذل الإمام الذهبي جهدًا مشكورًا في تعقب الروايات والأخبار، أعمَلَ خلالها المقاييس المعتمَدة عند المحدثين في نقد الروايات، غير أن النقد لم يكن شاملًا لجميع ما ورد في كتابه "السيرة النبوية"، وقد يرجع السبب إلى كثرة الروايات وغزارتها، لذلك لاحظت سكوته عن كثير منها، بل واستغربت لسكوته رحمه الله عن قصة الغرانيق غير الثابتة التي أوردها عن موسى بن عقبة دون تعقب. لكن الكمال عزيز. والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

[1] الوافي بالوفيات 1/217.
[2] مقاييس اللغة ص 1006. المعجم الوسيط 2/944.
[3] منهج النقد عند المحدثين، د. مصطفى الأعظمي ص 5.
[4] ينظر في ذلك على سبيل المثال: المنار المُنيف في الصحيح والضعيف لابن القيم، دراسات حديثية تطبيقية في نقد المتن، د. أمين عمر دغمش.
[5] تاريخ الإسلام (السيرة النبوية) للذهبي 1/55-57. 1/ 192. صحيح البخاري، كتاب المغازي. باب غزوة خيبر، 5/137 رقم الحديث:4230.
[6] تاريخ الإسلام (السيرة النبوية) 1/57. 1/276-277.
[7] تاريخ الإسلام (السيرة النبوية) 1/57. 1/236.
[8] تاريخ الإسلام (السيرة النبوية) 1/25. 1/97-98.
[9] تاريخ الإسلام (السيرة النبوية) 1/24. 2/304.مجلة البيان العدد 344 ربـيـع الثاني 1437هـ، يـنـايــر 2016م.
موفع قصة الاسلام
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

زيد بن عمرو بن نفيل .. أمة وحده

زيد بن عمرو بن نفيل، أشهر الموحدين قبل الإسلام، أصحاب العقول الناضجة، الذين لم يستسيغوا تلك الحجارة الموضوعة فوق الكعبة، ولا ما ينسج حولها من أساطير وخرافات، وأحد الذين عبروا الروابي والهضاب والصحاري، سير حثيث بحثًا عن الحق، فلم تستمله اليهودية ولا النصرانية، فعاد إلى مكة يعبد الله على دين إبراهيم عليه السلام حتى مات.

زيد بن عمرو بن نفيل
هو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رباح بن عبد الله بن قرظ بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك القرشي العدوي، والد سعيد بن زيد رضي الله عنه أحد العشرة المبشرين بالجنة، وابن عم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، يجتمع هو وعمر في نفيل، وكان حنيفيًا على دين الخليل إبراهيم وابنه إسماعيل عليهما السلام، وكان لا يأكل ما ذبح على الأنصاب.

زيد بن عمرو بن نفيل .. الباحث عن الدين
في مكة كان زيد بن عمرو بن نفيل يحدق في الأصنام يتأملها وهي منصوبة فوق بيت الله، فلا تزيده الأيام إلا اقتناعًا بتفاهتها وتخلف عقول أتباعها وعابديها، إنها في نظره لا تعدو كونها حجارة صماء بكماء خرساء لا تقدم ولا تؤخر، ضاقت بها مكة وضاق زيد بها، فبحث له عن فسحة بين الفيافي والبطاح، يتنفس فيها الحرية والتوحيد، يبحث عن الحقيقة، يفتش عنها أديرة العباد وصوامع الرهبان، يسأل ويسأل ولا يكف عن السؤال.

خَرَجَ إِلَى الشام يَسْأَلُ عَنْ الدِّينِ وَيَتْبَعُهُ، فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ الْيَهُودِ، فَسَأَلَهُ عَنْ دِينِهِمْ.

فَقَالَ: إِنِّي لَعَلِّي أَنْ أَدِينَ دِينَكُمْ فَأَخْبِرْنِي.

فَقَالَ: لَا تَكُونُ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ.

قَالَ زَيْدٌ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُهُ.

فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ.

قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.

قَالَ زَيْدٌ: وَمَا الْحَنِيفُ.

قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ، لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.

فَخَرَجَ زَيْدٌ فَلَقِيَ عَالِمًا مِنْ النَّصَارَى، فَذَكَرَ مِثْلَهُ، فَقَالَ: لَنْ تَكُونَ عَلَى دِينِنَا حَتَّى تَأْخُذَ بِنَصِيبِكَ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ.

قَالَ: مَا أَفِرُّ إِلَّا مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا أَحْمِلُ مِنْ لَعْنَةِ اللَّهِ وَلَا مِنْ غَضَبِهِ شَيْئًا أَبَدًا وَأَنَّى أَسْتَطِيعُ، فَهَلْ تَدُلُّنِي عَلَى غَيْرِهِ.

قَالَ: مَا أَعْلَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ حَنِيفًا.

قَالَ: وَمَا الْحَنِيفُ.

قَالَ: دِينُ إِبْرَاهِيمَ ،لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَا يَعْبُدُ إِلَّا اللَّهَ.

فَلَمَّا رَأَى زَيْدٌ قَوْلَهُمْ فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَام خَرَجَ، فَلَمَّا بَرَزَ رَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَشْهَدُ أَنِّي عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ [1].

وهذا الحديث يبيّن مقدار الحيرة التي سادت الدنيا، وغطّت بضبابها الكثيف على الأديان الظاهرة؛ اليهود يشعرون بأنّهم مطاردون في الأرض، منبوذون من أقطارها، فعلى الداخل في دينهم أن يحمل وزرا من المقت المكتوب عليهم.

والنصارى وقع بينهم شقاق رهيب في طبيعة المسيح ووضعه، ووضع أمّه، من الإله الكبير، وقد أثار هذا الخلاف بينهم الحروب المهلكة، وقسمهم فرقا يلعن بعضها بعضا.

ومن حقّ زيد أن يدع هؤلاء وأولئك، ويرجع إلى دين إبراهيم عليه السّلام يبحث عن أصوله وفروعه.

ويعود زيد إلى مكة غريبًا كيوم غادرهم، يرمق مكة ويرمق جموعها، أحقًا كانت هذه الأرض أرض التوحيد، ما بالهم يشركون، ينظر نظرة من ملأ قلبه الأسى واللهف، رأته أسماء بنت أبي بكر على هذه الحال: (مسندًا ظهره إلى الكعبة، يقول: يا معشر قريش، والذي نفس زيد بيده، ما أصبح أحد منكم على دين إبراهيم غيري، ثم يقول: اللَّهم لو أعلم أحب الوجوه إليك عبدتك به، ولكني لا أعلم) [2].

ثم يؤدي حركة غريبة كغربته تتوهج شوقًا إلى الله، وشوقًا يعبر به عما في قلبه، تقول أسماء: (ثم يسجد على راحته، وكان يصلي إلى الكعبة ويقول: إلهي إله إبراهيم، وديني دين إبراهيم) [3].

لقد كان هذا الغريب إنسانًا عظيمًا في زمنه، لا يتفوق عليه في سلامة الفطرة وصفاء الفكر إلا محمد صلى الله عليه وسلم. لقد كان يرى الرجل يحمل ابنته الصغيرة على ذراعيه مسرعًا بها نحو حفرة تلتهب بالرمضاء ليدسها فيها، فينهض مسرعًا ويعترض طريقه، ويتوسل إليه ألا يفعل، فإذا أصر "أن يقتل ابنته قال له: لا تقتلها ادفعها إليَّ أكفلها، فإذا ترعرعت فخذها، وإن شئت فادفعها" [4]. ثم يأخذ تلك البريئة الضعيفة، يحملها إلى بيته يرعاها ويحنو عليها، لأنه يعرف أن الله أرحم من عباده، وأنه لم يخلقها لتدفن بعد مولدها.

إنّ زيدا واحد من المفكّرين القلائل الذين سخطوا ما عليه الجاهلية من نكر، وإنه ليشكر على تحرّيه الحقّ، ولا يغمط هو ولا غيره أقدارهم بين قومهم.

ولم تكن عودة زيد بن عمرو لمكة ليأسه مما ملأ الأرض من رموز الشرك، بل عاد لينتظر، فلقد أرشده بعض الرهبان إلى قرب مخرج نبي مرسل، في أرض الحجاز، زيد نفسه يقول: "شَامَمْتُ النَّصْرَانِيَّةَ وَالْيَهُودِيَّةَ فَكَرِهْتُهُمَا، فَكُنْتُ بِالشَّامِ وَمَا وَالَاهُ حَتَّى أَتَيْتُ رَاهِبًا فِي صَوْمَعَةٍ، فَوَقَفْتُ عَلَيْهِ، فَذَكَرْتُ لَهُ اغْتِرَابِي عَنْ قَوْمِي وَكَرَاهَتِي عِبَادَةَ الْأَوْثَانِ وَالْيَهُودِيَّةَ وَالنَّصْرَانِيَّةَ، فَقَالَ لِي: أَرَاكَ تُرِيدُ دِينَ إِبْرَاهِيمَ يَا أَخَا أَهْلِ مَكَّةَ، إِنَّكَ لَتَطْلُبُ دِينًا مَا يُؤْخَذُ الْيَوْمَ بِهِ، وَهُوَ دِينُ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ حَنِيفًا لَمْ يَكُنْ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا كَانَ يُصَلِّي وَيَسْجُدُ إِلَى هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي بِبِلَادِكَ فَالْحَقْ بِبَلَدِكَ، فَإِنَّ نَبِيًّا يُبْعَثُ مِنْ قَوْمِكَ فِي بَلَدِكَ يَأْتِي بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ بِالْحَنِيفِيَّةِ، وَهُوَ أَكْرَمُ الْخَلْقِ عَلَى اللَّهِ" [5].

زيد بن عمرو بن نفيل .. الموحد
قال ابن إسحاق: "وَأَمَّا زَيْدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ فَوَقَفَ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِي يَهُودِيَّةٍ وَلَا نَصْرَانِيَّةٍ، وَفَارَقَ دِينَ قَوْمِهِ، فَاعْتَزَلَ الْأَوْثَانَ وَالْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَالذَّبَائِحَ الَّتِي"تُذْبَحُ عَلَى الْأَوْثَانِ وَنَهَى عَنْ قَتْلِ الْمَوْءُودَةِ، وَقَالَ: أَعْبُدُ رَبَّ إبْرَاهِيمَ، وَبَادَى قَوْمَهُ بِعَيْبِ مَا هُمْ عَلَيْهِ".

وهو صاحب البيت المشهور، الذي قاله يعيب على قومه عبادة الأصنام:

أَرَبًّا وَاحِدًا أَمْ أَلْفَ رَبٍّ *** أَدِينُ إذَا تُقُسِّمَتْ الْأُمُورُ

وجاهر بعداء الأوثان، فتألب عليه جمع من قريش، فأخرجوه من مكة، فانصرف إلى حراء، فسلّط عليه عمه الخطاب شبانا لا يدعونه يدخل مكة، فكان لا يدخلها إلا سرا.

وفي الحديث أَنَّ زيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، خَرَجَا يَلْتَمِسَانِ الدِّينَ، حَتَّى انْتَهَيَا إِلَى رَاهِبٍ بِالْمَوْصِلِ، فَقَالَ لِزَيْدِ بْنِ عَمْرٍو، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ يَا صَاحِبَ الْبَعِيرِ؟ قَالَ: مِنْ بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ: وَمَا تَلْتَمِسُ؟ قَالَ: أَلْتَمِسُ الدِّينَ، قَالَ: ارْجِعْ فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَظْهَرَ الَّذِي تَطْلُبُ فِي أَرْضِكَ.

فَأَمَّا وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ فَتَنَصَّرَ، وَأَمَّا زَيْدٌ فَعُرِضَ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ فَلَمْ تُوَافِقْهُ فَرَجَعَ، وهو يقول:

لَبَّيْـــكَ حَقًّـــا حَقًّـــا *** تَـعَـبُّـــــــدًا وَرِقًّــــــــا
الْبِرُّ أَبْغِي لَا الْخَــالُ *** وَهَلْ مُهَجِّـرٌ كَمَنْ قَــالَ
آمَنْـــــتُ بِمَـــــــا آمَـــــنَ بِـــــهِ إِبْرَاهِيــــــــمُ

و يقول:

أَنْفِي لَكَ عَانٍ رَاغِمُ *** مَهْمَا تُجَشِّمْنِي فَإِنِّي جَاشِمُ

ثم يخرُّ، فيسجد [6].

زيد بن عمرو بن نفيل ورسول الله
روى البخاري عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي زيد بن عمرو بن نفيل بأسفل بلدح (اسم موضع بالحجاز قرب مكة)، قبل أن ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي، فقدمت إلى النبي صلى الله عليه وسلم سفرة فأبى أن يأكل منها، ثم قال زيد: "إني لست آكل مما تذبحون على أنصابكم ولا آكل إلا ما ذكر اسم الله عليه". وأن زيد بن عمرو كان يعيب على قريش ذبائحهم ويقول: "الشاة خلقها الله وأنزل لها من السماء الماء وأنبت لها من الأرض، ثم تذبحونها على غير اسم الله"، إنكارا لذلك وإعظاما له [7].

وفاة زيد بن عمرو بن نفيل
أمة وحده زيد بن عمرو بن نفيل، هكذا عاش وهكذا سيبعث عندما تبعث الأمم (أمة وحده يوم القيامة)، توفي زيد بن عمرو بن نفيل قبل المبعث بخمس سنين، أي في عام 19 قبل الهجرة، الموافق 615 م، وقد جاء ابنه سعيد بن زيد رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أبي كان كما رأيت وكما بلغك، فاستغفر له، قال: "نعم، فإنه يكون يوم القيامة أمة وحده" [8].

وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ أَنَّهُ كَانَ يَسْتَقْبِلُ الْقِبْلَةَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَيَقُولُ: إِلَهِي إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَدِينِي دِينُ إِبْرَاهِيمَ وَيَسْجُدُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يُحْشَرُ ذَاكَ أُمَّةً وَحْدَهُ بَيْنِي وَبَين عِيسَى بن مَرْيَم".

وكان سعيد بن المسيب يذكر زيد بن عمرو بن نفيل، فقال: توفى وقريش تَبْنِي الْكَعْبَةَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ الْوَحْيُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِخَمْسِ سِنِينَ، وَلَقَدْ نَزَلَ بِهِ (الموت) وَإِنَّهُ لَيَقُولُ: أَنَا عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ [9].

[1] البخاري: صحيح البخاري، باب (54) حديث زيد بن عمرو بن نفيل (ترقيم البغا: 3615).
[2] ما بين الأقواس: سنده صحيح. رواه ابن إسحاق. (سيرة ابن كثير 1/ 154)، فقد قال ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر، وابن إسحاق ثقة مدلس، وهو هنا لم يدلس بل صرح بالسماع من شيخه: هشام بن عروة بن الزبير، أما شيخه، فهو ثقة معروف، ووالد عروة إمام المغازي والتابي الثقة العظيم، عروة بن الزبير ابن العوام، ووالدته هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين.
[3] و [4] ما بين الأقواس: سنده صحيح. رواه ابن إسحاق. (سيرة ابن كثير 1/ 154)، فقد قال ابن إسحاق: حدثني هشام بن عروة عن أبيه، عن أسماء بنت أبي بكر، وابن إسحاق ثقة مدلس، وهو هنا لم يدلس بل صرح بالسماع من شيخه: هشام ابن عروة بن الزبير، أما شيخه، فهو ثقة معروف، ووالد عروة إمام المغازي والتابعي الثقة العظيم، عروة بن الزبير بن العوام، ووالدته هي أسماء بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنهم أجمعين.
[5] حديثٌ حسنٌ رواه ابن سعد (1/ 162)، أخبرنا علي بن محمد القرشى، عن إسماعيل بن مجالد، عن أبيه عن الشعبي، عن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، قال: قال زيد بن عمر،. وعلي ثقة رغم ما قاله ابن عدي (اللسان 4/ 253) وقد قال عنه ابن معين: ثقة، ثقة، ثقة، وإسماعيل حسن الحديث: التقريب (1/ 73) وعلة الحديث من والده، ففيه ضعف وحديثه جيد بالشواهد والحديث يشهد له حديث البخاري السابق، وحديث آخر عند الطيالسي (2/ 161)، وفيه جهالة حال نفيل، ولا ينفعه قول ابن حبان، روى عنه المدنيون فلا بد من التوثيق اللفظى لكن حديثه جيد في الشواهد.
[6] العاني: الْأَسير. وتجشمنى: تكلفني. الْخَال: الْخُيَلَاء وَالْكبر. المهجر: الّذي يسير فِي الهاجرة: أَي القائلة، وَقَالَ يقيل: إِذا نَام فِي القائلة: أَي لَيْسَ من هجر كمن آثر الرَّاحَة فِي القائلة وَالنَّوْم.
- انظر: ابن هشام: السيرة النبوية (ت: السقا)، 1/ 230.
- البيهقي: دلائل النبوة، 2/ 124.
[7] البخاري: صحيح البخاري، ترقيم: البغا، (3614).
[8] حديث صحيح، رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة (سيرة ابن كثير 1/ 56) من طريق تابعي ضعيف هو عطية بن سعد العوفي، لكن له شواهد قوية، عند الباغندي (سيرة ابن كثير 1/ 162) وعند أبي داود الطيالسي (2/ 161)، كما رواه محمد بن عثمان بن أبي شيبة (سيرة ابن كثير 1/ 161) وسند الباغندى قال عنه ابن كثير: صحيح وهو كما قال، وطريق ابن أبي شيبة قال عنه ابن كثير أيضًا: إسناده جيد حسن، لكنه ليس كما قال: ففيه مجالد وفيه ضعف، والحديث بهذه الطرق صحيح.
[9] ابن كثير: السيرة النبوية، وقال في الحديث: إسناده جيد حسن، 1/ 161- 162.

المصادر والمراجع:
- البخاري: صحيح البخاري، تحقيق: مصطفى البغا، الناشر : دار ابن كثير ، اليمامة - بيروت الطبعة الثالثة ، 1407هـ – 1987م.
- ابن هشام: السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى السقا وإبراهيم الأبياري وعبد الحفيظ الشلبي، الناشر: شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده بمصر، الطبعة: الثانية، 1375هـ - 1955م.
- البيهقي: دلائل النبوة ومعرفة أحوال صاحب الشريعة، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى - 1405هـ.
- ابن كثير: السيرة النبوية، تحقيق: مصطفى عبد الواحد، الناشر: دار المعرفة للطباعة والنشر والتوزيع بيروت – لبنان، عام النشر: 1395هـ - 1976م.
- محمد إلياس عبد الرحمن الفالوذة: الموسوعة في صحيح السيرة النبوية - دراسة موثقة لما جاء عنها في القرآن الكريم والأحاديث الصحيحة والروايات التاريخية المعتمدة علمياً مرتبة على أعوام عمر النبي صلى الله عليه وسلم (العهد المكي)، الناشر: مطابع الصفا – مكة، الطبعة: الأولى، 1423هـ.
- محمد بن حمد الصوياني: السيرة النبوية كما جاءت في الأحاديث الصحيحة، (قراءة جديدة)، الناشر: مكتبة العبيكان، الطبعة: الأولى، 1424هـ - 2004م.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

العبقرية العسكرية في شخصية خالد بن الوليد

لقد حفَل التاريخ الإنساني بالكثير من الأسماء والشخصيَّات التي سَطرت على صفحات الزمن بحروف من نور قصصًا للبطولة النادرة والعبقريَّة الفذة، ولعل القائد الإسلامي خالد بن الوليد من ألمع تلك الشخصيَّات التي سطعت في سماء العبقريَّة العسكرية، والذي استطاع في سنوات قليلة مستعينًا بالله أولاً، ثم بفضل الحُنكة العسكرية الفذَّة والخبرة التكتيكية الفريدة أن يَدُك حصون الفرس والروم، وهما أعظم دولتَين في ذلك الوقت، وأن ينشر الإسلام عزيزًا مهابًا على أرض الجزيرة العربية وفي بلاد العراق والشام.

ولا عجب إذًا أن يقول فيه الخليفة الأول للمسلمين وهو أبو بكر الصديق: "والله لأُنِسينَّ الرومَ وساوس الشيطان بخالد بن الوليد"، وقال عنه أيضًا: "لقد عجزت النساء أن يَلِدن مثل خالد"، ولقد سمَّاه المسلمون: (سيف الله المسلول)؛ بعد أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم يوم دخوله الإسلام: "أنت سيف من سيوف الله، سلَّه على المشركين".

عبقرية خالد بن الوليد في مؤتة
وفي غزوة مؤتة في العام الثامن للهجرة، وبعد أن حاصَر الجيشُ الرومي المؤلَّف من مائة ألف جندي الجيشَ المسلم المؤلَّف من ثلاثة آلاف جندي، وبعد مقتل ثلاثة قادة من قواد الحملة، وهم زيد بن حارثة ثم جعفر بن أبي طالب ثم عبدالله بن رواحة، وإزاء هذا الموقف العصيب والبالغ الحساسية من الوِجهة العسكرية أخذ الرايةَ خالد بن الوليد، وبأسلوب تكتيكي استطاع أن يَنسحِب بالجيش مؤمِّنًا لهم سُبُل السلامة، ومخفِّفًا عنهم وقْعَ الهزيمة، ومؤكِّدًا للروم أنه بالرغم من كثرة عددهم وعدتهم وقوة تنظيمهم، فقد تمكَّن من سحب الجيش سالمًا؛ ليتأهَّب لملاقاتهم في مرات قادمة.

عبقرية خالد بن الوليد في حروب الردة
وبعد انتقال الرسول عليه الصلاة والسلام إلى الرفيق الأعلى وتولي الصديق أبي بكر الخلافة، والتي استمرَّت حوالي ثلاثين شهرًا، هي عند الله خيرٌ من ثلاثين قرنًا، كانت الردة هي أول ما واجَهه من مشاكل، حيث اضطرب أمر الكثيرين من العرب، فارتد منهم من كان قريب العهد بالإسلام، وامتنَع بعضهم عن الزكاة، وإزاء ذلك فقد عزم الصدِّيق على قتال المرتدين حتى يعود الإسلام إلى ما كان عليه في الجزيرة العربيَّة. وكان لخالد بن الوليد سيف الله المسلول دورُه في إخماد هذه الفتنة، واستعادة هيبة الإسلام في صدور المتشكِّكين.

عبقرية خالد بن الوليد في فتوحات العراق
وبعد أن اطمأن الخليفة الصدِّيق إلى الجبهة الداخلية، تَطلَّع إلى تأمين حدود دولته الناشئة، خاصة تلك المتاخمة لدولتَي الفرس والروم، والتي باتتا تَستعِدان لمهاجمة الدولة الإسلامية، والقضاء على قوَّتها المتنامية في مهدها، وكانت خطته تتلخَّص في تَقدُّم القائد البطل خالد بن الوليد بجيشه البالغ عشرة آلاف مقاتل إلى جنوب العراق، ويتقدَّم القائد المغوار المثنى بن حارثة الشيباني نحو الحيرة، ويتقدَّم عياض بن غنم بالزحف نحو دومة الجندل ثم يَنعطِف نحو الحيرة، ويتقدَّم سعيد بن العاص بجيشه الذي يبلغ سبعة آلاف مقاتل نحو الحدود الفلسطينيَّة؛ لشغل الروم ومَن والاهم من العرب عن التدخل، وتعطيل التقدم في أراضي الفرس.

وقد نجح خالد بن الوليد في التقدم في جنوب العراق وتَمكَّن من فتح مدينة الحيرة، ولكن اعتراضًا حدث لجيش عياض بن غنم من جانب جيوش الغساسنة ومَن والاهم من العرب؛ مما اضطر خالد إلى نجدته وفكِّ الحصار عنه في الشمال، ثم عاد ثانية إلى جنوب العراق.

عبقرية خالد بن الوليد في فتوحات الشام
وعندما عَلِم خليفة المسلمين أبو بكر الصديق باضطراب الحدود على الروم، وبأن هرقل عظيم الروم قد جمع مائتين وأربعين ألف مقاتل للهجوم على المدينة، فماذا يفعل أبو بكر هل يَعقِد صلحًا أو يطلب هدنة مع هرقل؟ لا وألف لا، بل اجتمع أبو بكر مع مستشاريه، وأعلن النفير العام في الأراضي الحجازية والنجدية واليمنية، ومن ثَمَّ بادرت جموع المتطوعين بالتوافد نحو المدنية المنورة من جميع تلك الأنحاء.

وعندما اكتمل الحشد كوَّن الصِّديقُ أربع فِرق هجوميَّة، تتوجَّه إلى بلاد الشام بقيادة أربعة من قواد المسلمين، هم: يزيد بن أبي سفيان، وشرحبيل بن حسنة، وأبو عبيدة بن الجراح، وعمرو بن العاص، وعندما وصل نبأ الجيوش العربية الإسلامية للروم، أَعَد هرقل ملك الروم جيشًا جرارًا، يَزيد على المائة والعشرين ألفًا ليُواجِه الفرق الإسلامية كلاًّ على حدة، وبعد التشاور رأى القوَّاد المسلمون ضرورة توحُّدهم في جيش واحد على ضفة نهر اليرموك، وقد أيَّدهم في ذلك الخليفة أبو بكر.

ولما علِم الروم بتحركات المسلمين، اضطروا للتوحد أيضًا في جيش واحد بمحاذاة الجيوش الإسلامية على أرض اليرموك، وظلَّ الجيشان في حالة تحفُّز وترقُّب قرابة الشهرين؛ حتى خاف القواد المسلمون من فتور حماس الجند المسلمين ونفاد صبرهم، وقد تربَّص بهم الأعداء الذين يفوقونهم عددًا وعُدَّة، وكان الرأي هو طلب المدد من الخليفة الصديق.

ولما وصلت الرسالة إلى الخليفة، وبعد استشارة مستشاريه رأى أن الموقف يتطلَّب تحويل القائد الصنديد خالد بن الوليد مع بعض جيشه من العراق إلى الشام، وبالفعل كتب إليه شارحًا له حالة اللاحرب واللاسِلم التي تسيطر على الجيشين، وأن هذا الوضع لا يَحسِمه إلا قائد مُحنَّك مثل خالد، وأمره أن يقسم جيشه نصفين، فيترك النصف الأول بالعراق، وتحت إمرة لواء الإسلام المثنى بن حارثة، ويسير بالنصف الثاني نحو اليرموك؛ ليكون مددًا لجيوش المسلمين هناك، وبهذا التقسيم يضمن استمرار العمليات العسكرية بالعراق، ويَحسِم الموقف على الجبهة الشامية.

عبقرية خالد العسكرية في المسير من العراق إلى الشام
وبالفعل جهَّز خالد بن الوليد جيشه المكوَّن من الكتائب القوية مع بعض القادة المتميزين، مِثل القعقاع بن عمرو التميمي وضرار بن الخطاب وضرار بن الأزور وعاصم بن عمرو، وتألَّف الجيش من حوالي عشرة آلاف مقاتل، ولقد ظهرت عبقرية خالد العسكرية في اختيار الطريق إلى وادي اليرموك، فلقد اختار طريقًا وعرًا صحراويًّا غير واضح المعالم، تَندُر فيه مصادر المياه؛ لأنه كان حريصًا على أن يرتاد الطريق الخالي من الحاميات الموالية للروم غير الآهل بالمارة أو السكان؛ وذلك من أجل الإبقاء على سرية المدد، واستخدام عنصر المباغتة من الخلف لجيش العدو ومحدِثًا لهم الهلع والارتباك، ولقد خطب خالد في جيشه ليهوِّن عليهم مصاعب الطريق قائلاً لهم: "أيها المسلمون، لا تسمحوا للضعف أن يَدُب فيكم، ولا للوَهْن أن يُسيطر عليكم، واعلموا أن المعونة تأتي من الله على قدْرِ النيَّة، وأن الأجر والثواب على قدر المشقة، وأن المسلم ينبغي له ألا يَكترِث بشيء مهما عَظُم ما دام الله في عونه".

وقد لبَّى الجنود نداء خالد قائلين له: أيها الأمير، أنت رجل قد جمع الله لك الخير، فافعل ما بدا لك وسِر بنا على بركة الله، وكان الطريق المختار هو طريق قراقره سوى، أرك، تدمر، القريتين، حوارين، مرج راهط، بصرى، وادي اليرموك، وقد استشار خالد دليلَه رافع بن عميرة في مشكلة المياه، فأشار عليه بأن على الجنود أن يحملوا ما استطاعوا من الماء معهم، أما الخيل فسوف يكون لها مصدر آخر من مصادر الشرب؛ فقد جاؤوا بعشرين من أعظم الجمال وأكثرها سِمنة، فمنعوها الماء حتى أَجهدها الظمأ، ثم عرضوا عليها الماء مرة ومرتين، حتى ارتوت وملأت أكراشها، ثم قُطِعت شفاهها؛ لئلا تجتر فتحوَّلت بطون الإبل بذلك إلى مستودعات هائلة للمياه، فإذا عطشت الخيل نُحِرت الإبل، فتشرب الخيل ما في بطون الإبل من الماء، ويأكل الجنود لحومها حتى يتقووا على جهد الطريق، ومضى الجيش المسلم يَخترِق الفيافي والصحراء مفضلاً السير في الليل والصباح الباكر، حيث الجو المعتدل من أجل توفير المستطاع من الماء، وأثناء الطريق كانت خبرة الدليل الجغرافي واضحة في مساعدة الجنود على ورود مصادر المياه، ليتزودوا منها أثناء تَرحالهم.

عبقرية خالد بن الوليد في معركة اليرموك
وما أن وصلت جيوش خالد إلى أرض اليرموك، حتى اجتمع خالد بن الوليد في مكان اسمه أجنادين مع أركان حرب الجيش الإسلامي المرابط بالشام، وهم يزيد بن أبي سفيان وأبو عبيدة بن الجراح وعمرو بن العاص وشرحبيل بن حسنة، وعقَد معهم جلسة طارئة في غرفة العمليات العسكرية، قال فيها لإخوانه: إن عدد جنود العدو حوالي مائتين وأربعين ألفًا، وعدد جنودنا ستة وأربعون ألفًا، ولكن القرآن الكريم يقول: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 249]. والنصر في الحروب لم يكن أبدًا لمن كَثُر عدده، بل كان لمن آمن بما يُقاتِل من أجله، وصدق النية، وصمَّم على النصر، وأعدَّ للأمر عدته.

وبعد أن أخذ خالد رأي كل أمير من أمراء الجيوش المسلمة، استقرَّ الرأي على أن تتوحَّد الجيوش الإسلامية تحت إمرة أمير واحد، خاصة بعد أن علم خالد بأن الجيوش الرومية قد توحَّدت تحت إمرة تيودورك، فأصبح من غير الحكمة أن تُقاتِل الجيوش الإسلامية المتفرِّقة جيشًا واحدًا منظَّمًا، وبحكمة بالغة وحتى لا يدع للشيطان مدخلاً في نفس أي من الأمراء فقد اقترح خالد بن الوليد أن تكون الإمارة الموحَّدة بالتناوب بين جميع الأمراء بحيث يكون لخالد بن الوليد اليوم الأول، ثم يتولَّى الأمراء الآخرون، كل حسب دوره، وقد وافَق الجميع على هذا الاقتراح.

ومن ثَمَّ شرع خالد بن الوليد في إعداد خُطَّة المعركة، وهو صاحب التجارب الناجحة في خوض حروب عديدة خارج الجزيرة العربية، وله خبرة بأساليب الدول الكبرى في المعارك، ويَمتلِك القدرة على التصرف السليم في المواقف الحرجة، والذي يؤدي دائمًا إلى تحقيق النصر.

وكانت الخطة الموضوعة تقضي بتقسيم الجيش العربي المسلم إلى ستة وأربعين كردوسًا، كل كردوس يتألَّف من ألف رجل يتأمَّرهم أمير من أولي البأس، ثم قسَّم الجيش إلى قلب وميمنة وميسرة، فأما القلب فيتكوَّن من خمسة عشر كردوسًا، تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، وأما الميمنة فتتألَّف من خمسة عشر كردوسًا، تحت إمرة عمرو بن العاص، ويُعاوِنه شرحبيل بن حسنة، وأما الميسرة، فتتكوَّن من عشرة كراديس بقيادة يزيد بن أبي سفيان، وأما بقية الكراديس فتكون احتياطًا في الساقة تحت قيادة عكرمة، وبهذا التنظيم البديع أظهر خالد بن الوليد براعته العسكرية التي جعلت الجيش العربي المسلم يبدو أكثر عددًا، وأخفَّ حركة، وأكثر مرونة، وأقدر على الحركة بما يتلاءم مع سير المعركة.

أما خالد بن الوليد، فسيتولَّى القيادة من القلب، وستَصدر أوامر مباشرة إلى قواد القطع الرئيسية: القلب والجناحين والساقة، وقبل أن يبدأ الهجوم المُنتظَر من الروم جرت حملة تشجيعيَّة على الجبهة العربية الإسلامية، كان هدفُها الحث على الجِهاد والصبر وقوة الإرادة.

وكانت خطة خالد العسكرية هي انتظار الروم حتى يبدؤوا زحفَهم المتوقَّع، فإذا اقتحم فرسانهم خطوط المسلمين، أفسحوا لهم الطريق وتركوها تتوغَّل خلف خطوط الجيش الإسلامي، حيث تُقابِلها قوَّة احتياطية من فرسان المسلمين تُقابِلها وتقضي عليها، وبهذا تَحرِم مشاة الروم من فرسانها، وتتفرَّغ قوات المسلمين لملاقاة هؤلاء المشاة، وقد اختار خالد بن الوليد مواقع حصينة بحيث تكون المدينة المنوَّرة خلفهم ليحتَفِظ بخطوط الإمدادات، بينما كان الروم يُرابِطون في موقع محصور بين سهل فسيح في منحنى نهر اليرموك، ومن خلفهم منخفض سحيق اسمه (واقوصة) تحيط به من ثلاث نواحٍ جبال بالغة الارتفاع، ولما قَدِم الروم إلى هذا المكان، تخطَّى جيش المسلمين النهرَ إلى الضفة اليمنى منه، فأصبح الروم محصورين بين الجبال ومن أمامهم الجيش الإسلامي.

وفي فجر يوم الثامن والعشرين من شهر جمادى الأولى عام 13هـ بدأ الزحف الرومي، واخترق فرسان الروم خطوط المسلمين حسب خطة خالد؛ حيث أَعدَّ لهم قوَّةً احتياطيَّة من الفرسان، وحمل المسلمون على الروم حملة صادقة، وانقضَّ الفرسان المسلمون على فلول الروم كالصقور الغاضبة، فمن لم تحصده السيوف ابتلعه نهر اليرموك غريقًا، أو لاذ بالفرار باجتياز الخندق نحو الساحة؛ حيث طاردهم فرسان العرب، فقتلوا منهم الكثيرين، وقد كان هناك عدد كثير من مشاة الروم مقرنين في سلاسل كل عشرة في سلسلة واحدة، وقد أثقلت هذه السلاسل حركتَهم، خصوصًا إذا قُتِل أو جرح واحد منهم، وقد استمرَّت المعركة يومًا واحدًا، استطاع فيها الجيش العربي المسلم أن يسيطر على ساحة القتال، وهربت فرسان تيودورك وباتت مُشاته مكشوفة من دون حماية، فأصدر الأوامر لهم بالتقهقر إلى خلف الخندق، بيد أن خالد حال دون ذلك؛ حيث انقضَّ عليهم بفرسانه ومشاته فسحقهم بقوة.

وفي إحصاء للخسائر فقد كان عدد القتلى والجرحى من المسلمين حوالي ثلاثة آلاف، ولكن بالنسبة للجيش الرومي فقد كانت الخسائر كبيرة يَصعُب حصرها، وقد أبلغ المسؤولون عن الإحصاء خالد بن الوليد أن ثمانين ألفًا من الروم سقطوا في الواقوصة خلف الخندق، كما قُتِل قائدهم العام تيودورك أخو هرقل، وهنا قال خالد بن الوليد: "الحمد الله الذي نصر عباده المؤمنين".

وفي أثناء المعركة حملت الرسل القادمة من المدينة أنباء وفاة أبي بكر الصديق خليفة المسلمين، ومبايعة المؤمنين عمر بن الخطاب ليكون الخليفة الثاني، ومع هذه الرسل جاء خطاب من عمر بن الخطاب إلى قيادة الجيش المُحارِب في اليرموك يقضي بعزل خالد بن الوليد، وتولية أبي عبيدة بن الجراح قائدًا عامًّا للجيوش الإسلامية باليرموك، وقد أخفى خالد هذه الرسالة خوفًا على أفراد الجيش من الاضطراب، فلما انتهت المعركة بالنصر المبين دفع خالد بالرسالة إلى أبي عبيدة بكل تواضُع وإيثار، قائلاً له: "وأما الآن، فإنك أنت أميري وقائدي، وأنا لك الجندي الأمين، سلني أُطِعك".

خالد بن الوليد .. البطل الإنسان
فما أكرمَ هذا الإنسانَ وهذا البطل! الذي عرف حدوده كبشر، وأنجز ما أنجز من بطولات وهو يخشى الله تعالى وحده لا شريك له، إن اسم البطل خالد بن الوليد قد دُوِّن في سجلات التاريخ البشري بمآثره في معركة اليرموك وغيرها، وذكراه تتصدَّر في قدرته على التخطيط والتنفيذ لمعركة غيَّرت وجه التاريخ، وحطَّمتْ أسطورة الدولة الكبرى التي لا تُقهَر، وارتفعت بالمقابل الدولة الإسلامية الشابَّة، واتَّسعت، فأصبحت إمبراطورية أضاءت الحضارة بنور علومها لعشرة قرون متتالية.

وبعد معركة اليرموك أرسل خالد بن الوليد إنذارًا حربيًّا شديد اللهجة إلى كسرى عظيم الفرس، وقال له: "أَسلِم تَسلَم، وإلا فقد جئتك بقوم يحرصون على الموت كما تَحرِصون أنتم على الحياة"، فلما وقع الإنذار في يد كسرى ارتعدت أعصابه، وأرسل إلى إمبراطور الصين يطلب منه المددَ والنجدة، فردَّ عليه قائلاً: "يا كسرى، لا قِبَل لي بقوم لو أرادوا خلْع الجبال لخلعوها، رجال خافوا الله فخوَّف الله منهم كل شيء".

ثم انظر ماذا ترك هذا البطل خالد بن الوليد عند موته، إنه لم يترك إلا سيفَه الذي كان يُقاتِل به في سبيل الله، وفرسَه الذي كان يركبه غازيًا في سبيل الله، ثم ها هو يبكي على فراش الموت قائلاً: "هأنذا أموت على فراشي، وما في جسدي قيد شبر إلا وفيه ضربة سيف أو طَعْنة رمح أو رمية سَهْم في سبيل الله، أموت كالبعير، وكنت أتمنَّى أن أموت شهيدًا في سبيل الله، فلا نامت أعين الجبناء".

{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا} [الأحزاب: 23]، صدق الله العظيم.

المصدر: موقع العميد عبد العزيز بن عبد الله القصير / شبكة الألوكة.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

نبوءة المنصور بن أبي عامر

كان المنصور بن أبي عامر يومًا فى قصره بمدينة الزاهرة، فتأمل محاسنه، ونظر إلى مياهه المطّردة، وأنصت لطيوره المغرّدة، وملأ عينه من الذى حواه من حسن وجمال، والتفت للزاهرة من اليمين واليسار، فإنحدرت دموعه، وتجهَّم قائلًا:

"الويل لك يا زاهرة، فليت شعرى من الخائن الذى يكون خرابك على يديه عن قريب؟". فقال له بعض خاصته: "ما هذا الكلام الذى ما سمعناه من مولانا قط !"، فقال: "والله لترون ما قلت، وكأنى بمحاسن الزاهرة قد محيت، وبرسومها قد غُيرت، وبمبانيها قد هُدمت، وبخزائنها قد نُهبت، وبساحاتها قد أُضرمت بنار الفتنة وأُلهبت".

وقال الحاكى: فلم يكن إلا أن توفى المنصور وتولى المظفر ولم تطل مدته، فقام بالأمر بعده أخوه عبد الرحمن الملقّب بشنجول، فقام عليه ابن عبد الجبار الملقّب بالمهدى والعامة، وكانت منهم عليه وعلى قومه الطامّة، وانقرضت دولة آل عامر ولم يبقى منهم آمر.

كأن لم يكن بين الحَجُون إلى الصفّا *** أنيسٌ ولم يسمر بمكّة سامرُ
بلــــــى نـــحنُ كنّا أهلهــــــــا فأبـــــادَنا *** صروفُ الليالى والجدودُ العواثِرُ

وخربت الزاهرة، وذهبت كأمس الدابر، وخلت منها الدسوت الملوكية، والمنابر، واستولى على ما فيها من العدة والذخائر، والسلاح، وتلاشى أمرها فلم يُرج لفسادها صلاح، وصارت قاعًا صفصفًا.

وذلك أنه لما انصب غضب العامة على العامريين، توجهوا إلى مدينة الزاهرة التى أسسها المنصور بن أبى عامر فى سنة 368هـ وانتقل إليها ونزلها فى سنة 370هـ، فقصدتها العامة فى حشود هائلة من أخلاط الناس بأمر من محمد بن عبد الجبار الملقّب بالمهدى -والذى أعلن نفسه خليفة وخلع عبد الرحمن شنجول- لأنها حصن العامرية المنيع، ومعقلها الأعظم، وحاول الثوار اقتحام المدينة، ولكن رجال حاميتها ردوهم عن أسوارها.

وفى صباح اليوم التالى أرسل ابن عبد الجبار ابن عمه مع فرقة من رجاله لمخاطبة أهل الزاهرة فى الإستسلام، وانضم إليه من العامة النهّابة حشود لا حصر لها ولا عدد، تدفقت على المدينة كالسيل الجارف واجتاحوا سورها، فنقبوا فيه ثغرات من جانب باب السباع وباب الجنان، وانتشرو فى قصورها ينهبون ما يقع بأيديهم فى قاعتها من مال وتحف وروائع وعدة وسلاح وذخائر وفرش وآنية وعدد سلطانية، حتى اقتلعوا الأبواب الوثيقة الخشب الضخمة.

ثم أصدر ابن عبد الجبار أمرًا بهدم المدينة وحط أسوارها وقلع أبوابها وطمس آثارها، فبلغوا من تدمير تلك المدينة الجليلة ما لا يبلغه الدهور المتعاقبة فأصبحت كأن لم تغن بالأمس.

ولقد كانت الزاهرة على حد قول الأستاذ ليفى بروفنسال أكثر المنشآت الخلافية زوالاً، إذ لم يكن فد مضى على بنائها أكثر من ثلاثين عامًا، وكان زوالها شاملًا، لدرجة أنه لم يترك له آثر.

ويروى أن بعض أولياء ذلك الزمان مر بها، ونظر إلى مصانعها السامية الفائقة، ومبانيها العالية الرائقة، فقال: "يا دار فيك من كل دار، فجعل الله منك فى كل دار". قال الحاكى: فلم تكن بعد دعوة ذلك الرجل الصالح إلا أيام يسيرة حتى نُهبت ذخائرها، وعم الخراب سائرها، فلم تبق دار فى الأندلس إلا ودخلها من فيئها حصة كثيرة أو قليلة، وحقق الله تعالى دعاء ذلك الرجل الذى همته مع ربه جليلة. ولقد حكى أن بعض ما نهب منها بيع ببغداد وغيرها من البلاد المشرقية.

فسبحان من لا يزول سلطانه، ولا ينقضى ملكه، لا إله إلا هو.

المصدر والمرجع:
- نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، وذكر وزيرها لسان الدين بن الخطيب، تحقيق: إحسان عباس، الناشر: دار صادر- بيروت، ط1، 1900م.
- السيد عبد العزيز سالم: قرطبة حاضرة الخلافة فى الأندلس، الجزء الأول.
- داليا راشد: نبوءة المنصور، موقع أندلسي.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

سقوط بغداد بأيدي التتار من كتاب البداية والنهاية

أولاً: منهج ابن كثير رحمه الله في سرْد الحادثة
إنَّ مِن أعظم ما أُصيبت به الأمةُ الإسلامية -بعد القرون الثلاثة المفَضَّلة- اجتماعَ جحافل المغول على مركز الخلافة العباسية (بغداد) وتدميرها، بعد أن طافوا على بلاد الإسلام كالسيل الجارف، يُسقطون الواحدة تلو الأخرى، يقتلون ويسفكون وينهبون، دون أن يجترئ أحدٌ مِن قادة المسلمين وجُيُوشهم على الوُقُوف في وُجُوهِهم، أو التفكير في صدِّهم، بل إنَّ بعْضهم سلَّم حاضنة الأمة ومركز إشعاعها وحضارتها إلى المغول؛ بل وأعانهم خوفًا مِن بطشهم وطغيانهم، حتى حلَّ ما حلَّ ببغداد، مما يشيب له الولدان من أهوال وفظائع وجرائم، ما زالتْ حيَّة في ذاكرة التاريخ.

ولَم تكنْ تلك الحادِثة المؤلِمة لتَمُر على المؤرِّخ ابن كثير رحمه الله الغَيور على وطنِه ودِينه -وهو من الشام- دون أن يسجلَ في تاريخه الكبير، وبقلمه السَّيَّال مُلاحظاتِه ومشاعره تجاه أعظم مصيبة حلَّتْ بالإسلام وأهله ليُعَبِّر عن حزنه وتألُّمه، وحيث لَم يكن بينه وبينها سِوى نصف قرن من الزمن، فقد سمع أخبارها -ربما ممن عاصَرُوها أو من بعدهم- وهو مُحَدِّث أكثر مما هو مؤرخ، وإنِ اشْتهر بكونه مفسرًا، وأصابه ما أصاب غيره من علماء ومفكرين من تألُّم وحسْرة على ما تعرَّضتْ له بلاد الإسلام مِن احتلال همَجي.

وقد اتبَع المؤَرِّخ ابن كثير رحمه الله أُسلوبًا ومنْهجًا علْميًّا في تدْوين تلك الحادثة المؤلِمة، نُلَخِّصها في نقاطٍ عدَّة؛ منها:
1- تتبع الحادثة وجعلَها كالقصة وربط بين أجزائها؛ حيث إنَّه لَم يتركْ صغيرةً ولا كبيرة إلا ذكرها؛ نظرًا لأهمية الموقف وخطورته، واستَوْعَب جميع ما قيلَ فيها، وأحصى ما ذكر فيها من أعداد؛ من وفيات، وتراجم لمن مات مِنْ عُلمائها، دون تخرُّص أو تخمينٍ، ولَم يكتفِ بالسَّرْد التاريخي دون تَمْحيصٍ أوْ نقْدٍ، كما يفْعلُ بعضُ المؤرِّخينَ.

2- استِخلاص العِبَر وأخْذ الدُّروس والموْعِظة، مِنْ خلال توْجيهات سريعة في ثنايا السرْد التاريخي؛ لأنه هو المقصود من التاريخ؛ لئلا يَتَكَرَّر الخطأ، والمقصود: تنْبيه الأمة الإسلامية إلى معرفة مَوَاطِن الخَلل؛ مِن أجْل الإصْلاح والنهوض، ومعرفة الأمة لعدوها الحقيقي.

3- العدْل والإنْصاف، وعدم التحيُّز والميْل للهَوَى، حتى في نقْد الخُصُوم، ويَتَبَيَّن بجلاءٍ عنْد المُقارَنة بيْن مذْهب أهلِ السُّنة وغيرهم عمومًا وخصوصًا، ثُم مع ذلك هو لا يُجامل أحدًا، بل يُصَرِّح بصحةِ مذْهبه، وما يعتقده ويدين لله به، مِن خلال إطلاق عبارة اللعْن والغضب على مَن ينقم على الإسلام وأهله وممن يكيدون له.

4- لَم ينسَ ابن كثير رحمه الله -وهو المصلح والعالم الرباني- أن يُذَكِّر عند سرْدِه للحادثة، أن يُنَبِّه إلى أسباب وعوامل السقوط، والانحطاط الذي أصاب الأمة الإسلامية، وهو تقاعُسها عن واجب النصرة، والجهاد في سبيل الله، وتفرُّقها أحزابًا وشيَعًا، حتى آل بهم الأمر إلى تسليم بغداد -حاضرة الأمة، ومركز خلافتها، وكعبة العلم والعلماء- إلى المغول والتتار على طبق من ذهب.

ثم نبَّه بعدها إلى عوامل النهوض بالأمة إلى مجْدِها وعِزِّها ورِفعتها، وهي الوحدة والاجتماع على أساسٍ متينٍ من العقيدة السليمة، وإعداد العدَّة المعنويَّة والمادية في سبيل مواجهة خطر أعدائها، وكما قيل: فالتاريخ يُعيد نفسه.

وقد جعلتُ لكلِّ موضوعٍ عنْوانًا يدل على المضمون، ويُنبه إلى ما فيه مِن عبَرٍ وعظات، وقمْتُ أحيانًا بالجمع والتأليف -تصرُّف- بين النُّصوص لنفس الغرض المقصود الذي كان ابن كثير رحمه الله يحاول إظهاره وبيانه، ومن الله الإعانة والسداد.

ثانيًا: عرض "البداية والنهاية"
الناشر: دار إحياء التراث العربي، الطبعة: الأولى 1408هـ / 1988م، ج13/ ص233 – 236.

التخَلِّي عن واجب النصرة يوجب التفرُّق وتسلُّط الأعداء
استهلتْ هذه السنة -سنة ست وخمسين وستمائة- وجنود التتار قد نازلتْ بغداد، صُحبةَ الأميرَيْن اللذين على مُقدِّمة عساكر سلطان التتار هولاكو خان، وجاءتْ إليهم أمْداد صاحب الموْصل، يساعدونهم على البغاددة ومِيرَته وهداياه وتُحَفه، وكلُّ ذلك خوفًا على نفسِه من التتار، ومُصانَعة لهم قبَّحَهُم الله تعالى.

إذا حقَّ وعْدُ اللهِ فلنْ يدفع قضاءَه شيءٌ
وقد سُترت بغدادُ، ونُصبت فيها المجانيق والعرَّادات وغيرُها من آلات الممانَعة التي لا ترُدُّ مِنْ قدَرِ الله سبحانه وتعالى شيئًا، كما ورد في الأثر: "لن يغنيَ حذَرٌ من قدر". وكما قال تعالى: {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لا يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]، وقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ} [الرعد: 11].

البطَر والانشغال بملَّذات الدنيا وملذاتها يُوجب الهلاك
وأحاطتِ التتارُ بدار الخلافة يرشُقونها بالنِّبال مِن كل جانب، حتى أُصيبَتْ جاريةٌ كانتْ تلعب بين يدي الخليفة وتُضْحِكه، وكانتْ من جملة حظاياه، وكانتْ مُوَلَّدة تُسمى: عرفة، جاءَها سَهْم مِن بعض الشبابيك فقتَلَها وهي ترقُص بين يدي الخليفة، فانْزَعَجَ الخليفة من ذلك وفزع فزعًا شديدًا، وأحضر السهمَ الذي أصابَها بين يديه، فإذا عليه مكتوبٌ: "إذا أراد اللهُ إنفاذَ قضائِه وقدره أذْهَبَ مِن ذوي العقول عقولهم".

الغفْلة عن الاستعداد لِمُواجهة أيِّ طارئ
فأمر الخليفةُ عند ذلك بزيادةِ الاحتِرازِ، وكثْرَة الستائر على دار الخلافة، وكان قدوم هولاكو خان بجنوده كلها -وكانوا نحو مائتي ألف مقاتل- إلى بغداد، في ثاني عشر المحرَّم من هذه السنة، وهو شديد الحَنَق على الخليفة؛ بسبب ما كان تقدَّم مِنَ الأمر الذي قدَّرَهُ الله وقضاه، وأنْفَذَه وأمْضاهُ.

سُوء التصرُّف في مُعالجة الأمور
وهو أن هولاكو لَمَّا كان أولُ بروزِه من همَدان مُتوجِّها إلى العراق، أشار الوزيرُ مؤيد الدين محمد بن العلقمي على الخليفة بأنْ يبعَثَ إليه بهدايا سنية؛ ليكونَ ذلك مُداراةً له عما يُريدُه من قصْد بلادِهم، فخذَّل الخليفةَ عن ذلك دُوَيْداره الصغير أَيْبَك وغيرُه، وقالوا: إنَّ الوزير إنما يُريد بهذا مصانعةَ ملِك التتار بما يبْعثُه إليه من الأموال، وأشاروا بأن يبعَثَ بشيءٍ يسير، فأرْسلَ شيئًا من الهدايا، فاحْتَقَرَهَا هولاكو خان، وأرسل إلى الخليفة يطلب منه دُوَيْداره المذكور، وسليمان شاه، فلم يبعثْهما إليه، ولا بالى به حتى أزِف قُدُومُه.

مُعاملة السُّنَّة للرافضة خيرٌ مِن معاملة بعضهم البعض
ومعامَلة الخلفاء وأمراء أهل السنة خير دليل، ومعاملة المستعصم نموذج؛ فقد كان حسَن الصورةِ، جيد السيرة، صحيح السريرة، صحيح العقيدة، مقتديًا بأبيه المستنصر في المعْدلة وكثرة الصدقات، وإكرام العلماء والعباد، وقد استجاز له الحافظ ابن النجَّار من جماعة من مشايخ خراسان؛ منهم: المؤيد الطوسي، وأبو روح عبد المعز بن محمد الهروي، وأبو بكر القاسم بن عبد الله بن الصفار وغيرهم، وحدّث عنه جماعة؛ منهم: مؤدِّبه شيخ الشيوخ صدر الدين أبو الحسن علي بن محمد بن النَّيَّار، وأجاز هو للإمام محيي الدين بن الجوزي، وللشيخ نجم الدين الباذَرائي، وحدثا عنه بهذه الإجازة.

وقد كان رحمه الله سُنيًّا على طريقة السلَف واعتقادِ الجماعة، كما كان أبوه وجدُّه، ولكن كان فيه لين وعدم تيقُّظ ومحبةٌ للمال وجمعه، وكانتْ مدة خلافته خمسَ عشرةَ سنة وثمانية أشهرٍ وأيامًا، فرحمه الله، وأكرم مثواه، وبَلَّ بالرأفة ثَراه.

شبكات تجسُّس وخلايا نائمة تنخُر في جسد الأمة
وكان الوزير ابن العلقمي قبل هذه الحادثة يجتهد في صرْفِ الجيوش، وإسقاط أَسْهُمِهِمْ من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل؛ فيهم من الأمراء مَن هو كالملوك الأكابر الأكاسر، فلم يزلْ يجتهد في تقليلهم إلى أن لَم يبقَ سوى عشرة آلاف، ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخْذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك، وجَلَّى لهم حقيقةَ الحال، وكشَف لهم ضعف الرجال، وذلك كله طمعًا منه أن يزيلَ السُّنَّة بالكلية، وأن يظهِرَ البدعة الرافضيَّة، وأن يُقيم خليفةً مِنَ الفاطميين، وأن يُبيدَ العلماء والمُفْتِينَ.

ووصل بغداد بجنوده الكثيرة الكافرة الفاجرة الظالمة الغاشمة، ممن لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، فأحاطوا ببغداد مِن ناحيتها الغربية والشرقية، وجيوش بغداد في غاية القلة ونهاية الذلَّة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس -قارن بين جيش المغول وجيش الخليفة- وهم وبقية الجيش كلهم قد صُرِفوا عن إقطاعاتهم حتى استعطى كثيرٌ منهم في الأسواق وأبواب المساجد.

الرافضة من سهَّل دخول المحتل
وأنشد فيهم الشُّعراء قصائد يرْثون لهم، ويحزنون على الإسلام وأهله، وذلك كلُّه عن آراء الوزير ابن العلقمي الرافضي، وذلك أنه لَمَّا كان في السنة الماضية كان بين أهل السنة والرافضة حربٌ عظيمة، نُهِبَتْ فيها الكرْخ مَحَلَّة الرافضة، حتى نُهِبَتْ دور قراباتِ الوزير.

والسبب الذي دعى ابن العلقمي للانتقام سبَب شخْصي وطائفي
فاشْتَدَّ حَنَقُه على ذلك، فكان هذا مما أهاجَه على أن دبَّر على الإسلام وأهله ما وقَع من الأمر الفظيع الذي لم يؤرَّخْ أبْشع منه منذ بُنِيَتْ بغداد، وإلى هذه الأوقات، ولهذا كان أول مَن برز إلى التتار هو، فخَرَج بأهله وأصحابه وخدمِه وحشمه، فاجتمع بالسلطان هولاكو خان لعنه الله.

ثُمَّ عاد فأشار على الخليفةِ بالخُرُوج إليه، والمُثُول بين يديه؛ لتَقَع المصالحة، على أن يكون نصفُ خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة، فاحتاج الخليفة إلى أن خرج في سبعمائة راكب من القضاة والفُقهاء والصوفيَّة ورؤوس الأمراء والدولة والأعيان، فلما اقتربوا مِنْ منزل السلطان هولاكو خان، حُجِبوا عن الخليفة إلا سبعةَ عشر نفسًا، فخلص الخليفة بهؤلاء المذكورين، وأُنْزِل الباقون عن مراكبِهم ونُهِبتْ، وقُتِلوا عن آخرهم، وأُحْضر الخليفة بين يدي هولاكو، فسأله عن أشياء كثيرةٍ، فيقال: إنه اضطرب كلام الخليفة من هوْل ما رأى من الإهانة والجبروت!

كاد الأمرُ ينتهي بالصُّلح لوْلا خذلان الرافضة
ثم عاد إلى بغداد، وفي صُحبته خوجة نصير الدين الطوسي والوزير ابن العلقمي وغيرهما، والخليفة تحت الحوطة والمصادرة، فأحضر مِن دار الخلافة شيئًا كثيرًا مِنَ الذهب والحلي والمصاغ والجواهر والأشياء النفيسة، وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو ألا يُصالح الخليفة، وقال الوزير: متى وقع الصلح على المناصَفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمرُ إلى ما كان عليْه قبل ذلك، وحسَّنوا له قتْل الخليفة، فلمَّا عاد الخليفةُ إلى السلطان هولاكو أمَر بقَتْله.

عُلماء الرافضة قدَّمُوا خدمات جليلة للتتَر
ويقال: إنَّ الذي أشار بقتْله الوزيرُ ابن العلقمي والمولى نصير الدين الطوسي، وكان النصير عند هولاكو قد استصحبه في خدمته لما فتح قلاع الأَلْموت، وانتزعها مِن أيدي الإسماعيلية، وكان النصير وزيرًا لشمس الشموس ولأبيه من قبله علاء الدين ابن جلال الدين، وكانوا ينسبون إلى نِزار بن المستنصر العُبَيْدي، وانتخب هولاكو النصير ليكونَ في خدمتِه كالوزير المشير، فلما قدم هولاكو وتَهَيَّب مِن قتل الخليفة هوَّن عليه الوزير ذلك، فقتلوه رفسًا، وهو في جوالق؛ لئلا يقع على الأرض شيءٌ من دمه، خافوا أن يؤخَذ بثأره فيما قيل لهم، وقيل: بل خُنِق، ويُقال: بل أغرق، فالله أعلم.

إثْم مَن قُتل في عُنُق العلقمي والطوسي
فباؤُوا بإثمه وإثمِ مَن كان معه من سادات العلماء والقضاة والأكابر والرؤساء والأمراء وأولي الحل والعقد ببلاده ومالوا على البلد، فقتَلُوا جميع مَن قدروا عليه من الرجال والنساء والوِلْدان والمشايخ والكُهُول والشُّبَّان، ودخل كثيرٌ من الناس في الآبار وأماكن الحشوش، وقُنِيِّ الوَسَخ، وكمنوا كذلك أيامًا لا يظْهَرون.

الفزَع والهلَع والخوْفُ الذي أصابَ أهل بغداد
وكان الجماعة من الناس يجتمعون إلى الخانات، ويُغلِقون عليهم الأبواب، فتفتحها التتار، إمَّا بالكسر وإما بالنار، ثُم يدخلون عليهم فيهربون منهم إلى أعالي الأمكنة، فيقتلونهم في الأسطحة، حتى تجري الميازِيبُ من الدماء في الأزِقَّة، فإنا لله وإنا إليه راجعون، وقُتل الخطباءُ والأئمة وحَمَلَةُ القرآن، وتعطلتِ المساجد والجماعات والجمُعات مدة شهور ببغداد.

الرافضة يعطون الأمان حتى لعباد الشيطان، إلا أهل السنة، فلا أمان لهم
وكذلك في المساجد والجوامع والرُّبُط، ولم ينجُ منهم أحدٌ سوى أهلِ الذِّمَّة من اليهود والنصارى، ومَن التجأ إليهم وإلى دار الوزير ابن العلقمي الرافضي، وطائفة من التجار أخَذوا لهم أمانًا، بذلوا عليه أموالاً جزيلةً حتى سلِموا وسلِمَتْ أموالهم.

منظر بغداد البهي كيف أصْبَح في زمن حكم الرافضة قبحهم الله
وعادتْ بغداد بعدما كانتْ آنَسَ المدنِ كلِّها كأنها خرابٌ، ليس فيها إلا القليلُ من الناس، وهم في خوفٍ وجوع، وذلة وقلة. ولَمَّا انقضى أمَد الأمْر المقدور، وانقضت الأربعون يومًا، بقيتْ بغدادُ خاويةً على عروشِها، ليس بها أحد إلا الشاذ من الناس، والقتلى في الطرقات كأنها التُّلول، وقد سقط عليهم المطر، فتَغَيَّرَتْ صورُهم، وأنْتَنَتْ مِن جِيَفِهم البلَدُ، وتغيَّر الهواء، فحصل بسببه الوباءُ الشديد، حتى تعدَّى وسرى في الهواء إلى بلاد الشام، فمات خلْقٌ كثير من تغيُّر الجوِّ، وفساد الريح، فاجتمع على الناس الغلاءُ والوباء، والفناء والطعن والطاعون، فإنَّا لله وإنا إليه راجعون.

ما الثمن الذي قبضه العلقمي؟ تأمل
والله غالبٌ على أمره، وقد ردَّ كيدَه في نَحْره، وأذَلَّه بعد العِزَّة القعْساء، وجعلَه حوشكاشًا للتتار بعدما كان وزيرًا للخلفاء، واكْتَسَب إثْمَ مَن قُتِل ببغداد من الرجال والنساء والأطفال، فالحكمُ لله العلي الكبير ربِّ الأرض والسماء.

وأراد الوزيرُ ابن العلقمي قبَّحَه الله ولعنه أنْ يُعَطِّلَ المساجد والمدارس والرُّبُط ببغداد، ويستمر بالمشاهد ومحال الرَّفْض، وأن يبنيَ للرافضة مدرسةً هائلةً، ينْشُرون علْمهم بها وعليها، فلم يُقدره الله تعالى على ذلك، بل أزال نعْمتَه عنه، وقصف عمره بعد شهورٍ يسيرة مِنْ هذه الحادثة، وأتْبعه بولدِه فاجتمعا والله أعلم بالدَّرْك الأسفل من النار.

فمات جهدًا وغمًّا، وحزنًا وندمًا، إلى حيث ألْقَتْ رحلَها أمُّ قشْعَم، فوَلِي بعده الوزارة ولدُه عزُّ الدين أبو الفضل محمد، فألحقه الله بأبيه في بقيةِ هذا العام ولله الحمدُ والمنة.

بعد ركوب العلقمي مراكب السلطان ركب كديشا ومات غمًّا وكمدًا
وقد رأتْه امرأةٌ وهو في الذُّلِّ والهوان وهو راكب في أيام التتار بِرْذونًا -وهو مرسم عليه- وسائق يسوق به ويضرب فرسَه، فوقفتْ إلى جانبه، وقالت له: يا ابن العلقمي، هكذا كان بنو العباس يعاملونك؟ فوقعتْ كلمتُها في قلبه، وانْقَطَع في دارِه إلى أن مات كمَدًا وغبينة وضيقًا، وقلة وذلة، في مستهل جُمادى الآخرة من هذه السنة، وله من العمر ثلاث وستون سنة، ودُفِن في قُبور الروافض، وقد سمع بأذنيه، ورأى بعينيه من الإهانةِ من التتار والمسلمين ما لا يُحَدُّ ولا يوصَف. وتوَلَّى بعده ولدُه الخبيث الوزارة، ثم أخذَه الله أخْذ القُرى وهي ظالمة سريعًا.

أنهلك وفينا الصالحون
وقد جرى على بني إسرائيل ببيت المقدس قريبٌ مما جرى على أهْل بغداد، كما قصَّ الله تعالى علينا ذلك في كتابه العزيز؛ حيث يقول: {وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا} [الإسراء: 4 - 5]، وقد قُتل من بني إسرائيل خَلْق مِن الصُّلَحاء، وأُسِر جماعة من أولاد الأنبياء، وخُرِّب بيت المقدس بعدما كان معمورًا بالعبَّاد والزُّهَّاد، والأحبار والأنبياء، فصار خاويًا على عروشه، واهيَ البناء.

عدد مَن قُتل من المسلمين حتى من الشيعة يشيب له الرأس
وقد اختلف الناسُ في كمية مَن قُتل ببغداد من المسلمين في هذه الوقعة، فقيل: ثمانمائة ألف، وقيل: ألف ألف وثمانمائة ألف، وقيل: بلغت القتْلى ألفي ألف نفس، فإنا لله وإنا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وما زال السيف يقتل أهلها أربعين يومًا، وكان قتلُ الخليفة المستعصم بالله أمير المؤمنين يوم الأربعاء رابع عشر صفر، وعفَى قبْرُه.

قتل أفضل عباد الله ورعًا وزهدًا وعبادة وتقوى
وقُتل أستاذ دار الخلافة الشيخ محيي الدين يوسف بن الشيخ أبي الفرج بن الجوزي، وكان عدو الوزير، وقُتل أولاده الثلاثة: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الكريم، وأكابر الدولة واحدًا بعد واحد، منهم الدُّوَيْدار الصغير مجاهد الدين أيبك، وشهاب الدين سليمان شاه، وجماعة من أمراء السنة وأكابر البلد.

وأخيرًا
لكن بغداد عادتْ تنفض عنها غبار الموت، وازدهرت من جديد بعلمائها وفقهائها ومفكّريها، بل وأصبحت منارة علم تستهوي إليها أفئدة العلماء، ومنارة أدب تستقطب الشعراء والأدباء، كما كانت، وقيض الله لأهل الإسلام من بلاد الشام ومصر من يأخذ بالثأر وينصر دين الله، ويهزم التتار شر هزيمة في التاريخ -معركة عين جالوت.

ولكن تلك الحادثة المؤلمة ستبقى في الذاكرة لتنبِّه المسلمين في كل زمان ومكان إلى أخذ الحذر والحيطة؛ لئلا يقعوا في الخطأ نفسِه، وأن يحْذروا من الفرقة والانقسام، وأن يأخذوا بأسباب القوة المادية والمعنوية، والله غالب على أمره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

موقع قصة الاسلام
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

كيف تحرر الأقصى على يد صلاح الدين؟

تمر بنا كل عام ذكرى تحرير المسجد الأقصى المبارك على يد صلاح الدين الأيوبي من الصليبيين الملاعين الذين دنسوه عام 492هـ. واستطاع صلاح الدين أن يحرره بعد 91 عامًا وذلك في عام 583هـ. تمر هذه الذكرى من سنين وأرض الأقصى تحت احتلال جديد، وهذه المرة على يد اليهود لعنهم الله.

وقد شهدت أرض فلسطين انتفاضات مباركة -إن شاء الله- سميت إحداها بانتفاضة الأقصى المبارك، ومساهمة في دفع العدوان عن هذا المسجد المبارك، وتخليدًا لذكرى هذا البطل المجاهد أحاول أن أبين الجهود العظيمة والخطوات المهمة التي أثمرت بإذن الله عودة الأقصى للمسلمين أول مرة، وليعود إن شاء الله مرةً أخرى إلى حوزتهم.



أولًا: استعادة بيت المقدس كانت ثمرة جهود متعددة ولأجيال متلاحقة
يقول الأستاذ وليد نويهض: "لم تأت إذن انتصارات صلاح الدين من فراغ، ولم تكن النتائج العسكرية التي حققها من دون مقدمات سياسية وتنظيمية وإدارية وإصلاحية وإحيائية امتدت على أكثر من قرن إلى أن بدأ قطف ثمارها في عهدي عماد الدين زنكي ونور الدين محمود الذي يعتبر المؤسس الحقيقي للتحولات الكبرى التي شهدتها بلاد الشام ثم مصر" [1].

ويقول: "فالتحولات الكبرى التي شهدتها المنطقة في نهاية القرن السادس الهجري سبقتها حركات إصلاحية تمثلت في مسألتين: إحياء علوم الدين واسترداد الدولة "الخلافة العباسية" مواقعها، ونتج عن المسألتين والجهود التأسيسية التي قام بها الجيل الإصلاحي الأول من العلماء والفقهاء إطلاق حركة سياسية دينية، رغم حالات الإرباك والإحباط التي واجهته لحظة بدء حملات الفرنجة الأولى، فبين مرحلة التأسيس (460هـ) وإلغاء الدولة الفاطمية في مصر وإعادة توحيد مصر والشام (567هـ) أكثر من قرن شهدت خلاله المنطقة حالات من الصعود والهبوط والهجوم المضاد، إلى أن أخذت تستقر الأمور في مطلع القرن الهجري السادس.

فالجيل الأول أسس لظهور الجيل الثاني (ولد نور الدين محمود 511هـ) ومهد الجيل الثاني طريق تحرير القدس للجيل الثالث (ولد صلاح الدين 532هـ) واحتاجت الحركة الإصلاحية الإحيائية مئة سنة لتثمر النتائج السياسية التي أدت إليها، وتصد هجمات الإفرنج وتبدأ بهزيمتهم" [2].

ويقول الأستاذ محمد العبدة: "فمثل صلاح الدين ومن قبله نور الدين لا يأتيان بدون تمهيدات وإرهاصات" [3]. ويقول الدكتور ماجد عرسان الكيلاني: "إن صلاح الدين لم يكن في بدايته سوى خامة من خامات جيل جديد مر في عملية تغيير غيرت ما بأنفس القوم من أفكار وتصورات وقيم وتقاليد وعادات، ثم بوأتهم أماكنهم التي تتناسب مع استعدادات كل فرد وقدراته النفسية والعقلية والجسدية، فانعكست آثار هذا التغيير على أحوالهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية" [4].

ثانيًا: لماذا احتاجت عملية تحرير الأقصى كل هذه الجهود الضخمة والأجيال المتعاقبة؟
لم تكن الحاجة إلى كل هذه الجهود إلا بسبب تردي أحوال المسلمين قبيل الغزو الصليبي على كل الأصعدة السياسية والدينية والاقتصادية والاجتماعية، وذلك بسبب الجهل بأحكام الدين، وعدم القيام بأحكامه وأوامره، لأن العلم بالدين والقيام به يحقق للمسلمين رضا الله والسعادة في الدنيا. قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النمل: 97].

وهذه نبذة سريعة مختصرة عن أحوال المسلمين في ذلك العصر:
1- من الناحية الدينية: لقد ساد الجهل والبعد عن أحكام الدين وانتشار البدع والخرافات والفرق الضالة والباطنية التي كوّنت إمارات ودول مستقلة [5].
2- ومن الناحية السياسية: كان هناك خلافتان: عباسية سنية في بغداد، وفاطمية شيعية في مصر، وكانت بينهما حروب استعان الفاطميون فيها بالصليبيين على العباسيين! وأعاقوا تحرير القدس وحرب الصليبيين، وقاموا باغتيال كثير من الأمراء والعلماء الذين كانوا ضد الصليبيين [6].
3- أما الحالة الاقتصادية: فقد عمّ الغلاء واحتكار الأقوات وترف الأغنياء وشيوع الفقر وكثرة الضرائب حتى (بيعت البيضة بدينار) [7].
4- يقول المؤرخ أبو شامة عن أحوال الناس في ذلك الزمان: "كانوا كالجاهلية، همة أحدهم بطنه وفرجه، ولا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا" [8]. ويقول الرحالة ابن جبير عن أهل المشرق: "وما سوى ذلك مما بهذه الجهات الشرقية فأهواء وبدع، وفرق ضالة وشيع؛ إلا من عصمه الله عز وجل من أهلها" [9].

وبعد هذا الاستعراض السريع لحال المسلمين في القرن الخامس الهجري؛ هل سيكون بإمكان المسلمين منع الصليبيين من احتلال بيت المقدس عام 492هـ؟

وهل يمكن أن تكون استعادة بيت المقدس على يد صلاح الدين عام 583هـ بعد 91عامًا من الاحتلال نتيجة جهد فردي لقائد، أم أنه لا بد أن يكون ثمرة جهود ضخمة لأجيال متعددة وعلى مستويات مختلفة؟ هذا ما سنعرفه عبر بعض المحطات المهمة من تاريخ إعادة بيت المقدس على يد صلاح الدين.

ثالثًا: ماذا كانت ردة الفعل عند المسلمين حين سقطت بين المقدس؟
للأسف لم يتحرك أحد لنصرة الإسلام وبيت المقدس، وذلك بسبب ما قدمنا من أحوال المسلمين، ولذلك قال القاضي أبو المظفر الآبيوري يرثي القدس:

وَإِخْوَانُكُمْ بِالشَّـــــــــــامِ يُضْحَى مَقِيلُهُمْ *** ظُهُورَ الْمَذَاكِي أَوْ بُطُونَ الْقَشَاعِمِ
تَسُومُـــــــــــــــهُمُ الرُّومُ الْهَوَانَ وَأَنْتَمْ *** تَجُرُّونَ ذَيْلَ الْخَفْضِ فِعْلَ الْمُسَالِمِ
أَرَى أُمَّتِي لــــــَا يَشْرَعُونَ إِلَى الْعِدَا *** رِمَـــاحَهُمْ وَالدِّينُ وَاهِي الدَّعَائِمِ
فَلَيْتَهُمْ إِذْ لَـــــــــــــــــــــــــمْ يَذُودُوا حَمِيَّةً *** عَنِ الدِّينِ ضَنُّوا غَيْرَةً بِالْمَحَارِم [10]

رابعًا: إذًا كيف تحوّل المجتمع الإسلامي من هذه الحالة السيئة على كل الأصعدة إلى حالة الوحدة والنصر على يد صلاح الدين؟
أ- لا بد من اليقين دائمًا أن هذا الدين هو الدين الحق الذي سيظهره الله على سائر الأديان، ولكن لا يكون ذلك إلا بالأخذ بالأسباب الشرعية والكونية، ومن ذلك أنه حين بدأت الدولة الفاطمية (الشيعية) تهاجم وتحارب الخلافة العباسية (السنيّة) حتى أنها حرضت على قيام انقلاب عسكري في بغداد عاصمة الخلافة عام 450هـ بقيادة البساسيري الذي عزل الخليفة العباسي (السني) ودعا للخليفة الفاطمي (الشيعي)، وبدأ بقتل العلماء والأمراء السنيين [11].

كان أثر هذا الاعتداء على الخليفة والخلافة والعلماء السنيين أن هبت الدولة السلجوقية (التي تأسست عام 430هـ في بلاد الترك) لنجدة الخلافة العباسية عام 451هـ، فدخلها طغرل بك وقتل البساسيري وأشاع العدل والأمن في بغداد، وهنا بدأت الخلافة تعود لها الهيبة والقوة شيئًا فشيئًا؛ وذلك بالاستناد على قوة الدولة السلجوقية الصاعدة.

ب- كان من أعظم حسنات الدولة السلجوقية وزيرها نظام الملك، الذي كان وزيرًا عند السلطان السلجوقي ألب أرسلان وعند ابنه من بعده السلطان ملكشاه مدة 30 عام، وكان الوزير نظام الملك صاحب دين وذكاء وعلم، وكان من أهم مآثره أنه أنشأ المدارس وجعل للطلبة مرتبات وعرفت هذه المدارس بالمدارس النظامية عام 459هـ. ودرس بها كبار العلماء في ذلك العصر وألفوا كثيرًا من الكتب التي عالجت أمراض المسلمين في زمانهم مثل (أدب الدنيا والدين) للإمام الماوردي، وله أيضًا كتاب (الأحكام السلطانية)، وألّف الجويني (غياث الأمم في التياث الظلم) وكان لهذه الكتب والمدارس دور كبير في إخراج المسلمين من الجهل والبعد عن الدين والفرقة والوقوع في شبهات الفرق الضالة الباطنية.

وكانت العلاقة بين العلماء والأمراء علاقة طيبة، ولذلك سعت القوى الباطنية للقضاء على هذه العلاقة المتينة بين العلماء والأمراء، عن طريق اغتيال المشرف والمؤسس لها؛ وقد نجحوا في اغتيال الوزير نظام الملك عام 485هـ، قبل سقوط القدس بسبعة أعوام!! وقام بعده ابنه فخر الدين على نفس النهج فقتلوه أيضًا عام 500هـ [12].

ج- ومن أعظم الأشياء التي قام بها أيضًا الوزير نظام الملك أنه كان يعين النابغين من طلاب المدارس النظامية، وغيرهم من أصحاب الكفاءة في الأماكن القيادية والإدارية، ومن ذلك أنه أشار على السلطان ملك شاه بتولية قسيم الدولة آق سنقر مدينة حلب وحماة ومنبج واللاذقية، وذلك بسبب جهوده في الجهاد وحسن سياسته في إدارة البلاد التي حكمها، ولما قتل في عام 487هـ خلّفه ابنه عماد الدين زنكي الذي سار على خطى والده وأظهر الكفاءة والشجاعة في حروب الصليبيين [13].

ولما عين عماد الدين على ولاية الموصل واجه تحديات الصليبيين فبدأ في بناء دولته، وتفرغ لحرب الصليبيين، ولم يهتم بالصراع الدائر بين المسلمين! واستعان بتلاميذ المدارس النظامية؛ فكان وزيره مروان الطنزي ممن درس في بغداد على يد علمائها الذين دعمهم نظام الملك، بدأ عماد الدين بتوحيد أكثر أقاليم الجزيرة ثم بلاد الشام، واستعان بالسلطان السلجوقي في الدفاع عن بغداد، ثم بدأ بحرب الصليبيين وتحقيق الانتصارات عليهم، وتوجّه بعد ذلك لفتح الرها وهي أول إمارة صليبية في بلاد المسلمين ففتحها عام 539هـ. وكان ينوي مواصلة حرب الصليبيين لكنه قتل عام 541هـ [14].

وبعد وفاة عماد الدين زنكي حمل الراية ابنه نور الدين محمود، وكان نعم الخلف لخير سلف، فلقد استمر في حرب الصليبيين والدفاع عن أرض المسلمين، والعمل على توحيد الصف الإسلامي، ولذلك عمل على إنهاء الخلافة الفاطمية في مصر وقال في ذلك: "وما قصدنا بفتحها (مصر) إلا فتح الساحل وقلع الكفار" [15].

وقد طلب من صلاح الدين القضاء على الدولة الفاطمية، وذلك بعد وفاة عمه أسد الدين شيركوه الذي أرسله على رأس جيش إلى مصر وقت دبّ الخلاف والنزاع بين الفاطميين ليكون عونًا لأحد الأطراف، فكان لصلاح الدين شرف القضاء عليها وهي التي حاربت الخلافة وناصرت الصليبيين ونشرت البدعة والضلالة قبل أن ينال شرف فتح بيت المقدس عام 583هـ. واستمر نور الدين في حرب الصليبيين حتى أرجع أكثر من 50 مدينة من الصليبيين، وعزم على فتح بيت المقدس فأمر ببناء منبر للمسجد الأقصى، ولكنه توفي عام 569هـ قبل أن تقرّ عينه بالأقصى، وكان لتوحّد الشام ومصر تحت قيادته أثر هائل في المسلمين والصليبيين.

هـ-ـ وبعد وفاة نور الدين تسلم الراية صلاح الدين أكبر قواد نور الدين، والذي حقق الله على يديه فتح بيت المقدس عام 583هـ بعد 14 عامًا من تسلمه القيادة العامة وتأسيس الدولة الأيوبية. ولقد قام صلاح الدين الأيوبي بالعديد من الأعمال والحيل التي مكّنته من فتح بيت المقدس؛ ومن ذلك:

1- القضاء على الدولة الفاطمية عام 564هـ.
2- لم يبدأ من اليوم الأول في الهجوم على الصليبيين بل تأخر من أجل الإعداد والمراقبة وتصفية الخلافات مع ورثة نور الدين والخلافة العباسية وبعض الأمراء في نواحي الفرات والجزيرة.
3- عمل على تحصين مصر وتجهيزها للدفاع برًا وبحرًا، ولذلك أرسل قوات إلى اليمن لتأمين خطوط المواصلات البحرية والتجارية، وقطع الطريق على الصليبيين.
4- استغل اختلاف المصالح التجارية بين الدول الصليبية، فعقد اتفاقات تجارية مع التجار الأوروبيين لوقف تمويلهم حروب الصليبيين مقابل امتيازات وإعفاءات جمركية.
5- استغل التناقضات الداخلية بين الدولة البيزنطية والدول الأوروبية اللاتينية، وكذلك الاختلاف بين المسيحيين العرب والمسيحيين الأوروبيين.
6- اهتم ببناء أسطول بحري [16].

ومما لا يعلمه كثير من الناس أن صلاح الدين لم يكن يستطيع أن يبقى 14 عامًا في حرب مستمرة مع الصليبيين، لذلك كانت هناك الكثير من فترات الصلح والسلم التي شهدت رخاء اقتصاديًا من أجل تغطية ما يلزم للحرب القادمة [17].

وتوالت انتصارات صلاح الدين حتى توّجت بمعركة حطين 583هـ، وبعدها دخل بيت المقدس عنوة، ولم يبق للصليبين إلا مدينة صور وكانت مركزًا لتجمعهم ومدينة طرابلس ومدينة أنطاكية وبعض الحصون الصغيرة حولهم، عندها حشد الصليبيون الحملة الصليبية الثالثة والتي حققت بعض الانتصارات حتى وصلت أسوار القدس وانتهت بعقد الصلح مع صلاح الدين عام 588هـ وتوفي بعدها صلاح الدين عام 589هـ [18].

و- ويجب أن نعرف أن العمل العسكري ليس هو الجهد الوحيد الذي قام به هؤلاء القادة (عماد الدين، ونور الدين، وصلاح الدين) بل لقد كانت لهم جهود مهمة جدًا على الأصعدة الأخرى هي التي جعلت العمل العسكري يصل لمبتغاه، ومن هذه الجهود:

1- القضاء على الدولة الفاطمية والحركات الباطنية لما لها من أثر سيئ في دين ودنيا المسلمين والتعاون مع الأعداء [19].
2- مواصلة مسيرة الوزير المخلص نظام الملك في بناء المدارس ورعاية العلماء وطلبة العلم ونشر حلقات التدريس؛ لبناء جيل جديد يتحمل أعباء الجهاد ومشاقه، ومحاربة الأفكار الضالة والبدع والخرافات في حياة المسلمين [20].
3- بناء المساجد والحصون والأسوار والأوقاف ورعاية الأيتام والفقراء [21].
4- دعم القضاء وزيادة سلطانه وعدم التعدي عليه من الأمراء والقادة [22].
5- الاهتمام بإخراج القيادات ذات الصبغة الإسلامية السليمة ومنها للفائدة: القائد الأمير بهاء الدين قراقوش الذي كان عالمًا فقيهًا؛ فقد كان والي صلاح الدين على عكا وكانت له مآثر عظيمة؛ منها أنه بنى سور القاهرة وقلعة الجبل فيها، وكان له جهود مشكورة في
القضاء على الدولة الفاطمية الشيعية، ولذلك كان الشيعة وراء الإشاعات والأكاذيب عليه وألّفوا فيه كتاب "الفاشوش في أحكام قراقوش" [23].
6- كان من أهم الجهود في استعادة بيت المقدس هو إعداد أبناء النازحين من بيت المقدس للجهاد؛ فكانت توفر لهم الإقامة والتعليم، ثم يعودون إلى الثغور والمرابطة، وكانوا يعرفون باسم المقادسة [24].
7- الاهتمام بالناحية الاقتصادية فأزالوا الضرائب والتزموا الشرع فيها، فأخرج التجار أموالهم، وازدهرت الحياة، واهتموا بإعمار المدن، وصرفوا عليها الملايين، وتركوا حياة الترف، وأقاموا الفنادق وخزانات الماء والجسور [25].
8- اهتموا بالصناعات الحربية ودعمها، ومن ذلك إنشاء ديوان للأسطول البحري ودور لصناعة السفن في ثلاث مدن هي: القاهرة، الإسكندرية، دمياط [26].

وأخيرًا، هذه لمحات سريعة من تاريخ استعادة الأقصى أول مرة - فك الله أسره -؛ لنعرف أمورًا عدة:
1- {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
2- إن كثيرًا مما جرى بالأمس يجري اليوم.
3- إن الطريق لعودة الأقصى هو العودة إلى الله عن طريق العلم الصحيح والعمل به، والتعاون بين الأمراء المخلصين والعلماء الصادقين، والجهد الشاق الطويل.

[1] وليد نويهض، صلاح الدين الأيوبي .. سقوط القدس وتحريرها: قراءة معاصرة، ص78، ص74.
[2] وليد نويهض، صلاح الدين الأيوبي .. سقوط القدس وتحريرها: قراءة معاصرة، ص78، ص74.
[3] محمدة العبدة، أيعيد التاريخ نفسه، ص6.
[4] د. ماجد الكيلاني، هكذا ظهر جيل صلاح الدين، ص16.
[5] المصدر السابق، ص27.
[6] هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص91، قبل أن يهدم الأقصى ص 54، أيعيد التاريخ نفسه ص75. ولمزيد من التوسع في معرفة دور الفاطميين والباطنية انظر كتاب "أثر الحركات الباطنية في عرقلة الجهاد ضد الصليبيين" يوسف إبراهيم ص139.
[7] النجوم الزاهرة لأبن تغري بردي (5/213) عن هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص77، أيعيد التاريخ نفسه ص18.
[8] كتاب الروضتين ص7 عن هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص84.
[9] رحلة ابن جبير ص55 عن هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص85.
[10] الكامل لأبن الأثير (10/284) عن أيعيد التاريخ نفسه ص 34.
[11] هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص89، والتاريخ الإسلامي لمحمود شاكر (6/201)، أيعيد التاريخ نفسه ص 67.
[12] أيعيد التاريخ نفسه ص68، هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص 103، سير أعلام النبلاء للذهبي (19/94)، صلاح الدين قراءة ماصرة ص47.
[13] هكذا ظهر صلاح الدين ص 285.
[14] التاريخ الإسلامي (6/282)، أيعيد التاريخ نفسه ص79، هكذا ظهر جيل صلاح الدين 287.
[15] النجوم الزاهرة لابن تغري بردي (5/336) بواسطة مقومات حركة الجهاد ضد الصليبيين، د. عبد الله الغامدي ص21.
[16] لمزيد من التوسع في تفاصيل هذه الخطوات انظر: صلاح الدين قراءة معاصرة (ص94 ـ 111)، هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص 343.
[17] صلاح الدين قراءة معاصرة ص 110.
[18] التاريخ الإسلامي (6/332).
[19] انظر هامش 6.
[20] أيعيد التاريخ نفسه ص70، هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص291.
[21] أيعيد التاريخ نفسه ص 80، صلاح الدين قراءة معاصرة ص 94.
[22] أيعيد التاريخ نفسه ص 83.
[23] هكذا ظهر جيل صلاح الدين ص301.
[24] المصدر السابق ص319.
[25] المصدر السابق ص 331.
[26] ـ المصدر السابق 341.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

معركة اليرموك .. دراسة وتحليل

مقدمات معركة اليرموك
اليرموك نهر يَنْبع من جبال حوران، يجْرِي قرب الْحُدُود بَين سوريا وفلسطين، وينحدر جنوبا ليصب فِي غور الْأُرْدُن ثمَّ فِي الْبَحْر الْمَيِّت، وَيَنْتَهِي مصبه فِي جنوب الحولة، وَقبل أَن يلتقي بنهر الْأُرْدُن بمسافة تتراوح بَين ثَلَاثِينَ وَأَرْبَعين كيلو مترا يُوجد وَاد فسيح تحيط بِهِ من الْجِهَات الثَّلَاث جبال مُرْتَفعَة شاهقة الِارْتفَاع، وَيَقَع فِي الْجِهَة الْيُسْرَى لليرموك.

اخْتَار الرّوم هَذَا الْوَادي؛ لِأَنَّهُ الْمَكَان الَّذِي يَتَّسِع لجيشهم الضخم الَّذِي عدده مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعين ألف مقَاتل. وَأما الْمُسلمُونَ فقد عبروا النَّهر إِلَى الْجِهَة الْيُمْنَى، وضربوا معسكرهم هُنَاكَ فِي وَاد منطبح يَقع على الطَّرِيق المفتوح لجيش الرّوم، وَبِذَلِك أغلقوا الطَّرِيق أَمَام الْجَيْش المزهو بعدده وعدده، فَلم يعد للروم طَرِيق يسلكون مِنْهُ، أَو يفرون إِذْ اضطروا للفرار، لِأَن جَيش الْمُسلمين قد أَخذ عَلَيْهِم مسلكهم الوحيد.

وَقد يعجب الْإِنْسَان كثيرا، وَهُوَ ينظر إِلَى الخارطة، وَيرى نَفسه مُضْطَرّا لِأَن يسْأَل كَيفَ رَضِي قواد الرّوم لجيوشهم هَذَا الْموقع؟ وَكَيف وَافق الْجنُود على النُّزُول فِيهِ وهم يرَوْنَ أَلا سَبِيل لِلْخُرُوجِ مِنْهُ إِلَّا عَن طَرِيق هَذَا الْوَادي الَّذِي احتله الْمُسلمُونَ؟ أفما كَانَ الأجدر بهم إِن اضطروا إِلَى اتِّخَاذ هَذَا الْمَكَان ميدانًا للجيش لِأَنَّهُ لَا يُوجد مَكَان سواهُ يَتَّسِع لجيشهم أَن يحموا الفتحة الوحيدة الَّتِي لَا طَرِيق لَهُم غَيرهَا؟

لاشك أَن البديهيات العسكرية تحتم حماية أَمْثَال هَذِه الفتحة ليؤمن الْجَيْش طَرِيقه إِذا اضْطر إِلَى الْخُرُوج من هَذَا الْوَادي المحاصر بشواهق الْجبَال. وَلَكِن يبدوا أَن قوات الرّوم كَانَت مغرورة بكثرتها الهائلة، مزهوة بالنصر الَّذِي أحرزته على خَالِد بن سعيد وَمن مَعَه من قوات الْمُسلمين، كَمَا يَبْدُو أَن هَذَا النَّصْر أنساهم أبسط التخطيط العسكري فِي مثل هَذَا الْموقف.

ازْدَادَ حماس الْخَلِيفَة لفتح الشام بعد مَا أصَاب خَالِد بن سعيد وجنده من الْهَزِيمَة والفرار، فندب أعظم قواده للذهاب إِلَى بِلَاد الشَّام، فَأمَّر عمرو بن العاص على فرقة من الْجَيْش وَأمره أَن يتَّجه بهَا إِلَى فلسطين، واستدعى يزيد بن أبي سفيان وولاه على جَيش لجب، فيهم سهيل بن عمرو وَأَمْثَاله من أهل مَكَّة، وألحقه بِجَيْش آخر بقيادة أَخِيه معاوية بن أبي سفيان، وَوجه شرحبيل بن حسنة ليقود جمَاعَة من جَيش خَالِد بن سعيد، وَندب الْخَلِيفَة جَيْشًا عَظِيما وأمَّر عَلَيْهِ أَبَا عُبَيْدَة بن الْجراح وَعين لكل جَيش طَرِيقه، وَأمره أَن يسلكه حَتَّى يصل إِلَى مقره. فَأخذ عَمْرو بن الْعَاصِ طَرِيق المعرقة. وسلك أَبُو عُبَيْدَة بن الجراح الطَّرِيق نَفسه، وَأخذ يزِيد بن أبي سُفْيَان طَرِيق التبوكية وسلكه مَعَه شُرَحْبِيل بن حَسَنَة، وَتوجه الْأُمَرَاء إِلَى الشَّام، فَلَمَّا وصلوها نزل أَبُو عُبَيْدَة الْجَابِيَة، وَنزل يزِيد البلقاء، وَنزل شُرَحْبِيل الْأُرْدُن، وَنزل عَمْرو بن الْعَاصِ العربة [1].

هِرقل ينصح قومه
علم الرّوم بِدُخُول الجيوش الإسلامية أَرضهم، فَكَتَبُوا إِلَى هرقل، وَكَانَ بالقدس فَقَالَ هِرقل: "أرى أَن تصالحوا الْمُسلمين، فو الله لِأَن تصالحوهم على نصف مَا يحصل من الشَّام وَيبقى لكم نصفه مَعَ بِلَاد الرّوم أحب إِلَيْكُم من أَن يغلبوكم على الشَّام وَنصف بِلَاد الرّوم".

وأغضبت هَذِه النَّصِيحَة قواد الرّوم، وظنوا أَن الإمبراطور قد وَهن وَضعف وسيسلم الْبِلَاد للغزاة الفاتحين، وَالْحق أَن هِرقل قد ضعف أَمَام غضبة قواده، وعزم على قتال الْمُسلمين مَعَ يقينه بالهزيمة، وَجمع هِرقل الثائرين، وَتوجه بهم إِلَى حمص، وَهُنَاكَ أعد جَيْشًا ضخم الْعَدَد كثير الْعُدَد، وقسمه أَرْبَعَة أَقسَام، وَجعل كل قسم مِنْهُ يُقَابل فرقة من جَيش الْمُسلمين ليوهنهم ويشغلهم عَن مناصرة إخْوَانهمْ.

عدد الْجَيْش
بلغ جَيش الْمُسلمين ثَلَاثِينَ ألفًا أَو تقل قَلِيلا، وَأما جَيش الرّوم فقد بلغ مِائَتَيْنِ وَأَرْبَعين ألفًا.

الْخَلِيفَة الصديق يدرس أَسبَاب تَأَخّر النَّصْر
وَاسْتَشَارَ الْخَلِيفَة أبو بكر الصديق أَصْحَابه ذَوي الرَّأْي، وقلب الْأَمر على كل وجوهه، فاهتدى إِلَى أَن ضعف الْمُسلمين ناتج إِلَى ضعف القيادة، ذَلِك لِأَن الْأُمَرَاء الَّذين بَعثهمْ الْخَلِيفَة إِلَى الشَّام لَيْسَ فيهم من يصلح فِي نظر الْخَلِيفَة لخوض هَذِه المعركة الرهيبة، فَأَبُو عُبَيْدَة بن الْجراح مَعَ قدرته العسكرية الفائقة إِلَّا أَنه رَقِيق الْقلب لَا يقدم على الحسم، وَابْن الْعَاصِ مَعَ دهائه وَحسن حيلته يهاب الْإِقْدَام على عدوه، وَعِكْرِمَة مَعَ إقدامه وحنكته غير أَنه تنقصه دقة التَّقْدِير للمواقف، وَبَقِيَّة القواد لم يشتركوا من قبل فِي مثل هَذِه المعارك الْكَبِيرَة.

وَهُنَاكَ أَمر آخر يَنْبَغِي للخليفة أَن يقدره وَلَا يغفله، ذَلِكُم هُوَ تَسَاوِي القواد فِي الْقُدْرَة، فَلَيْسَ فيهم من يقرونَ لَهُ بالتفوق أَو العبقرية الَّتِي يتَمَيَّز بهَا عَلَيْهِم حَتَّى يجتمعوا عَلَيْهِ. وَمن أجل هَذَا فكر الْخَلِيفَة كثيرا فِي الْأَمر وَطَالَ تفكيره فَالْأَمْر لَيْسَ بالهين الْيَسِير، وَإِنَّمَا هِيَ معارك فاصلة لابد أَن تحسم فِي الشَّام كَمَا حسمت فِي العراق. واهتدى الْخَلِيفَة رَضِي الله عَنهُ إِلَى الْحل، فَقَالَ لمجلس الشورى: "وَالله لأنسين الورم وساوس الشَّيْطَان بِخَالِد بن الْوَلِيد" [2].

خَالِد يتَوَجَّه إِلَى الشَّام ويَدْعُو إِلَى تَوْحِيد القيادة
كتب الْخَلِيفَة إِلَى خالد بن الوليد يَأْمُرهُ بِأَن يسْتَخْلف على الْعراق، وَيتَّجه بخيرة جنده إِلَى الشَّام، وصدع خَالِد بِأَمْر الْخَلِيفَة واتجه إِلَى الشَّام فِي تِسْعَة آلَاف مقَاتل من خيرة الْجند. وَنظر خَالِد إِلَى الْمُسلمين فَوَجَدَهُمْ متساندين كل جمَاعَة على رَأسهَا قَائِد لَيْسَ لَهَا أَمِير وَاحِد يجمعهُمْ، وَرَأى رَضِي الله عَنهُ بعبقريته العسكرية أَن هَذَا الْحَال لَا يُؤَدِّي إِلَى النَّصْر، فَخَطب فِي الْمُسلمين، فَحَمدَ الله، وَأثْنى عَلَيْهِ، ثمَّ قَالَ:

"إِن هَذَا يَوْم من أَيَّام الله، لَا يَنْبَغِي فِيهِ الْفَخر وَلَا الْبَغي، أَخْلصُوا جهادكم، وأريدوا الله بأعمالكم، فَإِن هَذَا يَوْم لَهُ مَا بعده، وَلَا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية وَأَنْتُم متساندون، فَإِن ذَلِك لَا يحل وَلَا يَنْبَغِي، وَإِن من وراءكم لَو يعلم علمكُم حَال بَيْنكُم وَبَين هَذَا، فاعملوا فِيمَا لم تؤمروا بِهِ بِالَّذِي ترَوْنَ أَنه الرَّأْي من واليكم ومحبتكم".

قَالُوا: فهات فَمَا الرَّأْي؟ قَالَ:
"إِن أَبَا بكر لم يبعثنا إِلَّا وَهُوَ يرى أننا سنتياسر وَلَو علم بِالَّذِي كَانَ وَيكون لما جمعكم، إِن الَّذِي أَنْتُم فِيهِ أَشد على الْمُسلمين مِمَّا قد غشيهم وأنفع للْمُشْرِكين من أمدادهم، وَقد علمت أَن الدُّنْيَا فرقت بَيْنكُم، فَالله الله، فقد أفرد كل رجل مِنْكُم بِبَلَد من الْبلدَانِ لَا ينتقصه مِنْهُ أَن دَان لأحد من أُمَرَاء الْجنُود وَلَا يزِيدهُ عَلَيْهِ أَن دانوا لَهُ، إِن تأمير بَعْضكُم لَا ينقصكم عِنْد الله، وَلَا عِنْد خَليفَة رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم، هلموا فَإِن هَؤُلَاءِ تهيئوا، وَهَذَا يَوْم لَهُ مَا بعده، إِن رددناهم إِلَى خندقهم الْيَوْم لم نزل نردهم، وَإِن هزمونا لم نفلح بعْدهَا، فَهَلُمُّوا فلنتعاور الْإِمَارَة فَلْيَكُن عَلَيْهَا بَعْضنَا الْيَوْم، وَالْآخر غَدا، وَالْآخر بعد غدٍ حَتَّى يتأمر كلكُمْ، ودعوني إِلَيْكُم الْيَوْم".

فأمَّروه، وهم يرَوْنَ أَنَّهَا كخرجاتهم، وَأَن الْأَمر أطول مِمَّا صَارُوا إِلَيْهِ [3].

كَانَت لكلمة خَالِد تِلْكَ أعظم الْأَثر فِي نفوس الْمُسلمين من تحرض القسيسين والرهبان فِي نفوس الرّوم، وَلَئِن ظلّ هَؤُلَاءِ يعبئون تِلْكَ التعبئة الروحية مُدَّة شهر كَامِل، فَإِن نُفُوسهم لم يكن فِيهَا من الْيَقِين وَحسن الثِّقَة فِي وعد الله كَمَا كَانَ فِي نفوس الْمُسلمين، وَلذَلِك أثمرت كلمة خَالِد الَّتِي لم تستغرق دقيقتين مَا لم تثمره مواعظ الرهبان والقسيسين لمُدَّة شهر، لِأَن النُّفُوس المؤمنة بِالْحَقِّ تكون دَائِما مهيأةً لاستقبال التَّوْجِيه وَالْمَوْعِظَة، سريعة التأثر بِمَا يلقى عَلَيْهَا إِذا ذكرت بوعد الله عز وَجل، حَسَنَة الثِّقَة فِيمَا عِنْده.

على أننا نرى فِي كلمة خَالِد رَضِي الله عَنهُ من الْإِخْلَاص والحث عَلَيْهِ، وعظيم الِاعْتِمَاد على الله مَا لَا يُمكن أَن يخيب صَاحبه، زد على ذَلِك بعد نظر خَالِد، وإدراكه لما حوله من أبعاد المعركة وَقدرته العسكرية الَّتِي تجْعَل أَصْحَابه يدينون لَهُ من غير مُنَازع، كل ذَلِك جعلهم يَجْتَمعُونَ على قيادته بعد أَن كَانُوا متساندين لَا يدين أحد لأحد، وَلَا يرى أحد أَن أحدا أَحَق بالإمرة مِنْهُ.

خطة خَالِد لمواجهة الرّوم
اجْتمع الْمُسلمُونَ على خَالِد بعد أَن مكث شهرا على اليرموك لَيْسَ بَينه وَبَين الرّوم قتال، واقترح خَالِد بعد أَن آلت إِلَيْهِ القيادة الْعَامَّة لجيش الْمُسلمين أَن يقسم الْجَيْش إِلَى كراديس (فرق)، كل فرقة من ألف رجل، وَجعل على كل كرْدُوس رجلا مِمَّن اشتهروا بالشجاعة والإقدام، أَمْثَال القعقاع بن عمرو وصفوان بن أمية، وعكرمة بن أبي جهل وأضرابهم، وَأسْندَ قيادة الْقلب إِلَى أبي عُبَيْدَة بن الْجراح، وقيادة الميمنة إِلَى عَمْرو بن الْعَاصِ وشرحبيل بن حَسَنَة، وقيادة الميسرة إِلَى يزِيد بن أبي سُفْيَان. وَقَالَ لأَصْحَابه: "إِن عَدوكُمْ كثير، وَلَيْسَ تعبية أَكثر فِي رَأْي الْعين من الكراديس".

حاول خَالِد بذلك أَن ينسي الْمُسلمين كَثْرَة الرّوم المخيفة، وَأَن يظْهر الْمُسلمين فِي حَالَة تدخل الرعب والفزع فِي عدوهم، وَلكنه لم يلبث أَن سمع رجلا يَقُول: "مَا أَكثر الرّوم وَأَقل الْمُسلمين!"، فَغَضب خَالِد لما سمع وَصَاح مغضبًا: "بل مَا أقل الرّوم وَأكْثر الْمُسلمين، إِنَّمَا تكْثر الْجنُود بالنصر، وتقل بالخذلان، وَالله لَوَدِدْت أَن الْأَشْقَر -يَعْنِي فرسه- برَاء من توجِّيه وَأَنَّهُمْ أَضْعَف فِي الْعدَد". وَكَانَ فرسه قد حفي من مَشْيه بالمفازة (بادية الشَّام) [4]. وخشي خَالِد أَن تسري كلمة الرجل فِي صُفُوف الْمُسلمين فتوهنهم، وتضعف مقاومتهم، فَعجل بالمعركة ليشغل الْمُسلمين بهَا، بَدَلا من أَن يشغلوا عَنْهَا بِالنّظرِ فِي عَددهمْ وَعدد عدوهم.

خالد يوزع الأدوار
لم ينس خَالِد أَن يخْتَار من جُنُوده من يتَوَلَّى أُمُور الْمُسلمين، فَبعد أَن نظَّم الكراديس وَاخْتَارَ لَهَا مهرَة القواد، عين أبا الدرداء قَاضِيا، وَأَبا سُفْيَان واعظًا، وَجعل على الطَّلَائِع قباث بن أَشْيَم، وعَلى الأقباض عبد الله بن مسعود، وَكَانَ الْقَارئ المقداد، يَقُول الطبري: "وَمن السّنة الَّتِي سنّ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد بدر أَن تقْرَأ سُورَة الْجِهَاد عِنْد اللِّقَاء -وَهِي الْأَنْفَال- وَلم يزل النَّاس بعد ذَلِك على ذَلِك".

وَقَامَ أَبُو سُفْيَان بدوره كواعظ للْمُسلمين خير قيام، فَقَالَ وَهُوَ يمشي بَين الكراديس: "يَا معشر الْمُسلمين، أَنْتُم الْعَرَب وَقد أَصْبَحْتُم فِي دَار الْعَجم منقطعين عَن الْأَهْل، نائين عَن أَمِير الْمُؤمنِينَ وإمداد الْمُسلمين، وَقد وَالله أَصْبَحْتُم بِإِزَاءِ كثير عدده، شَدِيد عَلَيْكُم حنقه، وَقد وترتموهم فِي أنفسهم وبلادهم وَنِسَائِهِمْ، وَالله لَا ينجيكم من هَؤُلَاءِ الْقَوْم، وَلَا يبلغ بكم رضوَان الله غَدا إِلَّا بِصدق اللِّقَاء وَالصَّبْر فِي المواطن الْمَكْرُوهَة، أَلا وَإِنَّهَا سنة لَازِمَة، وَإِن الأَرْض وراءكم، وَبَيْنكُم وَبَين أَمِير الْمُؤمنِينَ وَجَمَاعَة الْمُسلمين صحاري وبراري لَيْسَ لأحد فِيهَا معقل وَلَا معول إِلَّا الصَّبْر، ورجاء وعد الله فَهُوَ خير معول، فامتنعوا بسيوفكم وتعاونوا ولتكن هِيَ الْحُصُون". ثمَّ ذهب إِلَى النِّسَاء فوصاهن، ثمَّ عَاد فَنَادَى: "يَا معشر أهل الْإِسْلَام حضر مَا ترَوْنَ، هَذَا رَسُول الله وَالْجنَّة أمامكم، والشيطان وَالنَّار خلفكم"، وَرجع إِلَى موقفه فِي الصَّفّ حَيْثُ كَانَ.

وَقَامَ أَبُو هُرَيْرَة بعد أبي سُفْيَان فَقَالَ: "سارعوا إِلَى الْحور الْعين وَجوَار ربكُم عز وَجل فِي جنَّات النَّعيم، مَا أَنْتُم إِلَى ربكُم فِي موطن بِأحب إِلَيْهِ مِنْكُم فِي مثل هَذَا الموطن، أَلا وَإِن للصابرين فَضلهمْ" [5].

خَالِد يَأْمر بالهجوم
سمع الْمُسلمُونَ هَذِه الْكَلِمَات فَوَقَعت من نُفُوسهم موقعًا أنساهم قلتهم وَكَثْرَة عدوهم، وتطلعت قُلُوبهم إِلَى مَا عِنْد الله، وهبت عَلَيْهِم من خلالها نسائم الْجنَّة فاشتاقوا إِلَيْهَا، ولمح خَالِد فِي الْجنُود حماسًا لم يره من قبل، وَرَأى حبهم للْجِهَاد على النَّحْو الَّذِي كَانَ يتطلع إِلَيْهِ مُنْذُ قدم إِلَى اليرموك، وتأكد أَن الْمُسلمين قد تأهبوا للمعركة بِكُل إمكاناتهم، فانتهز الفرصة، وَأمر عِكْرِمَة والقعقاع أَن ينشبا الْقِتَال.

فبرز الْقَعْقَاع وَهُوَ يرتجز:

يَا ليــتَ أَلْقَـاك فِي الطـراد
قبل اعترام الجحفل الورَّاد
وَأَنــت فِي حلبتــك الْـوَارِد

وَتَبعهُ عِكْرِمَة وَهُوَ يَقُول:

قد علم بهكنة الْجَوَارِي *** أَنِّي على مكرمَة أحامي

ونشبت المعركة حامية الوطيس، مستعرة الأوار، السيوف تخطف الْأَرْوَاح، وتزيل الْهَام، وتفري الْأَجْسَام.

خَالِد يسْتَقْبل بريد الْخَلِيفَة
وبينما الْمُسلمُونَ كَذَلِك إِذْ أقبل الْبَرِيد من الْمَدِينَة مسرعًا يتخطى الناس، وَيسْأل عَن خَالِد، وَالنَّاس وَرَاءه يتبعونه ليستطلعوا مِنْهُ أَخْبَار الْمَدِينَة، يبشرهم بِالْخَيرِ، ويخبرهم عَن الأمداد. وَلما بلغ الْبَرِيد خَالِدا سلمه الْكتاب، وَأخْبرهُ بوفاة أبي بكر، أسر إِلَيْهِ بِهِ، وَأخْبرهُ بِمَا أخبر بِهِ الْجند، فسر خَالِد فِي حسن تصرف الْبَرِيد وَقَالَ لَهُ: "أَحْسَنت"، وَوضع الْكتاب فِي كِنَانَته حَتَّى لَا يتطلع أحد على مَا فِيهِ، فيجزع الْجند، وينتشر الْأَمر.

إِسْلَام قَائِد من قواد الرّوم
وَفِي الْوَقْت نَفسه خرج جرجة من صُفُوف الرّوم حَتَّى وقف بَين الصفين، ونادى: "ليخرج إِلَيّ خَالِد"، فَخرج خَالِد إِلَيْهِ، وأناب أَبَا عُبَيْدَة عَنهُ، والتقى الرّجلَانِ بَين الصفين، وَسَأَلَ جرجة خَالِد عَن سَبَب تَسْمِيَته سيف الله، فَأخْبرهُ خَالِد بِأَن الرَّسُول هُوَ الَّذِي سَمَّاهُ بذلك وَدَار بَين الرجلَيْن حَدِيث طَوِيل أسلم جرجة على أَثَره، وَتبع خَالِدا إِلَى خيمته ليعلمه الْإِسْلَام.

موقف عِكْرِمَة من هجوم الرّوم
ظن الرّوم أَن جرجة خمل على الْمُسلمين، وَأَنه فِي حَاجَة إِلَى المدد، فحملوا على الْمُسلمين حَملَة أزالتهم عَن مواقفهم، وَثَبت لَهُم عِكْرِمَة بن أبي جهل والْحَارث بن هِشَام، وَكَانَا على حامية فسطاط خَالِد، وَلما رأى عِكْرِمَة تراجع الْمُسلمين قَالَ: "قَاتَلت رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي كل موطن، وأفر مِنْكُم الْيَوْم"، ثمَّ نَادَى فِي الْمُسلمين: "من يُبَايع على الْمَوْت؟" فَبَايعهُ عَمه الْحَارِث بن هِشَام وَضِرَار بن الْأَزْوَر ومعهما أَرْبَعمِائَة من أبطال الْمُسلمين.

خَالِد يُدِير المعركة
وواجه خَالِد مسيرَة الرّوم الَّتِي حملت على ميمنة الْمُسلمين، فَقتل مِنْهُم سِتَّة آلَاف، والتفت إِلَي صَاحبه وَقَالَ: "وَالَّذِي نَفسِي بِيَدِهِ لم يبْق عِنْدهم من الصَّبْر وَالْجَلد إِلَّا مَا رَأَيْتُمْ، وَإِنِّي لأرجو أَن يمنحكم الله أكتافهم"، ثمَّ اعْتَرَضَهُمْ فَحمل بِمِائَة فَارس على مائَة ألف مِنْهُم، فَلم يكد يصل إِلَيْهِم حَتَّى انفض جمعهم، وَحمل عَلَيْهِم الْمُسلمُونَ حَملَة صَادِقَة، فانكشفوا لَا يلوون على شَيْء وتبعهم الْمُسلمُونَ يقتلُون وَيَأْسِرُونَ.

وَصلى الْمُسلمُونَ صَلَاة الظّهْر وَالْعصر إِيمَاء، وَاسْتشْهدَ جرجة، وَحمل خَالِد بِرِجَالِهِ على الرّوم حَتَّى صَار فِي وَسطهمْ، وذعر الرّوم لهول مَا رَأَوْا من الْمُسلمين، وفر خيَّالتهم وأفسح لَهُم الْمُسلمُونَ الطَّرِيق، فهاموا على وُجُوههم فِي الْبِلَاد، ثمَّ تبعوا من فر من الخيَّالة، واقتحم خَالِد عَلَيْهِم الخَنْدَق، وَجعل الرّوم يقهقرون أَمَام الهجوم الكاسح الَّذِي شنَّه خَالِد فِي اللحظة الْمُنَاسبَة حَتَّى وصلوا إِلَى الواقوصة.

وَجعل الَّذين سلسلوا أنفسهم لِئَلَّا يَفروا يتساقطون فِي الواقوصة كَمَا يتساقط الْفراش فِي النَّار، وَكلما سقط رجل من مَجْمُوعَة سَقَطت مَعَه بأكملها حَتَّى سقط فِيهَا، وَقُتل عِنْدهَا مائَة ألف وَعِشْرُونَ ألفا، ثَمَانُون ألف مقترن وَأَرْبَعُونَ ألف مُطلق، سوى من قتل فِي المعركة من الْخَيل وَالرجل، وَأخر النَّاس صَلَاة العشائين حَتَّى اسْتَقر الْفَتْح [6].

وأمعن الْمُسلمُونَ فِي قتل الرّوم، وظلوا يُقَاتلُون حَتَّى أَصْبحُوا، وَدخل خَالِد رواق تذارق أخي هِرقل، فَلَمَّا أَصْبحُوا وَقد انْتَهَت المعركة أُتِي خَالِد بِعِكْرِمَةَ بن أبي جهل جريحًا فَوضع رَأسه على فَخذه، وبعمرو بن عِكْرِمَة فَجعل رَأسه على سَاقه، وَمسح وجهيهما، وَأخذ يقطر فِي حلقيهما المَاء حَتَّى اسْتشْهدُوا، وَقَالَ: "زعم ابْن حنتمة -يَعْنِي عمر- أننا لَا نستشهد".

وَقَاتل نسَاء الْمُسلمين فِي هَذَا الْيَوْم، وَقتلُوا عددا كَبِيرا من الرّوم، وَكن يضربن من انهزم من الْمُسلمين وَيَقُلْنَ: "أَيْن تذهبون وتدعوننا للعلوج؟!"، وعندئذ يرجع المنهزمون، وَكَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ من المنهزمين وَمَعَهُ أَرْبَعَة نفر حَتَّى بلغُوا النِّسَاء، فَلَمَّا زجرنهم رجعُوا إِلَى الْقِتَال [7].

دفع الشُّبْهَة
وَكَانَ يزِيد بن أبي سُفْيَان من الَّذين ثبتوا وَلم يَفروا، وَقَاتل قتالًا شَدِيدا، لِأَن أَبَاهُ مر بِهِ، وَذكره بِمَا يجب عَلَيْهِ وعَلى أَمْثَاله من الْأُمَرَاء، وَأمره بِالصبرِ والثبات، ورغبه فِيمَا عِنْد الله من الْأجر والمثوبة، فَأجَاب يزِيد، أفعل إِن شَاءَ الله.

وَهَذِه الرِّوَايَة ترد رِوَايَة ابن الأثير الَّتِي رَوَاهَا عَن عبد الله بن الزبير، وفيهَا يتهم أَبَا سُفْيَان ورجالًا من مَكَّة يسميهم مهاجرة الْفَتْح، بِأَنَّهُم تنحوا عَن الميدان، وظلوا بَعيدا يتربصون بِالْمُسْلِمين فَإِذا ركب الرّوم الْمُسلمين قَالُوا: إيه بني الْأَصْفَر، وَإِذا غلب الْمُسلمُونَ يَقُولُونَ: وَيْح بني الْأَصْفَر. تدل هَذِه الرِّوَايَة على تجنب أبي سُفْيَان المعركة، وَأَنه لم يشْتَرك فِيهَا، وَلَكِن ابْن الْأَثِير نَفسه يذكر مَا يكذب ذَلِك، حَيْثُ يرْوى بعْدهَا مُبَاشرَة وَفِي الصَّحِيفَة نَفسهَا أَن عين أبي سُفْيَان قد أُصِيبَت فِي المعركة، وَذَلِكَ أَمر مجمع عَلَيْهِ من المؤرخين، فَكيف يكون أَبُو سُفْيَان بَعيدا عَن ميدان المعركة يتربص بِالْمُسْلِمين، وَكَيف يُصِيب سهم فِي عينه فيفقؤها وينتزع السهْم من عينه أَبُو حثْمَة.

ويروي ابن كثير عَن سعيد بن المسيب عَن أَبِيه قَالَ: هدأت الْأَصْوَات يَوْم اليرموك فسمعنا صَوتا يكَاد يمْلَأ المعسكر يَقُول: يَا نصر الله اقْترب، الثَّبَات الثَّبَات يَا معشر الْمُسلمين، قَالَ: فَنَظَرْنَا فَإِذا هُوَ أَبُو سُفْيَان تَحت راية ابْنه يزِيد [8].

أَيْن كَانَ أَبُو سُفْيَان وَهُوَ يُنَادي نصر الله؟ وَهُوَ يطْلب الثَّبَات من الْمُسلمين؟ هَل كَانَ يطْلب الثَّبَات وَهُوَ هارب من الميدان؟ وَهل يَلِيق بِرَجُل كَأبي سُفْيَان أحد زعماء قُرَيْش أَن يطْلب الثَّبَات من الْمُسلمين ويفر هُوَ خَارج المعركة؟ وَمن الَّذِي يَصِيح بِالْمُسْلِمين ليثبتوا ثمَّ يُرى بعد ذَلِك بَعيدا عَن الميدان؟.

أغلب الظَّن أَن الرِّوَايَة مكذوبة على أبي سُفْيَان، فقد أجمع المؤرخون على أَنه كَانَ واعظ الْجَيْش، وروى عَنهُ المؤرخون كَلِمَات فِي الحض على الْقِتَال والحث على الثَّبَات تثير إعجاب كل من قَرَأَهَا أَو سمع بهَا.

نتائج معركة اليرموك وآثارها
وفر المنهزمون من اليرموك حَتَّى بلغُوا دمشق، وَأما هِرقل فَإِنَّهُ لما بلغه خبر اليرموك وَكَانَ بحمص تَركهَا وَولى عَلَيْهَا رجلا وَجعلهَا بَينه وَبَين الْمُسلمين، وودع سوريا الْوَدَاع الْأَخير. وَتوجه الْمُسلمُونَ بعد ذَلِك إِلَى الْأُرْدُن، وطهرها مِمَّا بَقِي فِيهَا من جنود الرّوم، ثمَّ تابعوهم إِلَى دمشق حَيْثُ حاصروهم هُنَاكَ.

وَبلغ عدد الشُّهَدَاء من الْمُسلمين ثَلَاثَة آلَاف شَهِيد بَينهم كثير من كبار الصحابة مثل سعيد بن الْحَرْب بن قيس السَّهْمِي، ونعيم النحام، وَالنضير بن الْحَارِث، وَأَبُو الرّوم عُمَيْر بن هِشَام أَخُو مصعب بن عمير. وَكَانَ فِي جنود هَذِه المعركة ألف صَحَابِيّ مِنْهُم مائَة مِمَّن شهد بَدْرًا.

وغنم الْمُسلمُونَ كل مَا كَانَ فِي معسكر الرّوم، وَكَانَ شَيْئا عَظِيما، حَتَّى خص الْفَارِس من النَّفْل ألف وَخَمْسمِائة دِرْهَم أَو ألف وَخَمْسَة دَرَاهِم. وَكَانَت الموقعة الفاصلة عِنْد اليرموك فِي شهر جُمَادَى الْآخِرَة من السّنة الثَّالِثَة عشرَة من الْهِجْرَة بعد أَن مكث الْمُسلمُونَ قرَابَة أَرْبَعَة أشهر لَا ينالون من الرّوم، وَلَا ينَال مِنْهُم [9].

وَلما انْتَهَت المعركة، وطارد الْمُسلمُونَ الرّوم حَتَّى حاصروهم فِي دمشق أظهر خَالِد الْكتاب الَّذِي جَاءَ بِهِ الْبَرِيد، فَإِذا هُوَ نعي للخليفة، وعزل لخَالِد من الْإِمَارَة وتولية لأبي عُبَيْدَة بن الْجراح إِمَارَة النَّاس، وعندئذ قَالَ خَالِد رَضِي الله عَنهُ وَهُوَ يعلن وَفَاة الْخَلِيفَة وتولية عمر: "الْحَمد لله الَّذِي قضى على أبي بكر بِالْمَوْتِ، وَكَانَ أحب إِلَىَّ من عمر، وَالْحَمْد لله الَّذِي ولي عمر، وَكَانَ أبْغض إِلَى من أبي بكر، وألزمني حبه" [10].

تحقيق وَفَاة الصّديق
وَنحن نلاحظ خلافًا فِي تَارِيخ وَفَاة الصّديق رَضِي الله عَنهُ يَنْبَغِي أَن يُحَقّق، فالطبري وَابْن الْأَثِير وَابْن كثير والسيوطي والبلاذري كلهم مجمعون على أَن الْوَفَاة كَانَت فِي جُمَادَى الْآخِرَة وَهَذَا أَمر لَا خلاف فِيهِ بَين المؤرخين. وكما اتّفق المؤرخون على الشَّهْر الَّذِي توفّي فِيهِ الْخَلِيفَة، فهم كَذَلِك متفقون على أَن الْوَفَاة كَانَت فِي السّنة الثَّالِثَة عشرَة من الْهِجْرَة.

وَيَأْتِي الْخلاف بعد ذَلِك فِي الْيَوْم الَّذِي حصلت فِيهِ الْوَفَاة، وَالرِّوَايَة الَّتِي تكَاد تحظى بِإِجْمَاع المؤرخين أَنه رَضِي الله عَنهُ اغْتسل فِي يَوْم شَدِيد الْبرد، وَكَانَ ذَلِك يَوْم الِاثْنَيْنِ لسبع خلون من جُمَادَى الْآخِرَة، فَحم على أثر ذَلِك خَمْسَة عشر يَوْمًا، وَتُوفِّي لَيْلَة الثُّلَاثَاء لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة سنة ثَلَاث عشرَة.

ولكننا نرى أَن الْبَرِيد قد وصل والمسلمون فِي اليرموك والمعركة دَائِرَة بَينهم وَبَين الرّوم، والمؤرخون أنفسهم يرَوْنَ أَن معركة اليرموك انْتَهَت فِي جُمَادَى الْآخِرَة كَذَلِك، فَمَتَى يصل الْبَرِيد من الْمَدِينَة إِلَى الشَّام؟ وَفِي كم يَوْم يقطع الْمسَافَة؟؟

إِن الْبَرِيد مهما كَانَت سرعته لَا يُمكن أَن يقطع هَذِه الْمسَافَة فِي أقل من عشرَة أَيَّام، وَلَو توفى الْخَلِيفَة لثمان بَقينَ من جُمَادَى الْآخِرَة لتحتم أَن تكون المعركة قد امتدت إِلَى شهر رَجَب.

وَلِهَذَا فَإِنِّي أرجح أَن تكون وَفَاة الصّديق فِي النّصْف من جُمَادَى الْآخِرَة قبل انْتِهَاء المعركة بِعشْرَة أَيَّام كَمَا ذكر الطَّبَرِيّ حَيْثُ يَقُول: "وَمرض أَبُو بكر رَحمَه الله فِي جُمَادَى الأولى وَتُوفِّي لِلنِّصْفِ من جُمَادَى الْآخِرَة، قبل الْفَتْح بِعشْرَة أَيَّام". وَهَذِه الْأَيَّام الْعشْرَة يُمكن أَن يصل الْبَرِيد فِيهَا من الْمَدِينَة المنورة إِلَى الشَّام حَيْثُ تَدور المعركة [11].

[1] ابن الأثير: الكامل، 2/ 406.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 5.
[3] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 395 - 396) ، ابْن الْأَثِير: الكامل، 2/ 411.
[4] ابْن الْأَثِير: الكامل، 2/ 411 - 412.
[5] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 397. ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 9.
[6] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 400.
[7] ابن الأثير: الكامل، 2/ 414. ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 13 - 14.
[8] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 401. ابن الأثير: الكامل، 2/ 414. ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 13 - 14.
[9] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 400. ابن الأثير: الكامل، 2/ 410 - 414.
[10] ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 14.
[11] الطبري: تاريخ الرسول والملوك، 3/ 419. ابن الأثير: الكامل، 2/ 418. ابن كثير: البداية والنهاية، 7/ 18. السيوطي: تاريخ الخلفاء، ص81.

موقع قصة الاسلام
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

القادة العشرة الأبرز في التاريخ الاستراتيجي الإسلامي

ليس ثمة شك أن اختزال مئات الأسماء والقادة في عشرة فقط (من غير الصحابة الكرام) مهمة عسيرة، وليست بالضرورة يقينية؛ وقد يرى البعض إضافة أسماء أو حذف أخرى، وهذا بالطبع ممكن وضروري، فالتاريخ ليس علمًا طبيعيًا محدد المدخلات والقوانين والنتائج بصورة قاطعة.

حددنا في اختيارنا لهذه الأسماء العشرة جملة معايير؛ أهمها دور القائد في صناعة واقع استراتيجي جديد في التاريخ الإسلامي، أو منع واقع كان على وشك أن يتشكل، وراعينا في هذا الاختيار الجانب الاستراتيجي والسياسي، ولم نركز كثيرا على إنجازات أخرى كالعلوم والفنون والآداب. وهذا الاختيار لَيس حكمًا أخلاقيًا، بل مقاربة سياسية - استراتيجية وحسب.

المهم في مثل هذه الاختيارات أنها رسمت معالم جيوسياسية للعالم الإسلامي على مدار ثلاثة عشر قرنًا.

أبو جعفر المنصور

الرجل القوي في تأسيس الدولة العباسية، ابن محمد بن علي، مؤسس الدعوة العباسية، والعقل المدبر لجهود أخيه أبو العباس السفاح الخليفة العباسي الأول. بحلول عام 132هـ، الذي تمت فيه مبايعة أبو العباس خليفة من قبل أهل الكوفة، كانت الأراضي التي تدين بالإسلام تمتد من الأندلس إلى آسيا الوسطى، والغالب كما يذهب معظم المؤرخين أن فشل الأمويين في التعامل مع التنوع العرقي والثقافي الذي مثله هذا التوسع هو أساس سقوط دولتهم، ومن ثم بروز الدعوة العباسية، التي اعتمدت على المعارضة القوية الموجودة في مُدن خراسان للحُكم الأموي.

على عكس سلفه، علم أبو جعفر المنصور أن أي دور لعبه أهل فارس وآسيا الوسطى في وصول أبو العباس للحكم، وأدرك أن الاستمرار في اعتماد الهويات العرقية داخل دولة قوامها الإسلام لن يؤدي سوى إلى النزاع. في الدولة التي طمح إليها أبو جعفر، لم يكن هناك مكان لهوية أساسها العرق، بل هوية أساسها الانتماء للدين الإسلامي فقط، وفي هذا السياق يمكن فهم جهوده في دمج الثقافتين العربية والفارسية عبر دعم الترجمة والتعليم، والتي استمرت تحت حُكمه الممتد لأكثر من عقدين، بين عامي (137 – 158هـ / 754 -775م)، أسس فيها بنيان الدولة العباسية الذي ورثه من بعده خلفاؤه، حتى تضاءلت سلطة الخلافة بعد صعود سلطنات الجند، مثل البويهيين والسلاجقة، إلى أن سقط تمامًا بعد الغزو المغولي عام 656هـ / 1258م.

عبد الرحمن الداخل

ربما تكون قصة وصول عبد الرحمن الداخل إلى الحكم في الأندلس أقرب للقصص الخيالية، فهو حفيد الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك، ومع تأسيس الخلافة العباسية بدأ رجالها في تعقب نسل بني أمية للقضاء عليهم تمامًا. شهدت رحلة هروب عبد الرحمن مقتل اثنين من إخوته، فاتجه من الشام إلى مصر ومن ثَم إلى المغرب.

كان لدخول عبد الرحمن إلى شبه الجزيرة الإيبيرية (الأندلس)، حيث عرف بعده بالداخل، أكبر الأثر على الواقع السياسي للأندلس والأراضي الإسلامية بشكل عام؛ فمنذ بداية الفتح الإسلامي لها عام 92هـ وحتى وصول الداخل إليها عام 138هـ، لم يتمكن العرب في الأندلس من تخطي نزاعات الأمراء إلى مرحلة تكوين دولة أو إمارة جامعة في الأراضي الإيبيرية تتصف بثبات واتزان سياسي وثقافي يأخذ طبيعة المنطقة في الاعتبار.

تمكن عبد الرحمن الداخل من السيطرة على قرطبة في عام وصوله، واستخدامها كقاعدة للسيطرة على مساحات حكم الأمراء العرب في سرقسطة وبرشلونة رغم اعتمادهم على العون العسكري من شارلمان إمبراطور الفرنك. وتجدر الإشارة هنا إلى الأهمية الاستراتيجية لدحر الداخل قوات شارلمان في معركتي سرقسطة وباب الشرزي، حيث رسم هذا الانتصار حدود السيادة الأموية التي بناها الداخل وسمح له بالوصول إلى مرحلة تعضيد التواجد الإسلامي في الأندلس على الصعيدين الاجتماعي والثقافي في ظل دولة تربع على عرشها لأكثر من ثلاثين عامًا حتى وفاته في 172هـ.

ألب أرسلان السلجوقي

اتسع نطاق سيطرة السلطنة السلاجوقية -تركمانية الأصل- بصورة سريعة من وسط أسيا إلى عاصمة الخلافة العباسية في بغداد، واستمرت قوتها في النمو حتى صارت السلالة السلجوقية هي الحاكم الفعلي لكافة الأراضي الإسلامية شرق مصر. قضى السلاجقة على البويهيين، وحافظوا على الخلافة العباسية لرمزيتها الدينية، خاصة أنها وفرت لهم مظلة شرعية في ظل التوسع الفاطمي إلى غربهم تحت راية العقيدة الشيعية الإسماعيلية. وظل شخص الخليفة العباسي هو ممثل العقيدة السنية التي دان بها السلاجقة.

تكمن محورية ألب أرسلان في سياسات التغيير السكاني الجذرية التي أتاحتها فتوحاته في الأناضول، وأدت لواحدة من أبرز الأحداث السياسية والثقافية في المنطقة، وهي هيمنة العرق التركي على المنطقة المعروفة بتركيا حاليًا. كانت الأناضول مع بداية حكم ألب أرسلان جزءًا من الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية)، ومع التوسع التدريجي في الفتح من شمال العراق ووسط آسيا إلى قلب الأناضول، استخدم ألب أرسلان تقنيات الهجوم السريع والهرب التركمانية المعروفة بين قبائل آسيا الوسطى في السيطرة على مساحات كبيرة في الأناضول.

وتعتبر معركة ملاذكرد عام 463هـ / 1071م أبرز معارك ألب أرسلان، والتي فتح بعدها الأناضول لاستيطان القبائل التركية، التي ستظهر منها الخلافة العثمانية فيما بعد. وإذا تم أخذ سياسات التغيير السكاني السابق ذكرها في الاعتبار؛ يمكن فهم تمكن السلاجقة في غضون سنتين من الوصول إلى قونية في قلب الأناضول، ومن ثم أنقرة عام 467هـ / 1075م، لينتهوا من السيطرة على الأناضول بالكامل بفتح نيقية عام 470هـ / 1077م؛ أي خلال أقل من عقد.

نور الدين زنكي

بعد أن خلف أبيه عام 541هـ / 1146م كحاكم حلب أو أتابِك حلب كما كان معروفًا آنذاك، وهي سلالة حكمت تحت سلطان السلاجقة، بدأ نور الدين زنكي جهوده في مواجهة الحملات الصليبية التي حققت الكثير من النجاحات في تلك الفترة نتيجة تفكك الإمارات الإسلامية وضعف الخلافة العباسية. وقد نجح نور الدين بالفعل في طرد الصليبيين من سوريا وفلسطين ليبزغ نجمه، ثم تبدأ رحلة بناء دولته الكبرى، سيما بعد دخوله دمشق عام 549هـ / 1154م ومصر بين عامي (564 - 566هـ / 1169 -1171م).

تركزت جهود نور الدين محمود الأساسية في بدايات عهده في توحيد مدن الشام تحت إمرته، لينجح بالفعل في السيطرة على دمشق وبعلبك والرها وحران والموصل، ثم يتجه ناحية فلسطين لمواجهة الصليبيين أثناء حملتهم الثانية على المشرق، ليخوض معارك عدة معهم، ثم يتجه إلى مصر بعد أن قرر الصليبيون دخولها كظهير جنوبي لهم في وجه مُلك نور الدين بالشمال، ليقود ثلاث حملات قبل أن ينجح بالفعل في ضمها إلى مُلكه في أواخر عهده.

عُرِف عن نور الدين عدله وزُهدِه ودهائه العسكري، وقد شهد له بذلك مؤرخون مسلمون ومسيحيون على السواء، كما اشتهر باستخدام الغنائم التي اغتنمها في المعارك لبناء المساجد والمدارس والمستشفيات وبيوت المسافرين، ليترك عند وفاته عام 569هـ / 1174م دولة كبرى في مصر والشام قُدر لصلاح الدين الأيوبي أن يرثها ليستكمل مسيرته في الوقوف بوجه الصليبيين وحملاتهم المستمرة القادمة من أوروبا.

صلاح الدين الأيوبي

وُلِد صلاح الدين الأيوبي لأسرة كردية معروفة، وقد نشأ في الشام بعد أن انتقل مع أبيه إلى حلب لخدمة عماد الدين زنكي، والد نور الدين زنكي، وتلقى تعليمًا دينيًا وعسكريًا رفيعًا، ثم دخل إلى جيش عمه أسد الدين شيركوه، أحد قادة الأمير نور الدين آنذاك، حتى أثبت جدارته وأصبح على رأس القوات الشامية في مصر، ثم وزيرًا للخليفة الفاطمي هناك بعد وفاة شيركوه، ليقوم بإسقاط المُلك الفاطمي كله خلال أعوام، وإعادة الإسلام السُني إلى موقعه السابق في مصر، والعمل تحت راية نور الدين زنكي.

بوفاة نور الدين استحوذ صلاح الدين الأيوبي على سلطته، وأصبح له سلطانه الخاص في مصر والشام، الذي انطلق منه لمواجهة الصليبيين في فلسطين، وهي المواجهة التي وصلت ذروتها في معركة حطين عام 583هـ / 1187م. نجح صلاح الدين في محاصرة وهزيمة جيوش الصليبيين في حطين، واسترد من ثم عكا وبيروت وصيدا ونابلس ويافا وعسقلان خلال ثلاثة أشهر من المعركة، وأخيرًا القدس، التي سلمها له الصليبيون في أكتوبر من العام نفسه، بعد 88 عامًا من حكم الفرنج لها.

لم تبق تلك المدن طويلًا في أيدي المسلمين رُغم ذلك، حيث ظلت تتأرجح بين حكم الأيوبيين والصليبيين، بفعل تنازع أبناء صلاح الدين على تركته في مصر والشام بعد وفاته. انتهى ملك الأيوبيين إلى التفسخ، وآلت ممتلكاتهم إلى سلطان المماليك؛ القوة الجديدة الصاعدة في مصر والشام.

سيف الدين قطز

ليس من الواضح كيف كانت حياة سيف الدين قطز في بدايتها، والذي يُقال أنه بيع لأحد تجار الرقيق في القاهرة قبل أن يشتريه السلطان المعز عز الدين أيبك في القاهرة، حيث أثبت جدارته مع الوقت وأصبح يده اليمنى، ثم مساعد ابنه السلطان المنصور علي، قبل أن ينحيه عن العرش ويصبح هو السلطان في العام التالي على دخول التتار لمدينة بغداد. باقتراب خطر المغول في المشرق، رأى قطز أن من الضروري وجود قائد قوي في السلطنة بدلًا من المنصور علي.

كما هو متوقع، حين وصل المغول إلى الشام قاموا بإيفاد رُسُلَهم إلى قطز ونصحوه بالاستسلام للزحف المغولي الذي لم يُبقِ على دولة من دول الشرق. وطبقًا لروايات تاريخية عدة، قام قطز بقطع رؤوس الرسل وتعليقها على باب زويلة، في إعلان صريح لموقف الدولة المملوكية من غزو المغول، لتبدأ إرهاصات معركة عين جالوت، التي تعتبر واحدة من أبرز المعارك العسكرية في تاريخ المنطقة، والتي كان لها ربما الدور الرئيس في إنقاذ الحضارة الإسلامية من السيطرة المغولية الهوجاء.

لم يدم حُكم قطز طويلًا بعد انتصاره في عين جالوت، حيث قُتِل بتدبير من بيبرس، أحد قادة الجيش المملوكي، انتقامًا لأحد قيادات المماليك البحرية الذين قتله قطز أثناء حُكم السلطان أيبك، أو كما يقول آخرون لأنه منح حُكم حلب للملك علاء الدين أمير الموصل بدلًا منه كما وعده سابقًا.

يوسف بن تاشفين

في عام 453هـ / 1061م، وبينما اتجه أبو بكر زعيم المرابطين في المغرب العربي لقمع إحدى الثورات القبلية في الصحراء الأفريقية، أوكل مهام قيادة جيشه إلى يوسف بن تاشفين أحد أقاربه، والذي ذاع صيته وزادت شعبيته بسهولة إلى أن قرر أبو بكر نقل مُلكه إليه بعد عودته، ليبدأ العصر الذهبي لدولة المرابطين تحت حُكمه الذي استمر خمسة وأربعين عامًا.

بدأ يوسف بن تاشفين، ذو الأصول الأمازيغية، عهده بتأسيس مدينة مراكش المعروفة الآن في المملكة المغربية، ثم توسع ليستحوذ على المغرب والجزائر بالكامل، ويبدأ حملاته في الأندلس بعد أن استغاث به المسلمون هناك جراء تزايد الهجمات المسيحية الأوروبية وسقوط طليطلة عام 478هـ / 1085م. اتجه بن تاشفين بالفعل إلى الأندلس وأوقع الهزيمة بالملك ألفونسو القشتالي عام 479هـ / 1086م، ونجح في توسيع ملكه ليشمل معظم شبه الجزيرة الأيبيرية.

محمد الفاتح

هو القائد العثماني الأشهر، الذي جلس على عرش الدولة العثمانية عام 855هـ / 1451م وقاد فتح القسطنطينية عام 857هـ / 1453م. وقد استمر حكمه ثلاثين عامًا، أطلق على نفسه فيها لقب "قيصرِ الروم"، باعتباره وارثًا للمُلك الروماني والبيزنطي، و"سيد الأرضين والبحرين"؛ الأناضول والبلقان وبحر إيجه والبحر الأسود. وقد عُرِف عهد محمد الفاتح بإعادة تنظيم الحكومة العثمانية، ووضع قوانين عامة للسلطنة. وتعتبر امتيازات الحماية التي وفرها لمجتمعات تجار البندقية وفلورنسا في إسطنبول السابقة الأولى لمؤسسة السفارة الأجنبية في التاريخ الدبلوماسي.

بالإضافة إلى معركة فتح القسطنطينية، تعتبر معركة باشكنت في مدينة أرزينجان عام 877هـ / 1473م، والتي خاضها في مواجهة قائد التركمان المنافس للعثمانيين أوزون حسن، واحدة من أبرز معارك محمد الفاتح، والتي أتاحت له توطيد مُلك العثمانيين في الأناضول بشكل نهائي. هذا، علاوة على حملات عسكرية في البلقان والمجر ورومانيا ومولدوفا وجزيرة رودس وشبه جزيرة القرم ومدينة أوترانتو في جنوب إيطاليا، التي دخلها في أواخر عهده عام 885هـ / 1480م.

عُرِف عن محمد الفاتح تسامحه مع كل الفئات التي سكنت القسطنطينية، إذ قام بجمع المفكرين الإيطاليين واليونانيين في بلاطه بعد الفتح، وأمر بترجمة العقائد المسيحية للتُركية، كما حرص على جمع الكتب اليونانية واللاتينية؛ وظلت كنيسة الروم الأرثوذكس تعمل بشكل طبيعي من بعده حتى أغلقت بعد إعلان الجمهورية التركية في القرن العشرين.

السلطان سليم الأول

ثماني سنوات فقط هي الفترة التي حكم فيها سليم الأول السلطنة العثمانية، ولكنها شهدت ذروة فتوحاتها وحصولها على لقب الخلافة، حيث نجح السلطان المعروف بشدته في دخول مصر وسوريا والحجاز، ليؤول حكم معظم أراضي المسلمين إلى العثمانيين في أقل من عقد.

خلال سنوات حكم السلطان سليم الأول، بزع نجم إسماعيل الأول الصفوي في إيران، وهو ما دفع بسليم للالتفات نحو الشرق لتأمين حدود الدولة العثمانية، لا سيما وأن قبائل القزلباش الموالية لإسماعيل كانت تثير الاضطرابات في الأناضول. خاض سليم أولى معاركه الشرقية ضد الصفويين في جالديران شرقي نهر الفرات عام 920هـ / 1514م، ثم ضم الولايات التركمانية والكردية للمُلك العثماني.

فيما بعد، وبينما بدأت حدود العثمانيين تتجاوز كردستان وتقارب على الشام، نشب النزاع بينهم وبين المماليك حكام مصر والشام حتى ذلك الوقت، لينجح سليم في هزيمتهم في معركتي مرج دابق والريدانية عامي 922 و 923هـ / 1516م و1517م، لتنتقل كل أراضيهم رسميًا للدولة العثمانية، وإن بقيت سلطتهم على الأرض كولاة. وطبقًا للرواية العثمانية، تخلى آخر الخلفاء العباسيين في القاهرة عن منصب الخلافة لسليم الأول، ليصبح بذلك أول الخلفاء العثمانيين؛ وهو ما دفع شريف مكة إلى تسليم مفاتيح المدينة للسلطان سليم أثناء وجوده في القاهرة.

سليمان القانوني

بعد وفاة سليم الأول، انتقل الحكم بعده لابنه سليمان القانوني (حكم من 926 – 974هـ / 1520 – 1566م). استمر سليمان في سياسة التوسع العسكري التي اتبعها أسلافه، وأضاف لها أبرز ما عُرِف به فيما بعد: الاهتمام بالمجالات القانونية والثقافية والعمرانية، ليشهد عهده تميز الحضارة العثمانية، بل وربما تشكل بصمة خاصة للثقافة العثمانية.

بدأ سليمان القانوني حملاته العسكرية فور جلوسه على العرش باستحواذه على بلغراد، عاصمة صربيا اليوم، ثم رودس والمجر، وأخيرًا وصل إلى أبواب فيينا عاصمة النمسا، والتي لم ينجح في السيطرة عليها نتيجة لعوامل شتى منها سوء الأحوال الجوية وقلة المؤن والمقاومة الأوروبية المنيعة في المدينة، وهو ما دفعه للتخلي عنها والاكتفاء بالمجر، لا سيما وأن الحدود الشرقية عادت لتؤرق الأستانة من جديد.

وجه سليمان ثلاث حملات كبرى ضد الدولة الصفوية، أولها عام 941هـ / 1534م، عندما استحوذ على مدينة أرضروم ودخلت أثنائها قوات العثمانيين العراق؛ وثانيها عام 955هـ / 1548م، حيث هيمن بها على معظم الأراضي المحيطة ببحيرة وان (فان)؛ وآخرها عام 961هـ / 1554م، التي لم تحقق أهدافها المرجوة، وكانت تنطوي على هدف صعب هو اختراق فارس نفسها.

برز في عهد سليمان القانوني القائد البحري المعروف خير الدين بارباروسا، قبودان الأسطول العثماني، وكُتب له أن يكون واحدًا من أبرز القيادات البحرية في التاريخ الإسلامي بجهوده في البحر المتوسط وعلى سواحل اليونان والبندقية وأسبانيا، التي رسخت من هيمنة العثمانيين على البحر المتوسط.

موقع قصة الاسلام
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

من تاريخ البحرية في الحضارة العربية الإسلامية

نبذة تاريخية
قبل ظهور الإسلام عرف الرحالة اليوناني (هيبا لوس) من البحارة العرب الرياح الموسمية وهذه الرياح تمثل في رحلة الشتاء و الصيف عند العرب.كان البحارة العرب ينتظرون موعد الرياح القوية والقادمة من الشمال لتدفع مراكبهم الشراعية باتجاه الجنوب من البحر الأحمر إلى الهند وشرق آسيا ثم الانتظار لحين موعد الرياح المعاكسة لتعود بهم إلى ديارهم.

وقد أخذ العرب من اليونانيون جهاز الإسطرلاب لقياس ارتفاع النجوم والكواكب ولقد جعله العرب أكثر دقة وأسهل استعمالا حتى اشتهر العرب بصناعته.

وقد استعمل البحارة العرب أجهزة أخرى مثل السدس (التيودوليت)، استعمل البحارة العرب البوصلة في عهد الإدريسي، أما المنظار المقرب فلم يعرفه العرب إلا في القرن السابع عشر بعد ما ابتكره جاليلو الإيطالي.

معرفة العرب بالبحار
وكان البحارة العرب على معرفة جيدة بطبيعة البحار، سواء في قيادة سفنهم للرحلات الطويلة أو الأحوال المناخية المتقلبة والموسمية وكانوا يستعملون (الدليل البحري) ويسمى الرهماني أو الرحماني، ويسمى أيضا دفتر الإرشاد البحري، وكانوا يستعملون تقويم خاص بالبحارة يسمى (النيروز)، وكانوا يحسبون طلوع المنازل ومواسم الرياح وأوقات الأسفار وسرعة مراكبهم و المسافة وطرق تمييز الجزر والوقت المتوقع وصولهم.

لقد كان العرب يسيرون رحلاتهم البحرية بانتظام من شبة الجزيرة العربية إلي الهند وشرق آسيا حتى وصلوا الصين حيث يذكر أن هناك جاليات من أصل عربي تعيش هناك.

وعندما بدأ انتشار الإسلام كان الحماس الشديد عند المسلمين للمشاركة في نشر الدعوة الإسلامية وبالتالي ازداد نشاط الرحلات البحرية الطويلة إلى أفريقيا والهند وشرق أسيا لاكتشاف بلاد جديدة لم يصلها الإسلام.

ـ من أشهر البحارة العرب
- الملاح سليمان التاجر: الذي يعتبر من المصادر الهامة في المعرفة الجغرافية والتاريخية لبحار آسيا، ويرى كثيرون أن قصة السندباد البحري ما هي إلا نسج للاأوصاف هذا الملاح العربي في القرن التاسع ميلادي.
- كذلك سجل الملاح البحري أحمد بن ماجد عدد كبير من الكتب في القرن الخامس عشر بعد القيام برحلات واسعة في البحر الأحمر والخليج العربي والمحيط الهندي، ولقد لمع اسم ابن ماجد والبحار سليمان المهري في الأوساط العلمية الغربية بعد عثور المستشرق الفرنسي جبريل فيران على مخطوطات ومؤلفات في علم الملاحة.
- وورد في كتاب البيروني أوصاف للبحار الشمالية المتجمدة والكائنات البحرية.
- البتاني وابن حوقل: قام كل منهما في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي بعمل خرائط بحرية عن البحر الأسود والبحر الأبيض المتوسط والمحيط الهندي وكانت خرائط المسعودى أقرب إلى الواقع.
- المسعودي: وقد عمل المسعودي عدة كتابات وصف فيها بحر الروم (الأبيض المتوسط) وصفاً جيداً من ناحية الطول والعرض وحدده. وكذلك وصف الحيوانات البحرية مثل: الحوت، وقال عنه: أن اسمه (الفال)، ويصل طوله (400 ذراع) ويهز البحر وينفث الماء إلى ارتفاع أكثر من ممر سهم.
- أما وصف الدمشقي لسمك القرش بأنه موجود ببحر اليمن، وأن جلده خشن وله خرطوم طويل مثل المنشار، وطوله أربعة اذرع.
- رحلات ابن بطوطة في القرن الرابع عشر.
- رحلات العمانيين إلى زنجبار وإلى إندونيسيا حيث جلبوا القرنفل ونقلوه إلى زنجبار القريبة من الساحل الأفريقي وأصبحت زنجبار مشهورة بزراعته وتصديره. وكانت الرحلة من عمان إلى زنجبار تستغرق شهر ونصف.
- أصدرت تركيا عام (1864م) أيام الإمبراطورية العثمانية أول مجموعة قانونية تتضمن قواعد القانون البحري مستوحاة من الشريعة الإسلامية ويعتبر أكثر إنسانية من القانون البحري العالمي لأن الفقهاء المسلمين فرضوا الالتزام بالمساعدة لأي سفينة معرضة للخطر، على العكس من القانون البحري المعاصر الذي يسمح بالمساعدة مقابل المطالبة بمبالغ هائلة. هذا البند يجعل من قادة السفن لا يطلبون المساعدة من السفن الأخرى إلا بعد استنفاذ جميع المحاولات مما يؤدي إلى سوء الحالة.
- قام الأميرال العثماني محي الدين الريس بكتابة "كتاب البحرية"، وصف فيه خرائط تفصيلية للبحر الأبيض المتوسط وكان ذلك سنة 1554م.
- أما الأميرال العثماني الكابتن سيد علي قام بكتابة "كتاب المحيط"، وصف فيه المحيط الهندي وكان ذلك سنة 1562م.
- وصدر عن الملاح الكويتي عيسى القطاني كتاب "دليل المحتار في علم البحار"، شرح فيه عن الملاحة والغوص وتجارة اللؤلؤ وبعض العادات والتقاليد في الخليج العربي وكان ذلك سنة 1915م.

وقد عمل الغزاة والمستعمرين من البرتغال بعد اكتشاف رأس الرجاء الصالح بملاحقة المراكب العربية وقطع الطريق عليها ومهاجمتها بغرض القرصنة و النهب. كما فرضوا حصار على مدخل الخليج العربي والبحر الأحمر لغرض شل الحركة التجارية، وبعد هذه الحوادث لم تعد المراكب العربية على أن تجرؤ على الابتعاد عن السواحل، وبعد هذه السيطرة البرتغالية مائة سنة كانت هذه المدة كافية لفقد الملاحة العربية للمعلمين والربابنة الذين يجيدون فن الملاحة الليلية بقياس النجوم والرحلات الطويلة.

موقع قصة الاسلام
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

كلنا اخوة​
السلام عليكم

سليمان القانوني .. سلطان العالم

في تاريخ الإسلام وعلى مدار أربعة عشر قرنا برز العديد من العظماء الذين قلَّما يجود الزمان بمثلهم، قد تُعرف أسماؤهم في زماننا هذا وتُجهل أفعالهم أو تزيَّف وتشوَّه من قِبَل الإعلام الهزيل، وتظل الحقيقة غائبة في بطون أمهات الكتب. أحد هؤلاء هو السلطان العثماني سليمان القانوني، السلطان الذي ظلمه الإعلام فوجب إجلاء الوجه الحقيقي له وإبراز أعماله الجليلة في خدمة الإسلام والمسلمين.

سليمان خان .. حياة من الفتوحات
سليمان خان هو الابن الأوحد للسلطان سليم الأول الملقب بياووز (أي الشجاع)، وقد كفل هذا للأمير الصغير تلقيه تعليما جيدا وتربية إسلامية سلطانية فائقة لكونه ولي العهد الوحيد. تولى سليمان الحكم بعد وفاة والده عام 1520م وكان والده قد أورثه خزينة سلطانية ممتلئة عن آخرها وجيشا قويا مخلصا في البر والبحر؛ مما ساعد سليمان في ردع الثورات التي قامت ضده في بداية حكمه في مصر والأناضول.

فطن السلطان سليمان القانوني إلى ضرورة تغيير بوصلة الجهاد التي عقدها والده صوب الجنوب والشرق، عندما شاهد إمبراطورية تشارلز الخامس تتوسع وتنمو لتُجهِز على الدولة الإسلامية، فاتجه سليمان بجيوشه صوب أوروبا ليكون الغرب هو وجهة معظم حملاته الحربية، فقضى هذا السلطان، الذي صوّرته الدراما على أنه زير نساء وألعوبة في أيديهم، جميع مراحل عمره تقريبا في الخروج إلى الغزوات والفتوحات، وقد استطاع سليمان أن يحجز لنفسه مكانة مرموقة بين السلاطين العثمانيين بفضل ثلاثة عشر غزوة كبرى خرج فيها بنفسه على مدار حياته، بدأها بفتح بلجراد، وانتهى بسيكتوار.

ويذكر المؤرخون أن عدد ما فتحه سليمان القانوني في حياته من الحصون والقلاع والمدن يناهز 360 حصنا، وفي عهده وصلت جيوش المسلمين إلى قلب أوروبا عند أسوار فيينا مرتين حتى أنه لُقِّب حينها بمجدد جهاد الأمة. وقد ذكر أحد المؤرخين أنه في القرن السادس عشر كان يمكن لزائر من المريخ أن يظن أن عالم البشر على وشك أن يصبح مسلما، كناية عما فعله سليمان القانوني من أجل الإسلام.

السلطان العظيم
لَعِب التطور الذي أحرزه السلطان سليمان في عهده على الصعيدين السياسي والعسكري، والذي انعكس بدوره على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، دورا متميزا في الموازنة بين البلدان الأوروبية، وكان له إسهام قوي في تشكيل أوروبا الحديثة، حتى أن الأوروبيين كانوا يطمحون لتأسيس دولة عالمية على طراز الدولة العثمانية المترامية الأطراف في عهده، وهو الذي جعلهم، برغم خصومتهم الشديدة معه، يطلقون عليه لقب السلطان العظيم.

حضرة السلطان
ويكفي سليمان القانوني فضلا اهتمامه البالغ بالدولة الإسلامية السنية في مواجهة الدولة الصفوية الشيعية، التي كانت بدورها قد بدأت في إقامة تحالفات مع النمسا والإمبراطورية الرومانية، وقامت بعقد المؤامرات لتأليب عدد من البكوات في الأناضول ضد الدولة العثمانية، الأمر الذي جعل سليمان يحشد جيوشه ضد الصفويين، ودخلت الجيوش السنية بقيادة الصدر الأعظم إبراهيم باشا مدينة تبريز ظافرة، ولم يملك الشاه الصفوي طهماسب إلا الفرار إلى داخل بلاد فارس. إلا أنه من الجدير بالذكر أن الشاه طهماسب كان لا يذكر سليمان إلا بقوله "حضرة السلطان"، رغم العداء الشديد بينهما، وكان يبرر ذلك بأنه معجب كثيرا بغزواته الناجحة، وأنه يعتبره بيرق الغزاوت في الغرب.

لماذا لقِّب بـالقانوني؟
يحسب للسلطان سليمان القانوني تقديره لأهل الكفاءة وتعيينه لهم في مناصب عليا بالدولة، كتعيينه لخير الدين بربروس قائدا للقوات البحرية العثمانية، الذي أضحت السيادة والسيطرة في البحر المتوسط في عهده للدولة العثمانية بلا منازع وخاصة بعد نصر بريفيزا الشهير عام 1538م، والذي ما زال يُحتفل به حتى الآن في تركيا باسم يوم القوات البحرية التركية.

ويحسب له أيضا تعيينه للمعماري العظيم سنان باشا، الذي يعد واحدا من أعظم المعماريين في تاريخ العالم. وشهد عهد سليمان الطويل، الذي دام ستة وأربعين عاما، قمة ازدهار الفنون والثقافة العثمانية، وانتشرت حركة الإعمار والبناء في الولايات العثمانية على مدى اتساعها، ولا شك أن أكبر مشروعاته هي تلك التي تمَّت في الأراضي المقدسة، فقد أمر بترميم المسجد الأقصى وجامع قبة الصخرة في القدس والحرم المكي، فشيِّدت الملاجئ لاستضافة الحجاج وأنشئت الحمامات العامة. كما قام بتحصين الأسوار القائمة حول المدينة المنورة لحمايتها من قطَّاع الطرق، بالإضافة لترميمات واسعة في المسجد النبوي، واتخذ إجراءً يعتبر الأول من نوعه، حيث أوقف مبلغا سنويا لأجور الأشخاص الذين يخدمون في الحرم، وغيرها من الخدمات الجليلة الأخرى.

لقد اكتسب سليمان لقب "القانوني"، الذي اشتهر به واقترن باسمه، نظرا للقوانين التي وضعها لتنظيم الحياة في دولته الكبيرة، وكان شديد الحرص على اتفاق تلك القوانين مع الشرعية الإسلامية، وإجلالا لمساهماته التي لا يستطيع أحد إنكارها، فإن هناك نقشا غائرا يزين مجلس النواب الأمريكي وهو واحد من النقوش الثلاثة والعشرين التي تكرم سانِّي القوانين عبر التاريخ.

أحب أن أموت غازيا في سبيل الله
في أواخر أيامه اشتد بالسلطان سليمان القانوني المرض فكان لا يستطيع ركوب الخيل، وكان قد تجاوز عقده السابع، إلا أنه عندما علم بأن ملك هابسبرج أغار على ثغر من ثغور المسلمين، أصر على الثأر وقيادة الجيش بنفسه حتى وصل إلى مدينة سكتوار المجرية، وكان طبيبه قد نصحه بعدم الخروج إلا أن جواب السلطان الذي خلَّده له التاريخ كان: "أحب أن أموت غازيا في سبيل الله"، فتحامل رحمه الله على نفسه إظهارا للقوة أمام أعدائه، ووافته المنية أثناء الغزوة في الخامس من سبتمبر 1566م.

بشكل يليق بعظمة سلطان قضى عمره في الجهاد في سبيل الله ونصرة الإسلام، سلطان جاب العالم كله فاتحا حتى استحق عن جدارة لقب سلطان العالم.

موقع قصة الاسلام
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

الصحابة جنود الإسلام

تتلخص مزايا الجندي المتميز بما يلي: عقيدة راسخة، ومعنويات عالية، وضبط متين، وتدريب جيّد، وتنظيم سليم، وتسليح جيد. تلك هي مزايا الجندي المتميز في كل زمان ومكان، فهل كان جنود النبي صلى الله عليه وسلم يتحلون بهذه المزايا العالية التي تجعلهم جيشا قويًّا رصينًا، وهل كانوا يختلفون في شيء من ذلك عن العرب الذين ينتمون إليهم؟

والحق أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي جعل جيش المسلمين يتحلى بكل هذه المزايا الرفيعة، فقد بذل غاية الجهد ليغرس كل هذه المزايا في نفوس المسلمين، وبذلك كوَّن منهم قوة لا تغلب، وكانوا قبل حين كغيرهم من القبائل الأخرى، تطغى عليهم الأنانية الفردية، ولا يعرفون معنى الضبط والنظام، وليست لديهم عقيدة بالمعنى الصحيح. ليس من السهل أبدا، أن ينجح إنسان في تبديل نفسية رجاله من حال إلى حال إلا بعون الله، ونجاحه هذا هو معجزة واقعية أكبر وأعظم من معجزات الخيال.

أ- عقيدة راسخة
آمن المسلمون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم، فهم يقاتلون لحماية ما آمنوا به من العدوان، حتى تكون كلمة الله هي العليا؛ وفي سبيل الدفاع عن عقيدتهم التي آمنوا بها كل الإيمان، تركوا أوطانهم وأموالهم وعرَّضوا أنفسهم للخطر، وقاتلوا حتى أولادهم وأهليهم وعشيرتهم. لقد بذلوا كل شيء رخيصا في سبيل الدين الذي اعتنقوه.

التقى الآباء بالأبناء والإخوة بالإخوة والأهل بالأهل: خالفت بينهم المبادئ ففصلت بينهم السيوف. كان أبو بكر الصديق رضي الله عنه مع المسلمين، وكان ابنه عبد الرحمن مع المشركين. وكان عتبة بن ربيعة مع قريش، وكان ابنه حذيفة مع المسلمين. وعندما استشار النبي صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مصير أسرى بدر، قال عمر: "أرى أن تمكنِّي من فلان -قريب عمر، فأضرب عنقه، وتمكِّن عليًّا من أخيه عقيل بن أبي طالب فيضرب عنقه، وتمكِّن الحمزة من فلان أخيه فيضرب عنقه، حتى يعلم الله أنه ليست في قلوبنا هوادة للمشركين".

ولما سحبوا جثة عتبة بن ربيعة الذي قتل يوم بدر؛ لتدفن في القليب، نظر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى ابنه حذيفة بن عتبة فإذا هو كئيب قد تغيَّر لونه. فقال له: "يا حذيفة! لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء؟" قال حذيفة رضي الله عنه: "لا والله يا رسول الله فما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك للإسلام؛ فلما رأيت ما أصابه، وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له، أحزنني ذلك".

وفي غزوة بني المصطلق، حاول عبد الله بن أبي رأس المنافقين أن يثير الفتنة بين المهاجرين والأنصار، فأصدر الرسول صلى الله عليه وسلم أمره بالحركة فورا حتى لا يستفحل أمر الفتنة. وعند وصول المسلمين إلى المدينة، تقدّم عبد الله بن عبد الله بن أبيّ يطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمره بقتل أبيه لأنه حاول إشعال نار الفتنة، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم عفا عنه قائلا لولده المؤمن: "إنا لا نقتله، بل نترفّق به ونحسن صحبته ما بقي معنا".

وفي غزوة بني قريظة طلب يهود حضور أبي لبابة لاستشارته، فسمح الرسول صلى الله عليه وسلم له بالذهاب إليهم. وسأله يهود: هل ينزلون على حكم محمد؟ قال لهم: (نعم) ، وأشار إلى حلقه كأنه ينبههم إلى أن مصيرهم الذبح. لم يعرف أحد من المسلمين بإشارة أبي لبابة هذه إلى حلقه حين استشاره يهود، ولكنه أدرك لفوره بأنه خان الله ورسوله بإشارته تلك، فمضى هائما على وجهه حتى ربط نفسه إلى سارية في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم، وبقي على حاله هذا حتى تاب الله عليه.

وقبيل غزوة فتح مكة جاء أبو سفيان بن حرب إلى المدينة، فقصد دار أم حبيبة ابنته وزوج الرسول صلى الله عليه وسلم، لكنها طوت الفراش عن والدها، لأنها رغبت بالفراش عن مشرك نجس ولو كان هذا المشرك أباها الحبيب.

لقد أنفق المسلمون أموالهم في سبيل الله، حتى تخلّل أبو بكر الصديق رضي الله عنه بالعباءة، وكان يملك أربعين ألف دينار قبل الإسلام. فما الذي يدفع لمثل هذه الأعمال الرائعة غير العقيدة الراسخة والإيمان العظيم؟ وهل يقاتل أصحاب مثل هذه العقيدة كما يقاتل الذين لا عقيدة لهم إلا أهواء الجاهلية وعصبية الأنانية وحب الفخر والظهور؟ إن عقيدة المسلمين بسمو أهدافهم جعلتهم يستميتون في القتال دفاعا عن تلك الأهداف.

ب- معنويات عالية
لا قيمة لأي جيش مهما يكن ضخما في عدده، دقيقا في تنظيمه، متميزا في تسليحه ما لم تكن معنوياته عالية. كان الجيش الإيطالي في الحرب العالمية الثانية مجهزا بأحدث الأسلحة وأشدها فتكا، وكان تنظيمه دقيقا وعدده كبيرا، ولكن معنوياته كانت منهارة؛ فأصبح عبئا ثقيلا على الألمان، فكان الحلفاء يطلقون على المواضع التي يحتلها الإيطاليون تعبير: (الفراغ العسكري)؛ لأنهم كانوا يستسلمون دون قتال، كلما حاق بهم الخطر الحقيقي أو الوهمي ... فكان وجودهم وعدم وجودهم سواء.

شجّع الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه قبل معركة بدر وفي أثنائها وقوّى معنوياتهم، حتى لا يكترثوا بتفوق قريش عليهم في العدد، فكانت معنويات المسلمين عالية في تلك المعركة. حتى معنويات الأحداث الصغار منهم كانت عالية للغاية كما رأيت في تسابق ابني عفراء لقتل أبي جهل. هل كان بإمكان المسلمين الانتصار في غزوة بدر، والقيام بمطاردة المشركين بعد يوم من غزوة أحد، والصمود في غزوة الأحزاب، والإقدام على غزوة تبوك، لو لم تكن معنوياتهم عالية جدا؟

وكما عمل الرسول صلى الله عليه وسلم على رفع معنويات أصحابه بشتى الطرق والمناسبات، عمل على تحطيم معنويات أعدائه بشتى الطرق والمناسبات أيضا؛ وما كانت غزوة الحديبية وعمرة القضاء وغزوة تبوك إلا معارك معنويات لا معارك ميدان. إن عمرة القضاء فتحت قلوب أهل مكة، لأنها حطّمت معنوياتهم، وغزوة الفتح فتحت أبواب مكة. كما أن نتيجة غزوة تبوك اندحار معنوي للروم، وبذلك اطمأن العرب إلى أن بإمكانهم مقاتلة الروم، وكانوا سابقا يظنون أن ذلك من المستحيلات.

لقد استهدف الرسول صلى الله عليه وسلم في كل غزواته تحطيم معنويات أعدائه، بل إنه كان يستهدف تحطيم المعنويات أكثر مما كان يستهدف تحطيم القوى المادية، لأنه كان يطمع دائما في عودة أعدائه إلى الصراط المستقيم والهداية، فيحرص على بقائهم أحياء طمعا في هدايتهم: "اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون". إن أكثر غزوات الرسول صلى الله عليه وسلم كانت معارك معنويات تؤثر في النفوس والقلوب لا معارك خسائر تؤثر على الأرواح والممتلكات.

ويجب ألا ننسى هنا أثر اعتقاد المسلمين بالقضاء والقدر في رفع معنوياتهم لاقتحام الأخطار بشجاعة خارقة، لأن المقدّر سيكون حتما والشهيد في الجنة، وإنما هي إحدى الحسنيين، النصر أو الشهادة: {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا} [التوبة: 52].

ج- ضبط متين
كان المسلمون يطيعون النبي صلى الله عليه وسلم إطاعة لا حدود لها، وينفّذون أوامره حرفيا بدون تردّد وبكل حرص وأمانة مهما تكن ظروفهم صعبة وواجباتهم شاقة. وليس هناك ما يبرّر ذكر أمثلة على قوة ضبط المسلمين، لأن الأمثلة على ذلك أكثر من أن تحصى، ولأن الإطاعة في الإسلام دين: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59].

د- تدريب راق
اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم بتدريب أصحابه على الرمي وركوب الخيل، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام: "من ترك الرمي بعد ما علمه، فإنما هي نعمة كفرها". ولم يقتصر الرسول صلى الله عليه وسلم على حثّ أصحابه للتدريب المستمر على الرمي وركوب الخيل وهو ما نسميه في الوقت الحاضر: بالتدريب الفردي ... بل درّبهم على تشكيلات مسير الاقتراب وأساليب القتال وواجبات الحراسات والخفراء، وهو ما نسميه في الوقت الحاضر: بالتدريب الإجمالي.

اتخذ التشكيلات التعبوية المناسبة في مسير الاقتراب في كل غزواته، فأمّن بذلك الحماية اللازمة لقواته وحرم العدو من مباغتتها. وقاتل بأسلوب (الصفوف) في معركة بدر ومعركة أحد وفي أكثر غزواته الأخرى، ونظّم المواضع الدفاعية وراء الخندق في غزوة الأحزاب وأمّن حراسة النقاط الخطيرة من الخندق. وقام بقتال المدن والأحراش في قتاله ضد يهود، كما قامت سرية أبي سلمة رضي الله عنه بالهجوم فجرا على بني أسد، والنجاح في هذين القتالين يدلّ على تدريب راق.

كما قام بمسيرات طويلة شاقة في مختلف الظروف والأحوال ليلا ونهارا، مما يمكن اعتباره تدريبا عنيفا. كل هذا التدريب الفردي والإجمالي والتدريب العنيف جعل تدريب المسلمين راقيا، وجعلهم قادرين على القتال بكفاية في مختلف الظروف والأحوال.

هـ- تنظيم سليم
كان جيش المسلمين مؤلفا من المهاجرين والأنصار ومسلمي أكثر القبائل المعروفة حينذاك، ومعنى ذلك: أن جيش المسلمين كان مؤلفا من كل القبائل العربية لا من قبيلة واحدة، لهذا فإن انتصاره لا يعدّ فخرا لقبيلة دون أخرى، كما أن إخفاق أية قبيلة في التغلّب عليه لا يعدّ عارا عليها، لأن هذا الجيش لم يكن لقبيلة دون أخرى، بل لم يكن للعرب دون غيرهم، إنما كان للإسلام ولمعتنقي هذا الدين من العرب وغيرهم.

إنني أعتقد أن هذا التنظيم الذي لا يخضع إلا للعقيدة الموحّدة فقط دون غيرها من المؤثرات، جعل القبائل كلها لا تحرص على مقاومة جيش المسلمين حرصها على مقاومة قبيلة خاصة، وهذا سهّل مهمة المسلمين في القتال.

و- تسليح جيد
أصبح تسليح المسلمين بالتدريج جيدا، بعد أن كان المشركون متفوّقين على المسلمين بالتسليح حتى انتهاء غزوة الخندق. يكفي أن نسمع وصف الكتيبة الخضراء التي كان على رأسها النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة الفتح، فقد كان أفرادها لا يرى منهم إلا الحدق من الحديد.

وقد شجّع الرسول صلى الله عليه وسلم على صناعة السلاح فقال: "إن الله ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه المحتسب في عمله الخير، والرامي به، والمعدّ له؛ فارموا واركبوا، وأن ترموا أحبّ إليّ من أن تركبوا".
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

تعريف بكتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء

كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء من أشهر مؤلفات الحافظ أبي نعيم الأصبهاني (336هـ - 443هـ)، حتى أصبح الكتاب يضاف إليه كالنسب، فيقال "أبو نعيم صاحب الحلية".

موضوع كتاب حلية الأولياء
يستمد كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء من عنوانه ومن مادته العلمية، فاسمه ينبئ عن موضوعه، وهو بيان طبقات الأصفياء، وهم عند أبي نعيم شيوخ الصوفية سواءً كانت تلك النسبة على الحقيقة أو ممن اشتهر بالزهد والورع، قال في مقدمة كتابه :" فقد استعنت بالله عز وجل وأجبتك إلى ما ابتغيت من جمع كتاب يتضمن أسامي جماعة وبعض أحاديثهم وكلامهم من أعلام المتحققين من المتصوفة وأئمتهم وترتيب طبقاتهم من النساك ومحجتهم من قرن الصحابة والتابعين وتابعيهم ومن بعدهم ممن عرف الأدلة والحقائق وباشر الأحوال والطرائق وساكن الرياض والحدائق وفارق العوارض والعلائق" [1].

وقد وضع أبو نعيم للكتاب مقدمة اشتملت على بيان سبب تأليف الكتاب، والكلام عن منزلة الأولياء وصفاتهم ونعوتهم، وبيان معنى التصوف وحدوده وأصل اشتقاقه، وأنواع كلام المتصوفة.

قيمة الكتاب العلمية وعناية العلماء به
يعد كتاب حلية الأولياء موسوعة علمية ضخمة؛ وذلك بما حواه من مادة علمية غزيرة متعددة الجوانب، موزعة على أكثر من أربعة آلاف صفحة في النسخة المطبوعة من الكتاب.

ومن أبرز جوانب قيمته العلمية
أن كل ما فيه من أحاديث قدسية أو مرفوعة أو موقوفة أو مقطوعة يرويها مصنف الكتاب بأسانيده إلى أصاحب تلك الأقوال أو الأفعال، فمادته ثروة علمية كبيرة في حفظ الآثار. واشتمل الكتاب على رواية عدد كبير من الأحاديث من طرق تفرد بها أصحابها من الغرائب والتي قلما توجد مسندة إلا في كتاب حلية الأولياء.

احتوى الكتاب على ذكر طائفة من رواة الحديث وجاءت في تراجمهم بعض العناصر المهمة في تراجم الرواة كذكره لنسب الراوي، وما وصف به من العبادة والصلاح، وتزكية أهل العلم له، والتي يستفاد منها في معرفة عدالة الراوي، و يذكر في التراجم بعض الشيوخ، والتلاميذ، وسني الوفاة، والتي يستفاد منها في معرفة طبقات الرواة، والمتقدم والمتأخر منهم.

احتوى الكتاب على جملة وافرة من أحاديث الأحكام، ولذلك جمعها الهيثمي وابن حجر في كتاب تقريب البغية بترتيب أحاديث الحلية. ومما يزيد من قيمة الكتاب العلمية شهرة مصنفه أبي نعيم الأصبهاني؛ الذي بلغ مبلغًا عظيمًا، ومكانة مرموقة في رواية حديث النبي صلى الله عليه وسلم.

وقد نال كتاب حلية الأولياء شهرة كبيرة في حياة مؤلفه وبعدها، حتى قيل فيه: "لما صنف كتاب الحلية حمل إلى نيسابور في حياته فاشتروه بأربعمائة دينار". وقال أبو طاهر السلفي: "لم يصنف مثله". وأثنى عليه حاجي خليفة فقال: "وهو كتاب حسن معتبر". وقال السبكي: "ومن مصنفاته حلية الأولياء، وهو من أحسن الكتب، كان الشيخ الإمام الوالد رحمه الله كثير الثناء عليها، ويحب تسميعها" [2].

جهود العلماء على كتاب حلية الأولياء
ولأهمية كتاب حلية الأولياء وطبقات الأصفياء فقد قام الكثير من العلماء باختصاره أو التعقيب عليه، أو نقده، ومنها:

1- صفة الصفوة لأبي الفرج عبد الرحمن بن الجوزي (ت 597هـ ).
2- أحسن المحاسن، مختصر للكتاب اختصره ابن أحمد الرقي (ت 703 هـ ).
3- مجمع الأحباب وتذكرة أولي الألباب، مختصر للكتاب اختصره محمد بن حسن بن عبد الله الحسيني الواسطي (ت 776هـ).
4- المقتضب من حلية الأولياء، لأبي الحسين محمد بن عبيد الله النفزي الشهير بابن قابوش.
5- تقريب البغية بترتيب أحاديث الحلية، للحافظ علي بن أبي بكر الهيثمي (ت 807 هـ).
6-نظم رجال الحلية، لمحمد بن جابر، مؤلف في سنة 793 هـ.
7- أربعون حديثًا في النهي عن الظلم، منتخبة من حلية الأولياء لأبي نعيم، لمؤلف مجهول.
8- البغية في ترتيب أحاديث الحلية، وهو فهرس لأحاديث الكتاب أعده عبد العزيز بن محمد بن صديق الغماري. 9- أبو نعيم وكتابه الحلية، كتبه د. محمد بن لطفي الصباغ. 10- مختصر حلية الأولياء، لعلي بن عبد الحميد بلطه جي. 11- تهذيب حلية الأولياء، لصالح بن محمد الشامي. 12- كمال البغية في أحاديث الحلية (تجريد، وترتيب، وتخريج)، كتبه د. مخيمر صالح. 13- الأقوال الواردة عن السلف في العقيدة في كتاب حلية الأولياء لأبي نعيم جمعًا وتحقيقًا ودراسة، لمحمد بن بو بكر بن عمر بنعلي. 14- فهارس حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، إعداد السعيد بسيوني زغلول.

منهج أبي نعيم في كتاب حلية الأولياء
أولًا: منهجه في ترتيب التراجم
بدأ بتراجم العشرة المبشرين بالجنة، ثم بقية الصحابة على غير ترتيب معين. ثم انتقل إلى الكلام عن أهل الصفة، وذكرهم مرتبين على حروف الهجاء، واستفاد ممن سبقه في ذكر أهل الصفة، وهما أبو عبد الرحمن السلمي، وأبو سعيد الأعرابي ثم استدرك عليهما بعض الأسماء التي لم يذكراها. وختم تراجم الصحابة بذكر جملة الصحابيات رضوان الله عليهن. أعقب ذلك بذكر تراجم الطبقة الأولى من التابعين، بدأ بترتيبهم على البلدان فقدم تابعي البصرة ثم تابعي المدينة ثم تابعي الكوفة. ولم يلتزم ترتيبًا معينًا بعد ذلك.

ثانيًا: عناصر الترجمة
أغلب التراجم التي في الكتاب تحوي عناصر تكاد أن تكون متحدة في الترتيب كما يلي:-

يبدأ باستخدام حروف العطف لبيان انتساب المترجم له للصوفية، ثم يصفه بأوصاف مسجوعة، ويبين اسمه وشيئًا من نسبه وبلده، مثل قوله: "فمنهم حبيب أبو محمد الفارسي من ساكني البصرة كان صاحب المكرمات مجاب الدعوات".

ثم يذكر جملة من الأخبار الواردة في فضل المترجم له، وبعض ألفاظ التعديل الواردة فيه، ويذكر شيئًا من وصف حاله من العبادة والزهد، تقل وتكثر هذه الأخبار حسب ما اشتهر عن المترجم له. وإذا كان المترجم له ممن اشتغل بالرواية فيذكر بعد ذلك أسماء من روى عنهم، ثم يورد جملة من الأحاديث التي رواها المترجم له من غير ترتيب معين لا في الإسناد ولا في المتن أو عدد محدد لها.

ثالثًا: منهجه في تخريج الأحاديث
لم يخل أبو نعيم رحمه الله كتابه من فوائد علمية تتعلق بالأحاديث الشريفة ومن عنايته بها فقد تكلم على كثير من الأحاديث من حيث شهرتها من بعض الطرق وغرابتها، وله في ذلك منهج يمكن وصفه كما يلي:

- رواية الأحاديث بأسانيده عن شيوخه.
- الحكم على الأحاديث، ومن عباراته في ذلك: ثابت صحيح، متفق عليه، صحيح متفق عليه على شرط الجماعة.

[12] حلية الأولياء، 1 /3 - 4.
[13] سير أعلام النبلاء، 17/ 459. طبقات الشافعية الكبرى، 4/19. تذكرة الحفاظ، 3/1094. طبقات الشافعية، 4/22. كشف الظنون، 1/689.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

أهل الصفة فقراء المهاجرين

من هم أهل الصفة؟
أعقب هجرة المسلمين من مكة إلى المدينة المنورة ظهور مشكلة تتعلق بمعيشة المهاجرين الذين تركوا بيوتهم وأموالهم ومتاعهم بمكة فرارًا بدينهم من طغيان المشركين. ولا شك أن بعض المهاجرين لم يستطيعوا العمل حال قدومهم إلى المدينة لأن الطابع الزراعي يغلب على اقتصاد المدينة وليست للمهاجرين خبرة زراعية فمجتمع مكة تجاري، كما أنهم لا يملكون أرضًا زراعية في المدينة وليست لديهم رءوس أموال فقد تركوا أموالهم بمكة. وقد وضع الأنصار إمكانياتهم في خدمة المهاجرين لكن بعض المهاجرين بقى محتاجًا إلى المأوى.

واستمر تدفق المهاجرين إلى المدينة خاصة قبل موقعة الخندق حيث كان الكثير منهم يستقرون في المدينة كما طرقت الوفود الكثيرة المدينة، ومنهم من لم يكن على معرفة بأحد من أهل المدينة فكان هؤلاء الغرباء بحاجة إلى مأوى دائم أو مدة إقامتهم. ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم فكر في إيجاد المأوى للفقراء المقيمين والوفود الطارقين.

أين موقع أهل الصُّفَّة؟
وحانت الفرصة عندما تم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة المشرفة وذلك بعد ستة عشر شهرًا من هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة حيث بقى حائط القبلة الأولى في مؤخر المسجد النبوي، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم به فظلل أو سقف وأطلق عليه اسم الصفة أو الظلة، ولم يكن لها ما يستر جوانبها.

ويذكر ابن جبير في رحلته أن الصفة دار في آخر قباء يسكنها أهل الصفة، وتأول السمهودي ذلك بأن من ذكر من أهل الصفة اتخذوا تلك الدار فيما بعد فاشتهرت بذلك، أي أن المكان الذي ذكره ابن جبير نسب إلى أهل الصفة ولم ينسبوا هم إليه، لأن نسبتهم كانت إلى صفة المسجد النبوي بالمدينة.

ولا يعرف سعة الصفة، ولكن يبدوا أنها كانت تتسع لعدد كبير حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم استخدمها في وليمة حضرها ثلاثمائة شخص، وإن كان بعضهم قد جلس في حجرة من حجرات أزواج النبي صلى الله عليه وسلم الملاصقة للمسجد.

من هم سكان الصفة؟
أول من نزل الصفة المهاجرون، لذلك نسبت إليهم فقيل صفة المهاجرين. وكذلك كان ينزل بها الغرباء من الوفود التي كانت تقدم على النبي صلى الله عليه وسلم معلنة إسلامها وطاعتها، وكان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وكان له عريف نزل عليه. وإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة. فكان أبو هريرة رضي الله عنه عريف من سكن الصفة من القاطنين ومن نزلها من الطارقين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد دعوتهم عهد إلى أبي هريرة فدعاهم لمعرفته بهم وبمنازلهم ومراتبهم في العبادة والمجاهدة. وإلى جانب المهاجرين والغرباء نزل بعض الأنصار في الصفة حبًا لحياة الزهد والفقر رغم استغنائهم عن ذلك ووجود دار لهم في المدينة، ومنهم كعب بن مالك الأنصاري وحنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة) وحارثة بن النعمان الأنصاري وغيرهم.

ولأن أهل الصفة كانوا أخلاطًا من قبائل شتى سماهم النبي صلى الله عليه وسلم (الأوفاض) وقيل في سبب هذه التسمية أيضًا إن كل واحد منهم كان معه وفضة: وهي مثل الكنانة الصغيرة يلقى فيها طعامه لكن القول الأول أجود.

عدد أهل الصفة
كان عددهم يختلف باختلاف الأوقات، فهم يزيدون إذا قدمت الوفود إلى المدينة ويقلون إذا قل الطارقون من الغرباء، على أن عدد المقيمين منهم في الظروف العادية كان في حدود السبعين رجلًا. وقد يزيد عددهم كثيرًا حتى أن سعد بن عبادة كان يستضيف وحده ثمانين منهم فضلًا عن الآخرين الذين يتوزعهم الصحابة.

ويذكر السمهودي أن أبا نعيم سرد أسماءهم في الحلية فزادوا على المائة. لكن عدد من سماهم أبو نعيم اثنان وخمسون فقط منهم خمسة نفى أبو نعيم أن يكونوا من أهل الصفة. وأبو نعيم وحده الذي يقدم إلينا قائمة طويلة بأسماء المشهورين من أهل الصفة، وهو ينقل من مصدر أسبق لا يصرح باسمه، ولعله الكتاب الذي صنفه أبو عبد الرحمن السلمي (ت 412 هـ) في أهل الصفة.

أسماء أهل الصفة
وفيما يلي قائمة بأسماء أهل الصفة كما ذكرها أبو نعيم مضافًا إليهم من ذكرتهم بقية المصادر ممن لم يذكر أبو نعيم:

1- أبو هريرة رضي الله عنه حيث نسب نفسه إليهم.
2- أبو ذر الغفاري رضي الله عنه حيث نسب نفسه إليهم.
3- واثلة بن الأسقع.
4- قيس بن طهفة الغفاري، حيث نسب نفسه إليهم.
5- كعب بن مالك الأنصاري.
6- سعيد بن عامر بن حذيم الجمحي.
7- سلمان الفارسي رضي الله عنه.
8- أسماء بنت حارثة بن سعيد الأسلمي.
9- حنظلة بن أبي عامر الأنصاري (غسيل الملائكة).
10- حازم بن حرملة.
11- حارثة بن النعمان الأنصاري النجاري.
12- حذيفة بن أسيد أبو سريحة الأنصاري.
13- حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وهو من المهاجرين حالف الأنصار فعد في جملتهم.
14- جارية بن جميل بن شبة بن قرط.
15- جعيل بن سراقة الضمري.
16- جرهد بن خويلد (وقيل بن رزاح) الأسلمي.
17- رفاعة بن لبابة الأنصاري، وقيل اسمه بشير بن عبد المنذر من بني عمرو بن عوف.
18 – عبد الله ذو البجادين.
19- دكين بن سعيد المزني وقيل الخثعمي.
20- خبيب بن يساف بن عنبة.
21- خريم بن أوس الطائي.
22- خريم بن فاتك الأسدي.
23- خنيس بن حذافة السهمي.
24- خباب بن الأرت.
25- الحكم بن عمير الثمالي.
26- حرملة بن أياس، وقيل هو حرملة بن عبد الله العنبري.
27- زيد بن الخطاب.
28- عبد الله بن مسعود.
29- الطفاوي الدوسي.
30- طلحة بن عمرو النضري.
31- صفوان بين بيضاء الفهري.
32- صهيب بن سنان الرومي.
33 – شداد بن أسيد.
34- شقران مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
35- السائب بن خلاد.
36- سالم بن عمير من الأوس من بني ثعلبة بن عمرو بن عوف.
37- سالم بن عبيد الأشجعي.
38- سفينة مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
39- سالم مولى أبي حذيفة.
40- أبو رزين.
41- الأغر المزني.
42- بلال بن رباح.
43- البراء بن مالك الأنصاري.
44- ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم.
45- ثابت بن وديعة الأنصاري.
46- ثقيف بن عمرو بن شميط الأسدي.
47- سعد بن مالك أبو سعيد الخدري رضي الله عنه.
48- العرباض بن سارية.
49- غرفة الأزدي.
50- عبد الرحمن بن قرط.
51- عباد بن خالد الغفاري.

انقطاعهم للعلم والعبادة والجهاد
ينقطع أهل الصفة للعلم ويعتكفون في المسجد للعبادة ويألفون الفقر والزهد، فكانوا في خلواتهم يصلون ويقرأون القرآن ويتدارسون آياته ويذكرون الله تعالى، ويتعلم بعضهم الكتابة حتى أهدى أحدهم قوسه لعبادة بن الصامت رضي الله عنه لأنه كان يعلمهم القرآن والكتابة، واشتهر بعضهم بالعلم وحفظ الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل أبي هريرة رضي الله عنه الذي عرف بكثرة تحديثه، وحذيفة بن اليمان الذي اهتم بأحاديث الفتن.

لكن انقطاع أهل الصفة للعلم والعبادة لم يعزلهم عن المشاركة في أحداث المجتمع والإسهام في الجهاد، بل كان منهم الشهداء بغزوة بدر مثل صفوان بن بيضاء، وخريم بن فاتك الأسدي وخبيب بن يساف وسالم بن عمير وحارثة بن النعمان الأنصاري، ومنهم من استشهد بغزوة أحد مثل حنظلة الغسيل، ومنهم من شهد الحديبية مثل جرهد بن خويلد وأبو سريحة الغفاري، ومنهم من استشهد بغزوة خيبر مثل ثقف بن عمرو، ومنهم من استشهد بغزوة تبوك مثل عبد الله ذو البجادين، ومنهم من استشهد بمعركة اليمامة مثل سالم مولى أبي حذيفة وزيد بن الخطاب، نعم هكذا كانوا رهبانا في الليل فرسانا في النهار.

ملابس أهل الصفة
لم يكن لأهل الصفة من الملابس ما يقيهم من البرد أو يسترهم سترًا كاملًا، فليست عندهم أردية. وما لأحد منهم ثوب تام. فكانوا يربطون في أعناقهم الأكسية أو البرد، أو يأتزرون بالأزر، أو الكساء، فمنهم من تغطي منهم ما يبلغ نصف الساقين وأحيانًا قد لا يبلغ الركبتين، وتذكر المصادر أنهم كانوا يلبسون الحِوْتكية وهي عمَّة يُتعمم بها. والحنف وهي برد شبه اليمانية تعمل من نوع غليظ من أردأ الكتان، وكانوا يخجلون من الظهور بملابسهم احيانًا لأنها لا تسترهم سترًا كاملًا. وسرعان ما كانت تتسخ ملابسهم فجوانب الصفة كانت مكشوفة للهواء والتراب حتى اتخذ العرق من جلودهم طوقًا من الوسخ والغبار.

طعام أهل الصفة
كان جل طعامهم التمر، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يجري لكل رجلين منهم مدًا من تمر في كل يوم، وقد اشتكوا من أكل التمر وقالوا إنه أحرق بطونهم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستطع أن يوفر لهم طعامًا غيره فصبرهم وواساهم ، وكان كثيرًا ما يدعوهم إلى تناول الطعام في بيته، لكنه لم يتمكن من تقديم الطعام الجيد لهم فلم يكون يوسع على نفسه وأهله بالنفقة، ففي بعض المرات سقاهم لبنًا، ومرة أطعمهم جشيشة (طحين ولحم أو تمر مطبوخ) ومرة أخرى حيسة (طعام من التمر والدقيق والسمن) وثالثة شعير محمص، لكنهم نالوا في إحدى المرات الثريد، وكان عليه الصلاة والسلام يعتذر إليهم إذا لم يكن الطعام جيدًا، فقد قدم لهم مرة صحفة فيها صنيع من شعير، وقال: "والذي نفس محمد بيده ما أمسى في آل محمد طعام ليس شيئًا ترونه".

ولا شك أنهم كانوا ينالون طعامًا أجود عندما يضيفهم احد أغنياء الصحابة في داره وكثيرًا ما كانوا يفعلون، ولكنهم في كثير من الأحيان ما كانوا يحصلون على ما يمسك رمقهم، فأثر فيهم ذلك فكانوا يخرون في الصلاة لما بهم من الجوع حتى يقول الأعراب إن هؤلاء مجانين وكان أبو هريرة رضي الله عنه يصرع بين المنبر وحجرة عائشة رضي الله عنه لما به من الجوع، لكن قلة طعامهم ما كانت لتؤدي بهم إلى الشره والمغالبة على الطعام، بل كانت حقوق الأخوة وآدابها تحكم علاقاتهم ببعضهم، وقد حكى أبو هريرة رضي الله عنه أنهم كانوا إذا اجتمعوا على أكل التمر وأكل أحدهم تمرتين معًا قال لأصحابه (إني قد قرنت فأقرنوا) لئلا ينال من التمر أكثر منهم.

لقد قنعوا بالقليل من الطعام والخشن من الثياب، وعافت نفوسهم القصور لينقطعوا إلى العبادة والعلم والمجاهدة، فكانوا أمثلة للزهد والترفع عن الدنيا.

رعاية النبي والصحابة لأهل الصفة
كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعهد أهل الصفة بنفسه، فيزورهم ويتفقد أحوالهم ويعود مرضاهم، كما كان يكثر مجالستهم ويرشدهم ويواسيهم ويذكرهم ويقص عليهم ويوجههم إلى قراءة القرآن الكريم ومدارسته وذكر الله والتطلع إلى الآخرة ويشجعهم على احتقار الدنيا وعدم تمني الحصول على متاعها، وكان إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا وإذا أتته هدية أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، وكثيرًا ما كان يدعوهم إلى تناول الطعام في إحدى حجرات أزواجه رضي الله عنه.

ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يغفل عنهم مطلقًا، بل كانت حالتهم ماثلة أمامه، وقد طلب من ابنته فاطمة رضي الله عنه أن تتصدق عليهم لما ولدت الحسن رضي الله عنه بوزن شعره من الفضة. وقد جاءه مرة سبي فسألته ابنته فاطمة رضي الله عنه خادمًا لأنها تعبت من كثرة أعمالها وكلت فأجابها (عليه الصلاة والسلام:) "أخدمكما وأدع أهل الصفة تطوي" وأوضح لها أنه سيبيع السبي وينفقه على أهل الصفة، ويبدو أنها سألته أيضًا أن يعطيها مالًا، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد زار عليا رضي الله عنه فوجد أن فراشهما قصير لا يغطيهما فعلمهما كلمات في الدعاء وآثر إعطاء أهل الصفة عليهما وقال: "لا أعطيكم وأدع أهل الصفة تلوي بطونهم من الجوع".

وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالتصدق على أهل الصفة، فجعلوا يصلونهم بما استطاعوا من خير فكان أغنياء قريش يبعثون بالطعام إليهم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوزع أهل الصفة بين أصحابه بعد صلاة العشاء ليتعشوا عندهم، ويقول: من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث وإن أربع فخامس أو سادس، فيأخذ الصحابة بعضهم ومن بقى منهم يصحبهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى داره فيتعشون معه". ويبدو أن الأمر كان كذلك في بداية الهجرة، فلما جاء الله بالغنى لم تعد هناك حاجة لتوزيعهم على دور الصحابة.

وقد استثارت حالة أهل الصفة سبعين من الأنصار يقال لهم القراء(وهم الذين استشهدوا يوم بئر معونة) فكانوا يقرأون القرآن ويتدارسون بالليل ويتعلمون، وكانوا بالنهار يجيئون بالماء فيضعونه بالمسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة والفقراء. وقد اقترح محمد بن مسلمة الأنصاري وآخرون من الأنصار على النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرج كل واحد منهم قنوا (القنو العذق بما فيه من الرطب) من بستانه حين ينضج التمر لأهل الصفة والفقراء فوافق على ذلك، ووضح في المسجد حبلًا بين ساريتين فأخذ الناس يعقلون الأقناء على الحبل، فربما اجتمعت عشرين قنوًا وأكثر.

وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقوم على حراسة الأقناء. وتشير رواية أخرى إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أشار على الناس بالتصدق بقنو من ثمار بساتينهم ليرفع الله تعالى عنهم عاهة أصابت ثمارهم ففعلوا. وأنكر النبي صلى الله عليه وسلم على رجل علق قنوا فيه حشف وأراد أن يكون التصدق بأطيب من ذلك . ويشير نص أورده السمهودي إلى استمرار عادة تعليق الأقناء في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة -على الأقل- خلال القرن الثاني الهجري.

المؤرخون لأهل الصفة
أقدم من عقد فصلًا في أهل الصفة هو محمد بن سعد (ت 230 هـ) وسائر ما ذكره مأخوذ عن الواقدي، ومع ذلك فلا نجد تلك النصوص في كتاب المغازي للواقدي (طبعة مارسدن) فلعلها من كتاب الآخر (الطبقات) وهو مفقود، وينقل عنه ابن سعد كثيرًا في الطبقات الكبرى.

لكن أقدم من علمته أفرد كتابًا في أهل الصفة هو أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي النيسابوري (ت 412 هـ) في كتابه (تاريخ أهل الصفة)، وهو مفقود ولعله المصدر الذي نقل عنه أبو نعيم كثيرًا في الفصل الذي عقده لأهل الصفة من كتابه حلية الأولياء وإن لم يصرح باسمه، لكنه صرح بالنقل عنه في موضع آخر من كتابه، وقد وصفه بأنه مرتب على حروف المعجم وأن فيه "أسماء جماعة عرفوا من أهل القبلة نسبوا إلى أهل الصفة وهو تصحيف من بعض النقلة".

ومن المتأخرين ألف تقي الدين السُّبكي (ت 756 هـ) كتابًا عنهم سماه: (التحفة في الكلام على أهل الصفة)، وألف شمس الدين السخاوي رسالة بعنوان "رجحان الكفة في أخبار أهل الصفة". كما عقد السمهودي مقالًا عن أهل الصفة جمع فيه الروايات المشتتة في كتب الحديث والتاريخ والجغرافية ومعاجم اللغة.

رحم الله القوامين الصوامين المجاهدين الزاهدين أهل الصفة وصدق الله العظيم {يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا}. فأنَّي هذا النموذج مما حدثه الفقراء المدقعون في المجتمعات الجاهلية من تكوين العصابات التي تتولى أعمال السرقة والقتل وأنواع العدوان الذي يفقد المجتمعات الاستقرار والإحساس بالأمن، ألا إنه الفرق بين تربية محمد صلى الله عليه وسلم والتربية الجاهلية، والفرق بين نظام الله والنظم البشرية.

موقع قصة الاسلام
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

ابن تيمية مؤرخا

الكثير ممن سَمِع عن ابن تيمية رحمه الله (ت: 728هـ) يعلم أنه فقيه كبير، وله باع في مسائل الاعتقاد والمناظرات، ولكن الكثير لا يعلمون الجانب التاريخي عند ابن تيمية.

ابن تيمية وتاريخ الدول والرجال
فقد كان لشيخ الإسلام ابن تيمية اعتناء بتاريخ الدول والرجال، وما سلف من كافة الأمم والشعوب، فمن يقرأ بعناية مؤلفات ابن تيمية يلحظ اهتمامه بتاريخ ما قبل البعثة المحمدية، وأن له منهجية ورؤية في علم التاريخ، حتى القضايا العميقة لأهل التخصص له آراء معتبرة فيها، فتجده على دراية بأحوال الرجال من الأمراء والسلاطين، وله معرفة بطائع المجتمعات حتى ولو كانوا من دول غامضة ليست معروفة عند الكل.

فهو لم يتوفر على الكتابة في التاريخ بمعناه الشمولي، وإنما اقتصر جهده على مسائل وملخصات مُركزة وموجزة، فالناظر في تراثه يُدرك تمامًا مدى التزامه بقواعد المنهج العلمي في النقد التاريخي، فملكة النقد عنده جعلته لا ينحاز للعواطف غير الموضوعية، وليس سردًا للأحداث وحسب بل تتضمن نقدًا وتقييمًا.

منهج ابن تيمية التاريخي
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أمانة في النقل وذكر الأقوال الواردة في الموضوع، كما أنه ينقل الرأي الآخر وإن كان لا يرتضيه.

فمثلًا: حين سُئِل عن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان قال: "أن الناس افترقوا في يزيد ثلاثة فرق: فالفريق الأول يقول: إنه كان كافرًا منافقًا، والفريق الثاني يقول: إنه كان رجلًا صالحًا وإمامًا عدلًا، وادّعى بعضهم أنه كان صحابيًا، أما الفريق الوسط فيقولون: إنه كان ملكًا من ملوك المسلمين له حسنات وسيئات ولم يكن صحابيًا ولم يكن كافرًا، وهذا قول أهل العقل والعمل والسنة والجماعة".

نظرة ابن تيمية للتاريخ
إن ابن تيمية رحمه الله صاحب نظرة تفيد أن التاريخ سجل لأعمال الأنبياء والرسل، وأن الحضارات من صنعهم، وبقدر الاقتراب أو الابتعاد من تنفيذ الرسالات السماوية التي نيطت بهم، تنهض الحضارات الإنسانية أو تندثر، فمسار التاريخ عند ابن تيمية يمضي على أقدام الرسل والأنبياء.

ويُقرر أن البشرية لم تنقطع صلتها بالأنبياء على طول تاريخها، مع تواتر أخبارها، فصار ظهور الأنبياء مما تؤرخ به الحوادث في العالم لظهور أمرهم عند الخاصة والعامة، فإن التاريخ يكون الحادث المشهور الذي يشترك الناس فيه ليعرفوا به كم مضي قبله وبعده، وهذا من جميل تفسير ابن تيمية للتاريخ.

وبنظرة دقيقة للتاريخ الإسلامي يبرهن ابن تيمية على أن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم أدعى للعلم والتوحيد والسعادة، ويعني بذلك المقارنة بين الصحابة والتابعين لهم، وبين المتكلمين والفلاسفة، ويقف أمام أحداث تاريخية فيعللها بسبب مخالفة الأصول الإسلامية في القرآن الكريم وما صح من السنة النبوية، فيرى أن انقراض دولة بني أمية كانت بسبب الجعد بن درهم والجهم بن صفوان، إلى جانب أسباب أخرى.

وربما يعني بذلك أن العقيدة خمدت في النفوس، وفقدت فاعليتها عما كانت لدى المسلمين الأوائل، ظهر الضعف في الأمة.

ويمضي شيخ الإسلام في تفسير الأحداث التاريخية، فيذكر أن محنة القرآن كانت بداية لتشجيع القرامطة الباطنية في إظهار آرائهم بعد ترجمة كتب الفلاسفة، ولمّا تضاءلت العقيدة في النفوس وأصابها الوهن، هان المسلمون على أعدائهم وغزا الصليبيون والتتار أراضي الإسلام.

ومن خلال هذه اللمحة الموجزة لموقف ابن تيمية من التاريخ نجد أنه يُحذِّر من مخالفة الأوامر الإلهية، وأن السبيل القويم لقيام واستمرار حضارة المسلمين إتباع ما أنزله الله من الهدى والبينات.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

تاريخ الإسلام في الأندلس

الفتح الإسلامي للأندلس
دخل الإسلام إلى الأندلس من (92هـ / 711م إلى 95هـ / 714م)، وأهلها في سخط عارم ضد حكامها القوط النصارى الثلاثيين؛ بينما كان معظمهم تابع لمذاهب مسيحية موحدة، مضطهدة من طرف الكنيسة الحاكمة. وهكذا انضموا إلى الإسلام عن طواعية وحماس، لدرجة أن بعض المفكرين الأسبان المعاصرين نعتوا الفتح الإسلامي للأندلس، بثورة إسلامية في الغرب [1].

وهكذا دخلت منطقة لا تقل مساحتها عن 700,000 كيلومتر مربع، دارا لإسلام طواعيةً، تضم معظم شبه الجزيرة الأندلسية، سوى منطقة جبلية في الشمال الغربي، كما تضم قسمًا مهمًا من فرنسا، أو الأرض الكبيرة، كما سمّاها قدماء المسلمين؛ فتكوّن مع السنين شعب أندلسي جديد، مسلم العقيدة، عربي اللغة، له خصوصياته، متأصل في بلده. ولم يكن ذلك الفتح الإسلامي غزو أمة لأخرى، وإجبارها على دين ولغة، لم ترتضيهما؛ بل الشعب الأندلسي نفسه اختار الإسلام دينًا، والعربية لغةً حضارةً، ورحّب بالفاتحين المسلمين الأوائل ترحيب المقهور بالمنقذ.

الدولة الأموية في الأندلس
انضمّت الأندلس أول الفتح الإسلامي إلى ولاية المغرب في الدولة الإسلامية، وعاصمتها القيروان، (في تونس اليوم). ثم أصبحت ولايةً قائمةً بنفسها، وعاصمتها إشبيلية. ثم انفصلت الأندلس عن الدولة العباسية في المشرق سنة (138هـ /756م) تحت زعامة عبد الرحمن الداخل الأموي، الذي أسس دولةً أمويةً في الغرب، واتخذ قرطبة عاصمته.

وصلت الأندلس الأموية أوجهًا أيام عبد الرحمن الناصر (300 - 350هـ / 912 - 961م)، لكن مساحتها نزلت إلى 440,000 كيلومترًا مربعًا بعد أن فقد المسلمون "أربونة" و"قرقشونة"، وكل الأرض الكبيرة، و"بمبلونة"، و"برشلونة"، و"برغش"، و"ليون"، و"أبيط"، وكل "جليقية"، و"سمورة"، وغيرها من مدن شمال غربي الجزيرة الأندلسية، تحت ضغط الفلول النصرانية، التي تنظمت في دويلات متحالفة ضد الوجود الإسلامي ودولته، أهمها "قشتالة"، و"نبارة"، و"ليون".

الأندلس في عهد ملوك الطوائف
بدأ الضعف يسري في الدولة الأموية بعد وفاة المنصور بن أبي عامر، حاجب هشام الثاني المؤيد حفيد الناصر، إلى أن انهارت سنة (422هـ / 1021م) وانقرضت؛ فتجزأت الأندلس بين ملوك الطوائف، وصل عددهم إلى 23 ملكاً. فاغتنمت الدول النصرانية هذه التجزئة، وأخذت تحتلّ مدن الإسلام الواحدة تلو الأخرى، أهمها "طركونة"، و"براغة"، و"قلمرية"، و"مجريط"، وخاصةً "طليطلة" سنة 478هـ (1085م).

الأندلس في عهد المرابطين
فاستنجد الأندلسيون بأمير المسلمين بالمغرب يوسف بن تاشفين أمير المرابطين، الذي استجاب لهم، وهزم النصارى في معركة الزلاقة، سنة 479هـ (1086م)، ثم قضى على ملوك الطوائف، وضم الأندلس إلى المغرب؛ لكن أرضًا شاسعةً بما فيها "طليطلة" ظلت تحت حكم النصارى، وتقلصت مساحة الأندلس الإسلامية إلى 250,000 كيلومترًا مربعًا.

الأندلس في عهد الموحدين
ولما ضعفت الدولة المرابطية، تجزأت الأندلس مرةً ثانيةً إلى طوائف؛ فاستنجد الأندلسيون بدولة الموحدين المغاربة، فأنجدوهم سنة (540هـ / 1145م)، وضموا الأندلس للمغرب الموحدي، بعد أن ضاعت مناطق أخرى ومدن أهمها "سرقسطة" سنة (512هـ / 1118م). ثم انهزمت الدولة الموحدية على يد النصارى في معركة العقاب سنة (609هـ / 1212م)، فانقسمت المقاومة الشعبية ضد الجيوش النصرانية الغازية بين ابن هود، وابن الأحمر. لكن لم يستطع أحدهما إنقاذ قرطبة من السقوط في يد النصارى في (23/10/633هـ - 29/6/1236م).

الأندلس في عهد ابن الأحمر
وبعد وفاة ابن هود سنة (635هـ / 1237م)، تابع ابن الأحمر مجهوده في توحيد الأندلس الإسلامية واتخذ "غرناطة" عاصمةً له. ولم يتوقف الزحف النصراني على الأراضي الأندلسية بسقوط "قرطبة"؛ بل احتل الأراغونيون النصارى "بلنسية" سنة (626هـ / 1238م) ثم "شاطبة" ومنطقتها. واستسلمت "مرسية"، آخر معاقل شرقي الأندلس، للنصارى القشتاليين سنة (640هـ / 1243م)؛ فاستنجد الأندلسيون بالمغاربة، ولكن المغرب كان فريسة حروب أهلية، لم يتمكن معها من إنجادهم هذه المرة.

ثم استنجدوا بالدولة الحفصية "بتونس" دون جدوى؛ فتابع ابن الأحمر مقاومته للنصارى، الذين حاصروا "غرناطة" نفسها سنة (643هـ / 1244م). فآثر مصانعتهم، وقدم الطاعة لملك "قشتالة"، وقبل أن يؤدي له جزيةً سنويةً، وأن يكون حليفةً في كل حروبه، وأن يشهد اجتماع مجلس قشتالة النيابي. وسلم ابن الأحمر لقشتالة جيان ومنطقتها، ثم ساعدها على احتلال المناطق التي اعترفوا له بها، وأفظع ما حدث في ذلك، إعانته لها على غزو مدينة "إشبيلية" سنة (645هـ / 1241م) ومنطقة غربي الأندلس[2].

وقضى ابن الأحمر، مؤسس الدولة النصرية، ما تبقى من حياته في توطيد مملكته وتنظيمها، وتوطين المهاجرين، إلى أن توفي سنة (671هـ / 1272م) عن 76 سنةً. وقد تقلصت دولة الأندلس في أقل من قرن إلى 30,000 كيلومترًا مربعًا، وهي المناطق التي تضم اليوم ولايات مالقة وغرناطة والمرية، وأقسامًا من ولايات قادس وقرطبة وجيان. وهي مناطق جبلية غير قابلة للزراعة، جعلت منها العبقرية الأندلسية مركزًا حضاريًا لا يضاهي، زراعةً، وصناعةً، ومناعةً.

الأندلس .. نحو السقوط
أدت هذه الأحداث المأساوية إلى تغير جذري في الأمة الأندلسية؛ فكلما احتل النصارى أراض إسلاميةً، هاجرت الطبقة المثقفة، وأهل الصناعات والحرف، إلى ما تبقى من الأراضي الإسلامية في مملكة "غرناطة". وبقي عامة الشعب تحت حكم النصارى، وكان الأندلسيون يسمون المتخلفين عن الهجرة من المسلمين (بالمدجنين) وقد نظم هؤلاء أنفسهم في جماعات إسلامية؛ بينما أصبحوا أقليةً في عقر دارهم، إذ أتى الغزاة بمهاجرين نصارى لتعمير أراضيهم. وقد حافظ المدجنون على دينهم في ظروف صعبة تشبه العبودية. وضعفت مع السنين اللغة العربية بينهم، وأصبحوا يكتبون كتبهم ورسائلهم باللغة الأعجمية، وهي لغة قشتالية، أو كتلانية، أو أراغونية، مكتوبةً بالحروف العربية.

أما سكّان مملكة "غرناطة" فكان عددهم يساوي على صغر رقعتها، وعدد سكان ما تبقى من الجزيرة الأندلسية، وكانوا جميعًا مسلمين، إذ لم تبق بينهم أقليات نصرانية، كما أن اللغة الأعجمية اندثرت بينهم، وأصبحت اللغة العربية بلهجتها الأندلسية هي لغتهم الوحيدة. وأصبحت مملكة "غرناطة" ملجأ الأندلسيين المدجنين وغيرهم، تستقبل كل سنة عددًا كبيرًا منهم ومن المجاهدين المغاربة.

الأندلس في عهد أبي عبد الله محمد الفقيه
حاول نصارى قشتالة غدر غرناطة واحتلالها فور وفاة ابن الأحمر، الذي أوصى ابنه وولي عهده أبو عبد الله محمد الفقيه بالتشبث بالمغاربة والتحالف معهم. وكان المغرب قد استعاد شيئًا من قوته تحت الدولة المرينية. فاستنجد أبو عبد الله بالسلطان أبي يوسف المنصور المريني، الذي انتقل من عاصمته فاس إلى الأندلس على رأس جيش مغربي كثيف وألحق بالنصارى أشنع الهزائم سنة (674هـ / 1275م)، ثم انتقل مرةً ثانيةً سنة (677هـ / 1278م)، وثالثةً سنة 678هـ، ورابعةً سنة 684هـ، حيث تُوفي بالجزيرة الخضراء. ولم يقاوم المغاربة النصارى فقط؛ بل غدر السلطان أبي عبد الله كذلك، وأسسوا مشيخة الغزاة في "غرناطة" برئاسة شيخ من بني مرين لتنظيم المتطوعين المغاربة.

وتابع السلطان أبو يعقوب سياسة والده، وواجه هو الآخر بصبر جيوش النصارى، وغدر السلطان النصري. فانتقل إلى الأندلس مدافعًا عنها سنة 690هـ. وتابع السلطان أبو عبد الله الفقيه جهاده ضد النصارى، بعد أن أفاق من غلطته، واستغفر عن زلاته إلى أن توفي سنة (701هـ / 1302م) فاضطربت الدولة بعده، وتكالب عليها النصارى حتى كادوا أن يتغلبوا عليها.

الأندلس في عهد أبي الوليد إسماعيل
وانتقل الحكم سنة (713هـ / 1314م) إلى أبي الوليد إسماعيل من غير فرع ابن الأحمر، مؤسس الدولة. فوطد الدولة وأقر التحالف مع المغرب، وأراغون، ضد قشتالة، إلى أن أغتيل سنة 725هـ. فخلفه ولده أبو عبد الله محمد، الذي اُضْطُرّ إلى الاستنجاد بالمغاربة ضد النصارى، فجاز السلطان أبو الحسن المريني إلى الأندلس، ونجح في تحرير جبل طارق من يد النصارى سنة 733هـ (1333م). لكن السلطان أبو عبد الله اغتيل بعد هذا النصر.

الأندلس في عهد أبي الحجاج يوسف وخلفائه
فخلفه أخوه أبو الحجاج يوسف، فأحسن السيرة، وكان من أشهر وزرائه لسان الدين ابن الخطيب. ولما شد عليه النصارى، استنجد بالسلطان أبي الحسن الذي أرسل جيشًا تحت قيادة ابنه أبي مالك سنة 740هـ، فانهزم وقتل. فانتقل السلطان المغربي بنفسه، فهزمه النصارى في موقعة نهر سلادو في جمادى الأولى سنة (741هـ / 1740م)، فوقع معسكره في يد الأعداء، وذُبح أبناؤه. وكانت هذه آخر مرة جاز المغاربة فيها البحر إلى الأندلس. وابتدأ النصارى يحتلون المواقع الإسلامية الواحدة تلو الأخرى.

واضطربت أوضاع غرناطة بعد تلك الهزيمة؛ لكن مشاكل قشتالة الداخلية شغلتها عن الاستفادة من فوزها. وزاد الاضطراب بعد مقتل أبو الحجاج يوسف سنة 755هـ، إلى أن استقر الوضع لابنه أبي عبد الله الغني بالله بعد سنة 763هـ. فاجتهد في الدفاع الهجومي ضد قشتالة، والتعاهد مع المغرب وأراغون، والبناء والتشييد. وتابع ابنه أبو الحجاج يوسف سياسته. لكن بعد تولي ابنه أبو عبد الله محمد بن يوسف سنة (797هـ / 1394م)، ومن بعده يوسف بن يوسف، عادت قشتالة النصرانية إلى الإغارة على الأندلس التي قاومت دون مساندة ترجى من المغرب، حتى احتلت انتقيرة سنة (812هـ / 1409م).

وزادت الأوضاع سوءًا بعد أن خلف السلطان يوسف ابنه أبو عبد الله الأيسر سنة (820هـ / 1417م)؛ فكثرت الثورات وتدخلت قشتالة في إضرامها. وفي سنة (831هـ / 1428م)، خُلِعَ السلطان الأيسر بعد أن عجز عن الدفاع عن وادي آش، ثم أعيد بعد فتن تدخلت فيها قشتالة وبنو سراج، إلى أن خلع سنة (845هـ / 1441م) من طرف أبو عبد الله محمد الأحنف الذي رد غزوات النصارى إلى أن توفي سنة 863هـ (1458م)، وخلفه الأمير سعد بن محمد.

وفي هذه السنين المضطربة، المليئة فتنًا داخليةً، وحروبًا متواصلةً مع النصارى، استنزفت مملكة غرناطة قواها، وضاعت منها قلاع ومدن متعددة. وأدى تفكك الأسرة المالكة الكامل، وتشتت الطبقة المثقفة والحاكمة، وعدم ورع الكثير، من التعاون مع العدو النصراني القشتالي ضد خصمه المسلم، إلى سقوط غرناطة، بعد جهاد طويل متواصل دام قرابة القرنين. وهذه المرة توحدت القوى النصرانية في إرادتها للقضاء على الإسلام في الأندلس؛ بينما لم يتمكن المغيث المغربي من عبور البحر، خاصةً بعد أن احتل النصارى للمرة الثانية جبل طارق سنة (867هـ / 1462م)، وأحكموا قبضتهم على المضيق.

ففي سنة (865هـ / 1463م) ثار أبو الحسن علي على والده الأمير سعد وخلعه، ودخل في حروب مع أخيه أبو عبد الله محمد الزغل الذي استغاث بالقشتاليين. فانقسمت المملكة الصغيرة، إذ استقر الزغل في مقالة وما جاورها بمساندة القشتاليين، وبقي أبو الحسن في غرناطة؛ بينما توحدت مملكتا أراغون وقشتالة النصرانيتان بزواج فرديناند أراغون وايزابيلا قشتالة سنة (879هـ / 1474م). وحاول أبو الحسن سنة 883هـ تجديد الهدنة مع قشتالة وأراغون المتحدتين، فوافق النصارى شرط أن يعترف بطاعتهم، ويؤدي الجزية لهم. وعند رفضه اشتعلت الحرب من جديد بين غرناطة والنصارى.

أبو عبد الله الصغير ابن الأحمر
وكان أبو الحسن أسير ملذاته وهواه. فتزوج فتاةً نصرانيةً اسمها ثريا، وهي ابنة قائد قشتالي اسمه سانشودي سوليس، وولد منها سعد ونصر، وأهمل ابنة عمه وولديها منه أبي عبد الله محمد (الريشيكو) وأبي الحجاج يوسف، ثم اعتقلهم في برج قمارش بقصر الحمراء؛ فعندما فروا من السجن، اغتنم النصارى الفرصة لإشعال حرب أهلية بين أبي عبد الله ووالده، واحتلال المزيد من الأراضي الإسلامية. فأغاروا على حامية غرناطة في محرم سنة (887هـ / 1482م) واحتلوها، ثم زحفوا على لوشة فردهم أبو الحسن، لكن أهل غرناطة عزلوه وبايعوا ابنه أبي عبد الله.

ثم هاجم النصارى الزغل في مالقة في صفر سنة (888هـ / 1483م)؛ فهزمهم وردهم عنها. وحاول أبو عبد الله استرجاع بعض الحصون من يد النصارى؛ فوقع في قبضتهم خارج قلعة اللسانة. فاغتنم الملك فرناندو والملكة ايزابيلا تلك الفرصة لإذكاء الحرب الأهلية، بين أبي عبد الله وعمه الزغل، الذي بايعه أهل غرناطة بعد سقوط أبي عبد الله في الأسر. فوقع أبو عبد الله معهما معاهدةً سريةً يتعهد فيها بالولاء لهما، ودفع جزيةً سنويةً، وترك ابنه رهينةً لديهما، مقابل مساعدتهما له على استرجاع ملكه. فأفرجوا عنه في شوال سنة (890هـ / أوائل 9/1485م)، وتابعوا غزوهم لمدن وقرى مملكة غرناطة، أهمها مدينة رندة في (5/890هـ - 4/1485م).

واشتعلت الحرب الأهلية في قاعدة غرناطة نفسها، يدعو فيها الزغل إلى الجهاد ضد النصارى؛ بينما يعتقد أبو عبد الله أن السلامة في المفاوضات السلمية، اتفق بعدها المتحاربان على اقتسام المملكة بينهما، يختص فيها أبو عبد الله بغرناطة ومالقة والمرية والمنكب، ويختص الزغل بالمناطق الشرقية؛ لكن النصارى تابعوا تقدمهم، فاحتلوا لوشة في (5/891هـ - 5/1486م) وأسروا أبا عبد الله مرةً ثانيةً، ثم أطلقوا سراحه في شوال من نفس السنة، وأمدوه بالعدة والرجال ليحارب عمه. وركزوا بعد ذلك على احتلال الأراضي التي بيد الزغل المرابض في وادي آش، بينما تظاهروا بمسالمة الأراضي الموالية لأبي عبد الله. فاحتلوا بلش مالقة في( 5/892هـ - 4/1487م)، ثم مالقة في أواخر شعبان عام (892هـ / أغسطس عام 1487م) بعد مقاومة مستميتة. فأمر الطاغية باسترقاق جميع أهلها الذين نجوا من القتل. ثم احتل النصارى باقي أراضي الزغل، ودخلوا عاصمته، وادي آش، في أوائل (2/895هـ - 12/1489م)، وهاجر الزغل إلى تلمسان بالجزائر.

معاهدة الخزي وسقوط غرناطة
ولم يبق على النصارى للقضاء على دولة الإسلام في الأندلس، سوى الاستيلاء على ما بيد أبي عبد الله. ففي أوائل (2/895هـ - 1/1490م) أرسل فرناندو سفارةً إلى أبي عبد الله يطلب منه الاستسلام. وبعد رفضه، تهيأت غرناطة لحصار طويل، وخرج إليها الطاغية في جيش ضخم في ربيع سنة (895هـ / 1490م) فهاجم مرج غرناطة؛ ولكن ثورة أهل البشرات وتحرير بعض معاقلها كأندرش، أرغمته على الرجوع. ثم عاد بجيش ضخم إلى حاضرة غرناطة ووصلها في (6/896هـ - 4/1491م)، وبنى قربها مدينة "سانتافي"، ثم أحكم حولها الحصار. وبعد أن يئس الغرناطيون من إمكانية الدفاع، ابتدأت المفاوضات التي انتهت بتوقيع معاهدة الاستسلام بتاريخ (21/1/890هـ - 25/11/1491م).

تضمنت هذه الوثيقة 27 مادةً، تحدد أولاها ضرورة تسليم غرناطة قبل 25/1/1492م للملكين الكاثوليكيين، وتضمن المواد الأخرى حقوق المسلمين الأندلسيين بعد دخولهم في حكم النصارى؛ واحترام دينهم وعاداتهم؛ وعدم مصادرة أسلحتهم؛ وعدم إجبارهم على وضع شارات خاصة؛ وعدم استخدامهم دون رغبتهم؛ واحترام مساجدهم وعلمائهم؛ وضمان الحكم بينهم بالشريعة الإسلامية؛ وضمان الأوقاف الإسلامية وإدارتها بيد فقهائهم؛ وعدم إرغام أحدمنهم على اعتناق النصرانية؛ والحفاظ على امتيازات قوادهم، الخ.

وقد ذيلت المعاهدة بتأكيد من الملكين الكاثوليكيين، ضامنين بدينهما وشرفهما القيام بكل ما يحتويه العقد. ثم ذيلت بتأكيد جديد موقع من ولي العهد، وسائر عظماء المملكة الأسبانية، باحترام المعاهدة من الآن وإلى الأبد. وفي نفس اليوم الذي وقعت فيه معاهدة تسليم غرناطة، أبرمت معاهدةً أخرى سريةً، يضمن فيها الطاغية وزوجه حقوق وامتيازات، ومنح السلطان أبي عبد الله وأفراد أسرته وحاشيته حق ملكية أبدية لمنطقة البشرات حول أندرش وعذرة، ومنحة قدرها ثلاثون ألف جنيه قشتالي، وأن يحتفظ بأملاك أبيه أبي الحسن، الخ [3].

وقرر السلطان أبو عبد الله ورجاله تسليم غرناطة قبل التاريخ المتفق عليه، بعد أن خاف من غضب شعب غرناطة، فاتفق أن يكون التسليم بتاريخ 2/1/1492م. وهكذا سُلِّمَتْ الحاضرةُ الإسلامية بقصورها، وأرباضها، ومساجدها، وأسواقها، ومدارسها، وأهلها، للعدو الحاقد في يوم مشؤوم، وصفه القشتاليون في كتبهم وصفًا دقيقًا.

واستلم الكاردينال مندوسة مفاتيح الحمراء من يد الوزير ابن كماشة. وكان أول عمل قام به الكاردينال عند دخول الحمراء هو نصب الصليب فوق أعلى أبراجها، ترتيل صلاة "الحمد" الكاثوليكية. وانتقل أبو عبد الله وأهله، بعد أن أكد ولاءه للملكين الكاثوليكيين، إلى أندرش حيث كان مقامه إلى حين.

وهكذا انقرضت دولة الإسلام في الأندلس، وابتدأت محنة الأندلسيين العظمى.

[1] I. Olague “La Revolucion Islamica en Occidente”. Espana.
[2] محمد عبد الله عنان، "نهاية الأندلس"، القاهرة (مصر)، 1966م.
[3] محمد عبده حتاملة، "التنصير القسري لمسلمي الأندلس في عهد الملكين الكاثوليكيين"، عمان (الأردن)، عام 1980م.
 
رد: مقالات تاريخية-متجدد

السلام عليكم

فاتح القسطنطينية .. الصفحة الأخيرة

"ها أنذا أموت، ولكني غير آسف لأني تاركًا خلفًا مثلك. كن عادلًا صالحًا رحيمًا، وأبسط على الرعية حمايتك بدون تمييز، وأعمل على نشر الدين الإسلامي، فإن هذا هو واجب الملوك على الأرض".

هي مطلع وصية السلطان محمد الفاتح، الذي حقق الله على يديه حلم فتح القسطنطينية، ذلك الحلم الذي ملأ قلوب قادة المسلمين العظام من عهد صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، كلهم يسعى لنيل هذا الشرف.

فأتى ذلك البطل الفذ، ليتحقق على يديه الوعد النبوي بفتح هذه المدينة العريقة العتيدة، ومنذ نعومة أظفاره كان يُمني نفسه بأن يكون هو الرجل، فيجلس على شاطئ البحر، وعينه تمتد عبر صفحة المياه، إلى حيث القسطنطينية، وبجواره شيخه ينفث في عزمه، ويسرد على سمعه الحديث النبوي: "لتُفتحن القسطنطينية، ولنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش".

فكل الناس يموتون، لكن العظماء تفيض أرواحهم، لتسري أقوالهم وأفعالهم في نهر التاريخ، تتناقلها الأجيال تلو الأجيال. هذا البطل كان عظيما في الحياة وعظيما في الممات، عُمريُّ العزم، همّته التي طاولت النجم بسموّها، رافقته من المهد إلى اللحد.

جاءت اللحظات الأخيرة لهذا الفارس بعد حياة حافلة بالنزال والنضال، ليطلق على فراش الموت وصيته الأخيرة لولده، والتي تمثل ملامح منهجه في الحكم والقيادة، ويظهر فيه عظم انتمائه لدينه، وصفاته القيادية وحنكته وخبرته بما يصلح المُلك.

وصية محمد الفاتح
فدعونا نطالع تلك الوصية لهذا القائد العظيم، والتي ينبغي أن تكون نبراسا لكل حاكم مسلم:

1- قدّم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء، ولا تفتر في المواظبة عليه، ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين، ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش، وجانب البدع المفسدة، وباعد الذين يحرضونك عليها.

2- وسّع رقعة البلاد بالجهاد واحرس أموال بيت المال من أن تتبدد، إياك أن تمد يدك إلى مال أحد من رعيتك إلا بحق الإسلام، واضمن للمعوزين قوتهم، وابذل إكرامك للمستحقين.

3- وبما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظّم جانبهم وشجّعهم، وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.

4- حذار حذار لا يغرنك المال ولا الجند، وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك، وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا، والهداية منهجنا وبذلك انتصرنا.

خذ مني هذه العبرة: حضرت هذه البلاد كنملة صغيرة، فأعطاني الله تعالى هذه النعم الجليلة، فالزم مسلكي، وأحذ حذوي، واعمل على تعزيز هذا الدين وتوقير أهله ولا تصرف أموال الدولة في ترف أو لهو أو أكثر من قدر اللزوم، فإن ذلك من أعظم أسباب الهلاك.

الحفاظ على هوية الأمة
ففي وصية الفاتح تقديم الاهتمام بالدين على كل أمر، مؤكدا على أهمية الهوية الإسلامية، فلا قوام للمسلمين إلا بها، ومن يتنكر لها انقطع عنه المدد من فوق السماء. هي الهوية التي لا عزة لنا إلا بالتمسك بها، كما قال الفاروق عمر رضي الله عنه: "كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام، ومهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله".

تقديم البطانة الصالحة
وفي وصية الفاتح تقديم الحاكم بطانة صالحة وتنقية القصر من شوائب المغرضين، ولكن لن يعبأ بهذا إلا من صدق في عزمه وإخلاصه لدينه وبلاده، فيهتم بتطهير مؤسسات الدولة من أصحاب الأهواء والأجندات الخاصة، والذين يعبثون بمقدرات البلاد من خلال البلاط الملكي، وعزّة الله هي الخطوة الأولى لكل حاكم يبتغي الإصلاح وتصحيح المسار، أن يُقدّم الأكفياء من القوم، ويستبعد تلك الأشواك.

تقديم العلماء وأهل الفضل
وفي وصية الفاتح تقديم العلماء وأهل الفضل، فهؤلاء هم الذين يشدّون قوائم الملك، وما قدم ملك أو حاكم تلك الشريحة إلا وانعكس أثرها على شؤون البلاد بأسرها. لذا كان قادة الإسلام العظام من ورائهم علماء ثقات يفرزون قراراتهم السياسية ويضبطونها وفق مبادئ الإسلام وتعاليمه.

عرف صلاح الدين الأيوبي بشيخه القاضي شداد.
وعرف سيف الدين قطز بشيخه العز بن عبد السلام.
وعرف محمد الفاتح بشيخه آق شمس الدين.
إقامة العدل

وفي وصية الفاتح الأمر بإقامة العدل بين الناس، فالعدل هو أساس الملك، ولذا قيل: "إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة ؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة".

إنها دعوة لملوك وحُكام أمتنا، أنتم لا تحكمون قطعانا، لقد قلدكم الله أمانة القيام بحق هذه الشعوب، اقتربوا منها ولا تخافوا، أزيلوا الحواجز، سوف تحمي هذه الشعوب ملككم، فقط سيروا بالعدل بين رعاياكم. التمسوا الأمن والأمان وثبات الملك في شعوبكم لا بين أحضان الشرق والغرب والأحمر والأصفر، لكن ذلك لن يتأتى إلا بوجود العدل، العدل وحده هو الذي يقرب بين الحاكم والمحكوم، بين الجماهير والأنظمة.

صيانة أموال الدولة
وفي وصية الفاتح الحث على صيانة أموال الدولة، ألا فليعلم كل ملك أو حاكم، أن البلاد ومقدراتها ليست ملكا له، إنما هو حارس لها وأمين عليها. كفاكم تجويعا للشعوب التي أوشكت على أن تأكلكم، كفاكم نهبا لثروات البلاد، عيشوا ودعوا الناس يعيشون، ماذا ينتظر حاكم يجوع شعبه ويضنيه، ويشغله بحرب ضروس وصراعات مع الحياة من أجل رغيف خبز؟ لا نطالبكم بأن تكونوا مثل عمر الذي كان يرقع ثيابه وهو أمير المؤمنين في المشارق والمغارب، وإنما نطالبكم فقط بأن ترحموا شعوبكم، وتصونوا أموالهم ومقدراتهم.

وفاة الفاتح .. عيد ومأتم
كان لوفاة ذلك القائد العظيم أثر عظيم على العالم بأسره، ففي الغرب ابتهجوا وأقاموا الاحتفالات لموت محمد الفاتح. في رودس قاموا بأداء صلوات الشكر ما إن علموا بموت محمد الفاتح، وفي روما شاعت البهجة وأمر البابا بفتح الكنائس وإقامة الصلوات والاحتفالات، وجُعلت المواكب تجوب الشوارع مرددة أناشيد النصر، وأطلقت المدافع تعبيرا عن الفرح والسرور. وأقامت أوروبا الأفراح والاحتفالات لمدة ثلاثة أيام بعد أن مات الفاتح الذي كانوا يرونه أعظم خطر عليهم.

وأما المسلمون، فكما ابتهجوا لفتح القسطنطينية، وكاتبوا السلطان يهنّئونه بالفتح، وأرسلت الوفود للتعبير عن أمة الجسد الواحد التي لا تفصلها لغة ولا حدود، كان يوم مماته مأتما، حيث فقد المسلمون قائدا عظيما، فرثاه العلماء، وحزنت الأقطار الإسلامية لفقدانه.

وكان من أثر موته على جيشه، فقد كان رجاله قد وصلوا إلى جنوب إيطاليا لفتحها، فما إن وصلهم خبر موته، حتى اغتموا لذلك، لدرجة أن قائد الجيش اضطر للدخول في مفاوضات مع ملك نابولي لكي ينسحب جيشه آمنا بعد أن دبّ فيه الضعف والهم.

تلك هي الصفحة الأخيرة في كتاب ذلك البطل المجاهد، والذي لا يزال ماثلا أمام الأجيال على مر العصور، يتبدى من ذاكرة التاريخ كلما ذُكر الجهاد والعدل والمجد، سطّرتُها هنا اليوم حتى لا ننسى قادة أمتنا العظام، وحتى نُجدّد ذكرهم على أسماع الناشئة.

موقع قصة الاسلام
 
لإعلاناتكم وإشهاراتكم عبر صفحات منتدى اللمة الجزائرية، ولمزيد من التفاصيل ... تواصلوا معنا
العودة
Top